لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

تمرين قصصي: في مركز الدائرة

في مركز الدائرة!!


تمرين قصصي: د. يوسف حطيني

حكايتي بسيطة، ليس فيها أي تعقيد، فأنا رجل لا يحبّ الحكايات، مشيت طيلة حياتي قرب الجدار، ثم وجدت نفسي في هذه الزنزانة المظلمة القذرة بسبب حكاية وحيدة.. جاءت بي إلى هذه الدنيا أسرة هندسية لا تعرف المربع من المستطيل، فجَّدي كان مستقيماً، تنحني جدّتي أمام استقامته بكلّ الرضا، أما والدي فقد كان شبه منحرف.
لستُ من الذين يجيدون مسك العصا من الوسط، ولا حتى ممن يجيدون مسكها من أحد طرفيها، ولستُ قادراً على أن ألعب على عدة حبال، ولا على حبل واحد أيضاً.. أحبّ منذ صغري مادة الرياضيات، لا ليس تماماً.. أحبّ الهندسة، ليس تماماً أيضاً.. فالمنحنيات أقرب إلى قلبي من المستقيمات..
تأملت منذ نعومة أظفاري خلق الله تعالى: العصافير والطيور والناس من حولي.. ولم أجد فيها أية مستقيمات..
عندما اشتعلت الحرب كنت في الصف الرابع الابتدائي ، وقد لاحظت بدهشة طفل صغير أن الطائرات التي تحمل الموت فيها كثير من الخطوط المستقيمة، أما الطائرات التي تحمل المسافرين فقد كانت تزينها الخطوط المنحنية..
هل قلت: إنني أحب المنحنيات؟؟
ثمة ما يجب أن أوضحه هنا فأنا أحب المنحنيات المفتوحة..
وأمقت المغلقة مقتاً شديداً.. أحس بالتوتر عندما أرى دائرة.. أو أسمع عنها..
تستفزني تسميات مثل دائرة الماء والكهرباء، ودائرة الهجرة والجوازات، ودائرة إدارة الشرق الأوسط.. لأنها تذكرني بالحصار.. ولكن هل خطر لك أيها القارئ العزيز أن تسأل عن سبب حقدي على المستقيمات؟
الأمر بسيط:
لأني أكره جدّي.. وأكره طريقة حياته التي أنهاها بعناده..
* * *
جدي كان مستقيماً، واجه الإنكليز، وشارك في جميع الثورات، لاذ بالجبال فترة طويلة، وكان يغير على الإنكليز في كل وقت.. بينما يغير على زوجته كلما سنحت الفرصة. ولم يستطع أحد أن يناله بأذى، إلا حين هدأت المعارك، وأهدى الإنكليز البلاد لليهود، فقد فتشوا جميع البيوت، ووجدوا في بيته أربعة بنادق إنكليزية وخوذتين عسكريتين وبِزّات عسكرية..
جَدّتي بكت كثيراً حين أخذوه إلى دائرة التحقيق.. كانت تعرف أنهم لن يعيدوه، تخيّلت أنه سيبصق في وجوههم خلال التحقيق.. لذلك قرأت الفاتحة على روحه بعد سبعة أيام من اعتقاله..
أما أبي فقد ربته جدتي أولاً وأمي ثانياً، اعذرني على صراحتي أيها القارئ العزيز، فأنا سأقول الحقيقة.. والدي كان يثور أحياناً، ولكنه سرعان ما يهدئ، وهذا ما جعل الدوائر الأمنية محتارة بين أن تصنفه معادياً أو حيادياً أو نصيراً، واستقر بها الرأي أخيراً أن تصنفه شبه منحرف على سبيل الاحتياط..
* * *
لم أحب ابنة خالتي.. غير أنّ والدتي كانت مصرة على أن تزوجني منها، قالت: ابنة خالتك فتاة جميلة وطيبة وثوبها من ثوبنا.. وهي أفضل من ياسمين..
- ولكنها لا تحبّ الرياضيات.
- اخرس.
وخرستُ.. أما أبي فلم يقل شيئاً حتى لا يسمع ما سمعت..
* * *
كانت ياسمين تحب الرياضيات مثلي، تتفق معي في موقفي من كل الأشكال، باستثناء الدائرة، فهي تحبّها لأنها تحلم بأن تُغلَق علينا ذات يوم، وحين حكيت لها عن ابنة خالتي بكت كثيراً، وأخرجت قلماً وورقة وراحت ترسم شيئاً ما، ثم أعطتني الورقة مطوية وانطلقت إلى غير رجعة، وحين فتحت الورقة وجدت فيها الشكل الذي أعرضه عليك، لعلك تساعدني في فك رموزه:



المهم أنني تزوجتُ من ابنة خالتي: امرأة متسلطة تحسن كل شيء تقريباً: الذهاب إلى الحفلات وقراءة الجرائد ولا تخجل من الحديث مع الرجال، وقد أعطتني خلال شهر العسل دورة مكثفة في التنظيف والطبخ وكيّ الملابس، وقد عانيت في البداية من تقريعها المستمر، لأن مرايا الحمام لا تلمع، أو لأن (طبخة المحاشي) لم تكن لذيذة، ولم تأكل أصابعها وراءها، أما الآن وبعد خبرة عشر سنوات في التنسيق بين المدرسة والمعهد والدروس الخصوصية وشغل البيت فقد صارت تقول لي في غرفة النوم كلمات مثل: سلمت يداك، وشكراً لأنك توفّر أجر الشغالة.. فلا أملك في حضرة هذا الغزل الرقيق إلا أن أعدها بشراء فستان جديد.
* * *
كنتُ بعد عودتي من المدرسة أدخل البيت ولا أخرج منه إلا للدروس الخصوصية أو المعهد الذي لا يريد طلابه أن يفهموا شيئاً، طلاب المدرسة أكثر أدباً من طلاب المعاهد والدروس الخصوصية، طلاب الدروس الخصوصية يريدون أن يدخنوا ويشربوا الشاي وأن يفعلوا كل شيء باستثناء أن يفهموا، أما طلاب المعهد فهم يوجهون لي أسئلة محرجة في السياسة والنساء، وقد كنت أتحاشى الإجابة حتى لا يحدث لي ما حدث لجدي..
ذاتً درس لم يفهم أحد الطلاب شيئاً عن الدائرة ، قلت له: إنها شكل منحن مغلق تبعد جميع نقاطه بعداً ثابتاً عن نقطة داخله تسمى مركز الدائرة..
قال لم أفهم..
رسمتها له..
قال لم أفهم..
قلت له أخيراً.. إنها تشبه زوجتي..
عندها ضحك الطلاب..
انشرح صدري لضحك الطلاب، فأخذت أعطيهم كثيراً من الأمثلة حولها..ثم حكيت لهم حكاية واحدة عن الدائرة والحصار، حكاية واحدة تتكرّر في غزة والعراق، وليبيا والسودان، وأماكن أخرى كانت أو ستكون.
عندها حطّ طائر الفزع فوق رؤوسهم ولم يقل أحد شيئاً..
* * *
أنا الآن يا قارئي العزيز أرتجف كورقة صفراء في خريف حزين، أرتجف على الرغم من أنني قضيت ما مضى من حياتي وأنا أمشي قرب الجدار وأطلب الستر من الله، أرضي الله ومدير المدرسة وزوجتي وطلابي.. تحيط بي زنزانة مربعة صغيرة، لأن الطلاب لم يضحكوا على حكايتي الوحيدة.. أتذكر زوجتي خارج السجن فأتخيل دائرة كبيرة وأنا مرمي في وسطها كالخرقة التي كنتُ أمسح بها رفوف المطبخ.. وأحياناً تتداخل الأمور فأتخيل الشكل التالي:
أنا






هل تجرؤ على مساعدتي أيها القارئ العزيز؟؟
أعرف أن نواياك طيبة، ولكنني أخشى أن تنظر في مرآة نفسك، وتكتشف أنك محاط بعدد لا نهائي من الدوائر والمثلثات والمربعات والمخمسات.. إلخ.. إلخ.. إلخ..

13/11/2007

قصة قصيرة: شجرة العائلة

شجرة العائلة!!

د. يوسف حطيني

تحرك أيها الحمار..
كادت دمعتان كبيرتان تسقطان من عيني الواسعتين.. حين رشقت هذه العبارة أذنيّ اللتين استطالتا بلا معنى.. لذلك رحت أتابع السير متسلحاً بجرح كبرياء غائر على الطريق الترابي المغبر الذي راح يمتدّ أمامي، دون أن أمنح صابر، مالكي الجديد، أية نظرة تشعره أنه امتلكني بالمئات التي ألقاها في يد فتى شقي ورثني عن أبيه الطيب.
تحرك أيها الحمار..
لم نصل بعد إلى الزريبة الجديدة حيث سآوي إلى ذاتي كما أحب أن أفعل دائماً.. ولكنها بداية غير طيبة..
منذ اشتراني صابر قبل ساعة من الزمن راح يقذفني بأقذع الشتائم، ويجرني جراً في شمس الظهيرة اللاهبة دون أن يجهد نفسه بالتفكير بما قد أعانيه.. إنه رجل غريب حقاً.. جاء إلى السوق يحمل سوطاً أسود غليظاً قبل أن يشتريني.. رسالة مخيفة لمثلي أن يشتري هذا الرجل السوط قبل الحمار.. ومنذ وقعت عينايَ على ذلك السوط وصلت تلك الرسالة التي تمت ترجمتها على ظهري طول الطريق بقسوة نادرة..
تحرك أيها الحمار..
هي لحظة واحدة فقط أردت أن أستريح فيها من عناء لاهب يسقط على ظهري بلا هوادة.. لم أفكر كثيراً أكان ذلك العناء من أثر الشمس أم من ذلك السوط اللعين.. صابر يلسعني وينفث دخان سيجارته بتلذذ نادر، ثم يصرخ في وجه ابنه المتعب الذي يسير إلى جانبه، رافضاً بإصرار أن يسمح له بالركوب فوق ظهري، فالحمار كما ردد صابر خلق لحمل الأمتعة التي تباع وتشترى، ولم يخلق قط لحمل البشر..
تداخلت الأصوات حولي حين دخلنا سوق الخضر، ملأت أنفي رائحة خُضَرٍ وفواكه طازجة، سال لعابي ورحت أتلمظ حلماً تحلّبت له شفتاي.. غير أن صوته الأجش طرد ما تبقى من صورة الحلم الباهتة، وأخذ يعلو فوق أصوات الباعة جميعاً:
تحرك أيها الحمار.. هل حشوت رأسك بالتبن؟
ولكنني لم أقف حتى أنال منه هذا التوبيخ.. ثم إنني لم أذق طعم التبن منذ أسبوع، فقد رحل التبن مع ذلك الرجل الطيب الذي كان يرعاني.. وصرت أكتفي بما تجود به الأرصفة..
نظرت إليه بطرف عيني.. واكتشفت اكتشافاً مذهلاً: لم يكن يقصدني هذه المرة.. ها هو ذا ينهال بصوته وسوطه على جسد ابنه الغض الذي ربما كان يحلم أيضاً حلماً مشابهاً.. أردت أن أرفسه ولكنني أحجمت في اللحظة الأخيرة، إذ إنه سيدي، وليس من المعقول أن ينال مني رفسة في اليوم الأول الذي أتوظف فيه عنده..
لم يقدّم لي أيّ عرض مغرٍ، ولكنني كنت متأكداً أن أي مالك جديد لي سيطعمني كل يوم أو كل أسبوع بقايا الخس وقشر البطيخ اللذيذ.. غير أن ما رأيته حتى الآن بات كفيلاً بكنس تلك الأحلام اللذيذة التي راودتني ذات جوع.
* * *
لم نكن قد وصلنا إلى البيت بعد حين كنا نكد السير، أنا والولد الصغير، حتى لا نسمع من صابر تلك العبارة التي تسقط على صدرينا كغبار ثقيل، فجأة تعب صابر.. فأعطانا أمراً حاسماً بالوقوف..
تحرك أيها الحمار..
استغربت الصوت الذي وصلني هذه المرة حاداً كصرير باب صدئ.. رجل يرتدي بزة سوداء، وينتعل حذاءً أسود ثقيلاً، ويحمل في يده عصاً غليظة نَبَتَ أمامنا فجأة.. وراح يردد في وجه صابر بلا توقف:
تحرك أيها الحمار..
مسكين صابر.. نظر إلينا نظرة رجل مقهور، دون أن يتمكن من دعوتنا للتحرك معه بعد أن حط على رأسه طير الفزع، فراح يسير، ورحنا نسير وراءه.. وبعد أن قطعنا مسافة قصيرة اتسعت عيناه الدامعتان، واستطالت أذناه، وأخذ ظهره ينحني.. ينحني حتى يكاد يلامس الأرض..
إذ ذاك أحسست أننا جميعاً: أنا وصابر وابنه الصغير ننتمي إلى عائلة واحدة.

14/1/2007

قصة قصيرة: سيناريوهات محتملة لموت الباشق

سيناريوهات محتملة لموت الباشق

قصة: د. يوسف حطيني



حديث المؤلف:
على الرّغم من أنني أعرف أيّها القارئ العزيز أنّ تدخّل المؤلف غير محمود عند كثير من النقّاد والمنظرين في فنّ القصة القصيرة، فقد آثرتُ أن أتدخّل في هذه القصة بالذت، لكي ألفت نظرك إلى أنّ ثمة موعظة في النهاية، أرجو ألا تفوتك، لأنك إذ تصل إليها ستشعر أنّ فَرَحاً يغمر روحك، وأن الملائكة تغسلك بالثلج والماء والبَرَد.
حديث الزوج:
تعالي يا امرأة فليس ثمة من يحصي علينا أنفاسنا.
تعالي.. فقد مات الباشق الذي كان يتربع على صدور الناس، وصار بإمكاننا أن نفعل ما نشاء، دون خشيةٍ من أن يطلَّ وجهه القبيح من النافذة، أو يتسلل طيف كابوسه من المدخنة..
لقد مات أخيراً.. وقد سمعتُ أن السيد الأعظم تشاجر معه حول طاولة البلياردو، فرماه من فوق شرفة النايت كلوب إلى أرض الشارع الإسفلتي، حيث تهشمت عظامه، وأزكمت رائحةُ دمائه أنوف الناس في الشارع المجاور.
تعالي يا امرأة.. فالليل قصيرٌ..
حديث الأرملة:
كم كنتَ طويلاً أيها الليل! لم يكن زوجي يستحق تلك الميتة: أن يجبره الباشق على شرب ليترين من البنزين، ثم يطلق عليه النار، فينفجر مثل بالون من النار.. غير أن الأيام كانت له بالمرصاد، فقد سمعتُ أنَّ طائرته الخاصة انفجرت به، مع عدد من مساعديه، فتحوّل معها الجميع كتلةً من اللهب.
كم كنتَ طويلاً أيُّها الليل!
أمَا وقد مات الباشق محترقاً بلهيب حقده، فإني أشعر أن الفجر أصبح قاب قوسين.
أشعرُ أنَّ الأيام قد انتقمت من الباشق شَرَّ انتقام، وما عليّ الآن سوى أن أنزع عني هذا الثوب الأسود، وأرتديَ القميص الأحمر الشفاف الذي يحبّه زوجي القتيل، فربما يجرؤ بعد موت الباشق، أن يزورني هذه الليلة في المنام.
حديث القتيل:
حين جاءني الملكان خفتُ كثيراً، على الرغم من أنهما حاولا زرع الطمأنينة في صدري الملتهب، قالا: إن سلطة الباشق لا تصل إلى العالم السفلي، وأكدا لي أنه فوق الأرض، ولا يجرؤ على النزول تحتها.
أمَا وقد نزل تحتَها الآنَ، بعد أن سقط في حفرة لمياه الصرف الصحي، فإن لديَّ من الأسباب ما يجعلني أشعر برعب شديد، ترى ماذا سيفعل بي الباشق إذا عرف أنني أعيش حياة أخرى متحدياً بنزينه وناره المحرقة؟
حديث المؤلف (2):
ليس مهماً أيها القارئ العزيز أن تعرف كيف مات الباشق، فالمهم أنه مات، وأنّ أطواق الياسمين ستزيّن أعناق الصبايا في مملكة الحزن والقهر والموت.
ولكن شُبِّه لهم:
إن سبب اختلاف الروايات التي ذكرها الدكتور يوسف حطيني حول حادثة موتي تعود إلى أن عدداً من أشباهي تعرضوا لمحاولات اغتيال، أمّا أنا فما زلت على رأس عملي، وإذا كنتم لا تصدقون فما عليكم إلا أن تنظروا إلى أعلى ذلك البرج..
هذا طبعاً إذا كنتم تستطيعون أن ترفعوا رؤوسكم..
أما ما قاله المؤلف حول الموعظة الفذة لهذه القصة فأنا ألفت أحذّرك أيُّها القارئ الغبيّ من أن تسبح معه في الخيال، لأنَّ الكثيرين غيره من المؤلفين تخيلوا موتي.. ولكن هذا لا يحدث إلا في القصص.
في القصص فقط..
وإذا أراد الدكتور المحترم أن يتأكّد بنفسه أنني ما زلت متربّعاً حيث كنتُ، فلينظر هو أيضاً إلى ذلك البرج، إذا كان يستطيع أن يرفع رأسه.

1/6/2009

قصة قصيرة: الطابق السادس

الطابق السادس

قصة: د. يوسف حطيني
إلى دينو بوتزاتي.. روح العبقرية

كان محزناً للسيد "ف" أن يعامله الحراس الأنيقون ذوو العضلات المفتولة بتلك الفظاظة، وأن يطردوه دون أدنى شعور بالخجل؛ فالدعوة التي يحملها في جيبه تؤكد بما لا يدع مجالاً للريبة أنه المدعو الرئيسي إلى هذا المهرجان، وأنَّ كلّ المدعوّين الآخرين جاؤوا ليتضامنوا معه.
حين صار في الشارع المزدحم بأمثاله من الجياع قرر أن يمزّق البطاقة اللعينة، فمدَّ يده إلى جيبه ليخرجها، ولكنه لم يجدها، وإذ ذاك قال لنفسه فيما يشبه الهمس: لقد سرقوها أيضاً.
* * * *

بطاقة دعوة
السيد ف:
تتشرف الهيئة الدولية لحقوق الإنسان أن تدعوك إلى مهرجانها الذي تقيمه على شرفك في صالة البرج التي تقع في الطابق السابع من فندق المدينة، في الساعة السابعة من مساء يوم السبت.
وتأتي هذه الدعوة تقديراً من اللجنة لنضالك العنيد ضد كل أشكال القمع والقهر والاستلاب.








* * * *
شعرتُ بارتباك غامر عندما عند باب المصعد، لأن الرجل الطويل الأشقر دفعني بفظاظة، ودخل قبلي، ولكنني حاولتُ أن أحافظ على هدوئي على الرغم من نظرته الذئبية المرعبة، وإذ نظرتُ إلى المرآة راودني حزن هادئ، فقد أخفقتُ للمرة العاشرة هذا اليوم في رسم ابتسامة صغيرة على وجهي الحزين، مثلما أخفقت عيناي العسليتان في الاستجابة لنداء الفرح الذي باغتني عندما تلقيت تلك الدعوة..
* * * *
لم يضيّع الرجل الأشقر أية لحظة، فقد أخرج من حقيبته سكيناً وصار يطعنني بلا رحمة في كلّ مكان من جسدي.. تهاويت على أرض المصعد، والدماء الغزيرة تتدفق من صدري وقلبي ووجهي الحزين.. وعندما توقف المصعد في الطابق الأول صعد رجل وامرأة، بدوا لي عاشقين، إذ إنهما لم ينتبها إلى جسدي المسجى، فداسا عليه، وأرسلا نظرة حانية نحو ذلك الرجل الذي تقطر دمائي من سكينه، وذابا في قبلة عنيفة.
* * * *
قبل أن نصِلَ إلى الطابق الثاني هاجمني الرجل الأشقر بضراوة، وصار يركلني، وإذ ذاك ناوله العاشق مسدساً، ثم عاد إلى حضن عشيقته، تاركاً الرجل الأشقر يحطم عظام جمجمتي بعقب المسدس، ثم ينزع جلد وجهي، ويضع ذلك الجلد في عناية فائقة عند الزاوية.
- إلى أين تذهبان؟
- إلى الطابق السادس.
- هل أنتما مدعوان أيضاً؟
* * * *
في الطابق الثالث تناثرت قطع الثياب في أرض المصعد، واختلطت بدمائي، غير أن دوامة العشق استمرت في عنفوانها، وانبعثت من المكان صرخات لذة طغت على صرخات الألم التي أطلقتُها حين اقتلع الرجل الأشقر بسكينه عينيَّ، ووضعهما في الزاوية.
* * * *
توقف المصعد في الطابق الرابع، وكان ثمة حمامتان تريدان الصعود، ولكنهما ما فرّتا حين شاهدتا دمي النازف الذي لم يره العاشقان، وإذ أغلق الرجل الأشقر المصعد من جديد راح ينزع جلد وجهه وعينيه بهدوء مريب، ثمَّ مدّت المرأة يدها العارية إلى حقيبتها، وأخرجت منديلاً مبللاً، وناولته للأشقر، وعادت لتقبّل عاشقها قبلة امتنان.
* * * *
وإذ وصل المصعد إلى الطابق الخامس أخرج من جيبه علبةً، فتحها بسرعة، وصبّ منها مادة دبقة على وجهي ووجهه، وعينيَّ وعينيه، ثمَّ ألصق عينيه الذئبيتين ووجهه القاسي عليَّ، وارتدى وجهي الحزين، وغمز بعينيَّ العسليتين للمرأة الشقراء، فقامت عارية تهنئه، ثم لبس العاشقان ثيابهما، التي خلت من كل أثر للدماء.
* * * *
وفي الطابق السادس ....


8/6/2009

قصة قصيرة: درس في محو الأمية

درس في محو الأمية

د.يوسف حطيني


الليل يهبط على الحدود، والسيارات تمرّ، وأنا وأولادي نراقب سلحفاة الوقت ونحن في سجن صغير داخل سيارتنا التي اضطررنا لإطفائها.. الصغار ملّوا الجلوس، يريدون أن يرتاحوا.. أن يأكلوا.. أن يذهبوا إلى الحمّام.. أذهب كل ساعة تقريباً إلى الضابط الذي يقول لي:
- انتظر قليلاً.. نحن نقرؤها.
- وهل ستقرؤونها كلّها؟؟
- طبعاً.
- متى ستنتهون؟
- قريباً..
شعرت نحو الكلاب التي تشم حقائب المسافرين ببعض الامتنان، فهي تسمح للكتب بالمرور، وليس لديها أية حساسية ضدها، قلت للضابط في المرة الأخيرة:
- أخي.. أنا لم أعد أريد الكتب.. ولكن دعنا نذهب.
لن تذهب قبل أن نعرف ما فيها.
* * *
قال أبو بهاء، الله يسامحه:
إجازتك الصيفية شهران، فلماذا لا تسافر برّاً.. رحلتك في البرّ لن تتحمل في الذهاب والإياب أكثر من أربعة أيام ولنقل أسبوع.. وهي توفّر عليك كثيراً.. عائلتك باسم الله وما شاء الله كبيرة.. ستة أفراد يحتاجون في الذهاب والإياب إلى مئة وخمسين ألفاً للسفر بالطائرة، ثم إنّ أباك ليس وزيراً..
- ولكن الأولاد ما زالوا صغاراً.. والرحلة طويلة.. والعذابُ كما يقولون قطعة من سفر.
- كثيرون غيرك ممن لديهم عائلات سبقوك في هذه الرحلة..
- سأفكر في الموضوع..
- لا تفكّر كثيراً.. احسبها فقط.. احسبها..
* * *
لم أكن أستطيع أن اتّخذ قراراً نهائياً.. أبو بهاء متحمس للفكرة، حتى دون أني سأستدين ثمن تذاكر السفر، عبر بطاقة الائتمان.. ولكن 3000 كيلومتر ليست لعبة.. مجرد التفكير بالرقم كان يشعرني بالغثيان..
* * *

أخبرتُ زوجتي وأطفالي مطمئناً: نسافر فجراً فنصل إلى الحدود في العاشرة صباحاً، ونجتاز الصحراء اللاهبة قبل أن يشتد الحرّ ثم نرتاح لساعة أو ساعتين، ونتابع رحلتنا حتى الثامنة مساءً.. ثم ننام في فندق محترم.. حتى نتمكن من متابعة السفر فجر اليوم التالي.. سنرتاح كلّ 300 كيلومتر، وسنشرب العصائر ونأكل السندويشات، ولن يمرّ المساء التالي إلا ونحن في دمشق.. قلت أيضاً: ستكون هذه الرحلة نزهة لن تنسوها.
اجتزنا 600 كيلومتر بسهولة، كان الأطفال يغنون ويرقصون، ويأكلون ويشربون، وينزلون في الاستراحات الجميلة على جانب الطريق الذي يمتد واسعاً مخططاً.. خلال عشر دقائق ختمنا جوازاتنا بختم الخروج، ثم ابتدأنا برحلة الدخول إلى حدود جديدة..
الحدود ليست مزدحمة .. أمامنا أربع سيارات.. كل سيارة تحتاج إلى عشر دقائق تقريباً، بعد أن يجرى لها تفتيش سريع من قبل الجنود والكلاب، حرارة السيارة أخذت في الارتفاع، ولكنّ دورنا وصل أخيراً..
نظر إلينا ضابط من وراء الزجاج، ثم قال للجندي الذي أخذ جوازاتنا: لا تؤخّر العائلات..
نظرتُ إليه نظرة امتنان، ثم نزلنا نحو الجندي الذي دعانا للنزول قائلاً:
دقيقتان فقط.
جاء الجنود والكلاب وبحثوا وشمّوا ولم يجدوا شيئاً ممنوعاً، سألني: ماذا تحمل في حقائبك؟
ملابس، وهدايا، وبعض الكتب.
قال كمن لدغه ثعبان:
- كتب؟؟
- نعم.. كتب في الأدب..
- يجب أن نراها..
أشرت إلى الحقيبة.. أخذها ودخل الغرفة الزجاجية ثم خرج من دونها:
- هل رأيتها؟
- سيراها الضابط.
- والجوازات.
- انتظروا هناك..
* * *
دفعت قبل الانطلاق في دائرة مرور "العين" ما يعادل ثلاثة آلاف ليرة لتسفير السيارة، كما دفعت في الصناعية حوالي خمسة وثلاثين ألفاً.. شرحت ذلك لأبي بهاء.. قلت له ما زلنا في مكاننا فقال مبتسماً.. تصليح السيارة ليس خسارة على الإطلاق.
* * *
قال الدكتور أمان:
- ضع ما تريد من الأمتعة والأغراض والهدايا في سيارتك..
- حمولة سيارتي القصوى 700 كيلو غرام.. ووزني مع العائلة حوالي 400.
- إذاً احمل ما تريد.. ولكن إياك أن تحمل الكتب الممنوعة..
- وهل من المعقول أن أحمل كتاباً ممنوعاً في مثل هذه الرحلة..
- كل شيء ممنوع تقريباً.
- أعرف: كتب الجنس والسياسة والإرهاب.
- والقبائل والعشائر والملوك والسلاطين.
- وغير ذلك؟؟
- الكتب التي لا يتقبلها مزاج الرجل الأميّ الذي يقف على الحدود.
* * *
كان البيت مساء أمس يشبه خلية نحل.. يملؤها نشاط الساعات الأخيرة.. وينغصها الخوف من المجهول.. البنتان تساعدان أمهما، والولدان يساعدانني في إعداد حقيبة الكتب التي سأحتاجها في دمشق.. اخترت بعناية ثلاثين كتاباً لا تمسّ أحداً بسوء..
غير أنني حين عدت للتدقيق وجدت كتاباً يتحدث عن الملل والنحل، وثانياً يتناول القبائل العربية، وثالثاً يناقش أزمة العقل العربي، فقررت إعادة تقييم الكتب، فانخفض عدد الكتب المرشحة لاجتياز الحدود إلى تسعة، لا يأتيها الرقيب من بين يديها ولا من خلفها..
جاءت ابنتي الصغيرة راكضة وهي تحمل كتاب (أجمل نكت 2007) قائلة:
- بابا هذا الكتاب لي.. وهو صغير وخفيف كما ترى..
- حاضر.
ناولني ابني رواية لعبد الرحمن منيف وقال: كنت تقرأ فيها مساء أمس.. ألا تريد أن تأخذها..
سامح الله ابني يريد أن نقضي إجازتنا على الحدود..
* * * *
- يا عم خلفان.
- نعم يا ظبية.
- هل تقبل الكتاب هدية مني؟
* * *
أمّ العيال لم تكن تريد أن تفكّر في الموضوع منذ البداية.. فالأطفال صغار ولا يحتملون حرارة الصحراء، قلت لها نشّغل مكيف السيارة طوال الطريق.
- ولكن المكيّف لا يعمل منذ خمسة أشهر.
- سأصلحه.
- وحرارة السيارة ترتفع إذا وقفنا على إشارة المرور.. ربما نقف في طابور السيارات ساعتين على الحدود.
- سأصلح كلّ شيء..
- يا بن الحلال.....
- سنسافر برّاً..
هكذا وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع الصحراء والحدود وخلفان.
* * *
- يا عم خلفان.
- نعم يا ظبية.
- هل تقبل الكتاب هدية مني؟
- شكراً لك يا ظبية.
* * *
قال أبو عاصم:
هذه إحدى حقائبي أرجو أن توصلها معك إلى دمشق.. لأن معي وزناً زائداً.. هنيئاً لك يا عم فأنت ستسافر برّاً، وبسيارتك الخاصة، وليس هناك من يوزن عليك حقائبك..
- حاضر.. حاضر.
قال أبو عدنان، وأبو فاضل ، وقال آخرون..
* * *
في الثامنة والنصف مساءً جاءني ضابط أراه للمرة الأولى، وهو يحمل كتاب (أجمل نكت 2007) وأعطاني إياه بودّ..
- أخي هذا الكتاب تستطيع أن تأخذه.. أما الكتب الأخرى فهي مصادرة..
- لا مشكلة.. كلها مصادرة.. بسيطة.. المهم أن نذهب.
لا يستطيع أحد أن يتصور فرحة ابنتي بعودة هذا الكتاب، كبرت فرحتها في صدري، وفي صدر أمها، فاستعاد الجميع حيويته، وانطلقنا من فورنا إلى النافذة لنأخذ الجوازات التي أمر الضابط بأن يتم الإفراج عنها..
قال جندي نراه للمرة الأولى:
- دقيقتان فقط..
عاد الجندي بعد دقيقتين، وأعطانا الجوازات، ثم نظر إلى يدي ابنتي اللتين تحضنان كتاب النكت، وقال لي:
- هل تسمح أن أرى الكتاب؟
- ماذا؟
قالت له ابنتي:
- تفضّل.
- شكراً يا ظبية.
- اسمي صَبَا..
- عاشت الأسامي يا ظبية..
هجّأ النكتة الأولى بصوت مرتفع، وضحك ضحكاً عالياً، ثم راح يهجّئ نكتة ثانية وثالثة..
- نريد أن نذهب.
- انتظر قليلاً على أخيك خلفان.. أستطيع أن أقرأه خلال أقل من ساعتين.
أرتال السيارات تتجمع خلفنا، وخلفان مشغول بقراءة النكت..
فجأة قالت ابنتي بعينين راجيتين:
- يا عم خلفان.
- نعم يا ظبية.
- هل تقبل الكتاب هدية مني؟
- شكرا لك يا ظبية.
- إذاً.. ننطلق.
- الله معكم.
* * *
الوجوم يسيطر علينا جميعاً، وابنتي الصغيرة دامعة العينين، والجميع يطالبونني بالإسراع إلى أقرب استراحة، فهم متعبون، وجائعون، ومثاناتهم ممتلئة، أما أنا، فقد كانت مثانتي ممتلئة أيضاً إلا أنني كنت أفكر أن أفرغها في مكان آخر..

30/11/2007

قصة قصيرة: المحرقة

المحرقة

د. يوسف حطيني
"إلى روح إسحق موسى الحسيني*"


أحبُّ عبد العال، أحبّه..
شيء ما يشدني إليه..
شيء أكبر من مجرد علاقة دجاجة بطفل يدللها..
كلّ إشراقة شمس يستيقظ قبل أبيه ليسبقه إلى القن، يتجوّل في أنحائه، يوقظ الدجاجات الكسولات، يضع أمامي وأمام كل دجاجة على حدة أكواماً من الحَبّ، يملأ القن صخباً وفرحاً، ينادي كل دجاجة باسمها: "شيري.. ميمونة.. مبروكة.. ثم يضع بعض الحب بين يديه.. يقدمه لإحدى الدجاجات ثم يحملها.. يحتضنها بشغف.. ويضع حبة القمح في فمها.. تماماً مثل العاشق والمعشوق..
هكذا كان عبد العال يدور.. والأيام تدور..
* * *
من أجل هذا أحببت عبد العال.. وما زلتُ أحبه..
لا أزال أذكر كيف دخل إلى القن منذ ثلاثة أيام.. كان متعباً.. اتجه إلى شيري التي كانت ترقد في الزاوية، مسح على رأسها بحنان أبٍ قَلِقٍ، بعدها جاءني مطمئناً إلى البيضات التي أرقد فوقها.. ثم سألني بابتسامة متعبة، وهو يداعب ريشي الذي اختلط بالتراب:
- متى سنرى الفراخ الجديدة يا قرقتي العزيزة؟
- ستنتظر أسبوعاً آخر..
- وهل ستكون جميلة؟
- اطمئن يا عبد العال.. ستكون ذات أرياش ذهبية لامعة.
ثلاثة أيام طويلة على غياب عبد العال كانت كافية لتجعل كلّ دجاجة في القن حزينة حدَّ الوجَع.. أما أبوه فلم ينقطع عن زيارتنا.. أبوه طيب أيضاً: يرش الحبوب في القن الكبير ويجمع البيض ويخرج مسرعاً..ولكنه لا يلاعبنا، معه حقّ فقد أنكهته الحياة المتعبة وسنواته الخمسون التي يحملها فوق كتفيه بصبر حمار..
* * *
أمس دخل علينا الرجل حزيناً مكفهراً.. اقترب من كل واحدة منا، راقب حركتها، وضع يده على رقبتها.. ثم أخذ خمس دجاجات.. جمعها في كيس كبير.. وانطلق خارجاً.. بعد أن ألقى نحونا نظرة مليئة بما يشبه الدموع..
مصير خمس دجاجات معلّق في كيس كبير يحمله والد عبد العال ويتجه به إلى مكان مجهول..
كانت "شيري" مريضة حقاً، وكانت أحبّ دجاجة إلى قلب عبد العال، ولكن الأخريات لم يعانين من شيء في الأيام الماضية.. ميمونة وحورية وحبوبة وبياض الثلج كلهن كنّ بصحة جيدة.. ولكن التعب كان بادياً عليهن نتيجة السهر المتواصل على "شيري" المسكينة..
كلهن مسكينات..
فأنا أعرف أين أخذهن..
لا شك أنه أخذهن إلى حفرة وألقاهن فيها ثم أشعل النار..
محرقة.. محرقة حقيقية..
كلهن مسكينات.. ونحن كذلك..
أخبرتني إحدى الناجيات من إحدى المجازر الجماعية كيف يجمع البشر مئات الآلاف من بني جنسنا ويتفنون في إيجاد أنسب الطرق للقضاء عليها..
محرقة حقيقية.. وليست كذبة تاريخية.. هي مجزرة تتم على مرأى ومسمع من بني البشر المدججين بآلات التصوير الرقمية والخوذات والألبسة الخاصة والمبيدات من كل نوع، مجزرة رهيبة نحن ضحاياها.. مجزرة لا يفكّر أحد بإيقافها، أو على الأقل بتعويضنا.. فنحن أحقّ بالتعويضات من أصحاب كذبة كبرى ما زال المتاجرون بها يقبضون ثمنها حتى اليوم..
الناجية التي سقطت من أحد الأكياس بقدرة قادر أكدت لي أنها لم تكن مصابة بالفيروس القاتل.. قالت وهي تبكي على أطفالها وديكها النشيط: إن بني البشر لا يعالجون المصابين بالفيروس بل يقتلونهم..
* * *
كنت أستعرض منذ الصباح كل ما جرى حولي في الأيام الأخيرة: فكرت بعبد العال الذي غاب منذ ثلاثة ايام، بأولادي الذين أرقد فوقهم، بالدجاجة التي نجت من المحرقة، بأبي عبد العال الذي يزدرد ريقه كلما دخل إلى القن.. بكل شيء.. عقلي المشغول بما حوله يشبه دوامة صغيرة تتلاعب بها الأفكار المتزاحمة، غير أن أصوات بكاء وعويل مفاجئ وعواء ريح ريفية انتزعتني من شرودي..
كان خوفي على عبد العال كبيراً.. وما زاد خوفي آياتُ القرآن التي تصل إلى مسمعيّ.. خفت كثيراً لأنني أعيش عند قومٍ لا يستمعون لصوت الحقّ إلا حين يموت واحدٌ منهم.
هل يكون عبد العال؟؟
لسعتني الفكرة..
هدّني بكاءٌ متواصل.. بكاءٌ مرّ تبعه صراخ امرأة ثكلى:
الله معك يا عبد العال..
سلم على جدّك يا عبد العال..
إذاً.. سقط عبد العال..
* * *
كنت أفكّر في البشر الذين لا يشغل تفكيرهم إلا البيض واللحم.. أتساءل لماذا لا يجرون لنا فحوصاً طبية دورية مثلما يفعلون لبني جنسهم..
أتمنى من كلّ قلبي لو يتم علاجنا أو تلقيحنا أو الاهتمام بتوفير مسكن يليق بنا حتى لا يموت عبد العال..
صوت القرآن ما زال يصل إلى أذني.. أصواتٌ وحركات منتظمة تملأ المكان.. أناس يدخلون أو يخرجون بأناة وخشوع.. وبكاء خافت يملأ زوايا غرفة منعزلة..
فجأة أسمع حركة وهرجاً ومرجاً وصراخاً.. أبو عبد العال يصيح:
- لن تدخلوا إلا على جثتي..
لحظات..
لحظات فقط.. تدخل مجموعة كبيرة من بني البشر المقززين إلى القنّ تقفز الدجاجات هنا وهناك.. بشر مدججون بآلات تصوير رقمية وخوذات ألبسة خاصة ومبيدات من كل نوع..
أضم صغاري بقوة..
عما قليل ستجري مجزرة رهيبة نحن ضحاياها..
يقتربون مني.. يشدونني نحو الأعلى.. وأنا لا أزال أتشبث بما تبقى لي من الحياة.. أغرز أظافري بالأرض دفاعاً عن حُلمي.. عن فراخي الذهبية الصغيرة التي كان يحلم بها عبد العال..

2/4/2007


* أسحق موسى الحسيني (فلسطين: 1904-1990) قاص وروائي وباحث، من أشهر آثاره رواية (مذكرات دجاجة) التي صدرت عام 1945.

قصة قصيرة: الرجال والظلال

الرجال والظلال


د. يوسف حطيني

إلى عملاء الاحتلال:
اُنظُروا في المرايا"


طفل ما يتوكّأ على ظلّه والظلّ يرقص مثل قطرة ندى..
تكبر أحلام الكَرْمي يوماً بعد يوم.. وظلّه الصغير يرافقه مثل ظلّه!
الكَرْمي (1):
لا أحد يعرفه أكثر مني، منذ نعومة أظفاري وضفائري كنت أراوغه، أركض أمامه فيتبعني، أحفظ جدول الضرب، أردده على مسمعه فيردده، ثم يتبعني إلى المدرسة، ويقدّم معي الامتحان، وأنجح، وآكل الحلويات وحدي، بينما يكتفي هو بأكل ظلالها.
الكَرْمي (2):
لا أحد يعرفه أكثر مني، منذ نعومة أظفاره وضفائره كان يراوغني، يركض أمامي فأتبعه، يحفظ جدول الضرب، يردده على مسمعي فأردده، ثم أتبعه مكرهاً إلى المدرسة، وأقدّم معه الامتحان، وينجح، ويأكل الحلويات وحده، ولا يترك لي إلا ظلالها.
الكَرْمي (1):
عندما صرت في الصف التاسع، شاركتُ في المظاهرات، ضربت الجنود بالحجارة، كتبت على جدران المخيم: عاشت فلسطين حرة عربية.. تعرّفت في أزقة المخيم على سناء، وقبّلتها في آخر الحارة الفوقا ولم يرني أحد إلا هو، ولم يسمع خفقان قلبي إلا هو، فقد كان يلازمني حتى عندما أذهب إلى الحمّام، قبّلتها قبلة لذيذة طويلة، انتبهت بعدها فزعاً إلى ظلّين متعانقين، تبّاً له، إنه يقلّدني في كلّ شيء..
الكَرْمي (2):
عندما صار في الصف التاسع شارك في التظاهرات، كتبَ شعارات وطنية على الجدران، تعرّف على سناء، وقبّلها، ولم يترك لي إلا ظلها البارد، هذا ليس عدلاً.. أريد أنثى حقيقية.. أنثى من لحم ودم، أكره هذا الجسد المسفوح على تراب المخيم، مثل جثة باردة..
لقد سئمت من مرافقته، أحبّ أن أحدّد بنفسي ميعاد نومي ويقظتي، وتفريش أسناني وركضي وسيري، لا أريد أن آكل حين يجوع، وأن أشرب حين يعطش.. مللتُ منه ومن نفسي ومن الببغاء..
لا بدّ أن أتخلص منه حين تحين الفرصة.
* * *
الليل:
الكَرمي مثل غيره، مجرّد مخرّب حقير، يجب علينا أن نقنع ظلّه أن يكون ظلاً.. لنا.
* * *
فتى ما يتوكّأ على ظلّه والظلّ ذئب ماكر.
* * *
"إس.. م.. إس"
"سيقتحم الكَرْمي هذه الليلة مستوطنة غوش قطيف مع مجموعة من رفاقه، لا تنسوا خدماتي".
* * *
رجل ما يتوكأ على ظله.. والظل رمح مسموم
* * *
هي المرّة الوحيدة التي تخلّى فيه الظلّ عن الكَرْمي، تركه يمضي مع رفاقه إلى الكمين الذي ينتظره، وهناك على حدود المستوطنة جرت معركة كبيرة بين جيش الاحتلال والفدائيين، وسالت دماء كثيرة من الطرفين.. وأحس الكَرْمي بالفجيعة حين اكتشف الخدعة الماكرة، أراد أن يصرخ ملء الفضاء: انتبهوا للظلال، ولكن طلقة أخرى عاجلته لينضمّ إلى قافلة العطاش التي تريد أن تشرب من نبع الوطن ماء عذباً صافياً.
* * *
يتكئ الكَرْمي على أريكة خضراء، تحت ظلال الأشجار الوارفة، إلى جانب عزّ الدين القسام وأحمد ياسين ومحمد الدرّة، يحلمون بجنة أخرى.. أما ظلّه البائس فقد حاول أن يكون ظلاً لشجرة أو نملة أو حصاة صغيرة، غير أنه لم يستطع ، لأنه وجدها جميعاً محاطة بالظلال البائسة..
وما زال ظلّ الكَرْمي يبحث حتى الآن عن مرآة ليبصق في وجهها.

6/5/2008

قصة قصيرة: الرجال والظلال

الرجال والظلال


د. يوسف حطيني

إلى عملاء الاحتلال:
اُنظُروا في المرايا"


طفل ما يتوكّأ على ظلّه والظلّ يرقص مثل قطرة ندى..
تكبر أحلام الكَرْمي يوماً بعد يوم.. وظلّه الصغير يرافقه مثل ظلّه!
الكَرْمي (1):
لا أحد يعرفه أكثر مني، منذ نعومة أظفاري وضفائري كنت أراوغه، أركض أمامه فيتبعني، أحفظ جدول الضرب، أردده على مسمعه فيردده، ثم يتبعني إلى المدرسة، ويقدّم معي الامتحان، وأنجح، وآكل الحلويات وحدي، بينما يكتفي هو بأكل ظلالها.
الكَرْمي (2):
لا أحد يعرفه أكثر مني، منذ نعومة أظفاره وضفائره كان يراوغني، يركض أمامي فأتبعه، يحفظ جدول الضرب، يردده على مسمعي فأردده، ثم أتبعه مكرهاً إلى المدرسة، وأقدّم معه الامتحان، وينجح، ويأكل الحلويات وحده، ولا يترك لي إلا ظلالها.
الكَرْمي (1):
عندما صرت في الصف التاسع، شاركتُ في المظاهرات، ضربت الجنود بالحجارة، كتبت على جدران المخيم: عاشت فلسطين حرة عربية.. تعرّفت في أزقة المخيم على سناء، وقبّلتها في آخر الحارة الفوقا ولم يرني أحد إلا هو، ولم يسمع خفقان قلبي إلا هو، فقد كان يلازمني حتى عندما أذهب إلى الحمّام، قبّلتها قبلة لذيذة طويلة، انتبهت بعدها فزعاً إلى ظلّين متعانقين، تبّاً له، إنه يقلّدني في كلّ شيء..
الكَرْمي (2):
عندما صار في الصف التاسع شارك في التظاهرات، كتبَ شعارات وطنية على الجدران، تعرّف على سناء، وقبّلها، ولم يترك لي إلا ظلها البارد، هذا ليس عدلاً.. أريد أنثى حقيقية.. أنثى من لحم ودم، أكره هذا الجسد المسفوح على تراب المخيم، مثل جثة باردة..
لقد سئمت من مرافقته، أحبّ أن أحدّد بنفسي ميعاد نومي ويقظتي، وتفريش أسناني وركضي وسيري، لا أريد أن آكل حين يجوع، وأن أشرب حين يعطش.. مللتُ منه ومن نفسي ومن الببغاء..
لا بدّ أن أتخلص منه حين تحين الفرصة.
* * *
الليل:
الكَرمي مثل غيره، مجرّد مخرّب حقير، يجب علينا أن نقنع ظلّه أن يكون ظلاً.. لنا.
* * *
فتى ما يتوكّأ على ظلّه والظلّ ذئب ماكر.
* * *
"إس.. م.. إس"
"سيقتحم الكَرْمي هذه الليلة مستوطنة غوش قطيف مع مجموعة من رفاقه، لا تنسوا خدماتي".
* * *
رجل ما يتوكأ على ظله.. والظل رمح مسموم
* * *
هي المرّة الوحيدة التي تخلّى فيه الظلّ عن الكَرْمي، تركه يمضي مع رفاقه إلى الكمين الذي ينتظره، وهناك على حدود المستوطنة جرت معركة كبيرة بين جيش الاحتلال والفدائيين، وسالت دماء كثيرة من الطرفين.. وأحس الكَرْمي بالفجيعة حين اكتشف الخدعة الماكرة، أراد أن يصرخ ملء الفضاء: انتبهوا للظلال، ولكن طلقة أخرى عاجلته لينضمّ إلى قافلة العطاش التي تريد أن تشرب من نبع الوطن ماء عذباً صافياً.
* * *
يتكئ الكَرْمي على أريكة خضراء، تحت ظلال الأشجار الوارفة، إلى جانب عزّ الدين القسام وأحمد ياسين ومحمد الدرّة، يحلمون بجنة أخرى.. أما ظلّه البائس فقد حاول أن يكون ظلاً لشجرة أو نملة أو حصاة صغيرة، غير أنه لم يستطع ، لأنه وجدها جميعاً محاطة بالظلال البائسة..
وما زال ظلّ الكَرْمي يبحث حتى الآن عن مرآة ليبصق في وجهها.

6/5/2008

قصة قصيرة: أعداء

أعداء!!

د. يوسف حطيني

أخيراً..
سيعود "شاهد" إلى مدينة العين..
سيعود ليسبب لي المتاعب من جديد.
شهر كامل مرّ على غيابه في إسلام أباد، ارتاح وأراحني..
ارتاح إذ احتضن أمه بساعديه القويتين، وتوسّد ذراعها الهزيلة النحيلة.
وأراحني إذ خلّصني من سطوه الذي لا يتوقف على زبائن الصالون..
"شاهد" صياد ماهر، كان إذا دخل أيّ زبون جديد الصالون خفّ إليه بنشاط هرّ، وقال له كلمتين ناعمتين، واستلّه، ثم أجلسه على كرسي الحلاقة، وراح يحدثه باللغة العربية التي يتقنها عن غلاء الأسعار والدوري الإسباني لكرة القدم، وأنواع السيارات والهواتف الجوالة بينما يتجول مقصه في شعر الزبون الجديد الذي يستسلم لسطوة المقص وحلاوة اللسان، وسرعان ما يتبادلان العطاء.. الزبون يعطيه أجرة الحلاقة، بينما يعطيه "شاهد" رقم هاتفه الجوّال من أجل حجز موعد مريح في المرات القادمة..
شهر كامل مرّ على قلبي برداً وسلاماً، يدخل الزبون الصالون، يسأل عن "شاهد"، فأخبره أنه ذهب إلى باكستان في إجازة، فيعرب عن أسفه، ثم يقول: اتصلت به منذ أمس عدة مرات، وكان هاتفه مغلقاً، ثم يضيف بأسف: إذاً لقد سافر..
يتردد الزبون قليلاً ثم يطلب مني أن أحلق له شعره، فأبدأ بالعمل محاولاً ما استطعتُ أن أقنعه بأنني حلاق ماهر، إذ أبالغ في كل شيء، في تحريك المقص حركات بهلوانية لا جدوى منها، وفي دلق كمية كبيرة من الشامبو على رأسه، وفي صبّ الماء، وفي تسريح شعره، وفي رش العطر، ثم أحدّثه عن سهول البنجاب، وعن رحيم يار خان حيث ولدتُ، وحيث كان القمر وما زال يسهر عند شبابيك البيوت، فإذا أصابه الملل أحدّثه عن الفواكه التي تملأ البنجاب.
في حرّ الظهيرة اللاهب دخل زبون طالما رأيته جالساً على كرسي "شاهد"، سأل مثل غيره عنه، ثم طلب مني، بعد تردّد، أن أحلق له شعره، وأن أصبغه أيضاً، من أجل أن يمسح آثار الزمن عن شعره الذي غزاه الشيب.
طلب مني الزبون حالما بدأت قص شعره أن أحدثه عن باكستان، وعن مدينتي التي ولدتُ فيها، عن طبيعتها وفواكهها وأشجارها..
سرّني ذلك لدرجة أنني لم أشعر بمضي الوقت، حدثته عن السند والبنجاب، عن رحيم يار خان، حدثته عن السانترا
[1]، والآنغور[2]، والمالتا[3]، والسيب[4]، حدثته عن أشجار الكوجور[5] التي تملأ السند..
ولكنني، دون إرادة مني، وجدتُ نفسي أحدثه عن "شاهد"، قلت له: إنه إنسانٌ حقير، يستغل حلاوة لسانه لاصطياد الزبائن، على الرغم من أنه لم يتزوج بعد، أكّدتُ له أن "شاهد" بلا همّ ولا غم، ولا أولاد يكسرون ظهره، أما أنا فقد كسر ظهري خمسة أولاد لم أرهم منذ ثلاث سنوات، قلت له أيضاً: إن "شاهد" إنسان مغرور يرى نفسه أفضل مني، لأنه من العاصمة، وأنا من الريف.
خلال تغلغل الصبغة في شعر الزبون، بدأت علامات السأم تصبغ وجهه، فطلب مني، أن أعود إلى الموضوع الأساسي، قال إنه يعدّ تقريراً صحفياً، ووجه لي أسئلة محددة عن طعامنا الذي يقتصر على القليل من العيش
[6] والكثير من الخبز، وعن ساعات عملنا التي تمتد إلى اثنتي عشرة ساعة، فأخبرته عن كلّ ذلك، وقلت له إننا نجلب الخبز ونطبخ العيش في الليل، ونضع الطعام في الثلاجة، وفي استراحة الظهيرة نسخّن الطعام والخبز، ونعود بسرعة لننام على كرسي الحلاقة، هذا إذا لم يحضر زبون ليسرق منّا لذة النوم التي نسرقها من زمن لا يرحم.
أعطاني أربعين درهماً، فتجرّأتُ وأعطيته رقم هاتفي الجوال، واتكلت على الله.. ولكنني شعرت بالخوف، لأنّ "شاهد" سيأتي من البلاد.. لا لست خائفاً، لأن هذا الزبون بالذات كان لي في البداية، ولكنني حين سافرت قبل ثلاث سنوات إلى البلاد كان الزبون قد طار إلى كرسي شاهد، وفشلت في استرداده، وها هو ذا اليوم يأتيني على طبق من ذهب، فهل أفرّط فيه؟
* * *
ها قد مرّت ثلاثة أسابيع على عودة "شاهد"، وسرعان ما نجح في استرداد معظم زبائنه، ولكنني لن أسمح له أن يستردّ الزبون الذي دخل لتوّه بعد أن اتّصل بي، وأخذ مني موعداً.
عندما رآه "شاهد" ترك الزبون الذي بين يديه، واتجه نحو زبوني وقبّله، وسأله عن صحته، وصحة أولاده، وطلب منه الانتظار، فارتبك الزبون المسكين، ولم يدر ما يفعل، غير أنني تدخّلتُ قائلاً:
- إنه زبوني.. وأنا سأحلق له.
- لا .. إنه زبوني.. وقد خطفته في غيابي.
- بل أنتَ خطفته أولاً..
- أنا أحذّرك..
- وهل ستضربني يا "شاهد"..
عاجلته قبل أن يجيب بلطمة قوية على وجهه، فانبطح على الأرض، وقد بدأ الدم يسيل من أنفه.. خرج زبوننا من الصالون غاضباً، وهو يقسم ألا يعود إليه، وخرجت بعده، قبل أن أعرف كيف سيتصرف "شاهد" مع زبون الكرسي..
في الطريق إلى البيت وخزني الندم، إبراً موجعة امتدت إلى عشر سنوات من الغربة، جمعتني فيها مع "شاهد" غرفة صغيرة واحدة، كان في كل ظهيرة يسخّن الخبز والعيش لنأكل معاً، لم يسمح لي طول تلك الفترة أن أطبخ العيش أو أسخّنه، كان يقول لي، أنت مثل أبي، كان يحدثني كل ليلة عن أمه التي يعولها بعد موت أبيه، عن حبيبته التي يجمع النقود من أجل أن يتزوجها، ندمتُ لأني ضربته، ربما يذهب إلى الشرطة، وندخل في مشاكل ليس لها آخر، لعن الله الشيطان، الحقّ عليّ، كان يجب أن أفكر في أمه وحبيبته..
مشيت في شمس الشوارع الحارقة على غير هدى، وحين انتبهت إلى ضياعي عدت إلى الغرفة، لأجد "شاهد"، وقدّ وضع طعام الغداء أمامه دون أن يمس لقمة واحدة، فقد كان في انتظاري.. وكان في انتظاره أسى واعتذار، وكان في انتظارنا عناقٌ وقُبَل ودموع.
العين 26/6/2008
[1] المندلين.
[2] العنب.
[3] البرتقال.
[4] التفاح
[5] النخيل، التمر.
[6] الرزّ.

قصة قصيرة: أبو الشوارب

أبو الشوارب

د. يوسف حطيني

يهبط أبوه على الناس ليلاً موجعاً كقدرٍ محتومٍ، فيتفرق الرجال مثل نُدَف القطن، وتجري النساء فزعاتٍ في كلّ صوب، بينما يتبول الأطفال في ثيابهم، ولا يبقى حولَه إلا رُعْبُ السكون..
أما عبدو الذي ولد في ظهيرة قائظة فقد استطاع في طفولته الباكرة أن يكسر حبة جوز بأسنانه، ومنذ ذلك الحين اكتسب لقب "أبو كسار" عن استحقاق، واكتشف أبو عبدو منذ ذلك الوقت أن الولد سرُّ أبيه، لذلك راح يحضنه ويربيه تحت جناحيه نسراً بشاربين كثيفين..
أبو عبدو، كعادته، يستيقظ كلَّ صباح، ويدهن شاربيه بزيت الزيتون البلدي الصافي بأناة دودة القزّ، وكانت كل شعرة تستجيب لتلك التجربة اللذيذة، فإذا مسها الزيت اهتزت وربت وأنبتت هلعاً يتطاير حوله مثلَ الشرر.. بعد ذلك يطمئن الرجل الخطير إلى نفسه في المرآة الكبيرة الكالحة، وينظر نحو زوجته نظرة ازدراء فترد عليه بابتسامة متشفية لا يدرك معناها أحد، ثم يوقظ ابنه ويلقي في وجهه ابتسامة مقتضبةً ويخضعه لتجربة زيت الزيتون ذاتها، وينظر في عينيه مباشرةً: - ستغدو رجلاً عما قريب يا "أبو كسار".
بعد ذلك ينطلق الأب إلى عمله في دكان بيع الخُضَر، بينما يمضي أبو كسار إلى المدرسة الابتدائية متأخراً، فلا يجرؤ مدرسوها على سؤاله عن سبب التأخير، لأنهم يخافون الوالد العصبي وسطوة شاربيه.
في دكان الخضر كان أبو عبدو فيما مضى يبيع البندورة والخيار والبطيخ والبقدونس بضعفي السعر، ويشتري منه أهلُ الحارة جميعاً حتى المختار لأن الصفعة التي تلقاها أحمد العدمان الذي اشترى ضمة فجلٍ من بائع الخضر في الحارة الشرقية.. ما تزال تتعربش على ذاكرتهم الطازجة.
أما الآن فقد صار بمقدور الجميع أن يشتروا من أي دكان أخرى، لأن أبو عبدو أصبح مسؤولاً كبيراً في مديرية الخضر والفواكه، وصار كلما رأى شاحنة محملة ينظر نحوها قائلاً: "شرقي أو غرّبي، واذهبي حيث شئت فسيأتيني خراجك
[1]"
ولكن رأسه لم تكن محشوة بالبطيخ والسبانخ والبندورة، ولو كان كذلك لما استطاع أن يقفز بين المناصب المتعددة كقرد مدرّب، ولما استطاع بعد حين أن يرسل ابنه "أبو كسار" لدراسة الطب في بلاد الحرية والنور حاملاً معه شاربين كثيفين وشهادة ثانوية تؤهله للدراسة الجامعية خارج حدود الوطن.. إضافة إلى زجاجة من زيت الزيتون البلدي الصافي الذي اشتراه خصيصاً للمحافظة على نقاء السلالة..
ما زالت صورة سعاد نصّور ماثلة في خياله، وهو يقطع شوارع المدن الغريبة، ها هي ذي في خياله نابضةٌ بالحياة، تتلوى تحت درج البناية مثل أفعى، تتأوه تحت وقع قبلاته العنيفة وأشواك شاربيه ثم تصرخ:
- لقد آلمتني يا "أبو كسار".
ولكنه لا يرعوي، بل تهبط شفتاه إلى عنقها الغضّ فتدفعه بكلتا يديها:
- لقد آلمتني..
- ألن تأتي مساء الغد؟
- إذا حلقتَ شاربيك..
- إذاً.. اذهبي إلى جهنم..
صورة سعاد نَصّور ماثلة في خياله إذاً، شفتاها، عنقها الربيعي.. يتذكرها كلما رأى هيلين تسير في نورث دالاس وتلقي شلال شعرها الأشقر وراء ظهرها بعفوية، وهي تتأبط ذراع مايكل فتزيد ليل تكساس صخباً وبؤساً..
شوارع تلك المدينة الكئيبة تشعره بانقباض قارس، ولكن نفسه تزداد انقباضاً حين يرى مايكل، وهو يربط شعره كالفتيات المدللات، ويمضع اللبان في فمه مثل المخنثين، ويجلس قرب هيلين التي تأكل وجبة سريعة من مطاعم ماكدونالدز.
قال أبو كسار في نفسه: لقد ابتسمت لي أولاً ولا يحق لمايكل أن يأخذها.. لن ينجو مايكل بفعلته.. سأضربه ذلك المخنث الذي يشبه امرأة قبيحة.. لن يحتمل أكثر من صفعة واحدة.. لأجل عيون هيلين سألقيه أرضاً، وأدوس على رقبته. لا شك أن معركتي معه ستنتهي بضربة واحدة..
أما زلت تحلم يا أبا كسار؟؟
يحلم بامرأة يضمها، هيلين ابتسمت له، وهي تبتسم له كلما التقت نظراتهما، ولكن العجيب أنها تذهب أخيراً إلى مايكل..
"لعله خدعها، لعلها تظن ذلك المخنث قوياً.. ولكنه سيسقط على الأرض أمامها مثل خرقة بالية، وإذ ذاك ستتركه هيلين وتأتي إلي طائعة، وتتلوى بين ذراعي مثلما فعلت سعاد ذات ليل بهيج.
عواء ريح شباط
[2] الحزينة وطقطقات حذاء الكعب العالي أيقظاه من شروده، بينما كان خارجاً من دروس تعلم اللغة الإنلكيزية وهو يلعن التوفيل[3] وأبا التوفيل.. وليس ثمة من يسير في الطريق سواها..
نسي حزنه، وصل عواء الريح إلى أذنيه أغنية عذبة، اقترب منها، حشر في رأسه كل مفردات اللغة الإنكليزية التي تعلمها ليخبرها عن حبه، ولكن مايكل ظهر فجأة ووقف في وجهه بعناد:
- لا بد أن يضربه، وقد جاءت الفرصة على قدميها..
لقد كان أبو كسار على حقّ فقد انتهت المعركة بضربة واحدة.. ومثل خرقة بالية سقط على الأرض، بينما تأبطت هيلين ذراع مايكل التي راحت ذؤابات شعره تموء وراءه كقط خبيث..
عاد أبو كسار.. إلى غرفته.. إلى بيته.. إلى وطنه، دون أن ينسى شعر هيلين: خمس سنوات كانت كافية لكي يتزوج سعاد أبو نصور التي ازدادت تعاسة منذ وضعها أبوها في سجنها الأبدي..
لم يستطع خلال تلك السنوات أن يزرع أية بذرة في رحم سعاد التي تنتظر بلهفة الأرض العطشى، دون أن تجرؤ على الظن سوءاً بزوجها، فقد كانت متأكدة أن أبو كسار الذي ما زال يمسد شاربيه بزيت الزيتون لن يكون عاجزاً عن إنجاب طفل.. أما هو فقد كان متأكداً من عجزه بسبب ضربة مايكل الوحيدة.
ما زال أبو كسار، قادراً على كسر الجوز، والجلوس في دكانه الواسع يبيع البندورة والخيار والبطيخ والبقدونس بضعفي السعر، وما زال الناس يشترون منه جميعاً حتى المختار الجديد لأنهم يذكرون الصفعة التي تلقاها محمود بن أحمد العدمان الذي اشترى ضمة بقدونس من بائع الخضر في الحارة الغربية.. وما زال يهبط على الناس ليلاً موجعاً مثل قدرٍ محتومٍ، فيتفرق الرجال مثل نُدَف القطن، وتجري النساء فزعاتٍ في كلّ صوب إلخ... إلخ... إلخ...
العين/ الإمارات

22/3/2007
هوامش
[1] في زمن مضى وانقضى خاطب الخليفة العباسي هارون الرشيد سحابة في سماء بغداد بقوله: "شرقي أو غربي.. وأمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك".
[2] فبراير
[3] امتحان كفاءة اللغة الإنكليزية الذي يسبق الالتحاق بالجامعة.

قصة قصيرة: مملكة الدجاج

مملكة الدجاج!!

د. يوسف حطيني


أشعة الشمس اللاهبة تمتدّ حول الأرصفة المحيطة بالقصر ثعباناً لا نهائياً يلتف حول أعناق الحرس المتجهمين، والصباح لم يسمح بعد للظهيرة أن تحمل لهم مزيداً من اللهب..
اللهب ولا شيء غيره على الأرصفة، وفي الشوارع، وفي صدور أولئك الحراس الصامتين مثل موت مؤجّل.. اللهب أيضاً في صدر ذلك الهدهد الذي يجتاز كلّ هؤلاء مثل خفاش أخطأ عقارب وقته، وجاء إلى قصر مولاه الأشتر في هذا الصباح بعد أن أمضى وقتاً طويلاً في اقتناص حكايات الألم والقهر والموت التي ترويها ألسنة تظن أنها أصبحت خارج حدود التغطية، على غير مرأى ومسمع ومشمّ من الهدهد وأعوانه.
* * *
جعبة الهدهد كانت مليئة بحكايات من كل نوع، سمع بعضها، وأسعفه خياله بتصوّر حكايات أخرى عن نبتة راحت تنمو بعيدة عن أعين العسس، أو بلبلٍ راح يتنفس بملء رئتيه دون أن يعير انتباهاً لحظر التجوّل المفروض على الماء والشمس والهواء.. غير أن الهدهد الذي حكم عليه الأشتر بالاستماع والبث، حسبما تقتضي ضروارت الأمن والأمان، كان يخاف ألا يمتلك الأشتر صبر شهريار وولعه بالحكايات، وإذ اجتاز الأسوار المنيعة كنسمة غريبة عن هذه المملكة نسيَ قلبُه الهلِعُ صباحَ تموز اللاهب وراح يرتجف مثل ديك مذبوح يبحث عن ذماء روح تفرّ من بين يديه.
* * *
كان الأشتر يشبه كلّ ملوك الحكايات القديمة، يمرّ بأيام نحس وأيام سعد: كان في أيام نحسه لا يطاق، وكانت ظبائه يختبئن، كلّ في كناسها، خوفاً من ليل وجهه وظلم ساطوره الذي يصلته آنئذ على رقاب المارة والعسس والحجاب.. أما في أيام سعده فقد كان يصلب ويشنق ويسلخ وهو مشرق الوجه، طلق القسمات.. وقد يبتسم أو يضحك بملء شدقيه لمرأى رأس راح يتدحرج أمامه كالكرة.. أو أمعاءٍ تدلّت أمام بطن صاحبها الذي يرقص مذبوحاً بسيف الألم والخوف والصمت.
* * *
كان صباحاً تموزياً إذاً.. ولم يكن مزاج الأشتر رائقاً لذلك حدّق طويلاً في عيني الهدهد المذعورتين، بينما بلل المسكين ثيابه البيضاء، وتساقطت منها قطرات ماء تشبه قطرات مطر في صيف حزين.
الأشتر يزدرد ريقه الجاف، يطلق مجموعة من الشتائم، يبصق في وجه الهدهد تهديداً بالذبح إن لم يكن يحمل معه أخباراً تستحق كل هذا التأخير.
قال الهدهد:
- وزير الدفاع.. النمر يا مولاي..
- أية ريح مشؤومة جعلتك تتحدث عنه.
- إنه يا مولاي يتغزل بواحدة من محظياتك.
- وهل يجرؤ أن يفعل.. قل لي من هي قبل أن اجعل من ريشك مروحة أتمروح بها في هذا الصيف المجنون.
اعتدل الهدهد في جلسته، وقال كأنه ينطق بحكمة بليغة:
- لا أعرف اسمها يا مولاي.. ولكن اسمها لا يهم.. فأنا اعرف التي تتربى تحت سمائك [قطّب الأشتر جبينه حين سمع كلمة سماء] .. أقصد أن كلّ المها التي تعيش وداخل حدود أسوارك هي مما ملكت يمينك..
لبس الوجه العبوس ثوب الاستحسان لهذه الرؤية الثاقبة، وأخرج الأشتر من تحت إبطه كيساً ورماه بين يدي الهدهد الذي انتشى بالمال والاستحسان فتابع قائلاً:
- لقد رأى مهاة تأسر لب الحليم فقال فيها:
عيون المها بين الرصافة والجسرِ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
نزع الأشتر قناع الاستحسان، فعاد الشرر يتطاير من عينيه، ويندفع غضب صدره زبداً فوق شفتيه المشققتين:
- الخائن... هل قال هذا حقّاً..
- بالتأكيد يا مولاي..
انتفض كما لم ينتفض أيام النكبة والنكسة، دعا حراسه لكي يقبضوا على صاحب هذا الشعر الماجن:
- من منكم يأتيني بوزير الدفاع؟؟
¨ أنا آتيك به خلال أربع وعشرين ساعة.
¨ أنا آتيك به خلال ساعتين.
¨ أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك.
وبعد أن يستعرض الملك تاريخ وزيره في أقل من طرفة عين، مستفيداً من إنجازات التكنولوجيا التي سخرها لخدمة كرسيه الجليل، يفتح عينيه ليرى وزير دفاعه أمامه صاغراً حقيراً مغلولاً، مرتبكاً كقطٍّ مذنب.. وليس ثمة سوى ابتسامة صفراء على وجه الأشتر تُـثير الرعب في قلوب المتهم قضاته على حدّ سواء.. كما تثير الإحساس بالموت في نفس الوزير المسكين الذي يدرك أن الأشتر خصمه وحكمه في هذه القضية الخاسرة:
- أهلاً بك أيها النمر العزيز.
- أهلاً بك مولاي ملك الغابة.
- هل تغزّلتَ حقاً بظبية ترعى في خمائلي؟
- ولكنها زوجتي يا مولاي.
- سأعلمك كيف تتنمر عليّ.. سأصنع من فروك معطفاً يقيني برد الشتاء.
- ولكن يا مولاي.
- خذوه..
* * *
هي كلمة واحدة.. تفصل بين الموت والحياة.. كلمة واحدة فقط
* * *
الأشتر ملكُ هذه الغابة الواسعة يحدوه حرص كبير أن يحوّل كل أفراد حاشيته إلى حيوانات، لا لشيء إلا لأنه كان قادراً على مخاطبة الطير والحيوان والحشرات، ولم تكن لديه القدرة على مخاطبة البشر العاديين.. ولم يستطع النجاة من هذا التحوّل الفذّ إلا أولئك الذين حملوا وطنهم على ظهرهم بدأب السلحفاة، وهربوا خارج أسوار مملكته بعد أن أدركوا أنه يصبح خارج السور مجرد أرنب لا يحسن إلا الركض وراء الجَزَر.
رجال مملكته المخلصين تحولوا فهوداً ونموراً وضباعاً تحرس قصره المنيف، وثمة دجاج يذرع الأرض جيئة وذهاباً ليلتقط حبة هنا أو هناك.
ولأن الأشتر لم يكن يثق بأحد ممن حوله فقد راح في عجلٍ يقتلع أنياب قادته ووزرائه، ويقلم أظافر أمرائه حجابه، ويخصي الين يقومون على خدمة أسرته حتى يضمن أمان مملكته السعيدة..
* * *
في أحد صباحات آذار رأى الهدهد غرباناً سوداً تملأ الأفق، وتحجب الشمس عن سماء المملكة الكئيبة.. فأسرع ليخبر الأشتر الذي ترك وزراءه وحجابه وزوجته وأولاده، وانطلق ليختبئ تحت الأرض..
الغربا المعدنية السوداء تملأ سماء المدينة، قذائفها تنبش القبور من عهد عاد، وتحمل الموت للجميع دون تمييز بين دجاجة ضعيفة أو قط سمين.. بحثت النمور والفهود والضباع عن مخالبها وأنيابها دون جدوى لذلك سقطت دموع كثيرة من العيون وأزكمت الأنوف رائحة تشبه رائحة غرناطة..
وكان ثمة دجاج.. دجاج كثير.. كثير جداً راح يكبر بسرعة، وراحت تنمو على أجنحته أرياش نسور قوية، وها هو ذا ينظر بثبات نحو كوة ضوء راحت تلمع في أحد جدران سجنه الكبير.

8/7/2006

قصة قصيرة: الطيور الخضراء

الطيور الخضراء


د. يوسف حطيني



ثمة طائر أخضر يغطي وجه السماء بغيوم كانون الأول، يمد جناحيه، فيمدّ أحمد يده، ويصعد.. يصعد حتى يصبح كل ما حوله شديد الاخضرار مثل ذكرى مرج ابن عامر.. يهمس بصوت عصفور ذبيح يحمل على كتفيه الصغيرتين عبء ستة عشر عاماً من الذل والقهر والاحتلال: ها قد استطعت أخيراً أن أحقق الحلم
يفرش بصره عبر سبع طباق نحو الأرض ليرى المشهد الذي طالما رآه في شوارع خليل الرحمن: ها هم يلفون جسده بالعلم الغالي، ويرفعون صوت الوطن إلى أقصاه: لا إله إلى الله.. أحمد يا حبيب الله.أي بشرى يحملها له هذا النشيد الخالد.. "إذاً لقد غدوت شهيداً" قال في نفسه. قبل لحظات كنت خائفاً كنت أرتجف كعصفور مبلول، حين وضع الجندي رجله على عنقي، وأطلق النار بين عينيّ المذعورتين، ولكن: ما إن شعرت بالطلقة تخرق صدغي حتى أحسست باطمئنان غريب..لن تستطيعوا يا أصدقائي أن تتخيلوا هذا النوع من الاطمئنان الذي يتسرب إلى قلب الشهيد حين يعانق جسده الأرض وتعانق روحه أحبابها في السماء، هل تصدقون أنني رأيت محمد الدرة، كان يفتح حقيبته المدرسية ويقرأ وتعلو وجهه ابتسامة انتصار، كان نجوم السعادة تتلألأ فوق خديه حتى إنني كدت أنسى ذلك الذعر الذي تناقلته وكالات الأنباء لوجهه البريء.. ربما كان حظي سيئاً، إذ لم تصورني أية كاميرا، ولكنني أشهد الله أن ذلك الجندي لم يرحم قدمي التي أصيبت بطلق ناري، فداس على رقبتي، ونظر حوله مطمئناً إلى عدم وجود أية كاميرا، ثم أطلق الرصاص.* * *لم يصدق أصدقاؤه الخبر، فقد كان أحمد حتى صباح أمس يملأ الصف التاسع الأساسي في مدرسة الملك خالد حيوية ونشاطاً، ليلتحق بعمله بعد انتهاء الدوام الرسمي.لم يصدق أبوه فقد كان حتى مساء أمس يملأ كلّ الأمكنة بحضوره البهي، حتى إنه قرأ ليلة أمس سورة الكهف في المسجد بصوته الرخيم الذي ما زال يملأ الآذان التي تطرب لذكر آيات الله.* * *حسناً يا ديبورا.. أشعر هذه الليلة برغبة عارمة في أن أمتلك جسدك الغض، فأنا في إجازتي هذه أتمنى أن أرتاح، خاصة بعد أن أن قمت بواجبي اليوم على أكمل وجه، لقد سحقت صرصاراً صغيراً بقدمي ثم أطلقت عليه النار.. على الرأس مباشرة يا حبيبتي، وحين حاول الكلاب إسعافه أخرتهم كثيراً حتى أطمئن إلى عدم جدوى أية محاولة، وعندما وصلوا إلى المشفى انتهى كل شيئ، إلى متى سيبقى هؤلاء "الغوييم" يعكرون حياتنا، اخلعي عنك هذا الثوب النبيذي، وادخلي إلى مسامات جسدي..ـ لن تمسني يا يزهار حتى تستحم ثلاث مرات لتتخلص من رائحة ذلك العربي الذي يعشش في ذاكرتك كعنكبوت نشيط.
* * *لا تحزني يا أمي، فالبركة فيمن تبقى، والعزاء في إخوتي الثمانية، وأخواتي الخمس. ووالدي الذي تحرسكم عيناه الكليلتان وقلبه المبصر، سييخفّف عنك الحزنَ، وعندما يخرج حسين وحسام من السجن سيعوضانك عن غيابي
.لا تحزني، فكل شباب "فرش الهوى" وكل شباب فلسطين وأطفالها أبناء لك.. وأنا أراك هنا من مكاني العلي، وأمد يدي لأمسح دموعك الغالية ولا أستطيع.. أرى كل شيء ولكن حاجزاً شفيفاً يفصل بين عالمكم وعالم الشهداء.
* * *ـ ماذا حدث لك يا يزهار.. هل كنت مع امرأة أخرى؟ لماذا لا تكون صريحاً معي.ـ أقسم لك بالرب أنني لم أعاشر امرأة منذ أسبوع.ـ لم تعد رجلاً .. اذهب الآن واسترح شهراً أو شهرين ريثما تستعيد بعض رجولتك، أما أنا فيمكن لي أن أتدبر أمري.
ـ صدقيني يا ديبورا.. أنا لست على ما يرام.. صورة ذلك الفتى تلاحقني.. لا أدري أين اختفى ذعره.. إنه يبتسم.. هل تفهمين..
ـ اذهب يا حبيبي.
ـ إنه يبتسم.
ـ اذهب
* * *لقد كان بيننا، صلّى الجمعة في مسجد الحرس،وخرج مع الجماهير التي احتشدت في مسيرة حاشدة، وحين انتهت المسيرة رأيته، قال لي: سأذهب لرؤية مقام الشهيد حمزة أبو شخيدم الذي سقط في حارة الشيخ، ذهبت معه، وحين سمعت إطلاق الرصاص ركضت، وركض أحمد، لم تكن هناك أية مواجهات، ولكن أحد الجنود أحب أن يجرب حقده فينا، عندما نظرت حولي لم أر أحمد.. سمعت فيما بعد أنه استشهد.. هنيئاً لك يا صديقي، فقد سبقتني.* * *منذ ذلك اليوم.. يوم الجمعة الثامن من كانون الأول عام 2000 لم يعد يزهار إلى عشيقته ديبورا التي ما زالت تستطيع أن تتدبر أمرها، أما أما أحمد القواسمي فما زال يزور ليلا يزهار كابوساً مرعباً.. يخترق الحواجز والأسلاك، ويرفع الغطاء عن وجه القاتل لا ليقتله، بل ليزرع ابتسامة عريضة تمتد من النهر إلى البحر.

قصة قصيرة: حيرة

حيرة
د. يوسف حطيني

(1)
"إذا كنت تظن أنك تستطيع السخرية من الجميع، فأنا لست ممن يرضى بذلك، يبدو أنك قررت أن تعطي ضميرك إجازة طويلة، لذلك فأنا راحلة عنك إلى الأبد".
(2)
لم يكن عبد الجبار يصدق ما حدث، فجأة مثل مطر أسود صاعق هطلت هذه الرسالة على صحراء عطشه السرمدي، قال في نفسه: لا شك أن أمراً جليلاً قد حدث لها. كذبة أو خديعة أو وشوشة عاذل ما، قلبت الطاولة والقهوة فوق رأسي، ولكن: ألم يكن عليها أن تسأل.. أن تفهم..
ضميري في إجازة؟ لن أسامحها أبداً.
ماذا يساوي المرء دون ضميره.. يا لبشاعة الكلمة..
ضميره الذي وسع كل شيء، الأهل والأصدقاء والناس جميعاً؟ ضميره الذي قاده ذات مرة إلى التحقيق من أجل قصيدة؟ ضميره الذي أخذه إلى لبنان ذات اجتياح، ليدافع مع كل أصحاب الضمير عما تبقى من كرامة؟
فجأة تريد أن تسلبه إياه..
"هي مجرد فتاة على أية حال" قال في نفسه، بينما كان يتجه إلى حلب تلبية لنداء ضميره، أراد، رغم شعوره بالعجز المرير، أن يقدم ندوة عن الانتفاضة، وفي حمص قامت في صدره انتفاضة صغيرة، قرأ برقيتها للمرة الأخيرة ثم مزقها، وألقى بها من النافذة.
(3)
لماذا لا أجد لكِ عذراً؟
وأنا الآن بعيد عنك آلاف الأميال، فقد أبعدتني أيدي الرزق عنك، وألقت بي في مكان يأنس فيه المرء لذكرياته الأليمة، وليس ثمة في قلبي طعنة أشد إيلاماً من طعنتك أنت؟ ربما لم تتعودي أن يحبك رجل حباً حقيقياً، ربما حين فاجأك مطري ارتبكتِ، مثلما ارتبكتُ عندما داهمتني عيناك لأول مرة ذات أيار.
سأقول لك سراً من أسرار عينيك، إنهما ببساطة تشبهان زيتون فلسطين الذي لم أره ولم أشمه أو أضمه، إن عينيك تشبهانه.. هكذا أشعر في ضميري.. أعرف الزيتون والبرتقال والناصرة وكل شبر، مثلما أعرف دمشق ويدك التي تستقر في يدي كحمامة بيضاء.
(4)
كان يحب العواصف والجنون والحزن النبيل، ويحلم بوداعها قبل أن يسافر.. كلما رآها كان يجتهد في أن يتجاهل وجودها، ثم يتعجب من نفسه التي صمدت أمام إغواء عينيها، يحب جنون شعرها الذي ينسدل على كتفيها نجوماً شقراء، يحب جنون شفتيها، يحبها.. لأن كل ما فيها رائع ومجنون، والذي يكاد يجننه أنها عاقلة.
عاقلة حين تفكر به، وبمستقبله، بظروفه الخاصة، عاقلة حين تبتعد عنه، حتى تريحه من حالة الخديعة التي تؤرقه، حين قبّلها ذات مرة قالت له:
- خيانة امرأة تشبه خيانة الوطن.
- ولكنني لم أخن.
- أمتأكد أنت؟
أرعبته الفكرة، عاد إلى حزنه الأليف، كيف يخون؟ وهو الذي يرى في إخلاصه معنى حياته، كيف يخون؟
هل كانت هذه الرسالة مجرد كذبة.. هل أرادت أن تبعده عنها من أجل اختصار عذابه وعذابها، ودربهما الذي يبدو نفقاً مظلماً.
تتسلل إلى أذنيه كلمات أغنية أدمن سماعها: "دمرتني لأنني كنت يوماً أحبها"..
لكن هل يستطيع أن يتركها.. إن "شمس" في حياته أكثر من حب، إنها شيء يشبه الماء والهواء.. شيء يشبه الوطن، ولكن كم وطناً يستطيع المرء أن يضع في صدره؟!
لا بأس في غربته هذه أن يتحدى طيف عينيها، ألّا يمشي في الشوارع لأن ذلك يذكره بها، سيحاول ألا يقترب من الأشجار، ألا يداعب النسمات، ألا يتنفس.. سيحاول أن ينسى.
(5)
على وسادة غريبة أغمض عبد الجبار عينيه، صارت تلاحقه مفردات وصور غريبة:242، حبيبة مفجوعة بحبيبها، منازل مهدمة، وطن لا يجد من يرثه، لوحة حزينة، عملية استشهادية، شعر أشقر، أولاد في عمر الزهور، مرج الزهور، 1441، الزيتون، مروان البرغوثي…. ولم ينس،كما في كل ليلة، أن يتخذ قراراً جديداً بإخراج شمس من حياته نهائياً.
ولكن من يضمن الأحلام؟

21/11/2002م

قصة قصيرة: الروح والجسد

الروح والجسد
د. يوسف حطيني



لم أكن أتخيل أن الأمور يمكن أن تنتهي فيما بيننا إلى ما انتهت إليه، هذا الذي يرهقني بحزنه الكبير في كل لقاء، هذا الوادع الأليف الذي ألقيت جراحي بين يديه لم يعتد بعد على ألاّ يكون فارساً شرقياً، ربمالم يستطع أن يتخيل امرأة يمكن أن تعيش متحررة من سلطة الجسد، وأن تبقى أسيرة سطوة الروح المقدسة، لذلك لم يوفّر خلوة لا تزيد عن خمسة ثوان إلا وحاول أن يضع يده على كتفي، أو فوق يديّ المرتبكتين، أو أن يعانقني فترتجف أوصالي وأبتعد.
كيف دخلت معه إلى هذا المكان.. الجميع هنا يجلسون زوجين.. زوجين.. مثل أفراخ الحمام الصغيرة، وهذا الذي يجلس قبالتنا يمسك يدي حبيبته ككنز ثمين، بينما يعبث ذاك بشعر حبيبته التي تستسلم ليديه باستغراق حالم.
لا أستطيع أن أزعم أني لا أحبه، ولكنني أسمو بهذا الحب الذي يمزقني عن مرتبة البشر، أضع حبيبي في مرتبة القديسين لأن ثمة ما يمنعنا من الارتباط مثلما يفعل أي حبيبين.
أشعر أنني سأخسره، ولكنني أؤجل هذه اللحظة ما أستطيع، تربكني نظراته الجريئة إلى عينيّ، إلى شفتيّ، إلى صدري الذي ليس لي ذنب في أنه يراوغه، كما يقول، كثعلب ماكر.
لو كانت الظروف مختلفة قليلاً، لو كان اللقاء ممكناً لما ترددت في أن أستسلم لقدره، ولأنفاسه التي أسمعها كلما همس في أذنيّ كلمة رقيقة، لو لم يكن مكبلاً بألف قيد، لو لم يكن…
لن يستطيع هذا الشراب المثلج أن يهدّئ من توتر روحي، وأنا أرى عينيه الشرهتين تجوسان أركان هذا المكان، ثم تجوسان بعد ذلك تفاصيل جسدي، فتزيد جراحي ألماً.
هو وحده الجرح الذي يمتد على مساحة الروح منذ رأيته أوّل مرة، إنه الهواء الذي يدخل رئتي، ولا خيار لي في أن أتنفس.. غير أنه للأسف لا يريد أن يفهم أنه يرسف في أغلال الجسد، وأنا طليقة مثل طائر ذبيح..
ماذا سأفعل حين يقبلني، أو حين يحاول أن يفعل ذلك.. أعرف أنه سيفعل، ولا أريد أن أخسره، أو أخسر روحي الصافية مثل نبع من الطهر والقدسية، هل ألقي بنفسي بين ذراعيه وأضرب عرض الحائط بكل شيء، وهل يفهم إذ أفعل ذلك أنني أتمرد على الروح والمجتمع، أيخبئ سري بين جوانحه، أم يتفاخر أمام أصدقائه بأنه فعل ما فعله عنترة إذ خلا بعبلة بعيداً عن عيون الرقباء.
هل أتركه وأمشي إلى حيث لا أراه، ولا يراني؟
وماذا لو ذهبت؟
هل ستكون روحي قادرة على مغادرة روحها؟
* * *
وأنتِ يا صديقتي الأثيرة، كلما خطرتِ في بالي أتذكّر الشيخ والبحر، تلك السمكة الخطرة التي جاذبت الشيخَ الغرقَ، وجاذبها النجاةَ.. وأنت سمكتي التي لا تكتفي بأن تغرقني، بل تصرّ أن تجرني نحو الأعماق، ترمي شباك عينيها، فيبتلعني الموج، ترمي شباك شفتيها فأصرخ منتشياً: إني أغرق.. لا تكتفي.. وترمي شباكاً لا تحصى.
انظري كيف يجلس ذلك الشاب على الأريكة المقابلة، بينما تسبح يد حبيبيه بين يديه، انظري إليه كيف يقرأ عينيها، وأنت لا تريدين أن أقرأ خطوط يديك لأحدثك عن فارسٍ سيقبّلك بعد دقائق.
كيف أنجو من سلطة الجسد المسلط كسيف على سكينتي، بعد أن أرهقتْ روحي فتنته، وجعلتني أمواجاً مضطربة تبحث عن أمواج أكثر اضطراباً لتعانقها، وهل ثمة أجمل من أمواج صدرك التي تعصف بما تبقى لديّ من قدرة على التحمّل.
ترى كيف يستطيع أي متعبد في محراب الجمال أن يبتعد، ليتك تعرفين يا صغيرتي أن عذاب الروح لا يكتمل إلا بعذاب الجسد، ليتك تفهمين أنني أحلم أن أضمّك وأن أشمّك وأن… وأنا أخاف ألا تدركي تلك العلاقة الفريدة بين روحينا حين يعمدها دفء الجسد.. أخاف.. ولكنني سأفعل.. فقد تستطيعين أن تقرئي بعد القبلة الأولى ذلك الدفء الذي يسري في شفتي، وقد تلقين بنفسك في أحضاني مثل سفينة أرهقتها الأسفار.. ولكن ماذا لو حزنت وأضربت عن الكلام، أو تركتني ومضيتِ دون أن تقولي كلمة وداع واحدة..
* * *
هذا النادل النشيط الذي يطمئن على راحة الجميع يعطينا الجريدة التي كنا قد نسيناها على الطاولة قبل أن نغادرها إلى زاوية المقهى الأكثر دفئاً وعزلة، وإذ تفتحين الجريدة يصبح وجهي ووجهك مختبئين خلف الجريدة، وهي فرصة نادرة قلما وفّرتها جريدة لقرائها.. قررت ونفّذت. في القضايا الحاسمة، يا أثيرتي، لا فرق زمانياً بين القرار والتنفيذ: كانت قبلة لذيذة سريعة خاطفة، وإذ ذاك اصطبغ وجهك بالأرجوان، وصار أجمل من وجه طفلة.. كنتِ متوترة، تحدثتِ عن أشياء كثيرة، بينما كنتُ سعيداً لأنني أقف أمام أول حلم حققته في حياتي، فقد قبلتك حقاً في المنام، ولكنك كنتِ هناك أكثر جسارة.
أحلام كثيرة لم أتمكن من تحقيقها: حلمت أن أعيش طفولتي، أن أعشق دون خوف، أن أتزوج، أن ألتحق بالجامعة، حلمت أن أعود إلى وطني، أن أجد قبراً يحنو علي عندما أموت، حلمت كثيراً وكنت أنت حلمي الأخير.
هل تريدين مني أن أعتذر، وهل ترضين أن أعتذر إليك بقبلة أخرى.
* * *
ينظران إلى بعضهما كديكين، ثم لا يلبثان أن يهدأا، ولكن حزناً عميقاً وانكساراً كانا يحترقان ببقايا نشوة كامنة في قلبها، وندماً وقلقاً كانا يمتزجان بحمى نشوة ظاهرة على شفتيه.
_ هل تعدني أنك لن تفعل ذلك ثانية؟
- ربما.
* * * *
لم ترافقه تلك النشوة وقتاً طويلاً، ولم يشعر تلك الليلة أنه سعيد بإنجازه بما فيه الكفاية، على الرغم من أنه انتظر تحقيق المعجزة أكثر من سنة، وها هو ذا يعود إلى غربته وحزنه بحثاً عن أحلام أخرى يحتاج تحقيقها عرقاً ودماً وحجارة.
سيعدها في المرة القادمة ألا يكرر المحاولة، هذا الوعد الذي سيحنث به أمام إغوائها عند أول سانحة.

قصة قصيرة: لقاء

لقاء
د. يوسف حطيني

(1)
جسدان متقابلان في مكان وادع أليف، موسيقى خافتة تنبعث من زاوية معتمة، شفاه تتبادل الكلام، ثم تذهب في الصمت، لتتيح للأحلام أن تطوّح بكل منهما إلى عالم بعيد جداً:
يسرقه خياله من الفستق والشاي، بينما يسرقها خيالها من خياله، ويفترقان، وهما ما يزالان جسدين متقابلين:
(2)
"طالما تساءلتُ كيف استطعتِ أن تتسللي إلى جدران قلبي الكتيمة التي لا ينفذ عبرها شعاع شمس جديدة، وكيف دخلت إليه، على الرغم من أنه محصّن بالأحزان الغافية"
ينظر إلى عينيها الشاردتين اللتين تَشرقان بدمعتين غاليتين:
"على غير انتظار كسرت عيناكِ جميع النوافذ، فيما راح شعرك الأشقر ينثر عبقه في الأرجاء.. سحقت عيناكِ ذلك الخافقَ الوقورَ الهادئَ الذي اضطرب أمام أمواجك العاتية، وهو الذي طالما أغلق قلبه على سعادته الصغيرة وحزنه الكبير.
ها أنت ذي تمدين شباكهما، بينما يتحفز نهداك مثل ديكين للانقضاض على ما تبقى من سكينة في روحي المعذبة التي لا أظنك قادرة على حمل عذاباتها، وأنا ليس لي سوى أن أنصحك بالابتعاد عن هذا الذي أخشى أن يتفجر في أعماقي ويدمر جميع الحدود ويلغي الفواصل بين جسدينا، وعندها سوف أحمّل عينيك المسؤولية الكاملة.
أنصحك بالابتعاد كي لا أغرق، أنت لا تعرفين يا صغيرتي معنى أن يكون المرء فلسطينياً.. لا تدركين أن كل ما يجري على الكرة الأرضية يؤرقني، إذ يمكن بجرة قلم من قبل أحد السياسيين المحكمين بأقدار الناس أن أغدو لاجئاً أو نازحاً أو مواطناً أو تائها في بلاد الله الواسعة، أو سندباداً يعود للبحث عن بغداده من جديد..
لو كنتِ بغداد لما ترددت لحظة واحدة في أن أمرغ جسدي فوق صدرك النافر، ولكنك امرأة تستطيع أن ترمي حبائلها، وتدخن نارجيلتها بالكفاءة نفسها، وتعيش لحظة سعادتها بتلذذ نادر."
يقترب النادل مبتسماً، يبعده عنه بإشارة من يده، ويعود إلى دمعتيها اللتين تنثالان حنيناً دافقاً نحو الماضي:
"أنت مثلي تحتاجين الحب، بعد أن حملت أحلامك طائرة عابرة، وألقت بها دون رحمة في مياه الخليج، ولكنك تستطيعين طرد خيبتك وحزنك بكأس من البيرة المثلجة أو بالاستماع إلى عويل نارجيلتك الحزين.. حياتك معادلة سهلة: يأس ونارجيلة ونظرات زائغة نحو المستقبل.
أما أنا فتبدو الأمور بالنسبة لي أكثر غموضاً وتعقيداً، أبحث عن ظلي على الأرض ولا أجده، ولا أستطيع بعيداً عن المكان أن اتخذ قراراً .. كم مرةٍ قررت أن أبتعد عنك ولكنني كنت أقبل دعوة عينيك دائماً إلى فنجان قهوة ولقاء..
اليوم تجاوزت جميع قراراتي، تجاوزت فرحي الصغير، وحزني الكبير، وقررت أن نلتقي على موعد، مثلما لم نفعل من قبل، كما قررت دون علمك أن آخذك إلى مكان ما أكثر دفئاً وعزلة، وقد سرني أنك وافقت على أن نلتقي يوم الأربعاء في الساعة السادسة، أمام الفندق الكبير، ولا سيما أنني أشعر في هذه اللحظة بالذات أني أحبكِ."
(3)
"ترى بماذا يفكر"؟؟
تختلس نظرة إلى عينيه الحزينتين الشاردتين:
"لا تحزن.. فلن أرفض لك طلباً، سآتي يوم الأربعاء ولو انطبقت السماء على الأرض، سيكون لا شك لقاءً مختلفاً، فاللقاء معك له نكهة خاصة، صحيح أنني أجهل عنك الكثير، ولكن حزنك يغريني باللقاء.
سبق أن أهديتني أغنية فيروزية مروعة "أهواك بلا أمل"، وقد تلقيت هذا الإهداء مثل كل الرومانسيين بهدوء مَن أدمن اليأس، على الرغم من أن دخولك في حياتي كان يدفعني إلى الاعتناء أكثر بلباسي الضيق المثير، وشعري الأشقر الذي أفرده، لأجل عينيك فقط، شلالاً على كتفيّ".
تواجهه بنظراتها، تلمح فيهما ضياعاً، وتحدس أنه يقرأ في عينيها فكرة قصة جديدة:
"يعجبني كل ما تكتبه، وتعجبني قلة خبرتك مع النساء، على الرغم من أنك تحاول أن تظهر عكس ذلك، أتمتع إلى حد الهيام بغزلك الذي تبوح لي به بين حين وآخر، وأحس يدي ترتعش حين تلامسها أصابعك إذ تقسم بيننا حبة الفستق اللذيذة.
ما لك أيها الحزين تبعد النادل بإشارة من يدك، لماذا تدمن الغربة في داخلك؟ ألا تكفيك غربة الوطن. لماذا يؤرقك أن تكون فلسطينياً.. كلنا غرباء يا صديقي الأثير، كلما حدثتني عن وطنك الذي غادرته مرغماً أتذكر وطني الذي غادرني، حبيبي الذي خفق له قلبي قبل أن تسرقه زحمة الحياة، سبع سنوات قاسية مرت، وأنا لا أزال أحتفظ بذكريات طازجة ندية عن لقاءاتنا التي تقرقر فيها النراجيل، وتشعشع كؤوس البيرة وتمتلئ الطاولات بما لذّ وطاب من الطعام والمشاعر التي لا يمل وهو يفرشها على مسمعيّ.
لا تحزن، فغربتك غير مكتملة، لأنك مثل سلحفاة تحمل بيتها على ظهرها وتنقله من مكان إلى آخر، فما لك تأتي إليّ بعد سبع سنوات من اليأس مطوقاً بالحرص والحزن والخوف والتردد".
ترفع نظرها نحوه، تجده يضرب الطاولة بيده، وتلمح في عينيه قسوة لا حدود لها:
ـ أغفر قسوتك التي أتخيلها سيفاً مسلطاً على مواعيدنا، لأنك سرعان ما ترق وتهمس في أذنيّ أعذب ألحان الحب.. تعال يا صديقي كي ننتصر على غربتينا بالحب، دعني من همومك الكبيرة التي تجعل منك قديساً، وعد إلى العاشق الذي يكمن في داخلك، إلى المراهق الذي يفتعل المواقف افتعالاً حتى يلمس يدي أو يضع يده على كتفي في شارع من شوارع دمشق الكبيرة.
أنت تختلف عن الجميع ولكنك تشبههم في أمر واحد: لم يحدثني أحد حديثاً يشبه أحاديثك العذبة، ولم يطعمني أحد الفستق بطريقتك الفريدة، ولكنك مثلهم تماماً تريد أن تترك بصمة ما على جسدي، وكأنك لم تكتفِ بتلك البصمة الرهيبة التي رسمتها فوق روحي المعذبة.
أحس أن اختلافك عن الآخرين هو ما يقربني منك، وهو ذاته سيبعدني عنك في يوم قريب، تعال إلى كأس من البيرة المثلجة التي تشعشع دفئاً وسعادة.. تعال إلي فمن يدري؟ لعلي أكون لك سكناً ووطناً؟.
ولكن لا بأس أن نلتقي على موعد، مثلما يفعل العشاق، سنكون ثنائياً غريباً: رجل منفي خارج ذاته يبحث عن سعادة كبيرة غامضة يحتاج تحقيقها إلى معركة كبرى، وامرأة تبحث عن سعادتها الصغيرة في فنجان قهوة ونارجيلة بعد أن سرقها اليأس ومياه الخليج.
اطمئن يا صديقي، فلن أضيع فرصة لقائك يوم الأربعاء في الساعة السادسة أمام الفندق الكبير، ولا سيما أنني أشعر الآن أني أحبك."


(4)
غادر منزله/ غادرت منزلها/ اتجه/ اتجهت صوب الفندق الكبير، وقف/ وقفت أمام الباب تماماً، ثم راح يبحث/ راحت تبحث، عنها/ عنه، ولم يستطع أي منهما أن يرى الآخر على الرغم من أنهما جاءا إلى المكان نفسه، وفي الوقت ذاته.
لذلك عادا إلى منزليهما، بينما كان كل منهما قد أدرك بالفعل أن اللقاء بينهما مستحيل، وأن عليهما أن يصنعا زمناً خاصاً بهما، وأن يؤثثا مكاناً خاصاً لحبهما قبل أن يتورطا في موعد ليس له معنى.


13 نيسان 2001

قصة قصيرة: حلم ما

حلم ما
د. يوسف حطيني


(1)
أيّ حلم هذا الذي دفعني إلى استقبال نهاري بهذه السعادة؟
أيّ حلم؟
(2)
قبل أن أذهب للفراش ليلة الأمس هاجمتني غربة قاسية، فاجأت روحي هواجس كثيرة راحت تتعربش على ذاكرتي مثل شجرة ياسمين:
تذكرت دمشق إذ أجوب شوارعها الحزينة التي يغسلها المطر فيعيدها شابة عذراء، رغم آلاف السنين التي مرت على رأسها، أمد يدي بخوف إلى يد امرأة أحبها، وسرعان ما تتشابك اليدان في عناق حميم، تخترقان الزحام والأعراف، معلنتين انتصاراً مؤقتاً للحب تحوله الغربة وآلاف الكيلو مترات التي تفصل بين جسدينا هزيمة مرة.
أتجول في أنحاء البيت الواسع الذي يحاصرني بفراغه الكئيب، أنظر من النافذة الواسعة فلا أرى إلا فضاء ضيقاً لا يتسع لعصفور قلبي الذي يبحث عن أحبة يغادرون، أعود منكسراً إلى غرفة الجلوس، أتامل المزهرية الخالية من الورود، أفتح التلفزيون، عشرة شهداء فلسطينيون يسقطون في يوم واحد، ولا وقت لدى العرب لتشييع الشهداء، والحكومات مشغولة للضغط على المقاومة من أجل وقف العمليات الاستشهادية، ولا شيء.. لا شيء يحدث دون أمر من الحاكم الأوحد الذي نصبه العالم الحر بهلولاً على عباد الله في كل مكان.. أتامل صورة معلقة على الجدار: حنظلة يدير ظهره لنا، أدعوه إلى النزول، يرفض، أتذكر قدميه المقيدتين فأبكي..
أغلق التلفزيون، أعود إلى الشرفة، أحاول أن أستحضر طيف حبيبتي مرة أخرى، تلك القبلة الخاطفة التي سرقتها ذات يوم، العناق الحميم، اليد الجريئة التي تعبث بالشعر الأشقر الطويل في حافلة عامة، تكسرني ذكريات لاحقة: الشعر بات قصيراً والقبلة أصبحت حلماً بعيداً، مثلما هو بردى الآن، ومثلما هو قاسيون..
أفكر بصوت مرتفع يؤنس وحشتي: النوم هو سلاحي الوحيد الذي يعيدني إلى هناك:
(3)
تبدو دمشق لعيني خضراء أكثر من ذي قبل، تتدفق مياه بردى حتى تكاد تفيض على الجانبين، فيما تبتسم الشوارع كأنها تستعد لاستقبال عاشقين، تتهادى المرأة التي أعشقها مثل حمامة، تقترب مني، تهدل في أذني أغنية سكرى بالحب الخالد، تحمل طاقة من ورد أحمر، تقول لي: خذ هذه الورود، فهي البلسم والشفاء، تركض أمامي في حديقة ضبابية لا حدود لها، وخلفها يلهث شعرها الأشقر الطويل، ووراء جذع شجرة تذوب الشفاه في قبلة طويلة ولا يقف العناق اللاهب عند حد..
أودع تلك المرأة على أمل جديد، ترفع يدها مثل راية نصر قادمة في لقاء قادم، يمتد الأخضر حولي، يطلع أمامي الخبز والعشب وناجي العلي، أعانقه، نراقب بفرح شهيداً آخر يشبهنا جميعاً، يشبه المحيط والخليج، ينبت بيننا، يحيينا ثم يفك الأغلال التي تصفد قدمي حنظلة، يمضي بهدوء تاركاً خلفه بسمة قادرة على تحطيم أنياب الذئاب البشرية.
(4)
أي حلم هذا الذي دفعني إلى استقبال نهاري بهذه السعادة؟
أي حلم؟
(5)
برد خفيف يتسلل إلى جسدي، ولا بد لي أن أنهض من فراشي وأتناول قهوة سريعة، قبل أن يحين وقت الذهاب إلى العمل، لا بأس في القهوة التي أصنعها، لا سيما أنني وحيد في هذه الغربة، وليس لدي خيار آخر.
أقوم متكاسلاً، ولكن السعادة تغمرني بعد حلم الليلة الماضية، أمرُّ عبر غرفة الجلوس، كان ثمة أمران يصعب تصديقهما: ورود حمراء متفتحة تملأ مزهريتي، وحنظلة ينظر إلي مبتسماً، وقدماه طليقتان.
ها هوذا يحاول النزول إلي.

27/12/2002
الكلاب
د. يوسف حطيني


… ولكن سلمى لم تكن مجرد امرأة.. كانت سيفاً.. شيئاً يشبه الصبار، يطعن جدار الحلم بلا هوادة.
مجرد حلم أرعن دفعني إليها، رأيتني أضمها إلى ذراعيّ اللتين تشتهيان دفء أنثى تختلف عن سائر النساء، رأيتني أسعى وراء عبق أنوثة نضرة لها رائحة القرنفل. وهناك عند المسافة الفاصلة بين طلقتين لقيتها أول مرة.. لقيتها آخر مرة..
ذات ليل شتائي قارس، حيث كان الليل ينبح بضراوة، سمعت صوت كلاب تحاصر نافذتي الوحيدة، محاولة أن تخنق الهواء الداخل إلى رئتي، أن تطرد الهدوء من حولي، وأن تحيل فرحي أعاصير من الخوف الراعش الحزين، تحديت نباحها.. رحت أبتسم للدفء المنبعث من الموقد الصغير، وأضع حبات الكستناء فتتوهج فوقه، وتصبح في دقائق شمساً ملتهبة.
إيه سلمى..
حاولتُ النوم فجاهدت الكلاب الشقيّة كي لا أنام، أطفأت الموقد والنور، وأشعلت الرغبة الطاغية في داخلي لعناق امرأة: امرأة تشبه حقلاً تمتد خضرته حتى شواطئ عكا، أغمضت عيني لحظات.. حميت حلمي من الكلاب بأهداب عيني المثقلة بالغربة ، وإذ ذاك جاءتني تلك المرأة على صهوة نسر عجوز، قبلتني من جبيني قبلتين، قدمت لي كأساً من عصير البرتقال، ذلك البرتقال الذي أحتفظ بنكهة مذاقه التي لا تتكرر.
ناولتني كيساً أخضر وانصرفت، لم تنبهني مثلما يفعلون في الأساطير، ألا أفتحه، ومع ذلك كنت أرتجف بشدة، رغم الدفء الذي سرى في عروقي عندما ودعتني، لم أكن أشعر بالبرد أبداً، ولكنني خفت أن تفاجئني عاصفة هوجاء تختبئ فيه، أو أفعى تريد أن تنتقم مني لأنني كنت أقتل صغارها ذات طفولة شقية.. خفت أيضاً أن تضع في الكيس ما يضاعف عذابي: زجاجة عطر، وقميص نوم أحمر، وألبسة نسائية أخرى، لا أجد حولي امرأة تلبسها..
- هل أفتح الكيس؟
(قلت في نفسي، ولكن الخوف عقد لساني حين سمعت صوتها):
- افتحه، ولا تخف.
- أين أنت.
- بعيدة، ولكنني أنتظرك.
ما زالت الكلاب تحاول تمزيق ما تبقى من حلمي الذي رأيت فيه نفسي.
أخيراً أفتح الكيس بحذر، أدخل يدي المرتعشة فيه ثم أخرجها بسرعة، لأقلب محتوياته أمامي، كان كل ما في الكيس مألوفاً ومحبباً، ولكني لم أفهم شيئاً: عروسة زعتر، وحناء، وزهر حنون..
ماذا تريد تلك المرأة التي اقتحمت علي ليلي وبردي وكستنائي وعزلتي.
عرافة القرية أكدت لي أن ما رأيته ليس كابوساً، قالت بحماس: إن الكابوس هو ذلك الرعب الذي تزرعه الكلاب في أحلامك الوادعة.
ولكن.. ماذا أفعل بعروسة الزعتر؟
- كلها.
- وزهرة الحنون؟
- ضعها على صدر طفلة.
- والحناء؟
- سلمى تنتظر.
- من هي سلمى؟
- فتاة أحلامك.
- والكلاب؟
كيف يمكن لي أن أحنّي سلمى، كيف لي أن أصل إليها وأجتاز ذلك الجدار الفاصل بيني وبين الحلم؟
بينما كنت أفكر في المهمة الشاقة، خطرت لي فكرة، قلت: لماذا أعقد الأمور؟ لماذا لا أبدأ بأبسط الأشياء؟ سآكل عروسة الزعتر، هذه بسيطة، فتحت الكيس، قربتها من فمي…
الكلاب مرة ثانية.
طردت نباحهم من خاطري، فجاءني صوتها:
- ربما لن تشعر بطعمها اللذيذ لو أكلتها قبل أن تصل إلي.
- وربما لن تتألق زهرة الحنون على صدر طفلة إذا لم أصل إليك؟
- بدأت تفهمني؟
- أين أنت يا سلمى؟
- على جدار الحلم أنتظر.
- لن يطول انتظارك.. سأجيء.
* * *
حمل عروسته وحناءه وزهرته الغالية، وملأ الكيس الأخضر من حجارة الأرض كي يطرد الكلاب، وجد عشرات الآلاف حوله ممن يحملون حجارتهم وأحلامهم. وهناك.. على مسافة طلقتين من حلمه العنيد سقط صلاح الدين مضرجاً بحنائه وحنّونه، ومثل غيمة تشرينية جاءت سلمى بربيعها وأريجها كي تشهد ولادته الجديدة، وتطلب منه أن يحكي لنا عن قصته معها، مؤكدة أنها ما زالت تنتظر.
ثمة زهرة حنون حاولت أن تتألق على صدر طفلة، ولكن الكلاب….

29/11/2002

قصة قصيرة: على ذمة البحر

على ذمة البحر
د. يوسف حطيني

(1)
ها أنت ذا تواجه البحر مستلقياً، خدر ناعم لذيذ يداعب خلايا جسدك الملتصق بالرمال، والشاطئ يمتد أمامك ، حيث يملؤه ضجيج الأطفال والأمهات والآباء الذين لا يعرفون السباحة، وعلى مسافة بعيدة تبدو فراشتك الزرقاء جنية تعانق الموج دون خوف أو تردد، هذا الأزرق الذي تلبسه يحرض الموج على عناقها وتقبيل كل خلية من خلايا جسدها المشدود مثل وتر يرمي سهامه نحو قلبك الذي يلتفت بأجمعه إلى الماضي البعيد.
ثلاثة أيام وأنت تراقب ذلك الأزرق الذي يشفّ عن نهدين نافرين غاضبين، منداحاً عن جسد يتحد مع الأمواج، راسماً على صفحة الماء قصيدة عشق خالدة بين امرأة تتهجأ المراكبُ أبجدية جسدها، وموجة تتسابق مع شقيقتها لعناق أنفاسها الحارة.
ثلاثة أيام، وأنت تحمل توثب جسدها في قلبك فرحاً يخترق الحزن الذي يلف سنواتك الستين .. ماذا ستقول تلك الجنية حين ستبدأ معها حديثك الذي لا ينتهي، كيف ستنظر إلى خريف سنواتك وأنت تلاحقها من مكان إلى آخر: "عجوز جاهل"، تبتسم وترنو إلى شوق يداعب ذلك السريّ الغامض الذي يتمرد على الغلالة الزرقاء.
تقترب جنيتك من الشاطئ، تنقب بعينيها عن شخص أو مكان، وحين تراك تتجه نحوك مباشرة، كأنكما قد كنتما على موعد: صديقان حميمان يلتقيان بعد غياب: تمدّ يدها لتصافحك، فتصافحها روحك، تطير بك إلى زمن هرب من بين أصابعك منذ ثلاثة وخمسين عاماً:
كنتما معاً، وكانت حيفا مدينة لذيذة غامضة، تبحثان في الرمال الذهبية عن أصداف ملونة، تبنيان قصوراً سرعان ما تهدمها الأمواج العاتية، دون أن تستطيع إقناعكما بعدم تكرار المحاولة، كم مرةٍ أخبرتها أنك ستبني لها قصراً في وادي النسناس، فاكتفت بضحكة طفولية رائعة. كانت "شراع" أفقاً يمتد ألقه إلى شغاف القلب، وكانت عيناها الزيتونيتان تشيان بلقاء ما، عشر سنوات من العمر، وجدائل شعر أسود، وثوب أزرق ينحسر حين تدخل بحر حيفا عن بياض الرخام.
... لو أتاحت الحياة لشراع أن تكمل مسيرة حياتها مثل بقية خلق الله ، فإنها كانت ستكبر بالتأكيد.. وستغدو، في يوم ما،مثل هذه الجنية التي جلست إلى جانبك على غير توقع، هذا الأزرق المفتوح على الفضاء الممتد بلا نهاية يعيدك إلى الماضي البعيد، إلى "شراعك" التي فقدتها ذات رحيل، إلى حاضرك الذي توشيه حورية البحر التي تجلس قربك بألوان من اللذة الغامضة.
كل هذا الجمال الدافق تراه أمامك دفعة واحدة..تراه على مسافة خطوة واحدة من يدك التي تكاد تعبث بشعرها المبلول، وتمسح قطرات الماء العالقة بين النهدين، لولا أنك تحمل على كتفيك ستين عاماً من الحزن والقهر والنفي.
ها أنتما الآن معاً، وها هي ذي أمام عينيك، والبحر يمتد أمامكما بلا انتهاء: رجل وامرأة يجتمعان على غير موعد، في حضرة البحر ليقول كل منهما ما لديه:
(2)
يا امرأة الفرح الذابل في أعماقي، لا أقول إنك جئت على غير انتظار مني، ولكنك جئت على غير توقع، فما الذي يدفعك إلى رجل حزين أضاع بحره وشاطئه، وموجته الحبيبة ؟
لو تعرفين كم أكره البحر، قضيت عمري منتقلاً من منفى إلى منفى، وهذا البحر اللعين الذي حملت سفنه مئات الآلاف من الأغراب لتزرعها مثل صبار شائك في أرضنا، هي ذاتها التي حملتنا من حيفا، ثم من بيروت وألقت بنا في بلاد الله الواسعة.
تشبهين "شراع"، هذا الحزن الزيتوني الذي يطل من عينيك، ممتزجاً ببريق التحدي يذكرني بها، يذكرني بقرارها المفاجئ الذي اتخذته حين كنا نودع حيفا:
كانت قربي تماماً على ظهر قارب يتجه بنا نحو الغربة حين قالت سأشتاق لك يا أيوب، يجب علي الآن أن أعود إلى بيتي...
:انتظري يا مجنونة.
ولكنها لم تنتظر، رفضت أن تتابع رحلة الذل والقهر.. ألقت بنفسها في البحر، وراحت تجدف بيديها الصغيرتين الناعمتين، عائدة نحو البيت، وفي اللحظة التالية تماماً أطلق الجنود الذين يحموننا من اليهود النار عليها، فاختلط الأزرق الحبيب بالأحمر البغيض..وتابع قاربنا طريقه الدامعة دون "شراع".
آتي كل عام إلى هذا الشاطئ، منذ أكثر من عشرين عاماً وأمواج اللاذقية تفجر في داخلي ينابيع الحزن الجليل، أتأمل الأمواج العاتية، دون أن أسمح للماء أن يمس جسدي، لا أحب الحر، على الرغم من أنني كنت أقضي فيه ساعات طوالاً، أما الآن فأنا أكتفي أن أراقب الشاطئ باحثاً عن موجتي الصغيرة، حتى رأيتك..
ولكن.. لماذا تبكين؟
(3)
يا رجلاً يحمل بين جنبيه حزن العالم، ثلاثة أيام، وربما ثلاثين عاماً، وأنا أبحث عن مثل هذا الحزن، كنت أحلم أن أراك في البحر، تبحث مثلي عن موجة ضائعة، ولكنك تركن إلى مراقبة الذين يسبحون مستمتعاً، مثلما يستمتع كسيح بمشاهدة مباراة بكرة القدم.. شدني إليك حزنك الذي يشبهني، مثلما شدك نحوي الأزرق العميق الذي أراهن أنك لا تدرك عمقه... أبي رحمه الله كان في مثل عمرك تقريباً.. كان يرافقني كل صيف إلى البحر.. كانت طرطوس تجمعنا كل عام بكثير من الأحباب الذين يسبحون، وفي زيارة الوداع الأخيره للبحر أوصاني:" لا تتركيه يا بنيتي".. لا زالت كلماته ترن في أذني منذ حوالي عشرة شهور: يجب أن تتعلمي السباحة جيداً.. وأن تتجهي نحو الجنوب، وإذ ذاك ستجدين حيفا ويافا على مرمى حجر.
خفت أن أعود إلى طرطوس إلى حزن ستقودني إليه ذكرى أبي، فجئت إلى هنا لأصادف حزنك وحقدك على البحر، أليس غريباً أن تجمعنا الغربة ويوحدنا البحث عن موجة صغيرة ضائعة، ثم يفرقنا البحر.. أعرض عليك أن تخرج عن صبرك يا أيوب، أن تكون أبي، ولكن ليس قبل أن تغوص عميقاً في البحر وتحمل لي بعض الأصداف الملونة مثلما كان يفعل.
ولكن... لماذا تبكي؟



(4)

كيف يمكن لك أيها الوحيد أن تنزل إلى هذا الأزرق الغادر العميق، لتعانق ذاك الأزرق الفاتن الذي كبّل روحك منذ ثلاثة أيام، كيف ستخبر "هيمى" أنك لا تحس أنها لا تشبه ابنتك،كيف ستقول لها أنها امتداد لشراع، وأنها امتداد لحبيبتك، لروحك، كيف ستخبرها أن روحك ما زالت بعمر الورود،لقد توقفت روحك عند سنواتك الغضة حين غابت "شراعك" بين صفحات الموج .. لو كنت أصغر قليلاً!
ماذا ستقول هذه الجنية الزرقاء التي تريد أن تشدني نحو البحر، وكيف أستطيع أن أعانقها وسط اصطخاب الأمواج، حيث يخفي الماء تفاصيل ما يدور في الأسفل. أعتذر أيتها الجميلة الساحرة، فأنا لا أستطيع أن أكون أباً أو حتى صديقاً لقد بحثت عنك ثلاثة وخمسين عاماً، فكيف تريدين أن أفتقدك في اللحظة التي وجدتك فيها من جديد.
لا أريد أن أدخل إليه،لا أريد أن أفتقدك بعد أن افتقدت بحري وموجتي و"شراعي"، ولكن سحر الوطن في عينيك يدفعني للإبحار.
[5]
منذ عدة أيام تزورني موجة تائهة، وتنقل أخبار البحر...
قالت لي في اليوم الأول أنها شاهدت بأم عينها رجلاً يعانق امرأة وسط البحر.
وفي اليوم الثاني قالت: إنهما غاصا عميقاً ثم اتجها نحو الجنوب.
وفي اليوم الثالث تعب أيوب، ولكنه رفض العودة، فضمته هيمى إلى صدرها بقوة، وحين خارت قواها انشق البحر عن سفينة حملتهما معاً. بينما كانت ملايين الأكف المتعبة تدفع سفينة العودة بإصرار نحو شاطئ خرجت أمواجه لتستقبل أهلها بعد غياب.


4 تشرين الأول 2001

قصة قصيرة: زينات

زينات..


د. يوسف حطيني


عينان صقريتان حزينتان تجوسان في كل زاوية من زوايا سوق الخضر الذي اتفق الجميع على أن يسموه )الشَبرا)، عينان تحلمان بالرزق الوفير.. تذرعان الدروب الضيقة وهي تتفرع إلى الدكاكين والبسطات التي تنفرش عليها صناديق الخضر والفواكه، ويدان متأهبتان لحمل أي شيء يشتريه زبون مستعجل، وقلب يطير بعيداً عن مدينة العين ليعانق بسمة طفلة بعيدة.
عينان خبيرتان تعرفان الزبون الذي يدفع كثيرا، والزبون الذي يدفع قليلا، أو يكتفي بالشكر الذي لا يسد الرمق، فحين ينزل أي رجل من سيارته ويدخل السوق يبدأ (زينات) رحلته الذهنية التصنيفية:
- هذا الرجل النازل من سيارة الـ لاند كروزر، وهو يتهادى بثيابه الأنيقة يمكن أن يدفع مبلغاً جيداً.
- وهذا الرجل سيارته موديل الـ85، هو رجل بسيط مسكين، لن يدفع إلا القليل.
- وهذا الماشي الذي يتسرب الفقر من أسفل قدميه لن يدفع شيئاً، ولن يسمح لي أن اقترب من الأغراض التي سشتريها.
ربما تخيب حساباته أحياناً، ربما يتكلف رجل الرفعة والوجاهة، ثم لا يلقي إليه بأكثر من درهم واحد، وذات مرة حدث معه أمر عجيب:
لم يكن في السوق زبائن كثيرون فاضطر أن يحمل بعض الخيار والبطاطا والبصل لرجل رث الثياب، وحين أوصله إلى الشارع لينتظر سيارة الأجرة أخرج الرجل من جيبه عشرة دراهم وأعطاه إياها، وكانت تلك الورقة النقدية أكبر أجر يتقاضاه زينات لقاء حمل الخضر منذ ألقت به عصا الرزق في هذه البلاد.
أشفق زينات في ذلك اليوم على الرجل، وقال لعله لم ينتبه لقيمة الورقة، فلحقه، ولكن الرجل طمأنه بابتسامته الوادعة الحزينة:
- هي لك.
- ولكن……
- لا تقلق لدي عشرة أخرى.
قلّما تخطئ توقعاته، وقلّما يخيب رجاؤه في رجال يعرف هيئاتهم تماماً، ولكن رجاءه لن يخيب هذه المرة إن شاء الله.
فالرجل الذي نزل لتوه من السيارة الفخمة يبدو مختلفاً، ابن نعمة يلبس ثياباً رمادية، سيسير وراءه، لاشك أنه سيعطيه خمس (روبيات)[1] على الأقل.
شعر بالخوف ولكنه قرر أن يتصرف بسرعة، قبل أن يسبقه حمال آخر إلى صيده الثمين، حمل صندوقه الفارغ واقترب من صاحب الثياب الرمادية حتى كاد يلاصقه، ولم يبتعد عنه بعد ذلك بينما راح يتفحص الخضر والفواكه يجادل هذا وينهر ذاك. وما كاد يشتري الموز حتى سبقه زينات إلى حمله وألقى به سريعاً في الصندوق منتظراً ابتسامة مشجعة لا تجيء.
سيحتمل هذه الغربة القاسية لأجل عيون (مليكة).
كان قد سمع صاحب الموز يصيح: (40 حبة بعشرة درهم) تخيل فجأة أنه يحمل صندوق الموز إلى زوجته وطفلته الغالية (مليكة) ولكنهما تبعدان الآن آلاف الكيلومترات.
خاف أن تلهيه صورة الأسرة عن ملاحقة الرجل الرمادي، فطردها مرغماً وحاول التركيز على مهمته الأساسية، وهي متابعة الزبون الدسم الذي أرسله الله إليه.
أحس أن رجله العرجاء تؤلمه.. هو يعرف تماماً أن ألمها سيزداد كلما ازداد ثقل الصندوق الذي راح يمتلئ بالبرتقال والمانجو والأناناس والطماطم والفراولة وأشياء كثيرة حملها ولكنه لم يتذوقها في حياته.
يهاجمه طيف (مليكة) بلا هوادة، يتذكر أنه نذر عمله طوال هذا اليوم لشراء دمية جميلة لابنته يرسلها مع صديقه (راجو) الذي سيسافر قريباً.
- راجو يسير بلاد لازم يودي سامان لجيكو ما لنا
[2].
صار زينات يتصبب عرقاً وهو يحمل على كتفه الناتئ الصندوق الثقيل، بينما راح صاحب الصندوق يجادل بائعاً حول سعر ضمة البقدونس.
- ثلاثة بروبية.
- لا.. أربعة.
- أربعة ما يمشي.
واستمر النقاش طويلاً، ولكن بائع البقدونس حين انتبه إلى عرق زينات وإلى الحزن الذي يطل من عينيه قبل أن يبيع أربع ضمم سرعان ما استقرت في صندوق زينات.
انطلق الرجل الرمادي نحو سيارته وهو يشتم أولئك البائعين وخلفه تماماً سار زينات، ولكن قلبه صار ينتفض مثل ديك مذبوج.
وحين وصلا راح زينات ينزل حمولة الصندوق بهدوء في …. السيارة.
صاح الرمادي:
- جَلدي كاروه
[3].
ابتسم ابتسامة بلهاء بانتظار أن يحصل على بعض المال، وحين طال انتظاره للمال تابع ابتسامته لعله يحظى بكلمة شكر، ولكن الأوان قد فات إذ أشار الرمادي بإصبعه لزينات أن يبتعد عن السيارة التي راحت تلتهم الطريق وفرحة زينات وأحلام (مليكة) بدمية جديدة.
هوامش
[1] يستخدم كثير من عمال شرق آسيا في الإمارات كلمة روبية مرادفة للدرهم
[2] راجو سيذهب إلى البلاد، يجب أن أبعث هدية لطفلتي. وهذه ليست لغة أي قوم من الأقوام ولكنها خليط العربية والإنكليزية والأوردو وغيرها.
[3] بسرعة.. بسرعة.

قصة قصيرة: ذات سفر

ذات سفر
د. يوسف حطيني



1
وحيداً يجلس في فضاء المطار.. لا أحد يأتي لوداعه، مثل نبتة برية حزينة تذبل أحلامه، الجميع يودعون بعضهم بعضاً، دموع وبسمات وأمنيات مسفوحة: أم تعانق ولدها، طفلان صغيران يلوحان ويبكيان قبل أن يعرفا طعم الغربة والوداع، زوجة تنسى وقار جلبابها وتعانق زوجها قبل لحظة واحدة من دخوله ذلك النفق الموجع الذي يبتلع المسافرين، أما هو فلا أحد يبتسم في وجهه، ولا أحد يذرف في وداعه دمعة واحدة.
2
بدت دمشق في عينيه مثل نعش صغير، أين أمه التي تختزن في عينيها حزن دمشق، أين أصدقاؤه الكثيرون الذين عبروا معه شوارع تلك المدينة العاشقة، وأكلوا معه في مطعم "أبو العز"، وشربوا القهوة في مقهى الروضة وهم يقتاتون الشعر والأحلام..
كان من الممكن للجميع أن يحضروا.. ولكنه مثلما فعلت براقش ذات يوم جنى على نفسه.
3
أين سلمى؟
4
أيام تشبه الحلم الجميل، كان يدرك أنها ستمر مثل برق عابر، وكانت سلمى تدرك ذلك أيضاً.. تركته يداعب خصلات شعرها الشقراء، وسمحت لأصابعها أن تشابك أصابعه فوق جسر تمنى أن يطول، وأن تطول خطواتهما التي ارتسمت فوقه..
أي حلم عاش؟:
سلمى بين يديه، وهما بين أحضان الأشجار التي تتسامق نحو سماء مليئة بغيوم داكنة، لكأن هذه الظهيرة الربيعية مساء دافئ ظليل. فجأة.. مثل خبر عاجل.. سقط المطر.. التجأ الناس إلى الاستراحات والمطاعم القريبة، وبقيا وحدهما في حضرة غيم ومطر وشجر يختلسان الوقت الذي يهرب من بين أيديهما ساعة بعد أخرى.. لحظة بعد أخرى.. يخرجان نحو الشارع فيرمقهما الحارسان اللذان يشربان الشاي بنظرة خبيرة مشوبة بالحسد. لكم تمنى أن يشرب الشاي أمام ذلك الكوخ معها فقد ملّ الجلسات التي يجلس فيها الرجال الأنيقون الذين لا ينتظرون مطراً يغسل قلوبهم، تمنى أن يدخل مع سلمى إلى الكوخ الدافئ حتى يخبرها بما يقول العصفور العاشق لعصفورته، حتى يزقّها قبلتين.. همّ أن يقترح عليها شرب الشاي معهما، ولكنها دعته إلى ما هو أكثر إغواءً: مدت له يدها حتى يتجاوزا ذلك الجسر الحبيب.. ومثل صحراء طال انتظارها للمطر راحت يده تعانق يدها..
- سنلتقي غداً؟
- سنلتقي كل يوم..
- صباحاً ومساءً؟
- وظهراً وعصراً.
- وفي يوم السفر؟
- سأرافقك إلى المطار.
- سيكون وجهك آخر ما أراه من دمشق.
5
ولكن أمه تريد أن تراه، أن تصنع له الطعام الذي يحبه، أن تختزن ملامح وجهه، أن تصنع له الشاي بالميرمية. يخرج منذ الصباح مستعجلاً، ويعود في المساء، ربما يدخل البيت في الظهيرة لساعة أو بعض الساعة، ترجوه أمه أن يتغدى معها، فيعتذر لأنه غير جائع، لا يقول لها شيئاً عن غدائه مع سلمى، وحين يتألق الحزن في عينيها يتناول غداءه مرة ثانية ويخرج سريعاً إلى سلمى.
- يجب أن ترتاح قليلاٌ قبل السفر.
- لا أستطيع يا أمي، يجب أن أستكمل الأوراق المطلوبة.
تعرف أنه يخترع كذبة خضراء، يبدو ذلك في نظراته المشتعلة التي تتجه صوب الباب، ولكنها تتركه يفعل ما يشاء..
أما أن يطلب منها ألا تذهب معه إلى المطار فذلك لن يكون أبداً.
- أرجوك يا أماه.. لا تتعبي نفسك.. سأودعك من هنا.
- لا يا بني.. سأذهب معك.. وسيذهب إخوتك..
- لا أحب لحظات الوداع يا أمي.. أرجوك.. أتوسل إليك.
- كما تشاء يا بني.
6
كانت خطة محكمة: يبقى الجميع في المنزل وينطلق إلى سلمى، ستنتظره في الرابعة تماماً أمام الحديقة العامة، يمر عليها مع حقائبه، فتصعد إلى جانبه في السيارة، ويمضيان ساعتين حزينتين لذيذتين في المطار..
ولكن المواعيد تجري في كثير من الأحيان بما لا يشتهي العشاق.. ولولا إلحاح سائق سيارة الأجرة لانتظرها ساعة أخرى.
7
- النداء الأخير لركاب الرحلة 912 المتجهة إلى دبي:
حمل حقائبه ونظر نحو دمشق للمرة الأخيرة فرآها تودعه بابتسامة حزينة، لم ير شجراً، لم ير شعراً أشقر ولا أصابع متشابكة..
8
- النداء الأخير لركاب الرحلة 911 المتجهة إلى دمشق:
حين صار بإمكانه أن يرى دمشق من الطائرة نظر إلى وجوه الركاب فرأى ابتسامة أمه الصافية، بينما راح عبق الشاي والميرمية يشق أجواء السماء ليصل إلى أنفه.



13/6/2002

قصة قصيرة: هاتف الغربة

هاتف الغربة
يوسف حطيني

- هلو.
- أهلاً وسهلاً..
- مساء الخير.
- مساء الخير.
- كيفك؟
- بخير.. ولكنني لم أتشرف بمعرفتكِ.
- مستعجل؟
- اعذريني.. لا وقت لديّ. فمن تكونين؟
- معجبة بك.
- قلت لا وقت لدي.. هل تفضّلين أن أغلق الخط.
- انتظر لحظة من فضلك.
- أريد أن أنزل لتناول العشاء، فاتركيني رجاءً.
- صحة وهناءة.. إذاً سأتصل بعد العشاء، بالمناسبة أنا جارتك في الفندق.
- تشرفنا، ولكن لا تتصلي بي مرة أخرى.
- سأتصل بعد العشاء.
(2)
كان العشاء عادياً، بطاطا مقلية وشرحات وبعض المقبلات، كان لا بد من كأس شاي حتى يضفي الألفة على هذه الجلسة الموحشة التي أخرجها من عزلتها هاتف مفاجئ، لامرأة لا أعرفها، ولكنني أشم من صوتها رائحة بحر بيروت وساحة البرج. حين تتصل سأقول لها إنني لا أستطيع أن أجرح مشاعرها، لذلك فأنا غير قادر على إغلاق السماعة في وجهها، وغير قادر على أن أكون فاحشاً، وغير قادر – وهذا هو الأهم - أن أسكب في أذنيها كلاماً رقيقاً. لذلك ليس لديها خيار في أن تتركني وأن تبحث عن رجل يرضى أن يكون فريسة وصياداً في الوقت ذاته.
سأقول لها أن هذه ليست طريقة حضارية في التعارف:
"أنت جبانة بالتأكيد.. لأنك غير قادرة على مواجهة الآخرين، وأنا أراهن أنك تخافين من مواجهة أي رجل، ولكن الهاتف، حيث لا عين رقيبة، ولا أذن حسيبة، يجعلك أكثر شجاعة مما أنت في الواقع.. أسمع كلماتكِ الدافئة نشيد صرصارٍ أدمن الظلام فصار يخاف نور الشمس.. وأنت أيتها الجميلة لن تكوني سوى ظلٍّ باهت لرجل شرقي يغلق فمك بأمر من سلطته الملكية..
أنصحك أيتها الجبانة أن تكوني كما أنتِ في السرّ والعلن.. أنصحك أن تجدي شاباً تحبينه تحت ضوء الشمس، وعندها ستكونين أكثر إثارة لإعجابي، وفي الحالين فأنا لا أرغب أن أحصد نتائج نصيحتي.. ولا أرغب في أن تتصلي في مرّة قادمة".
سأقول لها، حين تتصل بي بعد قليل أن تتركني لعملي وأحزاني الصغيرة والكبيرة، فأنا في حاجة ملحّة إلى نوم حقيقي، نوم عميق في حقل من حقول الذاكرة الدمشقية الخضراء.
(3)
أمر غريب حقّاً.. قالت إنها ستتصل بعد العشاء، وقد مضى على العشاء أكثر من ساعتين، وها هي ذي تترك الليل ليمتد خنجراً يمزّق طمأنينتي ويحيل بقايا صمودي في الغربة بيت عنكبوت قلق، تبدو لي مواعيد تلك المرأة برقاً راعداً لا مطر بعده، ولكن شوقاً غامضاً يدفعني لسماع صوتها، صوت شحرورة الوادي بينما يحيط بي السكون كثلج أبيض في صباح يكون فيه مواء القطط على أشده، وقطتي الجديدة لا تريد الاتصال، ما كان علي أن أصدّها بهذه القسوة، كان من الممكن أن أسألها عن اسمها، أن أتأكد أنها لبنانية، أن أحمي نفسي من سخريتها حين ستجعل مني حديث سهرتها مع صديقاتها..
تباً للعجلة، أردت أن أثبت لها أنني رجل لا يهتم بالأمور التافهة، وقد أثبت لها ذلك، ولكنني خسرتها، خسرت فرصة ربما لا تعوض، ربما لن أجد امرأة أخرى أشرب معها فنجاناً من القهوة، أو أتناول معها البيتزا في مكان ما، مثلما يفعل الجميع، ربما لن أجد من أحدثها عن غربة تسحق ما تبقى في قلبي من الصبر.. ربما لن أجد امرأة أخرى، فأنا جبان، لا أستطيع أن أبادر امرأة جميلة بالإعجاب، ربما كانت فرصتي الأخيرة التي لم أحسن استغلالها.
أنا أكيد أنها ستتصل.. لقد قالت ذلك، لن تتركني فريسة للوحدة وسلحفاة الانتظار، جبانة ووقحة وناكثة للوعد أيضاً.. أية أقدار ألقت بي بين براثنك التعسة أيتها اللعوب؟
أقلب صفحات من مجموعة قصصية لزكريا تامر، أقرأ "النمور في اليوم العاشر" دون أن أفهم شيئاً كثيراً.. غير أنني فكرّت حقاً أن أكون نمراً يقظاً عصياً على الترويض، أما أنت فربما تنامين الآن قريرة العين، أو ربما تمارسين هوايتك المفضلة في الاتصال بالآخرين مثلما فعلت بي تماماً.. كان علي أن أسألك عن اسمك.. سأسميك عنود.. لأنك عنيدة لا تتصلين، عنيدة مثل هاتفي الصامت الذي لا حياة فيه.
تحملني صورة العائلة آلاف الأميال نحو الشام: زوجتي الرائعة، طفلاي وطفلتاي، وشوارع دمشق وبقايا بردى والزمن الذي انسرب بعيداً عن الأمنيات، أقلب المحطات التلفزيونية المختلفة دون تركيز: الكونغرس الأمريكي يصادق على قرار يعتبر القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، الوساطة تفشل بين الحكومة والانقلابيين في ساحل العاج، والسودان يتهم أريترية بمساعدة المتمردين، صبية جميلة تكتشف أن لا قيمة لمدينة أفلاطون الفاضلة بلا مكيّف "كرافت"، فجأة يداهمني سؤال شبق يشبه صوتك: ترى هل تستطيعين التثني بقوامك اللدن مثلما تفعل هذه المطربة الجديدة أمامي على الشاشة.
أين أنتِ يا عنود.. أين صوتك الجريء يغمر سنواتي الأربعين بالتردد والحيرة، لو أنك جئت قبل خمسة عشر عاماً.. قبل عشرة أعوام لكان لي معك شأن آخر.. ولكنني الآن لا أستطيع.. اتصلي فقط حتى أقول لك إني لا أستطيع، لا تحرميني من فرصة الردّ عليك، لا تتركيني وحدي في حضرة ليل وغربة وفنجان قهوة.. الأخبار توتّر أعصابي وكذلك النساء.. وأنتِ لا تتصلين، أخبار الثانية بعد منتصف الليل لا تحمل أي خبر عاجل يمكن أن يرفع معنوياتي، والدوام في الجامعة لا يرحم، ومع ذلك فأنا أقدّر أنك فتاة ذكية، ستتصلين صباحاً قبل الثامنة، ولن تتركيني أنتظر..


(4)
عينان من خوخ أحمر، وجه عجوز هرم يرشه صاحبنا بالماء ولكن النعاس لا يريد فكاكاً، لعن الله أبا الدوام، فكّر أن يبقى في البيت، فربما اتصلت عنود وليس من اللائق أن يحرمها من نصائحه، من أجل مصلحتها..
تماماً.. مثل قدر مفاجئ جاءه الرنين، فقفز من السرير..
أخيراً رنّ جرس الهاتف، رفع السماعة.. و مثل قدر مفاجئ أيضاً جاءه صوت عصفورة شرقية من بعد آلاف الأميال:
"صباح الخير بابا".
عندها فقط أحس أنه يسير في شوارع دمشق الخضراء، وأن بردى يمتد عميقاً في عروقه، فحمل حقيبته منطلقاً نحو الجامعة يحدوه أمل في أن يتصل به كلّ صباح بلبل دمشقي بعيد.

7/10/2002