لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

الكلاب
د. يوسف حطيني


… ولكن سلمى لم تكن مجرد امرأة.. كانت سيفاً.. شيئاً يشبه الصبار، يطعن جدار الحلم بلا هوادة.
مجرد حلم أرعن دفعني إليها، رأيتني أضمها إلى ذراعيّ اللتين تشتهيان دفء أنثى تختلف عن سائر النساء، رأيتني أسعى وراء عبق أنوثة نضرة لها رائحة القرنفل. وهناك عند المسافة الفاصلة بين طلقتين لقيتها أول مرة.. لقيتها آخر مرة..
ذات ليل شتائي قارس، حيث كان الليل ينبح بضراوة، سمعت صوت كلاب تحاصر نافذتي الوحيدة، محاولة أن تخنق الهواء الداخل إلى رئتي، أن تطرد الهدوء من حولي، وأن تحيل فرحي أعاصير من الخوف الراعش الحزين، تحديت نباحها.. رحت أبتسم للدفء المنبعث من الموقد الصغير، وأضع حبات الكستناء فتتوهج فوقه، وتصبح في دقائق شمساً ملتهبة.
إيه سلمى..
حاولتُ النوم فجاهدت الكلاب الشقيّة كي لا أنام، أطفأت الموقد والنور، وأشعلت الرغبة الطاغية في داخلي لعناق امرأة: امرأة تشبه حقلاً تمتد خضرته حتى شواطئ عكا، أغمضت عيني لحظات.. حميت حلمي من الكلاب بأهداب عيني المثقلة بالغربة ، وإذ ذاك جاءتني تلك المرأة على صهوة نسر عجوز، قبلتني من جبيني قبلتين، قدمت لي كأساً من عصير البرتقال، ذلك البرتقال الذي أحتفظ بنكهة مذاقه التي لا تتكرر.
ناولتني كيساً أخضر وانصرفت، لم تنبهني مثلما يفعلون في الأساطير، ألا أفتحه، ومع ذلك كنت أرتجف بشدة، رغم الدفء الذي سرى في عروقي عندما ودعتني، لم أكن أشعر بالبرد أبداً، ولكنني خفت أن تفاجئني عاصفة هوجاء تختبئ فيه، أو أفعى تريد أن تنتقم مني لأنني كنت أقتل صغارها ذات طفولة شقية.. خفت أيضاً أن تضع في الكيس ما يضاعف عذابي: زجاجة عطر، وقميص نوم أحمر، وألبسة نسائية أخرى، لا أجد حولي امرأة تلبسها..
- هل أفتح الكيس؟
(قلت في نفسي، ولكن الخوف عقد لساني حين سمعت صوتها):
- افتحه، ولا تخف.
- أين أنت.
- بعيدة، ولكنني أنتظرك.
ما زالت الكلاب تحاول تمزيق ما تبقى من حلمي الذي رأيت فيه نفسي.
أخيراً أفتح الكيس بحذر، أدخل يدي المرتعشة فيه ثم أخرجها بسرعة، لأقلب محتوياته أمامي، كان كل ما في الكيس مألوفاً ومحبباً، ولكني لم أفهم شيئاً: عروسة زعتر، وحناء، وزهر حنون..
ماذا تريد تلك المرأة التي اقتحمت علي ليلي وبردي وكستنائي وعزلتي.
عرافة القرية أكدت لي أن ما رأيته ليس كابوساً، قالت بحماس: إن الكابوس هو ذلك الرعب الذي تزرعه الكلاب في أحلامك الوادعة.
ولكن.. ماذا أفعل بعروسة الزعتر؟
- كلها.
- وزهرة الحنون؟
- ضعها على صدر طفلة.
- والحناء؟
- سلمى تنتظر.
- من هي سلمى؟
- فتاة أحلامك.
- والكلاب؟
كيف يمكن لي أن أحنّي سلمى، كيف لي أن أصل إليها وأجتاز ذلك الجدار الفاصل بيني وبين الحلم؟
بينما كنت أفكر في المهمة الشاقة، خطرت لي فكرة، قلت: لماذا أعقد الأمور؟ لماذا لا أبدأ بأبسط الأشياء؟ سآكل عروسة الزعتر، هذه بسيطة، فتحت الكيس، قربتها من فمي…
الكلاب مرة ثانية.
طردت نباحهم من خاطري، فجاءني صوتها:
- ربما لن تشعر بطعمها اللذيذ لو أكلتها قبل أن تصل إلي.
- وربما لن تتألق زهرة الحنون على صدر طفلة إذا لم أصل إليك؟
- بدأت تفهمني؟
- أين أنت يا سلمى؟
- على جدار الحلم أنتظر.
- لن يطول انتظارك.. سأجيء.
* * *
حمل عروسته وحناءه وزهرته الغالية، وملأ الكيس الأخضر من حجارة الأرض كي يطرد الكلاب، وجد عشرات الآلاف حوله ممن يحملون حجارتهم وأحلامهم. وهناك.. على مسافة طلقتين من حلمه العنيد سقط صلاح الدين مضرجاً بحنائه وحنّونه، ومثل غيمة تشرينية جاءت سلمى بربيعها وأريجها كي تشهد ولادته الجديدة، وتطلب منه أن يحكي لنا عن قصته معها، مؤكدة أنها ما زالت تنتظر.
ثمة زهرة حنون حاولت أن تتألق على صدر طفلة، ولكن الكلاب….

29/11/2002