لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: زينات

زينات..


د. يوسف حطيني


عينان صقريتان حزينتان تجوسان في كل زاوية من زوايا سوق الخضر الذي اتفق الجميع على أن يسموه )الشَبرا)، عينان تحلمان بالرزق الوفير.. تذرعان الدروب الضيقة وهي تتفرع إلى الدكاكين والبسطات التي تنفرش عليها صناديق الخضر والفواكه، ويدان متأهبتان لحمل أي شيء يشتريه زبون مستعجل، وقلب يطير بعيداً عن مدينة العين ليعانق بسمة طفلة بعيدة.
عينان خبيرتان تعرفان الزبون الذي يدفع كثيرا، والزبون الذي يدفع قليلا، أو يكتفي بالشكر الذي لا يسد الرمق، فحين ينزل أي رجل من سيارته ويدخل السوق يبدأ (زينات) رحلته الذهنية التصنيفية:
- هذا الرجل النازل من سيارة الـ لاند كروزر، وهو يتهادى بثيابه الأنيقة يمكن أن يدفع مبلغاً جيداً.
- وهذا الرجل سيارته موديل الـ85، هو رجل بسيط مسكين، لن يدفع إلا القليل.
- وهذا الماشي الذي يتسرب الفقر من أسفل قدميه لن يدفع شيئاً، ولن يسمح لي أن اقترب من الأغراض التي سشتريها.
ربما تخيب حساباته أحياناً، ربما يتكلف رجل الرفعة والوجاهة، ثم لا يلقي إليه بأكثر من درهم واحد، وذات مرة حدث معه أمر عجيب:
لم يكن في السوق زبائن كثيرون فاضطر أن يحمل بعض الخيار والبطاطا والبصل لرجل رث الثياب، وحين أوصله إلى الشارع لينتظر سيارة الأجرة أخرج الرجل من جيبه عشرة دراهم وأعطاه إياها، وكانت تلك الورقة النقدية أكبر أجر يتقاضاه زينات لقاء حمل الخضر منذ ألقت به عصا الرزق في هذه البلاد.
أشفق زينات في ذلك اليوم على الرجل، وقال لعله لم ينتبه لقيمة الورقة، فلحقه، ولكن الرجل طمأنه بابتسامته الوادعة الحزينة:
- هي لك.
- ولكن……
- لا تقلق لدي عشرة أخرى.
قلّما تخطئ توقعاته، وقلّما يخيب رجاؤه في رجال يعرف هيئاتهم تماماً، ولكن رجاءه لن يخيب هذه المرة إن شاء الله.
فالرجل الذي نزل لتوه من السيارة الفخمة يبدو مختلفاً، ابن نعمة يلبس ثياباً رمادية، سيسير وراءه، لاشك أنه سيعطيه خمس (روبيات)[1] على الأقل.
شعر بالخوف ولكنه قرر أن يتصرف بسرعة، قبل أن يسبقه حمال آخر إلى صيده الثمين، حمل صندوقه الفارغ واقترب من صاحب الثياب الرمادية حتى كاد يلاصقه، ولم يبتعد عنه بعد ذلك بينما راح يتفحص الخضر والفواكه يجادل هذا وينهر ذاك. وما كاد يشتري الموز حتى سبقه زينات إلى حمله وألقى به سريعاً في الصندوق منتظراً ابتسامة مشجعة لا تجيء.
سيحتمل هذه الغربة القاسية لأجل عيون (مليكة).
كان قد سمع صاحب الموز يصيح: (40 حبة بعشرة درهم) تخيل فجأة أنه يحمل صندوق الموز إلى زوجته وطفلته الغالية (مليكة) ولكنهما تبعدان الآن آلاف الكيلومترات.
خاف أن تلهيه صورة الأسرة عن ملاحقة الرجل الرمادي، فطردها مرغماً وحاول التركيز على مهمته الأساسية، وهي متابعة الزبون الدسم الذي أرسله الله إليه.
أحس أن رجله العرجاء تؤلمه.. هو يعرف تماماً أن ألمها سيزداد كلما ازداد ثقل الصندوق الذي راح يمتلئ بالبرتقال والمانجو والأناناس والطماطم والفراولة وأشياء كثيرة حملها ولكنه لم يتذوقها في حياته.
يهاجمه طيف (مليكة) بلا هوادة، يتذكر أنه نذر عمله طوال هذا اليوم لشراء دمية جميلة لابنته يرسلها مع صديقه (راجو) الذي سيسافر قريباً.
- راجو يسير بلاد لازم يودي سامان لجيكو ما لنا
[2].
صار زينات يتصبب عرقاً وهو يحمل على كتفه الناتئ الصندوق الثقيل، بينما راح صاحب الصندوق يجادل بائعاً حول سعر ضمة البقدونس.
- ثلاثة بروبية.
- لا.. أربعة.
- أربعة ما يمشي.
واستمر النقاش طويلاً، ولكن بائع البقدونس حين انتبه إلى عرق زينات وإلى الحزن الذي يطل من عينيه قبل أن يبيع أربع ضمم سرعان ما استقرت في صندوق زينات.
انطلق الرجل الرمادي نحو سيارته وهو يشتم أولئك البائعين وخلفه تماماً سار زينات، ولكن قلبه صار ينتفض مثل ديك مذبوج.
وحين وصلا راح زينات ينزل حمولة الصندوق بهدوء في …. السيارة.
صاح الرمادي:
- جَلدي كاروه
[3].
ابتسم ابتسامة بلهاء بانتظار أن يحصل على بعض المال، وحين طال انتظاره للمال تابع ابتسامته لعله يحظى بكلمة شكر، ولكن الأوان قد فات إذ أشار الرمادي بإصبعه لزينات أن يبتعد عن السيارة التي راحت تلتهم الطريق وفرحة زينات وأحلام (مليكة) بدمية جديدة.
هوامش
[1] يستخدم كثير من عمال شرق آسيا في الإمارات كلمة روبية مرادفة للدرهم
[2] راجو سيذهب إلى البلاد، يجب أن أبعث هدية لطفلتي. وهذه ليست لغة أي قوم من الأقوام ولكنها خليط العربية والإنكليزية والأوردو وغيرها.
[3] بسرعة.. بسرعة.