لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: لقاء

لقاء
د. يوسف حطيني

(1)
جسدان متقابلان في مكان وادع أليف، موسيقى خافتة تنبعث من زاوية معتمة، شفاه تتبادل الكلام، ثم تذهب في الصمت، لتتيح للأحلام أن تطوّح بكل منهما إلى عالم بعيد جداً:
يسرقه خياله من الفستق والشاي، بينما يسرقها خيالها من خياله، ويفترقان، وهما ما يزالان جسدين متقابلين:
(2)
"طالما تساءلتُ كيف استطعتِ أن تتسللي إلى جدران قلبي الكتيمة التي لا ينفذ عبرها شعاع شمس جديدة، وكيف دخلت إليه، على الرغم من أنه محصّن بالأحزان الغافية"
ينظر إلى عينيها الشاردتين اللتين تَشرقان بدمعتين غاليتين:
"على غير انتظار كسرت عيناكِ جميع النوافذ، فيما راح شعرك الأشقر ينثر عبقه في الأرجاء.. سحقت عيناكِ ذلك الخافقَ الوقورَ الهادئَ الذي اضطرب أمام أمواجك العاتية، وهو الذي طالما أغلق قلبه على سعادته الصغيرة وحزنه الكبير.
ها أنت ذي تمدين شباكهما، بينما يتحفز نهداك مثل ديكين للانقضاض على ما تبقى من سكينة في روحي المعذبة التي لا أظنك قادرة على حمل عذاباتها، وأنا ليس لي سوى أن أنصحك بالابتعاد عن هذا الذي أخشى أن يتفجر في أعماقي ويدمر جميع الحدود ويلغي الفواصل بين جسدينا، وعندها سوف أحمّل عينيك المسؤولية الكاملة.
أنصحك بالابتعاد كي لا أغرق، أنت لا تعرفين يا صغيرتي معنى أن يكون المرء فلسطينياً.. لا تدركين أن كل ما يجري على الكرة الأرضية يؤرقني، إذ يمكن بجرة قلم من قبل أحد السياسيين المحكمين بأقدار الناس أن أغدو لاجئاً أو نازحاً أو مواطناً أو تائها في بلاد الله الواسعة، أو سندباداً يعود للبحث عن بغداده من جديد..
لو كنتِ بغداد لما ترددت لحظة واحدة في أن أمرغ جسدي فوق صدرك النافر، ولكنك امرأة تستطيع أن ترمي حبائلها، وتدخن نارجيلتها بالكفاءة نفسها، وتعيش لحظة سعادتها بتلذذ نادر."
يقترب النادل مبتسماً، يبعده عنه بإشارة من يده، ويعود إلى دمعتيها اللتين تنثالان حنيناً دافقاً نحو الماضي:
"أنت مثلي تحتاجين الحب، بعد أن حملت أحلامك طائرة عابرة، وألقت بها دون رحمة في مياه الخليج، ولكنك تستطيعين طرد خيبتك وحزنك بكأس من البيرة المثلجة أو بالاستماع إلى عويل نارجيلتك الحزين.. حياتك معادلة سهلة: يأس ونارجيلة ونظرات زائغة نحو المستقبل.
أما أنا فتبدو الأمور بالنسبة لي أكثر غموضاً وتعقيداً، أبحث عن ظلي على الأرض ولا أجده، ولا أستطيع بعيداً عن المكان أن اتخذ قراراً .. كم مرةٍ قررت أن أبتعد عنك ولكنني كنت أقبل دعوة عينيك دائماً إلى فنجان قهوة ولقاء..
اليوم تجاوزت جميع قراراتي، تجاوزت فرحي الصغير، وحزني الكبير، وقررت أن نلتقي على موعد، مثلما لم نفعل من قبل، كما قررت دون علمك أن آخذك إلى مكان ما أكثر دفئاً وعزلة، وقد سرني أنك وافقت على أن نلتقي يوم الأربعاء في الساعة السادسة، أمام الفندق الكبير، ولا سيما أنني أشعر في هذه اللحظة بالذات أني أحبكِ."
(3)
"ترى بماذا يفكر"؟؟
تختلس نظرة إلى عينيه الحزينتين الشاردتين:
"لا تحزن.. فلن أرفض لك طلباً، سآتي يوم الأربعاء ولو انطبقت السماء على الأرض، سيكون لا شك لقاءً مختلفاً، فاللقاء معك له نكهة خاصة، صحيح أنني أجهل عنك الكثير، ولكن حزنك يغريني باللقاء.
سبق أن أهديتني أغنية فيروزية مروعة "أهواك بلا أمل"، وقد تلقيت هذا الإهداء مثل كل الرومانسيين بهدوء مَن أدمن اليأس، على الرغم من أن دخولك في حياتي كان يدفعني إلى الاعتناء أكثر بلباسي الضيق المثير، وشعري الأشقر الذي أفرده، لأجل عينيك فقط، شلالاً على كتفيّ".
تواجهه بنظراتها، تلمح فيهما ضياعاً، وتحدس أنه يقرأ في عينيها فكرة قصة جديدة:
"يعجبني كل ما تكتبه، وتعجبني قلة خبرتك مع النساء، على الرغم من أنك تحاول أن تظهر عكس ذلك، أتمتع إلى حد الهيام بغزلك الذي تبوح لي به بين حين وآخر، وأحس يدي ترتعش حين تلامسها أصابعك إذ تقسم بيننا حبة الفستق اللذيذة.
ما لك أيها الحزين تبعد النادل بإشارة من يدك، لماذا تدمن الغربة في داخلك؟ ألا تكفيك غربة الوطن. لماذا يؤرقك أن تكون فلسطينياً.. كلنا غرباء يا صديقي الأثير، كلما حدثتني عن وطنك الذي غادرته مرغماً أتذكر وطني الذي غادرني، حبيبي الذي خفق له قلبي قبل أن تسرقه زحمة الحياة، سبع سنوات قاسية مرت، وأنا لا أزال أحتفظ بذكريات طازجة ندية عن لقاءاتنا التي تقرقر فيها النراجيل، وتشعشع كؤوس البيرة وتمتلئ الطاولات بما لذّ وطاب من الطعام والمشاعر التي لا يمل وهو يفرشها على مسمعيّ.
لا تحزن، فغربتك غير مكتملة، لأنك مثل سلحفاة تحمل بيتها على ظهرها وتنقله من مكان إلى آخر، فما لك تأتي إليّ بعد سبع سنوات من اليأس مطوقاً بالحرص والحزن والخوف والتردد".
ترفع نظرها نحوه، تجده يضرب الطاولة بيده، وتلمح في عينيه قسوة لا حدود لها:
ـ أغفر قسوتك التي أتخيلها سيفاً مسلطاً على مواعيدنا، لأنك سرعان ما ترق وتهمس في أذنيّ أعذب ألحان الحب.. تعال يا صديقي كي ننتصر على غربتينا بالحب، دعني من همومك الكبيرة التي تجعل منك قديساً، وعد إلى العاشق الذي يكمن في داخلك، إلى المراهق الذي يفتعل المواقف افتعالاً حتى يلمس يدي أو يضع يده على كتفي في شارع من شوارع دمشق الكبيرة.
أنت تختلف عن الجميع ولكنك تشبههم في أمر واحد: لم يحدثني أحد حديثاً يشبه أحاديثك العذبة، ولم يطعمني أحد الفستق بطريقتك الفريدة، ولكنك مثلهم تماماً تريد أن تترك بصمة ما على جسدي، وكأنك لم تكتفِ بتلك البصمة الرهيبة التي رسمتها فوق روحي المعذبة.
أحس أن اختلافك عن الآخرين هو ما يقربني منك، وهو ذاته سيبعدني عنك في يوم قريب، تعال إلى كأس من البيرة المثلجة التي تشعشع دفئاً وسعادة.. تعال إلي فمن يدري؟ لعلي أكون لك سكناً ووطناً؟.
ولكن لا بأس أن نلتقي على موعد، مثلما يفعل العشاق، سنكون ثنائياً غريباً: رجل منفي خارج ذاته يبحث عن سعادة كبيرة غامضة يحتاج تحقيقها إلى معركة كبرى، وامرأة تبحث عن سعادتها الصغيرة في فنجان قهوة ونارجيلة بعد أن سرقها اليأس ومياه الخليج.
اطمئن يا صديقي، فلن أضيع فرصة لقائك يوم الأربعاء في الساعة السادسة أمام الفندق الكبير، ولا سيما أنني أشعر الآن أني أحبك."


(4)
غادر منزله/ غادرت منزلها/ اتجه/ اتجهت صوب الفندق الكبير، وقف/ وقفت أمام الباب تماماً، ثم راح يبحث/ راحت تبحث، عنها/ عنه، ولم يستطع أي منهما أن يرى الآخر على الرغم من أنهما جاءا إلى المكان نفسه، وفي الوقت ذاته.
لذلك عادا إلى منزليهما، بينما كان كل منهما قد أدرك بالفعل أن اللقاء بينهما مستحيل، وأن عليهما أن يصنعا زمناً خاصاً بهما، وأن يؤثثا مكاناً خاصاً لحبهما قبل أن يتورطا في موعد ليس له معنى.


13 نيسان 2001