لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: المحرقة

المحرقة

د. يوسف حطيني
"إلى روح إسحق موسى الحسيني*"


أحبُّ عبد العال، أحبّه..
شيء ما يشدني إليه..
شيء أكبر من مجرد علاقة دجاجة بطفل يدللها..
كلّ إشراقة شمس يستيقظ قبل أبيه ليسبقه إلى القن، يتجوّل في أنحائه، يوقظ الدجاجات الكسولات، يضع أمامي وأمام كل دجاجة على حدة أكواماً من الحَبّ، يملأ القن صخباً وفرحاً، ينادي كل دجاجة باسمها: "شيري.. ميمونة.. مبروكة.. ثم يضع بعض الحب بين يديه.. يقدمه لإحدى الدجاجات ثم يحملها.. يحتضنها بشغف.. ويضع حبة القمح في فمها.. تماماً مثل العاشق والمعشوق..
هكذا كان عبد العال يدور.. والأيام تدور..
* * *
من أجل هذا أحببت عبد العال.. وما زلتُ أحبه..
لا أزال أذكر كيف دخل إلى القن منذ ثلاثة أيام.. كان متعباً.. اتجه إلى شيري التي كانت ترقد في الزاوية، مسح على رأسها بحنان أبٍ قَلِقٍ، بعدها جاءني مطمئناً إلى البيضات التي أرقد فوقها.. ثم سألني بابتسامة متعبة، وهو يداعب ريشي الذي اختلط بالتراب:
- متى سنرى الفراخ الجديدة يا قرقتي العزيزة؟
- ستنتظر أسبوعاً آخر..
- وهل ستكون جميلة؟
- اطمئن يا عبد العال.. ستكون ذات أرياش ذهبية لامعة.
ثلاثة أيام طويلة على غياب عبد العال كانت كافية لتجعل كلّ دجاجة في القن حزينة حدَّ الوجَع.. أما أبوه فلم ينقطع عن زيارتنا.. أبوه طيب أيضاً: يرش الحبوب في القن الكبير ويجمع البيض ويخرج مسرعاً..ولكنه لا يلاعبنا، معه حقّ فقد أنكهته الحياة المتعبة وسنواته الخمسون التي يحملها فوق كتفيه بصبر حمار..
* * *
أمس دخل علينا الرجل حزيناً مكفهراً.. اقترب من كل واحدة منا، راقب حركتها، وضع يده على رقبتها.. ثم أخذ خمس دجاجات.. جمعها في كيس كبير.. وانطلق خارجاً.. بعد أن ألقى نحونا نظرة مليئة بما يشبه الدموع..
مصير خمس دجاجات معلّق في كيس كبير يحمله والد عبد العال ويتجه به إلى مكان مجهول..
كانت "شيري" مريضة حقاً، وكانت أحبّ دجاجة إلى قلب عبد العال، ولكن الأخريات لم يعانين من شيء في الأيام الماضية.. ميمونة وحورية وحبوبة وبياض الثلج كلهن كنّ بصحة جيدة.. ولكن التعب كان بادياً عليهن نتيجة السهر المتواصل على "شيري" المسكينة..
كلهن مسكينات..
فأنا أعرف أين أخذهن..
لا شك أنه أخذهن إلى حفرة وألقاهن فيها ثم أشعل النار..
محرقة.. محرقة حقيقية..
كلهن مسكينات.. ونحن كذلك..
أخبرتني إحدى الناجيات من إحدى المجازر الجماعية كيف يجمع البشر مئات الآلاف من بني جنسنا ويتفنون في إيجاد أنسب الطرق للقضاء عليها..
محرقة حقيقية.. وليست كذبة تاريخية.. هي مجزرة تتم على مرأى ومسمع من بني البشر المدججين بآلات التصوير الرقمية والخوذات والألبسة الخاصة والمبيدات من كل نوع، مجزرة رهيبة نحن ضحاياها.. مجزرة لا يفكّر أحد بإيقافها، أو على الأقل بتعويضنا.. فنحن أحقّ بالتعويضات من أصحاب كذبة كبرى ما زال المتاجرون بها يقبضون ثمنها حتى اليوم..
الناجية التي سقطت من أحد الأكياس بقدرة قادر أكدت لي أنها لم تكن مصابة بالفيروس القاتل.. قالت وهي تبكي على أطفالها وديكها النشيط: إن بني البشر لا يعالجون المصابين بالفيروس بل يقتلونهم..
* * *
كنت أستعرض منذ الصباح كل ما جرى حولي في الأيام الأخيرة: فكرت بعبد العال الذي غاب منذ ثلاثة ايام، بأولادي الذين أرقد فوقهم، بالدجاجة التي نجت من المحرقة، بأبي عبد العال الذي يزدرد ريقه كلما دخل إلى القن.. بكل شيء.. عقلي المشغول بما حوله يشبه دوامة صغيرة تتلاعب بها الأفكار المتزاحمة، غير أن أصوات بكاء وعويل مفاجئ وعواء ريح ريفية انتزعتني من شرودي..
كان خوفي على عبد العال كبيراً.. وما زاد خوفي آياتُ القرآن التي تصل إلى مسمعيّ.. خفت كثيراً لأنني أعيش عند قومٍ لا يستمعون لصوت الحقّ إلا حين يموت واحدٌ منهم.
هل يكون عبد العال؟؟
لسعتني الفكرة..
هدّني بكاءٌ متواصل.. بكاءٌ مرّ تبعه صراخ امرأة ثكلى:
الله معك يا عبد العال..
سلم على جدّك يا عبد العال..
إذاً.. سقط عبد العال..
* * *
كنت أفكّر في البشر الذين لا يشغل تفكيرهم إلا البيض واللحم.. أتساءل لماذا لا يجرون لنا فحوصاً طبية دورية مثلما يفعلون لبني جنسهم..
أتمنى من كلّ قلبي لو يتم علاجنا أو تلقيحنا أو الاهتمام بتوفير مسكن يليق بنا حتى لا يموت عبد العال..
صوت القرآن ما زال يصل إلى أذني.. أصواتٌ وحركات منتظمة تملأ المكان.. أناس يدخلون أو يخرجون بأناة وخشوع.. وبكاء خافت يملأ زوايا غرفة منعزلة..
فجأة أسمع حركة وهرجاً ومرجاً وصراخاً.. أبو عبد العال يصيح:
- لن تدخلوا إلا على جثتي..
لحظات..
لحظات فقط.. تدخل مجموعة كبيرة من بني البشر المقززين إلى القنّ تقفز الدجاجات هنا وهناك.. بشر مدججون بآلات تصوير رقمية وخوذات ألبسة خاصة ومبيدات من كل نوع..
أضم صغاري بقوة..
عما قليل ستجري مجزرة رهيبة نحن ضحاياها..
يقتربون مني.. يشدونني نحو الأعلى.. وأنا لا أزال أتشبث بما تبقى لي من الحياة.. أغرز أظافري بالأرض دفاعاً عن حُلمي.. عن فراخي الذهبية الصغيرة التي كان يحلم بها عبد العال..

2/4/2007


* أسحق موسى الحسيني (فلسطين: 1904-1990) قاص وروائي وباحث، من أشهر آثاره رواية (مذكرات دجاجة) التي صدرت عام 1945.