لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

تمرين قصصي: في مركز الدائرة

في مركز الدائرة!!


تمرين قصصي: د. يوسف حطيني

حكايتي بسيطة، ليس فيها أي تعقيد، فأنا رجل لا يحبّ الحكايات، مشيت طيلة حياتي قرب الجدار، ثم وجدت نفسي في هذه الزنزانة المظلمة القذرة بسبب حكاية وحيدة.. جاءت بي إلى هذه الدنيا أسرة هندسية لا تعرف المربع من المستطيل، فجَّدي كان مستقيماً، تنحني جدّتي أمام استقامته بكلّ الرضا، أما والدي فقد كان شبه منحرف.
لستُ من الذين يجيدون مسك العصا من الوسط، ولا حتى ممن يجيدون مسكها من أحد طرفيها، ولستُ قادراً على أن ألعب على عدة حبال، ولا على حبل واحد أيضاً.. أحبّ منذ صغري مادة الرياضيات، لا ليس تماماً.. أحبّ الهندسة، ليس تماماً أيضاً.. فالمنحنيات أقرب إلى قلبي من المستقيمات..
تأملت منذ نعومة أظفاري خلق الله تعالى: العصافير والطيور والناس من حولي.. ولم أجد فيها أية مستقيمات..
عندما اشتعلت الحرب كنت في الصف الرابع الابتدائي ، وقد لاحظت بدهشة طفل صغير أن الطائرات التي تحمل الموت فيها كثير من الخطوط المستقيمة، أما الطائرات التي تحمل المسافرين فقد كانت تزينها الخطوط المنحنية..
هل قلت: إنني أحب المنحنيات؟؟
ثمة ما يجب أن أوضحه هنا فأنا أحب المنحنيات المفتوحة..
وأمقت المغلقة مقتاً شديداً.. أحس بالتوتر عندما أرى دائرة.. أو أسمع عنها..
تستفزني تسميات مثل دائرة الماء والكهرباء، ودائرة الهجرة والجوازات، ودائرة إدارة الشرق الأوسط.. لأنها تذكرني بالحصار.. ولكن هل خطر لك أيها القارئ العزيز أن تسأل عن سبب حقدي على المستقيمات؟
الأمر بسيط:
لأني أكره جدّي.. وأكره طريقة حياته التي أنهاها بعناده..
* * *
جدي كان مستقيماً، واجه الإنكليز، وشارك في جميع الثورات، لاذ بالجبال فترة طويلة، وكان يغير على الإنكليز في كل وقت.. بينما يغير على زوجته كلما سنحت الفرصة. ولم يستطع أحد أن يناله بأذى، إلا حين هدأت المعارك، وأهدى الإنكليز البلاد لليهود، فقد فتشوا جميع البيوت، ووجدوا في بيته أربعة بنادق إنكليزية وخوذتين عسكريتين وبِزّات عسكرية..
جَدّتي بكت كثيراً حين أخذوه إلى دائرة التحقيق.. كانت تعرف أنهم لن يعيدوه، تخيّلت أنه سيبصق في وجوههم خلال التحقيق.. لذلك قرأت الفاتحة على روحه بعد سبعة أيام من اعتقاله..
أما أبي فقد ربته جدتي أولاً وأمي ثانياً، اعذرني على صراحتي أيها القارئ العزيز، فأنا سأقول الحقيقة.. والدي كان يثور أحياناً، ولكنه سرعان ما يهدئ، وهذا ما جعل الدوائر الأمنية محتارة بين أن تصنفه معادياً أو حيادياً أو نصيراً، واستقر بها الرأي أخيراً أن تصنفه شبه منحرف على سبيل الاحتياط..
* * *
لم أحب ابنة خالتي.. غير أنّ والدتي كانت مصرة على أن تزوجني منها، قالت: ابنة خالتك فتاة جميلة وطيبة وثوبها من ثوبنا.. وهي أفضل من ياسمين..
- ولكنها لا تحبّ الرياضيات.
- اخرس.
وخرستُ.. أما أبي فلم يقل شيئاً حتى لا يسمع ما سمعت..
* * *
كانت ياسمين تحب الرياضيات مثلي، تتفق معي في موقفي من كل الأشكال، باستثناء الدائرة، فهي تحبّها لأنها تحلم بأن تُغلَق علينا ذات يوم، وحين حكيت لها عن ابنة خالتي بكت كثيراً، وأخرجت قلماً وورقة وراحت ترسم شيئاً ما، ثم أعطتني الورقة مطوية وانطلقت إلى غير رجعة، وحين فتحت الورقة وجدت فيها الشكل الذي أعرضه عليك، لعلك تساعدني في فك رموزه:



المهم أنني تزوجتُ من ابنة خالتي: امرأة متسلطة تحسن كل شيء تقريباً: الذهاب إلى الحفلات وقراءة الجرائد ولا تخجل من الحديث مع الرجال، وقد أعطتني خلال شهر العسل دورة مكثفة في التنظيف والطبخ وكيّ الملابس، وقد عانيت في البداية من تقريعها المستمر، لأن مرايا الحمام لا تلمع، أو لأن (طبخة المحاشي) لم تكن لذيذة، ولم تأكل أصابعها وراءها، أما الآن وبعد خبرة عشر سنوات في التنسيق بين المدرسة والمعهد والدروس الخصوصية وشغل البيت فقد صارت تقول لي في غرفة النوم كلمات مثل: سلمت يداك، وشكراً لأنك توفّر أجر الشغالة.. فلا أملك في حضرة هذا الغزل الرقيق إلا أن أعدها بشراء فستان جديد.
* * *
كنتُ بعد عودتي من المدرسة أدخل البيت ولا أخرج منه إلا للدروس الخصوصية أو المعهد الذي لا يريد طلابه أن يفهموا شيئاً، طلاب المدرسة أكثر أدباً من طلاب المعاهد والدروس الخصوصية، طلاب الدروس الخصوصية يريدون أن يدخنوا ويشربوا الشاي وأن يفعلوا كل شيء باستثناء أن يفهموا، أما طلاب المعهد فهم يوجهون لي أسئلة محرجة في السياسة والنساء، وقد كنت أتحاشى الإجابة حتى لا يحدث لي ما حدث لجدي..
ذاتً درس لم يفهم أحد الطلاب شيئاً عن الدائرة ، قلت له: إنها شكل منحن مغلق تبعد جميع نقاطه بعداً ثابتاً عن نقطة داخله تسمى مركز الدائرة..
قال لم أفهم..
رسمتها له..
قال لم أفهم..
قلت له أخيراً.. إنها تشبه زوجتي..
عندها ضحك الطلاب..
انشرح صدري لضحك الطلاب، فأخذت أعطيهم كثيراً من الأمثلة حولها..ثم حكيت لهم حكاية واحدة عن الدائرة والحصار، حكاية واحدة تتكرّر في غزة والعراق، وليبيا والسودان، وأماكن أخرى كانت أو ستكون.
عندها حطّ طائر الفزع فوق رؤوسهم ولم يقل أحد شيئاً..
* * *
أنا الآن يا قارئي العزيز أرتجف كورقة صفراء في خريف حزين، أرتجف على الرغم من أنني قضيت ما مضى من حياتي وأنا أمشي قرب الجدار وأطلب الستر من الله، أرضي الله ومدير المدرسة وزوجتي وطلابي.. تحيط بي زنزانة مربعة صغيرة، لأن الطلاب لم يضحكوا على حكايتي الوحيدة.. أتذكر زوجتي خارج السجن فأتخيل دائرة كبيرة وأنا مرمي في وسطها كالخرقة التي كنتُ أمسح بها رفوف المطبخ.. وأحياناً تتداخل الأمور فأتخيل الشكل التالي:
أنا






هل تجرؤ على مساعدتي أيها القارئ العزيز؟؟
أعرف أن نواياك طيبة، ولكنني أخشى أن تنظر في مرآة نفسك، وتكتشف أنك محاط بعدد لا نهائي من الدوائر والمثلثات والمربعات والمخمسات.. إلخ.. إلخ.. إلخ..

13/11/2007