لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: الروح والجسد

الروح والجسد
د. يوسف حطيني



لم أكن أتخيل أن الأمور يمكن أن تنتهي فيما بيننا إلى ما انتهت إليه، هذا الذي يرهقني بحزنه الكبير في كل لقاء، هذا الوادع الأليف الذي ألقيت جراحي بين يديه لم يعتد بعد على ألاّ يكون فارساً شرقياً، ربمالم يستطع أن يتخيل امرأة يمكن أن تعيش متحررة من سلطة الجسد، وأن تبقى أسيرة سطوة الروح المقدسة، لذلك لم يوفّر خلوة لا تزيد عن خمسة ثوان إلا وحاول أن يضع يده على كتفي، أو فوق يديّ المرتبكتين، أو أن يعانقني فترتجف أوصالي وأبتعد.
كيف دخلت معه إلى هذا المكان.. الجميع هنا يجلسون زوجين.. زوجين.. مثل أفراخ الحمام الصغيرة، وهذا الذي يجلس قبالتنا يمسك يدي حبيبته ككنز ثمين، بينما يعبث ذاك بشعر حبيبته التي تستسلم ليديه باستغراق حالم.
لا أستطيع أن أزعم أني لا أحبه، ولكنني أسمو بهذا الحب الذي يمزقني عن مرتبة البشر، أضع حبيبي في مرتبة القديسين لأن ثمة ما يمنعنا من الارتباط مثلما يفعل أي حبيبين.
أشعر أنني سأخسره، ولكنني أؤجل هذه اللحظة ما أستطيع، تربكني نظراته الجريئة إلى عينيّ، إلى شفتيّ، إلى صدري الذي ليس لي ذنب في أنه يراوغه، كما يقول، كثعلب ماكر.
لو كانت الظروف مختلفة قليلاً، لو كان اللقاء ممكناً لما ترددت في أن أستسلم لقدره، ولأنفاسه التي أسمعها كلما همس في أذنيّ كلمة رقيقة، لو لم يكن مكبلاً بألف قيد، لو لم يكن…
لن يستطيع هذا الشراب المثلج أن يهدّئ من توتر روحي، وأنا أرى عينيه الشرهتين تجوسان أركان هذا المكان، ثم تجوسان بعد ذلك تفاصيل جسدي، فتزيد جراحي ألماً.
هو وحده الجرح الذي يمتد على مساحة الروح منذ رأيته أوّل مرة، إنه الهواء الذي يدخل رئتي، ولا خيار لي في أن أتنفس.. غير أنه للأسف لا يريد أن يفهم أنه يرسف في أغلال الجسد، وأنا طليقة مثل طائر ذبيح..
ماذا سأفعل حين يقبلني، أو حين يحاول أن يفعل ذلك.. أعرف أنه سيفعل، ولا أريد أن أخسره، أو أخسر روحي الصافية مثل نبع من الطهر والقدسية، هل ألقي بنفسي بين ذراعيه وأضرب عرض الحائط بكل شيء، وهل يفهم إذ أفعل ذلك أنني أتمرد على الروح والمجتمع، أيخبئ سري بين جوانحه، أم يتفاخر أمام أصدقائه بأنه فعل ما فعله عنترة إذ خلا بعبلة بعيداً عن عيون الرقباء.
هل أتركه وأمشي إلى حيث لا أراه، ولا يراني؟
وماذا لو ذهبت؟
هل ستكون روحي قادرة على مغادرة روحها؟
* * *
وأنتِ يا صديقتي الأثيرة، كلما خطرتِ في بالي أتذكّر الشيخ والبحر، تلك السمكة الخطرة التي جاذبت الشيخَ الغرقَ، وجاذبها النجاةَ.. وأنت سمكتي التي لا تكتفي بأن تغرقني، بل تصرّ أن تجرني نحو الأعماق، ترمي شباك عينيها، فيبتلعني الموج، ترمي شباك شفتيها فأصرخ منتشياً: إني أغرق.. لا تكتفي.. وترمي شباكاً لا تحصى.
انظري كيف يجلس ذلك الشاب على الأريكة المقابلة، بينما تسبح يد حبيبيه بين يديه، انظري إليه كيف يقرأ عينيها، وأنت لا تريدين أن أقرأ خطوط يديك لأحدثك عن فارسٍ سيقبّلك بعد دقائق.
كيف أنجو من سلطة الجسد المسلط كسيف على سكينتي، بعد أن أرهقتْ روحي فتنته، وجعلتني أمواجاً مضطربة تبحث عن أمواج أكثر اضطراباً لتعانقها، وهل ثمة أجمل من أمواج صدرك التي تعصف بما تبقى لديّ من قدرة على التحمّل.
ترى كيف يستطيع أي متعبد في محراب الجمال أن يبتعد، ليتك تعرفين يا صغيرتي أن عذاب الروح لا يكتمل إلا بعذاب الجسد، ليتك تفهمين أنني أحلم أن أضمّك وأن أشمّك وأن… وأنا أخاف ألا تدركي تلك العلاقة الفريدة بين روحينا حين يعمدها دفء الجسد.. أخاف.. ولكنني سأفعل.. فقد تستطيعين أن تقرئي بعد القبلة الأولى ذلك الدفء الذي يسري في شفتي، وقد تلقين بنفسك في أحضاني مثل سفينة أرهقتها الأسفار.. ولكن ماذا لو حزنت وأضربت عن الكلام، أو تركتني ومضيتِ دون أن تقولي كلمة وداع واحدة..
* * *
هذا النادل النشيط الذي يطمئن على راحة الجميع يعطينا الجريدة التي كنا قد نسيناها على الطاولة قبل أن نغادرها إلى زاوية المقهى الأكثر دفئاً وعزلة، وإذ تفتحين الجريدة يصبح وجهي ووجهك مختبئين خلف الجريدة، وهي فرصة نادرة قلما وفّرتها جريدة لقرائها.. قررت ونفّذت. في القضايا الحاسمة، يا أثيرتي، لا فرق زمانياً بين القرار والتنفيذ: كانت قبلة لذيذة سريعة خاطفة، وإذ ذاك اصطبغ وجهك بالأرجوان، وصار أجمل من وجه طفلة.. كنتِ متوترة، تحدثتِ عن أشياء كثيرة، بينما كنتُ سعيداً لأنني أقف أمام أول حلم حققته في حياتي، فقد قبلتك حقاً في المنام، ولكنك كنتِ هناك أكثر جسارة.
أحلام كثيرة لم أتمكن من تحقيقها: حلمت أن أعيش طفولتي، أن أعشق دون خوف، أن أتزوج، أن ألتحق بالجامعة، حلمت أن أعود إلى وطني، أن أجد قبراً يحنو علي عندما أموت، حلمت كثيراً وكنت أنت حلمي الأخير.
هل تريدين مني أن أعتذر، وهل ترضين أن أعتذر إليك بقبلة أخرى.
* * *
ينظران إلى بعضهما كديكين، ثم لا يلبثان أن يهدأا، ولكن حزناً عميقاً وانكساراً كانا يحترقان ببقايا نشوة كامنة في قلبها، وندماً وقلقاً كانا يمتزجان بحمى نشوة ظاهرة على شفتيه.
_ هل تعدني أنك لن تفعل ذلك ثانية؟
- ربما.
* * * *
لم ترافقه تلك النشوة وقتاً طويلاً، ولم يشعر تلك الليلة أنه سعيد بإنجازه بما فيه الكفاية، على الرغم من أنه انتظر تحقيق المعجزة أكثر من سنة، وها هو ذا يعود إلى غربته وحزنه بحثاً عن أحلام أخرى يحتاج تحقيقها عرقاً ودماً وحجارة.
سيعدها في المرة القادمة ألا يكرر المحاولة، هذا الوعد الذي سيحنث به أمام إغوائها عند أول سانحة.