لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 14 ديسمبر 2009

دراسة أدبية: وليد مدفعي: أقنعة متعددة لوجه واحد


الأسبوع الأدبي
العدد 1177 تاريخ 12/12/2009


نصف قرن على روايته الأولى
وليد مدفعي: أقنعة متعددة لوجه واحد

د.يوسف حطيني - الإمارات

قبل خمسين عاماً بالتمام والكمال أصدر الكاتب العربي السوري المرحوم وليد مدفعي(1) روايته الأولى التي حملت عنوان "مذكرات منحوس أفندي(2)"، وعلى الرغم من أنني قرأتها متأخّراً فإن إحساس الحداثة ولذة القراءة لم يفارقاني طول قراءتها، لأنها رواية قادرة على أن تفاجئ القارئ بما لا يتوقع، وبما لم يألف.. من هنا فقد حفزتني الذكرى الأولى لرحيله على إعادة قراءة هذه الرواية التي تحتلُّ في نظري موقعاً مرموقاً مميزاً بين أعماله كلها التي تنوعت بين القصص والروايات والمسرحيات والبرامج الإذاعية والدراسات المختلفة.ولد وليد مدفعي في دمشق عام 1932، ويخيّل إليَّ أنه بدأ بكتابة "مذكرات منحوس أفندي" عام 1957، ثم نشرها عام 1959، ويدفعني نحو هذا الاعتقاد أن حكاية الرواية تتحدث عن مذكرات حياة شاب يعيش خمسة وعشرين عاماً، تشبه في خطوطها العامة حياة المؤلف نفسه، وتنتهي في حادث سيارة تراجيدي، ولكنه غير منطقي، وغير مسوّغ فنياً، وهو يفاجئ السرد في الأسطر الأخيرة من الرواية، وليس ثمة سبب لهذا الموت إلا أن يكون صاحبه منحوساً فعلاً.وأظنّ أنّ وليد مدفعي وقف أمام مرآة نفسه، بعد أن بلغ الخامسة والعشرين وأحبَّ أن يكتب مذكراته بطريقة فريدة. وحتى يكون أمام رواية منتهية فقد قرر منذ اللحظة الأولى أن يقتل البطل، فتنتهي مذكراته بقتله، وكان الحلّ في حادث السيارة الذي يتعرض له المنحوس في نهاية الرواية.. وقد أحبّ المدفعي هذه النهاية، وما ذلك لأن المأساة تشكل ماهية الروح العربي، ولكن لأن الموت يمكنه فنياً من أن يحقق هدفاً ثميناً آخر غير ذلك الهدف الذي حققه حين بدأ الرواية.فإذا كان المدفعي قد تفرّد حتى كتابة روايته بأنه أول روائي عربي يبدأ بسرد مذكرات بطله قبل أن يكون نطفة، فإنه قد تفرّد أيضاً بأن هذا البطل يروي مذكراته بعد وفاته.تبدأ الحكاية من سرد اللقاء الجنسي الذي تمّ بين والد المنحوس ووالدته في ليلة صيفية مقمرة، حين كانت والدته تضمّ بإبرةٍ طوقاً من زهر الياسمين، بينما نسي والده موعده المهم الذي لا ينبغي التفريط به:"ولم تمض لحظات حتى كان طوق الياسمين ملقى إلى جانب الطربوش، وكانت أعداد من حباته مصابة بعناء وجهد وصارت أشلاء.. هكذا تم خلقي وهو مكروه دون بسملة على ذمة الفقهاء، وفي وقت كان مفروضاً أن يصرف في سبيل موعد هام فصرف من أجلي، وهكذا كان أول عهدي بالنحس والشقاء، إنني ربيب حالة عصبية مستعجلة، ولحظة انهيار لا إرادية كانت أسيرة ضعف جائر" (ص11).إذاً فقد جاء خلقه نتيجة حالة عصبية: يفقد الأب السيطرة على نفسه، فيأتي الأمَّ مخالفاً "روزنامة الحَبَل" التي كان يجب أن يتقيّد بها، ويجنّ جنونه بسبب هذا الحمل؛ غير أنّ المنحوس كان مسروراً إذ اكتشف، وهو في رحم أمه أنّ له أخاً توأماً، لذلك يطلب منه أن يدبكا معاً لتعلم الأم أنهما طفلان وليسا طفلاً واحداً: "أجاب أخي: كلا.. سيجن والدنا إذا قُدِّر له أن يعرف الحقيقة." ص13.وإذ ذاك يصبح رحم الأم المسكينة حقلاً لتجارب ذوات الخبرة اللواتي ينصحنها باستخدام أعواد الختمية البيضاء، وأخذ الحقن التي تتألف من أقذار العالم، من أجل إسقاط الحمل، حتى تنجح إحدى الحقن في إسقاط شقيق المنحوس:" قلت له: تشجع نتجنب الكارثة.قال: يداي تؤلمانني كثيراً..إنني....وسقط دون أن يتم عبارته، وابتلعته لجة المواد المؤذية، فدسست وجهي في اللحم حتى لا أشاهد المسكين وهو يتفتت إلى أجزاء صغيرة.. وأخذت أصلي أن يهبني ربي القوة والشجاعة." ص15.ويستمرّ هذا المنحوس في سرد مذكراته، وفي تذكر مشاعر الحنان التي يشعر بها حين تلامس أمه بطنها، ويسرد أشياء طريفة إذ يرافق أمه إلى السينما فيحضر فيلماً لمحمد عبد الوهاب، ويسأم متابعته، فيقول: "كانت قصة الفيلم ضعيفة ومفككة حتى إنني نمت في قسمها الأخير.." (ص21). كما يرافق أمه إلى حمام النساء، مراقباً النساء والصبايا، ويبقى في ذلك الرحم حتى يستوي جنيناً كاملاً، ويطمئن إلى سلامة أعضائه ثمّ يقرر الخروج:"اقتربت هذا اليوم من فوهة الرحم بجرأة عز نظيرها، وقفزت فاندفع رأسي من الفوهة سريعاً، وشاهدتني الداية ومسكتني، وخطر لي أن ألاعبها قليلاً لأكشف غرورها وعدم درايتها، بأن أصلب جسمي ليستعصي عليها إخراجي (...) ولكني سرعان ما عدلت عن هذه الفكرة لأنها ستسبب آلاما لا تطاق لوالدتي (...) أرخيت عضلاتي بعد الوثبة، فزلق قسم من جسمي وصار خارج بطن أمي واصطدم رأسي بيد الداية الصلبة الخشنة فكششت.. ولكن اليد الخشنة أطبقت على يافوخي الطريّ وجذبتني بشدة فولدتني أمي في دمشق التي صارت مسقط رأسي حسبما يهتم المؤرخون" (ص ص 34-35).وبعد أن يولد يجد صعوبة في تذكّر مراحل طفولته المبكرة باستثناء آلام الأسنان، وآلام الأمراض الناتجة عن الجهل والتهاون، ثم يسرد مذكرات صعوبة التحاقه بالمدرسة، ومعاناته، ورسوبه بسبب تسلط المعلمين على طالب لا ظهر له، وصولاً إلى عمله في الدكان بدلاً من أبيه المريض الذي يتوفى فيما بعد ليصبح هذا المنحوس مسؤولاً عن أسرته منذ حداثة سنه، ويعاني بطش الفرنسيين، وظلم أصدقاء أبيه وجيرانه؛ وإذ يتقرّب الجار من أم المنحوس التي تقبل تقربه سعياً إلى الزواج منه حتى تسترَ نفسها، يقرر المنحوس تركها نهائياً، ثم يذهب إلى حلب حيث ينخرط في العمل الصحفي والنضال الوطني، ويعاني من قادة الاستقلال مثلما عانى من الفرنسيين، ويتعرض لخديعة يتزوج خلالها فتاة حبلى، سرعان ما يطلقها بعد أن يقبض الثمن.وإذ يذهب إلى دمشق عائداً إلى أمّه يعرف أنها أحرقت نفسها حتى لا تقع فريسة أصدقاء زوجها (المخلصين) وهنا يعلّق تعليقاً مباشراً على الحدث: " هذا المجتمع الظالم بعاداته السيئة وبتقاليده البالية، كانت والدتي واحدة من ضحاياه، مثلها مثل كل أرملة يرحل زوجها عنها وليس بين يديها سلاح تجابه به الوجود، وتصون به تحررها والأولاد الصغار الذين خلفهم الراحل.. إذا كنت غنياً فتزوج وأنجب، أما إذا كنت فقيراً فإياك أن تموت عن أرملة في الشرق وعندك أصدقاء، وإلا خففوا كلّهم عن أرملتك" (ص137).وإذ يعود إلى حلب مرة أخرى لا يستطيع التخلص من طيف هدى التي سحبته إلى فخ الزواج من الفتاة الحبلى التي طلّقها دون أن يمسّها، ويبقى مخلصاً لحبّ هدى على الرغم من أن طليقته جاءته إلى منزله عارضة نفسها، هذا الحب الخالد الذي لا ينتهي مع انتهاء الرواية التي يأتي نسقها اللغوي الختامي على الشكل التالي:" كان بودي أن أخبرها عن الأمنيات التي طالما حلمت بها من أجلنا، وعن حبي العظيم وعن تفاهاتي، وكنت واثقاً من غفرانها لتفاهاتي فلم أقدر. فاكتفيت بتأمل وجهها الجميل ثم بمتابعة اليد المخملية التي امتدت بمنديل سخيف لتمسح الدم الذي أحسست طعمه في فمي وظهر يقطر بين شفتي........" (ص148).هل كان المنحوس منحوساً فقط؟؟في ظنّي أنّ الظروف المعيشية التي عاناها المنحوس ليست استثنائية في مجتمع يعتوره القهر السياسي الناجم عن الاحتلال الفرنسي، والظلم الاجتماعي الذي تنتجه ظروف الجهل والتخلف، غير أن هذا الاسم/ اللقب لاقى هوى واستحساناً في نفس البطل، بعد أن أطلقه عليه أحد مدرّسيه، يقول:"سيداتي آنساتي سادتي.. لا تسألوني عن اسمي، فقد أضعته منذ أمد، ولم أعد أذكره، وإن الذين كانوا سبباً في فقدي اسمي الكامل هم أنفسهم كانوا يرددون الآية الكريمة: (ولا تنابزوا بالألقاب). بقي لي لقب بغيض، أصبح اسمي ولقبي في آن واحد.. فمحسوبكم منحوس أفندي .. وإنني أفرح بهذا اللقب على بشاعته، لا لأنه يلبسني تماماً، وإنما لأنه يمنحني " الأفندية " أيضاً، وهذا شرف لم يسبق لواحد من عائلتنا المنقرضة، أن حظي به من ملك أو حاكم، وقد نلته أنا من الشعب. (ص9).وتعود حكاية صراع المنحوس مع الاسم إلى اختلاف أبيه وأمه حول تسمية المولود الذي ما زال جنيناً، فالأب الذي نقّب في كتب الأسماء اختار اسم له "قذاعة" لأنه كان شاعراً ومغواراً، أما الأم فقد اختارت له اسم "عبير" سواء أكان ذكراً أم أنثى.. وعندما يسأله المدرس عن اسمه يخبره أن له اسمين، وحين يقول له: "اجلس في مكانك يا منحوس" (ص45) يتردد هذا الاسم الجديد على الألسنة، ويغنم البطل اسماً ثالثاً.على أن النحس ليس مزية البطل الوحيدة، أو لعله ليس صفته الجوهرية، فهو متمرّد قبل أن يكون منحوساً، وهو مشاكس أيضاً، إضافة إلى كونه ناقداً ساخراً، وإنساناً جريئاً مصرّاً على مجابهة معركة الوجود منذ كان علقة في رحم أمه:"أألعن الساعة التي تزوج فيها أبي من أمي. لن أفعل ذلك أو لست محظوظاً أنني بقيت على قيد الحياة بينما مزقت السموم أخي؟.. يكفيني أنني ربحت وجودي ولو أنه ظِلٌّ من وجود أمثل، إنه وجود على كل حال وليس عدماً مطلقاً. (ص17).وإذ يقرر الوالد إجهاض الأم يتمرد هذا الجنين على أبيه صارخاً: "أيها الوالد القذر، كان أولى بك أن تكبح جماح نفسك الشهوانية، وأن تستغني عن لحظات من اللذة بدلا من أن تستغني عني أنا المسكين الذي طالما حلم بالحياة والشمس والحرية" (ص13).وتبدو الحرية معركة المنحوس الكبرى، سواء أكانت تلك الحرية تتعلق بشخصه أم بوطنه، لذلك يسأم حياة العبودية في بطن أمه، قبل أن يكتشف أن ثمة عبودية أخرى تنتظره:"كنت كالعبد في بطنها ..من واجبي أن أفكر كما تفكر، وأن أنطق كما تريد وأن أستلقي كما ترتاح وأن أنام متى شاءت أن تنام.. لقد كانت الحرية معدومة في موطني الأول، ولكن ذلك لن يطول إلى الأبد فإن مدة الحمل قصيرة - والحمد لله - وسأغدو حراً عما قريب أفعل ما يحلو لي، وأذهب أينما شئت مع رفاق المستقبل المتحررين بدورهم من بطون أمهاتهم". (ص18).وعندما كان ذات مرة في قاعة الدرس، يجلس في الصف الأخير، على المقعد المخلوع، حسب نظام التراتب الطبقي، أصدر المقعد صريراً حاداً، فسأل المدرس عن الفاعل، وكان المقطع السردي التالي:"فوقفت وقلت متفائلاً: أنا يا أستاذ.دوت عاصفة من الضحك بين التلاميذ، ودوى صوت المسطرة على رأسي، ثم دُفِعْتُ بغلظة نحو الباب، دون أن يترك لي مجالاً لشرح جلية الأمر.رفعت يديَّ عقاباً صارماً فوق رأسي، وكانت الدموع تسيل من عينيَّ غزيرة، وكانت في ذهني فكرة واحدة باقية من درس سابق: إن الصدق منجاة." (ص44).الاجتماعي والسياسي في مواجهة منحوس أفندي:تكشف رواية "مذكرات منحوس أفندي" جانباً مهماً من جوانب المجتمع السوري في مرحلة الاستعمار الفرنسي، وبدايات مرحلة الجلاء، وتجري أحداثها بين عامي 1931 و1957 تقريباً، وتُظهِر صوراً طريفة لتاريخ السينما الناطقة في سورية، إذ نقرأ في المذكرات السياق التالي:"قررت والدتي الذهاب إلى السينما، فقد قيل إن فلماً ناطقاً سيعرض لأول مرة على الشاشة باللغة العربية. وكان اسم الفيلم الوردة البيضاء لمحمد عبد الوهاب. وكانت اسم صالة العرض الفخمة صالة الكوزمغراف". (ص20)كما تعرض الرواية صورة نابضة حية للحمّام الشعبي، إذ "تحتشد النساء في الحمام لتجاذب أطراف الحديث والمشاجرة وتدريب اللسان حتى يصبح " طويلاً " أو يذهبن إليه من أجل أن تتم فيه خطبتهن كما يقول المثل "على عينك يا تاجر" حيث تميس الصبايا شبه عاريات. ومنهن من تذهب إليه رغبة في قتل الوقت فتجلس فيه من الساعة الواحدة ظهراً حتى السابعة مساءً. ويكون الزوج أو القريب المسكين منتظراً أمام الباب وتحت وابل المطر في الشتاء ليحمل لحرمه المصون (البقجة العامرة) وما تبقى من صحون الطعام الفارغة التي لم تحطم في الشجار". (ص ص 22-23)ويتفنّن وليد مدفعي في وصف رائحة الحمّام إذ تختلط رائحة المواد التي تحرق في القميم بالماء الذي يكتسب تلك الرائحة التي تختلط عند سكب الماء مع رائحة الحناء وشذا العطور وتضاف إليها رائحة مفرز الأجساد من خلايا البدن المتفتحة.... إلخ" (ص24).وإذا كانت رواية "مذكرات منحوس أفندي" تنتمي إلى الرواية العجائبية العربية، وتشكلّ مهداً لها، فإنها تنتمي من جهة أخرى إلى الرواية الواقعية الانتقادية التي هاجمت بجرأة عادات المجتمع وتقاليده، وكشفت عورة النظامين الاجتماعي والسياسي، فالرواية تسلّط من خلال شخصية المنحوس الضوء على العديد من النماذج الاجتماعية كالأب والأم، وترصد مختلف الأدواء التي يعانيها المجتمع كالكذب والنفاق، فحين تحبل الأم بالمنحوس يتعاطف معها، إذ تشعر المسكينة أن الذنب ذنبها في هذا الحبَل الطارئ، يقول:"تقدمت أمي نحو أبي، وكان جالساً على أريكة مريحة وسارحاً مع أفكاره. حدق في وجهها فشاهدها مرتبكة وكانت تشعر كأنه ذنبها أن حبلت بي، ولو كانت ذكية بارعة لبادرته باللوم والاتهام ولكنها مسكينة أنثى تعيش في الشرق. (ص12).كما يتعاطف مع أمه في طريق ذهابها إلى السينما، إذ يتحول كلّ المجتمع إلى رجل يحاسب المرأة على خروجها دون حياء، وهي حبلى، وكأن الحبل أمر يوجب بقاء المرأة في البيت:"لحق التعريض بأمي من سفهاء خلال سيرها في الطريق، وكنت متصدراً في بطنها أكاد أناطح الناس وأدفع بهم ليفسحوا لي طريق المرور. وعاب كثيرون عليها خروجها من المنزل وشتمها آخرون حتى بنات جنسها قد خن مشكلتها فأطلقت ألسنتهن تجريحاً لم يخل من سفاهة أيضاً، واتضح أنه لا يوجد أخون من المرأة لمشاكل المرأة إلا المرأة." (ص21).ويلاحظ في السياق السابق أن وليد مدفعي تنبه إلى أنّ المرأة كثيراً ما تقف ضدّ تحررها، وكثيراً ما تنضمّ إلى الرجل في وقوفها ضدّ المرأة، وهذا ما أشار إليه مفكرون عرب وسوريون فيما بعد من أمثال المرحوم الدكتور نعيم اليافي الذي أشار غير مرة إلى هذه القضية.ويقف المنحوس، ومن ورائه المدفعي، موقفاً لا هوادة فيه، ضدّ النفاق بأشكاله كافةً، ويعرض له صوراً متعددة، منها صورة الجارة التي تلطم وتضحك أثناء إعداد جنازة الأب:"استطاعت عيناي أن تلمحا أموراً متعددة خلال إعداد الجنازة، كانت جارتنا تلطم وجهها أمام والدتي ثم تتجه نحو الدهليز فتضحك مع جارة لها وتغمز حول صراخ أمي وسمعتها تقول: ما أبرعها في تمثيل الحزن!. صارت منذ شهر تتمنى موته بعدما طال مرضه." (ص75).وتكشف الرواية الأشكال المختلفة للقمع التي كان يمارسها المحتل الفرنسي ضد أهل سورية، فتتجسد في جميع مناحي الحياة، هذا القمع الذي أصاب المنحوس شخصياً، إذ اضطر إلى إغلاق الدكان عند وفاة أبيه مدة أسبوع، فأحرقها الفرنسيون بتهمة التحريض والمشاركة في الإضراب، ثم قاموا باعتقاله في دمشق؛ مثلما أغلقوا مطبعة الكيَّال في حلب حتى يتم التحقيق مع صاحبها، بسبب طباعة أحد المنشورات؛ أولئك الفرنسيون هم أنفسهم من يمنعون التعليم عن السوريين، إلا من المنافقين والمتملّقين وأصحاب النفوذ:"قال والدي مساءً وكان شامتاً: أخبرتكِ مراراً أن تسجيل الأولاد في المدارس أمر عسير لأنه بيد المتملقين للفرنسيين، وهو يحتاج إلى صاحب نفوذ في الدولة". (ص41).ويعرض المدفعي من خلال مذكرات المنحوس مقطعاً مهماً يبين فيه موقف الشعب العربي السوري برمّته من المحتل الفرنسي، فعندما يطلب المحقق الفرنسي من المنحوس أن يدلّه على السوريين الذين يشتمون فرنسة يقول: "اسمع سنرافقك لتدلنا على رجل واحد يشتم فرنسا ويحرض ضدها.قلت: لا حاجة بنا لننتقل من مكاننا، نقف أمام الباب ونمسك أول شخص يمر كبيراً أو صغيراً، ذكراً أو أنثى، وأحادثه وتسمع بأذنيك كيف يعترف بأنه يشتم فرنسا دائماً، وسيشتمها بحضورك لأنه لم يستسغ رؤيتك." (ص88).إنّ هذه الرواية تقدّم باختصار رؤية تتسق مع ما قدّمه وليد مدفعي في مجمل إنتاجه، فهو رجل يدعو دائماً إلى الحرية، وينتقد الظواهر السلبية في المجتمع، ويدعو إلى فهم الدين على حقيقته، بعيداً عن التمظهر، مستخدماً لغة تظهر ثقافته الأدبية والفلسفية والدينية، إذ ترصد عينا القارئ تناصات تحيل إلى القرآن الكريم والحديث النبوي، وأيزنهاور وفرويد وفيكتور هوغو وأبي تمام ونزار قباني(3) ، فتكتسي لغته إذ ذاك ثوب الذهنية التي تعوّق انسياب المذكرات، ويمكن على سبيل المثال أن نشير إلى السياق التالي:"لكن الفراغ المهلك وحده يلاحقني أينما كان، وألعن في سري ذلك الفراغ الذي أخشى من أن يعرف به ايزنهاور وعندئذ تصبح مصيبتي مزدوجة، فلا يكفي أنني سأفقد الغزال وإنما سأكون مرغماً على استبداله، فطالما استبد الهوس الشديد عند ايزنهاوز لملء كل فراغ" (ص39).غير أنَّ اللغة ترتفع إذ تبتعد عن التناصات الثقافية، فتبلغ ذروة الإبداع كقوله: "وكان يؤلمني في نظام المكتبة أنها لا تفتح ليلاً حتى ساعة متأخرة، بينما كانت أغلب دور اللهو والتسلية في الشهباء تظل ساهرة حتى مطلع التماري والسَّحلب والميمونية(4). (ص103)ولا ينسى المدفعي في هذه الرواية/ المذكرات أن يظهر سعي المنحوس إلى إقامة علاقة تواصل مع القارئ/ المخاطب، من خلال توجيه الخطاب الروائي له في أنساق لغوية متعددة، لكي يبرز انشغال المؤلف الدؤوب بالحثّ على التغيير نحو الأفضل، ذلك التغيير الذي يحلم به الأدباء، في رحلة بحثهم عن عالم أكثر رخاء وسعادة.الهوامش:1ـ وليد مدفعي من مواليد دمشق (1932 _ 2008).مؤلفاته:1. مذكرات منحوس أفندي: رواية، مطبعة الاعتدال1959))2. غروب في الفجر: قصص، دار الحياة1960).)3. وعلى الأرض السلام (مسرحية، العهد الجديد1960).)4. البيت الصاخب: مسرحية، مديرية المسارح1965).)5. وبعدين: مسرحية، دار الأجيال1970).)6. غرباء في أوطاننا: رواية، دار النهار1971).)7. أجراس بلا رنين: مسرحية، اتحاد الكتاب العرب1976).)8. محب المشاكل: رواية، دار طلاس1986).)9. فلسفة القرآن: تفسير في قالب روائي، دار المنهل1992).)10. قياديون بلا عقائد: رواية، دار عواد1992).)11. شجرة الرحمن: رواية، اتحاد الكتاب العرب 1997).)12. من الأسطورة إلى التوحيد: دراسات فكرية فلسفية، دار المختار،( 2004)13. على المكشوف: تاريخ سورية الذي لم يكتب في حينه،( 2008).14. كيلا ننسى قانا الجليل، مجموعة قصصية،( 2009)، نشرها الدكتور غالب خلايلي باسم عائلة المؤلف بعد وفاة المدفعي2ـ اعتمدت الدراسة على الطبعة الثانية من هذه الرواية، وقد صدرت عن دار عواد، 1995.3ـ تمكن مراجعة الصفحات: 31، 33، 39، 99، 106، 112، 120.4ـ هذه أسماء المآكل التي ينادي الباعة عليها مع طلوع الفجر. والملاحظة من المؤلف، هامش ص103