لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: مملكة الدجاج

مملكة الدجاج!!

د. يوسف حطيني


أشعة الشمس اللاهبة تمتدّ حول الأرصفة المحيطة بالقصر ثعباناً لا نهائياً يلتف حول أعناق الحرس المتجهمين، والصباح لم يسمح بعد للظهيرة أن تحمل لهم مزيداً من اللهب..
اللهب ولا شيء غيره على الأرصفة، وفي الشوارع، وفي صدور أولئك الحراس الصامتين مثل موت مؤجّل.. اللهب أيضاً في صدر ذلك الهدهد الذي يجتاز كلّ هؤلاء مثل خفاش أخطأ عقارب وقته، وجاء إلى قصر مولاه الأشتر في هذا الصباح بعد أن أمضى وقتاً طويلاً في اقتناص حكايات الألم والقهر والموت التي ترويها ألسنة تظن أنها أصبحت خارج حدود التغطية، على غير مرأى ومسمع ومشمّ من الهدهد وأعوانه.
* * *
جعبة الهدهد كانت مليئة بحكايات من كل نوع، سمع بعضها، وأسعفه خياله بتصوّر حكايات أخرى عن نبتة راحت تنمو بعيدة عن أعين العسس، أو بلبلٍ راح يتنفس بملء رئتيه دون أن يعير انتباهاً لحظر التجوّل المفروض على الماء والشمس والهواء.. غير أن الهدهد الذي حكم عليه الأشتر بالاستماع والبث، حسبما تقتضي ضروارت الأمن والأمان، كان يخاف ألا يمتلك الأشتر صبر شهريار وولعه بالحكايات، وإذ اجتاز الأسوار المنيعة كنسمة غريبة عن هذه المملكة نسيَ قلبُه الهلِعُ صباحَ تموز اللاهب وراح يرتجف مثل ديك مذبوح يبحث عن ذماء روح تفرّ من بين يديه.
* * *
كان الأشتر يشبه كلّ ملوك الحكايات القديمة، يمرّ بأيام نحس وأيام سعد: كان في أيام نحسه لا يطاق، وكانت ظبائه يختبئن، كلّ في كناسها، خوفاً من ليل وجهه وظلم ساطوره الذي يصلته آنئذ على رقاب المارة والعسس والحجاب.. أما في أيام سعده فقد كان يصلب ويشنق ويسلخ وهو مشرق الوجه، طلق القسمات.. وقد يبتسم أو يضحك بملء شدقيه لمرأى رأس راح يتدحرج أمامه كالكرة.. أو أمعاءٍ تدلّت أمام بطن صاحبها الذي يرقص مذبوحاً بسيف الألم والخوف والصمت.
* * *
كان صباحاً تموزياً إذاً.. ولم يكن مزاج الأشتر رائقاً لذلك حدّق طويلاً في عيني الهدهد المذعورتين، بينما بلل المسكين ثيابه البيضاء، وتساقطت منها قطرات ماء تشبه قطرات مطر في صيف حزين.
الأشتر يزدرد ريقه الجاف، يطلق مجموعة من الشتائم، يبصق في وجه الهدهد تهديداً بالذبح إن لم يكن يحمل معه أخباراً تستحق كل هذا التأخير.
قال الهدهد:
- وزير الدفاع.. النمر يا مولاي..
- أية ريح مشؤومة جعلتك تتحدث عنه.
- إنه يا مولاي يتغزل بواحدة من محظياتك.
- وهل يجرؤ أن يفعل.. قل لي من هي قبل أن اجعل من ريشك مروحة أتمروح بها في هذا الصيف المجنون.
اعتدل الهدهد في جلسته، وقال كأنه ينطق بحكمة بليغة:
- لا أعرف اسمها يا مولاي.. ولكن اسمها لا يهم.. فأنا اعرف التي تتربى تحت سمائك [قطّب الأشتر جبينه حين سمع كلمة سماء] .. أقصد أن كلّ المها التي تعيش وداخل حدود أسوارك هي مما ملكت يمينك..
لبس الوجه العبوس ثوب الاستحسان لهذه الرؤية الثاقبة، وأخرج الأشتر من تحت إبطه كيساً ورماه بين يدي الهدهد الذي انتشى بالمال والاستحسان فتابع قائلاً:
- لقد رأى مهاة تأسر لب الحليم فقال فيها:
عيون المها بين الرصافة والجسرِ جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
نزع الأشتر قناع الاستحسان، فعاد الشرر يتطاير من عينيه، ويندفع غضب صدره زبداً فوق شفتيه المشققتين:
- الخائن... هل قال هذا حقّاً..
- بالتأكيد يا مولاي..
انتفض كما لم ينتفض أيام النكبة والنكسة، دعا حراسه لكي يقبضوا على صاحب هذا الشعر الماجن:
- من منكم يأتيني بوزير الدفاع؟؟
¨ أنا آتيك به خلال أربع وعشرين ساعة.
¨ أنا آتيك به خلال ساعتين.
¨ أنا آتيك به قبل أن يرتدّ إليك طرفك.
وبعد أن يستعرض الملك تاريخ وزيره في أقل من طرفة عين، مستفيداً من إنجازات التكنولوجيا التي سخرها لخدمة كرسيه الجليل، يفتح عينيه ليرى وزير دفاعه أمامه صاغراً حقيراً مغلولاً، مرتبكاً كقطٍّ مذنب.. وليس ثمة سوى ابتسامة صفراء على وجه الأشتر تُـثير الرعب في قلوب المتهم قضاته على حدّ سواء.. كما تثير الإحساس بالموت في نفس الوزير المسكين الذي يدرك أن الأشتر خصمه وحكمه في هذه القضية الخاسرة:
- أهلاً بك أيها النمر العزيز.
- أهلاً بك مولاي ملك الغابة.
- هل تغزّلتَ حقاً بظبية ترعى في خمائلي؟
- ولكنها زوجتي يا مولاي.
- سأعلمك كيف تتنمر عليّ.. سأصنع من فروك معطفاً يقيني برد الشتاء.
- ولكن يا مولاي.
- خذوه..
* * *
هي كلمة واحدة.. تفصل بين الموت والحياة.. كلمة واحدة فقط
* * *
الأشتر ملكُ هذه الغابة الواسعة يحدوه حرص كبير أن يحوّل كل أفراد حاشيته إلى حيوانات، لا لشيء إلا لأنه كان قادراً على مخاطبة الطير والحيوان والحشرات، ولم تكن لديه القدرة على مخاطبة البشر العاديين.. ولم يستطع النجاة من هذا التحوّل الفذّ إلا أولئك الذين حملوا وطنهم على ظهرهم بدأب السلحفاة، وهربوا خارج أسوار مملكته بعد أن أدركوا أنه يصبح خارج السور مجرد أرنب لا يحسن إلا الركض وراء الجَزَر.
رجال مملكته المخلصين تحولوا فهوداً ونموراً وضباعاً تحرس قصره المنيف، وثمة دجاج يذرع الأرض جيئة وذهاباً ليلتقط حبة هنا أو هناك.
ولأن الأشتر لم يكن يثق بأحد ممن حوله فقد راح في عجلٍ يقتلع أنياب قادته ووزرائه، ويقلم أظافر أمرائه حجابه، ويخصي الين يقومون على خدمة أسرته حتى يضمن أمان مملكته السعيدة..
* * *
في أحد صباحات آذار رأى الهدهد غرباناً سوداً تملأ الأفق، وتحجب الشمس عن سماء المملكة الكئيبة.. فأسرع ليخبر الأشتر الذي ترك وزراءه وحجابه وزوجته وأولاده، وانطلق ليختبئ تحت الأرض..
الغربا المعدنية السوداء تملأ سماء المدينة، قذائفها تنبش القبور من عهد عاد، وتحمل الموت للجميع دون تمييز بين دجاجة ضعيفة أو قط سمين.. بحثت النمور والفهود والضباع عن مخالبها وأنيابها دون جدوى لذلك سقطت دموع كثيرة من العيون وأزكمت الأنوف رائحة تشبه رائحة غرناطة..
وكان ثمة دجاج.. دجاج كثير.. كثير جداً راح يكبر بسرعة، وراحت تنمو على أجنحته أرياش نسور قوية، وها هو ذا ينظر بثبات نحو كوة ضوء راحت تلمع في أحد جدران سجنه الكبير.

8/7/2006