لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: درس في محو الأمية

درس في محو الأمية

د.يوسف حطيني


الليل يهبط على الحدود، والسيارات تمرّ، وأنا وأولادي نراقب سلحفاة الوقت ونحن في سجن صغير داخل سيارتنا التي اضطررنا لإطفائها.. الصغار ملّوا الجلوس، يريدون أن يرتاحوا.. أن يأكلوا.. أن يذهبوا إلى الحمّام.. أذهب كل ساعة تقريباً إلى الضابط الذي يقول لي:
- انتظر قليلاً.. نحن نقرؤها.
- وهل ستقرؤونها كلّها؟؟
- طبعاً.
- متى ستنتهون؟
- قريباً..
شعرت نحو الكلاب التي تشم حقائب المسافرين ببعض الامتنان، فهي تسمح للكتب بالمرور، وليس لديها أية حساسية ضدها، قلت للضابط في المرة الأخيرة:
- أخي.. أنا لم أعد أريد الكتب.. ولكن دعنا نذهب.
لن تذهب قبل أن نعرف ما فيها.
* * *
قال أبو بهاء، الله يسامحه:
إجازتك الصيفية شهران، فلماذا لا تسافر برّاً.. رحلتك في البرّ لن تتحمل في الذهاب والإياب أكثر من أربعة أيام ولنقل أسبوع.. وهي توفّر عليك كثيراً.. عائلتك باسم الله وما شاء الله كبيرة.. ستة أفراد يحتاجون في الذهاب والإياب إلى مئة وخمسين ألفاً للسفر بالطائرة، ثم إنّ أباك ليس وزيراً..
- ولكن الأولاد ما زالوا صغاراً.. والرحلة طويلة.. والعذابُ كما يقولون قطعة من سفر.
- كثيرون غيرك ممن لديهم عائلات سبقوك في هذه الرحلة..
- سأفكر في الموضوع..
- لا تفكّر كثيراً.. احسبها فقط.. احسبها..
* * *
لم أكن أستطيع أن اتّخذ قراراً نهائياً.. أبو بهاء متحمس للفكرة، حتى دون أني سأستدين ثمن تذاكر السفر، عبر بطاقة الائتمان.. ولكن 3000 كيلومتر ليست لعبة.. مجرد التفكير بالرقم كان يشعرني بالغثيان..
* * *

أخبرتُ زوجتي وأطفالي مطمئناً: نسافر فجراً فنصل إلى الحدود في العاشرة صباحاً، ونجتاز الصحراء اللاهبة قبل أن يشتد الحرّ ثم نرتاح لساعة أو ساعتين، ونتابع رحلتنا حتى الثامنة مساءً.. ثم ننام في فندق محترم.. حتى نتمكن من متابعة السفر فجر اليوم التالي.. سنرتاح كلّ 300 كيلومتر، وسنشرب العصائر ونأكل السندويشات، ولن يمرّ المساء التالي إلا ونحن في دمشق.. قلت أيضاً: ستكون هذه الرحلة نزهة لن تنسوها.
اجتزنا 600 كيلومتر بسهولة، كان الأطفال يغنون ويرقصون، ويأكلون ويشربون، وينزلون في الاستراحات الجميلة على جانب الطريق الذي يمتد واسعاً مخططاً.. خلال عشر دقائق ختمنا جوازاتنا بختم الخروج، ثم ابتدأنا برحلة الدخول إلى حدود جديدة..
الحدود ليست مزدحمة .. أمامنا أربع سيارات.. كل سيارة تحتاج إلى عشر دقائق تقريباً، بعد أن يجرى لها تفتيش سريع من قبل الجنود والكلاب، حرارة السيارة أخذت في الارتفاع، ولكنّ دورنا وصل أخيراً..
نظر إلينا ضابط من وراء الزجاج، ثم قال للجندي الذي أخذ جوازاتنا: لا تؤخّر العائلات..
نظرتُ إليه نظرة امتنان، ثم نزلنا نحو الجندي الذي دعانا للنزول قائلاً:
دقيقتان فقط.
جاء الجنود والكلاب وبحثوا وشمّوا ولم يجدوا شيئاً ممنوعاً، سألني: ماذا تحمل في حقائبك؟
ملابس، وهدايا، وبعض الكتب.
قال كمن لدغه ثعبان:
- كتب؟؟
- نعم.. كتب في الأدب..
- يجب أن نراها..
أشرت إلى الحقيبة.. أخذها ودخل الغرفة الزجاجية ثم خرج من دونها:
- هل رأيتها؟
- سيراها الضابط.
- والجوازات.
- انتظروا هناك..
* * *
دفعت قبل الانطلاق في دائرة مرور "العين" ما يعادل ثلاثة آلاف ليرة لتسفير السيارة، كما دفعت في الصناعية حوالي خمسة وثلاثين ألفاً.. شرحت ذلك لأبي بهاء.. قلت له ما زلنا في مكاننا فقال مبتسماً.. تصليح السيارة ليس خسارة على الإطلاق.
* * *
قال الدكتور أمان:
- ضع ما تريد من الأمتعة والأغراض والهدايا في سيارتك..
- حمولة سيارتي القصوى 700 كيلو غرام.. ووزني مع العائلة حوالي 400.
- إذاً احمل ما تريد.. ولكن إياك أن تحمل الكتب الممنوعة..
- وهل من المعقول أن أحمل كتاباً ممنوعاً في مثل هذه الرحلة..
- كل شيء ممنوع تقريباً.
- أعرف: كتب الجنس والسياسة والإرهاب.
- والقبائل والعشائر والملوك والسلاطين.
- وغير ذلك؟؟
- الكتب التي لا يتقبلها مزاج الرجل الأميّ الذي يقف على الحدود.
* * *
كان البيت مساء أمس يشبه خلية نحل.. يملؤها نشاط الساعات الأخيرة.. وينغصها الخوف من المجهول.. البنتان تساعدان أمهما، والولدان يساعدانني في إعداد حقيبة الكتب التي سأحتاجها في دمشق.. اخترت بعناية ثلاثين كتاباً لا تمسّ أحداً بسوء..
غير أنني حين عدت للتدقيق وجدت كتاباً يتحدث عن الملل والنحل، وثانياً يتناول القبائل العربية، وثالثاً يناقش أزمة العقل العربي، فقررت إعادة تقييم الكتب، فانخفض عدد الكتب المرشحة لاجتياز الحدود إلى تسعة، لا يأتيها الرقيب من بين يديها ولا من خلفها..
جاءت ابنتي الصغيرة راكضة وهي تحمل كتاب (أجمل نكت 2007) قائلة:
- بابا هذا الكتاب لي.. وهو صغير وخفيف كما ترى..
- حاضر.
ناولني ابني رواية لعبد الرحمن منيف وقال: كنت تقرأ فيها مساء أمس.. ألا تريد أن تأخذها..
سامح الله ابني يريد أن نقضي إجازتنا على الحدود..
* * * *
- يا عم خلفان.
- نعم يا ظبية.
- هل تقبل الكتاب هدية مني؟
* * *
أمّ العيال لم تكن تريد أن تفكّر في الموضوع منذ البداية.. فالأطفال صغار ولا يحتملون حرارة الصحراء، قلت لها نشّغل مكيف السيارة طوال الطريق.
- ولكن المكيّف لا يعمل منذ خمسة أشهر.
- سأصلحه.
- وحرارة السيارة ترتفع إذا وقفنا على إشارة المرور.. ربما نقف في طابور السيارات ساعتين على الحدود.
- سأصلح كلّ شيء..
- يا بن الحلال.....
- سنسافر برّاً..
هكذا وجدنا أنفسنا وجهاً لوجه مع الصحراء والحدود وخلفان.
* * *
- يا عم خلفان.
- نعم يا ظبية.
- هل تقبل الكتاب هدية مني؟
- شكراً لك يا ظبية.
* * *
قال أبو عاصم:
هذه إحدى حقائبي أرجو أن توصلها معك إلى دمشق.. لأن معي وزناً زائداً.. هنيئاً لك يا عم فأنت ستسافر برّاً، وبسيارتك الخاصة، وليس هناك من يوزن عليك حقائبك..
- حاضر.. حاضر.
قال أبو عدنان، وأبو فاضل ، وقال آخرون..
* * *
في الثامنة والنصف مساءً جاءني ضابط أراه للمرة الأولى، وهو يحمل كتاب (أجمل نكت 2007) وأعطاني إياه بودّ..
- أخي هذا الكتاب تستطيع أن تأخذه.. أما الكتب الأخرى فهي مصادرة..
- لا مشكلة.. كلها مصادرة.. بسيطة.. المهم أن نذهب.
لا يستطيع أحد أن يتصور فرحة ابنتي بعودة هذا الكتاب، كبرت فرحتها في صدري، وفي صدر أمها، فاستعاد الجميع حيويته، وانطلقنا من فورنا إلى النافذة لنأخذ الجوازات التي أمر الضابط بأن يتم الإفراج عنها..
قال جندي نراه للمرة الأولى:
- دقيقتان فقط..
عاد الجندي بعد دقيقتين، وأعطانا الجوازات، ثم نظر إلى يدي ابنتي اللتين تحضنان كتاب النكت، وقال لي:
- هل تسمح أن أرى الكتاب؟
- ماذا؟
قالت له ابنتي:
- تفضّل.
- شكراً يا ظبية.
- اسمي صَبَا..
- عاشت الأسامي يا ظبية..
هجّأ النكتة الأولى بصوت مرتفع، وضحك ضحكاً عالياً، ثم راح يهجّئ نكتة ثانية وثالثة..
- نريد أن نذهب.
- انتظر قليلاً على أخيك خلفان.. أستطيع أن أقرأه خلال أقل من ساعتين.
أرتال السيارات تتجمع خلفنا، وخلفان مشغول بقراءة النكت..
فجأة قالت ابنتي بعينين راجيتين:
- يا عم خلفان.
- نعم يا ظبية.
- هل تقبل الكتاب هدية مني؟
- شكرا لك يا ظبية.
- إذاً.. ننطلق.
- الله معكم.
* * *
الوجوم يسيطر علينا جميعاً، وابنتي الصغيرة دامعة العينين، والجميع يطالبونني بالإسراع إلى أقرب استراحة، فهم متعبون، وجائعون، ومثاناتهم ممتلئة، أما أنا، فقد كانت مثانتي ممتلئة أيضاً إلا أنني كنت أفكر أن أفرغها في مكان آخر..

30/11/2007