لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: الرجال والظلال

الرجال والظلال


د. يوسف حطيني

إلى عملاء الاحتلال:
اُنظُروا في المرايا"


طفل ما يتوكّأ على ظلّه والظلّ يرقص مثل قطرة ندى..
تكبر أحلام الكَرْمي يوماً بعد يوم.. وظلّه الصغير يرافقه مثل ظلّه!
الكَرْمي (1):
لا أحد يعرفه أكثر مني، منذ نعومة أظفاري وضفائري كنت أراوغه، أركض أمامه فيتبعني، أحفظ جدول الضرب، أردده على مسمعه فيردده، ثم يتبعني إلى المدرسة، ويقدّم معي الامتحان، وأنجح، وآكل الحلويات وحدي، بينما يكتفي هو بأكل ظلالها.
الكَرْمي (2):
لا أحد يعرفه أكثر مني، منذ نعومة أظفاره وضفائره كان يراوغني، يركض أمامي فأتبعه، يحفظ جدول الضرب، يردده على مسمعي فأردده، ثم أتبعه مكرهاً إلى المدرسة، وأقدّم معه الامتحان، وينجح، ويأكل الحلويات وحده، ولا يترك لي إلا ظلالها.
الكَرْمي (1):
عندما صرت في الصف التاسع، شاركتُ في المظاهرات، ضربت الجنود بالحجارة، كتبت على جدران المخيم: عاشت فلسطين حرة عربية.. تعرّفت في أزقة المخيم على سناء، وقبّلتها في آخر الحارة الفوقا ولم يرني أحد إلا هو، ولم يسمع خفقان قلبي إلا هو، فقد كان يلازمني حتى عندما أذهب إلى الحمّام، قبّلتها قبلة لذيذة طويلة، انتبهت بعدها فزعاً إلى ظلّين متعانقين، تبّاً له، إنه يقلّدني في كلّ شيء..
الكَرْمي (2):
عندما صار في الصف التاسع شارك في التظاهرات، كتبَ شعارات وطنية على الجدران، تعرّف على سناء، وقبّلها، ولم يترك لي إلا ظلها البارد، هذا ليس عدلاً.. أريد أنثى حقيقية.. أنثى من لحم ودم، أكره هذا الجسد المسفوح على تراب المخيم، مثل جثة باردة..
لقد سئمت من مرافقته، أحبّ أن أحدّد بنفسي ميعاد نومي ويقظتي، وتفريش أسناني وركضي وسيري، لا أريد أن آكل حين يجوع، وأن أشرب حين يعطش.. مللتُ منه ومن نفسي ومن الببغاء..
لا بدّ أن أتخلص منه حين تحين الفرصة.
* * *
الليل:
الكَرمي مثل غيره، مجرّد مخرّب حقير، يجب علينا أن نقنع ظلّه أن يكون ظلاً.. لنا.
* * *
فتى ما يتوكّأ على ظلّه والظلّ ذئب ماكر.
* * *
"إس.. م.. إس"
"سيقتحم الكَرْمي هذه الليلة مستوطنة غوش قطيف مع مجموعة من رفاقه، لا تنسوا خدماتي".
* * *
رجل ما يتوكأ على ظله.. والظل رمح مسموم
* * *
هي المرّة الوحيدة التي تخلّى فيه الظلّ عن الكَرْمي، تركه يمضي مع رفاقه إلى الكمين الذي ينتظره، وهناك على حدود المستوطنة جرت معركة كبيرة بين جيش الاحتلال والفدائيين، وسالت دماء كثيرة من الطرفين.. وأحس الكَرْمي بالفجيعة حين اكتشف الخدعة الماكرة، أراد أن يصرخ ملء الفضاء: انتبهوا للظلال، ولكن طلقة أخرى عاجلته لينضمّ إلى قافلة العطاش التي تريد أن تشرب من نبع الوطن ماء عذباً صافياً.
* * *
يتكئ الكَرْمي على أريكة خضراء، تحت ظلال الأشجار الوارفة، إلى جانب عزّ الدين القسام وأحمد ياسين ومحمد الدرّة، يحلمون بجنة أخرى.. أما ظلّه البائس فقد حاول أن يكون ظلاً لشجرة أو نملة أو حصاة صغيرة، غير أنه لم يستطع ، لأنه وجدها جميعاً محاطة بالظلال البائسة..
وما زال ظلّ الكَرْمي يبحث حتى الآن عن مرآة ليبصق في وجهها.

6/5/2008