لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: هاتف الغربة

هاتف الغربة
يوسف حطيني

- هلو.
- أهلاً وسهلاً..
- مساء الخير.
- مساء الخير.
- كيفك؟
- بخير.. ولكنني لم أتشرف بمعرفتكِ.
- مستعجل؟
- اعذريني.. لا وقت لديّ. فمن تكونين؟
- معجبة بك.
- قلت لا وقت لدي.. هل تفضّلين أن أغلق الخط.
- انتظر لحظة من فضلك.
- أريد أن أنزل لتناول العشاء، فاتركيني رجاءً.
- صحة وهناءة.. إذاً سأتصل بعد العشاء، بالمناسبة أنا جارتك في الفندق.
- تشرفنا، ولكن لا تتصلي بي مرة أخرى.
- سأتصل بعد العشاء.
(2)
كان العشاء عادياً، بطاطا مقلية وشرحات وبعض المقبلات، كان لا بد من كأس شاي حتى يضفي الألفة على هذه الجلسة الموحشة التي أخرجها من عزلتها هاتف مفاجئ، لامرأة لا أعرفها، ولكنني أشم من صوتها رائحة بحر بيروت وساحة البرج. حين تتصل سأقول لها إنني لا أستطيع أن أجرح مشاعرها، لذلك فأنا غير قادر على إغلاق السماعة في وجهها، وغير قادر على أن أكون فاحشاً، وغير قادر – وهذا هو الأهم - أن أسكب في أذنيها كلاماً رقيقاً. لذلك ليس لديها خيار في أن تتركني وأن تبحث عن رجل يرضى أن يكون فريسة وصياداً في الوقت ذاته.
سأقول لها أن هذه ليست طريقة حضارية في التعارف:
"أنت جبانة بالتأكيد.. لأنك غير قادرة على مواجهة الآخرين، وأنا أراهن أنك تخافين من مواجهة أي رجل، ولكن الهاتف، حيث لا عين رقيبة، ولا أذن حسيبة، يجعلك أكثر شجاعة مما أنت في الواقع.. أسمع كلماتكِ الدافئة نشيد صرصارٍ أدمن الظلام فصار يخاف نور الشمس.. وأنت أيتها الجميلة لن تكوني سوى ظلٍّ باهت لرجل شرقي يغلق فمك بأمر من سلطته الملكية..
أنصحك أيتها الجبانة أن تكوني كما أنتِ في السرّ والعلن.. أنصحك أن تجدي شاباً تحبينه تحت ضوء الشمس، وعندها ستكونين أكثر إثارة لإعجابي، وفي الحالين فأنا لا أرغب أن أحصد نتائج نصيحتي.. ولا أرغب في أن تتصلي في مرّة قادمة".
سأقول لها، حين تتصل بي بعد قليل أن تتركني لعملي وأحزاني الصغيرة والكبيرة، فأنا في حاجة ملحّة إلى نوم حقيقي، نوم عميق في حقل من حقول الذاكرة الدمشقية الخضراء.
(3)
أمر غريب حقّاً.. قالت إنها ستتصل بعد العشاء، وقد مضى على العشاء أكثر من ساعتين، وها هي ذي تترك الليل ليمتد خنجراً يمزّق طمأنينتي ويحيل بقايا صمودي في الغربة بيت عنكبوت قلق، تبدو لي مواعيد تلك المرأة برقاً راعداً لا مطر بعده، ولكن شوقاً غامضاً يدفعني لسماع صوتها، صوت شحرورة الوادي بينما يحيط بي السكون كثلج أبيض في صباح يكون فيه مواء القطط على أشده، وقطتي الجديدة لا تريد الاتصال، ما كان علي أن أصدّها بهذه القسوة، كان من الممكن أن أسألها عن اسمها، أن أتأكد أنها لبنانية، أن أحمي نفسي من سخريتها حين ستجعل مني حديث سهرتها مع صديقاتها..
تباً للعجلة، أردت أن أثبت لها أنني رجل لا يهتم بالأمور التافهة، وقد أثبت لها ذلك، ولكنني خسرتها، خسرت فرصة ربما لا تعوض، ربما لن أجد امرأة أخرى أشرب معها فنجاناً من القهوة، أو أتناول معها البيتزا في مكان ما، مثلما يفعل الجميع، ربما لن أجد من أحدثها عن غربة تسحق ما تبقى في قلبي من الصبر.. ربما لن أجد امرأة أخرى، فأنا جبان، لا أستطيع أن أبادر امرأة جميلة بالإعجاب، ربما كانت فرصتي الأخيرة التي لم أحسن استغلالها.
أنا أكيد أنها ستتصل.. لقد قالت ذلك، لن تتركني فريسة للوحدة وسلحفاة الانتظار، جبانة ووقحة وناكثة للوعد أيضاً.. أية أقدار ألقت بي بين براثنك التعسة أيتها اللعوب؟
أقلب صفحات من مجموعة قصصية لزكريا تامر، أقرأ "النمور في اليوم العاشر" دون أن أفهم شيئاً كثيراً.. غير أنني فكرّت حقاً أن أكون نمراً يقظاً عصياً على الترويض، أما أنت فربما تنامين الآن قريرة العين، أو ربما تمارسين هوايتك المفضلة في الاتصال بالآخرين مثلما فعلت بي تماماً.. كان علي أن أسألك عن اسمك.. سأسميك عنود.. لأنك عنيدة لا تتصلين، عنيدة مثل هاتفي الصامت الذي لا حياة فيه.
تحملني صورة العائلة آلاف الأميال نحو الشام: زوجتي الرائعة، طفلاي وطفلتاي، وشوارع دمشق وبقايا بردى والزمن الذي انسرب بعيداً عن الأمنيات، أقلب المحطات التلفزيونية المختلفة دون تركيز: الكونغرس الأمريكي يصادق على قرار يعتبر القدس عاصمة لـ"إسرائيل"، الوساطة تفشل بين الحكومة والانقلابيين في ساحل العاج، والسودان يتهم أريترية بمساعدة المتمردين، صبية جميلة تكتشف أن لا قيمة لمدينة أفلاطون الفاضلة بلا مكيّف "كرافت"، فجأة يداهمني سؤال شبق يشبه صوتك: ترى هل تستطيعين التثني بقوامك اللدن مثلما تفعل هذه المطربة الجديدة أمامي على الشاشة.
أين أنتِ يا عنود.. أين صوتك الجريء يغمر سنواتي الأربعين بالتردد والحيرة، لو أنك جئت قبل خمسة عشر عاماً.. قبل عشرة أعوام لكان لي معك شأن آخر.. ولكنني الآن لا أستطيع.. اتصلي فقط حتى أقول لك إني لا أستطيع، لا تحرميني من فرصة الردّ عليك، لا تتركيني وحدي في حضرة ليل وغربة وفنجان قهوة.. الأخبار توتّر أعصابي وكذلك النساء.. وأنتِ لا تتصلين، أخبار الثانية بعد منتصف الليل لا تحمل أي خبر عاجل يمكن أن يرفع معنوياتي، والدوام في الجامعة لا يرحم، ومع ذلك فأنا أقدّر أنك فتاة ذكية، ستتصلين صباحاً قبل الثامنة، ولن تتركيني أنتظر..


(4)
عينان من خوخ أحمر، وجه عجوز هرم يرشه صاحبنا بالماء ولكن النعاس لا يريد فكاكاً، لعن الله أبا الدوام، فكّر أن يبقى في البيت، فربما اتصلت عنود وليس من اللائق أن يحرمها من نصائحه، من أجل مصلحتها..
تماماً.. مثل قدر مفاجئ جاءه الرنين، فقفز من السرير..
أخيراً رنّ جرس الهاتف، رفع السماعة.. و مثل قدر مفاجئ أيضاً جاءه صوت عصفورة شرقية من بعد آلاف الأميال:
"صباح الخير بابا".
عندها فقط أحس أنه يسير في شوارع دمشق الخضراء، وأن بردى يمتد عميقاً في عروقه، فحمل حقيبته منطلقاً نحو الجامعة يحدوه أمل في أن يتصل به كلّ صباح بلبل دمشقي بعيد.

7/10/2002