لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الخميس، 29 أكتوبر 2009

دراسة: الفضاء في الرواية الفلسطينية

الفضاء في الرواية الفلسطينية


د. يوسف حطيني



«آه، تلك الصَّخرة! ستُّ سنوات أو أكثر قدمرت، وهي ماتزال أمام عيني، رمزاً مغرياً بالانزلاق إلى طوايا الذَّاكرة وشوارد الوهم»
البحث عن وليد مسعود ـ جبرا
ثمّة مفهومات متداولةٌ للفضاء الروائي، يختلف بعضها عن بعضٍ اختلافاً بيّناً، يعود غالباً إلى اختلاف زوايا النظر إليه من قبل النقاد. غير أنه يمكننا تقسيم الفضاء إلى ثلاثة أقسام رئيسة. هي: الفضاء الجغرافي الذي يُبرز المكان، بوصفه إطاراً جغرافياً للحدث الروائي، والفضاء الدلالي الذي ترتبط دلالته، وبرؤية الكاتب، إضافة إلى الفضاء النصّي الذي يهتمّ بالتشكيل النصّي الطباعي.
§ الفضاء الجغرافي
ويعني الفضاء الجغرافي الحيّز المكاني الذي يُؤطر الرواية، وبالضرورة، ثمّة حدّ أدنى من الإشارات الجغرافية في كل رواية، يجعل القارىء يتصوّر المكان الذي تنتجه حكاية الرواية. ومن المناسب أن يتمّ التأكيد هنا أن دراسة الفضاء الجغرافي لا يمكن أن تنفصل بحالٍ عن إحالاته المرجعية: الواقعية والثقافية والاجتماعية والتاريخية. فهو فضاء يحيل على المرجعي بكل لوازمه، ولكنه لا يُطابقه بالضرورة، وهو يستقصي المدن والقرى والشوارع، كما يدخل إلى البيوت، ويُعنى بالغرف وتأثيثها، وكيفية اشتغال الكاتب على هذه العناصر المكانيّة.
§ الفضاء النصّي:
إن الفضاء النصي هو الحيز الذي تشغله الحروف الطباعية على الورق، وقد استقصى النقد الحديث هذا الفضاء إذ دُرسَ شكل المطالع، تنظيم الفصول، واستخدام لغة أجنبية بين السطور، وتنوّع الخطوط، ووضعها في الصفحة.(عمودي ـ أفقي)، والهوامش، والبياض... الخ، غير أن المرء لا يمكن له أن يطمئنَّ إلى الجدوى الكبيرة لمثل هذه الدراسة في الرواية، إذ تتمّ الطباعة، في غالب الأحيان، وفق حدٍّ أدنى من المعرفة بالتقنيات. بيدَ أن هذه الدراسة مضطرة إلى خوض هذه المغامرة لأن بعض الكتاب الفلسطينيين (إميل حبيبي ـ غسان كنفاني ـ أفنان القاسم)، قد اهتموا بهذا التشكيل، وبطرقٍ مختلفة، ولأن لوحات الأغلفة لا تُمكن دراستها منهجياً، إلا ضمن هذا الإطار.
§ الفضاء الدلاليّ:
عندما يشكل الروائي فضاءه الروائي، فإن ذلك ينطوي على أهمية كبرى، لأنّ هذا الفضاء، مراقبٌ، من حيث المحصلة العامّة، من الروائي نفسه، ويكوّن بالتالي محرقاً رؤيوياً يختفي خلفه الكاتب، ويصبح تشكيله خُطّةً عامةً تُحيل على منظور الكاتب، ذلك أن الكاتب يُنيط بالفضاء وظائف متعددة إزاء النصّ والراوي والقارىء.
ويشار هنا إلى أنّ الفضاء الدلالي لن تتم دراسته بشكل منفصل، لأن تتبع مدلولاته يعني البحث عن تجليات هذه المدلولات في الفضاءين الجغرافي والنصي.
ومن المناسب، في هذه المقدّمة، أن يتمّ التنبيه على أن كلمة «المكان» لا تبدو ذات دلالة دقيقة عّما يمكن أن يُدرس تحت عنوان "الفضاء الروائي”، فالمرء لا يمكنه أن يتحدّث عن مكان واحد في الرواية، حتى إن المكان الواحد قد يكون عُرضة لـ"التعدّد" وفقاً لزوايا النظر المختلفة للشخصيات، وللروائي أيضاً، فالمكان، إذاً، ليس "مكاناً جغرافياً" بل هو "مكان روائي" بكل ماتعنيه الكلمة.
فإذا أضيف إلى مجموع الأمكنة الروائية (أو المكان المتعدّد) مفهوما الدلالة الممتدة للمكان، والتشكيل الطباعي، وإذا أُخذ البعد الرابع للمكان ـ وهو الزمن ـ بعين النظر، اتّضح أن مفهوم الفضاء أكثر قدرة على التعبير، من مجموعة «الأمكنة» السابقة بأبعادها كافّةً.
إن الفضاء الروائي لا يُوجد خارج حدود الفعل، ولا يمكن أن نرصد فضاء روائياً إلا من خلال اللغة التي تصوّر حدثاً، أو تنتظر حدثاً من خلال شخصية تنقذه، إذ " لايتشكل المكان إلا باختراق الأبطال له(1) ". بل إن الفضاء الروائي ـ والجغرافي بشكل خاص ـ هو الذي يرهص بالأحداث، ويحدّد، في كثير من الأحيان مستقبل الشخصيات، بل قولة الرواية برمتها.
وقد ازداد الاهتمام ببناء الفضاء الروائي، نظراً لأهميته المتعاظمة، ونجح الأدب في الغرب، خاصةً بعد الحرب العالمية الثانية، في تطوير الرواية باتجاه الاهتمام بالفضاء، وتأثيثه، باهتمام بالغ، إلى درجةِ نشوءِ روايةٍ تجعل تأثيث الفضاء همّها الأوّل، ومن ذلك ماعُرف بالرواية الشيئية الفينومينولوجية "تلك الرواية التي أحلّت "المكان" محل "الزمان" بدعوى أن وجود الأشياء في المكان إنما يعدُّ أكثر وضوحاً، وأعظم رسوخاً، من وجودها في الزمان"
(2) . ولابد من الإشارة هنا إلى الجهود الروائية والنقديّة. لميشيل بوتور من أجل إثارة اهتمام أكبر بتشكيل الفضاء الروائي. فقد امتاز عالمه الروائي بالتأثيث، فيما امتازت بحوثه النقدية بالدقّة والاستقصاء(3).
أولاً: مواصفات الفضاء الروائي الفلسطيني:
أ ـ مفهوم الوطن والحلم:
يقوم كلُّ فهم للفضاء الروائي في الرواية الفلسطينية على مفهومي الوطن، والمنفى، مما يمنح هذا الفضاء خصوصية تميزه عن أي فهم جماعي آخر للفضاء. فالتجربة الفلسطينية في النفي، بما تعنيه من تهجير شعب، وقيام دولة مستعمرة استيطانية على بقايا أشلائه، فريدة في التاريخ الحديث الذي عرف أنواعاً مختلفةً من الاستعمار، إذ يعطينا التاريخ نماذج من استعمار شعب في بلده، وفي أسوء الأحوال يتمّ نفي عدد محدود من النشطاء الوطنيين خارج حدود البلاد المستعمرة.
وتبعاً لهذا التفرد في الوضع الفلسطيني قام الخطاب الروائي الفلسطيني برمته على الإحساس المؤلم بالفضاء ونهض مفهوم الفضاء على أساس التناقض بين ماكان، وما هو كائن: بين حلم الوطن وحقيقة المنفى. لذلك احتلَّ تصوير الفضاءالروائي، والجغرافي منه على وجه الخصوص، مكانةً مميزةً في الأدب الفلسطيني عموماً، وفي الرواية خصوصاً.
وتمكن الإشارة هنا إلى رواية سحر خليفة (لم نعد جواري لكم) لندلل على اهتمامها بإنشاء الفضاء، على الرغم من انشغالها بالإيديولوجية النسوية، وذلك من خلال الافتتاح التالي الذي قدّمت به روايتها، إذ إننا نقرأ في مطلع الرواية هذه السّطور في وصف مكتبة في رام الله:
"من خلال أشجار السرو الداكنة الخضرة، الممشوقة القدود، ظهرت البناية الكبيرة بقرميدها الهرمي الأحمر، مذكرة بالكنائس العتيقة الضخمة التي ترصّع جبال القدس وهضابها.
لم تكن البناية كنيسةً، ولم تكن المدينة بيت المقدس»
(4) ويخيل للقارىء أن هذا السياق الخطابي، بأسلوبه الشعائري، يحمل كثيراً من أحلام الروائية بفضاء من الأمل تملؤه حنيناً تشرخه وتزيده اتقاداً المسافة الفاصلة بين الوطن والمنفى، وبين سطوة الواقع والأحلام.
وتمكن الإشارة هنا أيضاً إلى رواية (شارع الغاردنز) للدكتور أفنان القاسم التي تُعدُّ (رواية فضاء) بامتياز، إذ إنّ العنوان، وصورة الغلاف والأحداث والأمكنة المتعددة، من مدن وقرى، وشوارع وآبار وسجون وملاهٍ، تدلّل كلّها على أهمية الفضاء، يضاف إلى ذلك أنّ هذه الرواية، التي هي بالأساس رواية شخصية، تطلبت من القاسم أن يحمل لنا في أسطر روايته إحساساً بامتلاء المكان امتلاءً بالغاً غير عادي
(5).
وثمة تجارب روائية فلسطينية أخرى ركّزت على هذا العنصر الخطابي، مشيرةً إلى صورة الوطن، بوصفه حلماً بعيد المنال، ففي رواية (بحيرة وراء الريح) ليحيى يخلف، التي ترصد نضال أهالي طبرية، ومعاناتهم تنسرب صورة الوطن، ومعالم فضائه، فبحيرة طبرية تتسلل إلى أحلام نجيب في النسق الخطابي التالي:
"نام نجيب في الظهيرة، نام واستغرق في النوم، فرأى في أحلامه البحيرة، وحقول الباذنجان، وبساتين الموز والليمون، رأى الأمواج تناطح الصخور..."
(6).
وإذا كان نجيب قد رأى طبرية، وتذوق حلاوة الوطن الهارب منه، ونكهة الباذنجان والموز والليمون، وسوّغ حبّه لها بالرؤية والمعايشة، فإن الراوي في رواية (وقت) لجمال ناجي يحبّ جغرافية فلسطين: مدناً وقرىً وبيوتاً، دون أن يعرف طبيعة هذا الحبّ، فيبدو مربوطاً إلى تلك الذكريات الجغرافية غير المعاشة بحبل سري متين:
"لا أعرف تلك القرية التي يتحدث أبي عنها، ولا ذلك البيت المحاط بأشجار البرتقال والليمون، أعرف برتقال الصناديق والبسطات، لكنني لم أر حبّة برتقال تتدلّى من غصن شجرة (كحبّة ندى) مثلما قال أبي! ولكن لماذا أحببتُ تلك القرية؟ لماذا تحوّلت إلى أمنية غالية؟»
(7)
ويستطيع المرء أن يطالع الإحساس ذاته، في حديث زيد، في رواية (ليل البنفسج)، عن قرية بيت محسير في القدس:
"أنا لا أذكر شيئاً عن قريتنا، فلم يتعَدَّ عمري أشهراً معدودةً حين اضطر أهل قريتنا إلى النزوح عنها، في الثالث عشر من أيار عام 1948، إلا أنني أحسّ بانتماء حارٍّ لكلّ ذرة من تراب بيت محسير"
(8) .
وإذا كانت لغة الاستشهاد الأول أكثر التصاقاً بمكنونات النفس المشردة من الثاني، فإن الاستشهادين كليهما يدلان دلالة واضحةً على أرق الفلسطيني ونزوعه الدائم نحو أرضٍ يسعى أن يجد نفسه فيها.
إنه حنين للمنزل الأول الذي لم يعش في ذاكرة الفلسطينيين الذين ولدوا لاجئين إلا من خلال أحاديث الآخرين، إذ إنّ الذين رأوا فلسطين وعايشوها لم يستطيعوا أن يخرجوها منهم، فكانوا كالسلحفاة التي تحمل بيتها معها أينما تسير، ولكن بيتها لم يكن جدراناً، وسقوفاً، بل كان أحلاماً وشعراً وأحاديث.
إنّ البيت الفلسطيني الذي اختزنته ذاكرة الأدب يبدو مثل عشّ من أعشاش باشلار، إذ إنه (المأوى الطبيعي لوظيفة السكنى. إننا لا نعود إليه فقط، بل نحلم بالعودة إليه"
(9) .ولكن البيت الفلسطيني المستلب، إلاّ من ذاكرة الفلسطينيين، هو في حقيقته الصورية كالعش تماماً (هشٌّ ولكنه يدفعنا إلى أحلام يقظة الأمان)(10) .
ب ـ صورة المنفى:
وبالمقابل، فإن صورة المنفى تبقى ضرورة من ضرورات الأدب الفلسطيني، تحاول أن تلجم أحلام الفلسطينيين، وتشدهم إلى الواقع. ولعل قلق الاستقرار في المنفى، يحمل أيضاً، في قرارته، قلق الوجود في نفوس الفلسطينيين، حتى طقسا الولادة والموت، أصبحا طقسين مخيفين، يفصحان عن قلقٍ مكاني. يبيّن بطل رواية "الفلسطيني" لحسن سامي اليوسف قلقه الوجودي، إذ يثير هذه التساؤلات بحساسيّةٍ بالغةٍ حدَّ النداء الموجّه إلى الكون جميعاً:
«أبي ولد في ضواحي الناصرة، ومات في بعلبكّ، وأمي ولدت في ضواحي طبريا، وماتت في إربد، وأنا لا أتساءل عن الزمان الذي سأموت فيه، ولا عن الطريقة التي سأموت بها. هذه أشياء لا تهمني (...) ولكني أتساءل عن مكان موتي. أين سأموت »
(11).
قلق الموت ناجم إذاً عن عدم وجود القبر، إذ لا يابسة تتسّع لأحلام الفلسطينيين في التحرر سوى ما استلبَ، والبحر لا يحلُّ المشكلة فهو عدوّ لدود للفلسطينيين: لقد ساهم في إجلائهم عن فلسطين عام 1948، وعن لبنان عام 1982، وكان مسرحاً لكثير من العمليات العسكرية التي نفذها الصهاينة.
من هنا برزت صورة البحر في الرواية الفلسطينية مثبطةً لأحلام الفلسطينيين، وهو الذي يقودهم من هجرةٍ إلى أخرى، ومن منفى إلى آخر، وربما بدا البحر في أحوال قليلة حلماً، يحمل في ثناياه مستقبلاً مجهولاً، ولكنه محمل بأمل غامض، في رواية (الوداع) لعوض سعود عوض يرد وصف البحر على الشكل التالي:
"ياأيها البحر، ياصاحب الزرقة والجلالة، على ظهرك سأقطع المسافات، وأطوف بلاداً جديدة، كم حلمت أن أصعد أمواجك، أجتاز خطّ الأفق والسموات السبع..."
(12) .
لذلك من الطبيعي أن يشعر الفلسطيني في منفاه أنه مجرد بحار، ينتظر الوصول إلى اليابسة، إلى أية أرضٍ يضع عليها أمتعته وأحلامه، ولكن هذه الأحلام لا تجد غير البحر لتدفن فيه. ويمكن رصد هذه الصورة في رواية (الزورق) لحسن سامي اليوسف إذ يرد السياقان اللغويان التاليان:
ـ «فأنا مجرّد بحار (...) عنواني بحر تلو بحر تلو بحر».
ـ "أريد اليابسة. لن أبقى في البحر إلى الأبد"
(13).
لقد أصبح البحر مثيراً للخوف، بعد أن كان يعني في زمن مضى العيد والصّبايا والضحكات... حتى إن منظر البحر الغريب صار يستجلب في بعض الأحيان صورة بحر الوطن. ففي رواية (على الدرب) لإبراهيم يحيى الشهابي، يقف بحر الغُربة، في مقابل بحر الوطن الأليف. فعلى الرغم من أن شاطىء الخليج شاطىء عربي، وعلى الرغم من أنّ الراوي والروائي مخلصان للعروبة، بل منظران لها، فإنّ هذا الخليج لم يستطع أن يحل مشكلة الحنين، ذلك أن الألفة لا تلغي الحنين إلى المنزل الأوّل. فحين جلس خالد على شاطىء الخليج في الكويت ليريح فكره وأعصابه تذكر خليج عكا، "فالبحر أمامه يذكره بخليج عكّا يوم كان تلميذاً داخلياً هناك، وحين كان يجلس على سور المدينة يتأمل بحرها، وصيادي السمك"
(14).
إنّ هذه الصورة المخيفة للبحر بما يحويه من رموز الرحلة الدائمة في التجربة الفلسطينية، لا نجدها مكررة في الرواية العربية، فالبحر على الرغم من خطورته صاحب وصديق. لقد كان البحر في رواية (الشراع والعاصفة)
(15) لحنّا مينه الملاذ الأخير للطروسي الذي قرّر أخيراً "أن يعود إلى البحر الذي لا يستطيع أن يعيش بعيداً عنه (...) وبذلك يؤكد لنا مرة أخرى استقلاليته وحبّه للحرية الذي لا حدود له"(16).
وواضح هنا أن البحر ليس صديقاً للطروسي فحسب ولكنه أيضاً صديق لحنا مينه الذي عاشر البحر طويلاً وسكب روح البحر في دواخل شخصياته فزكريا المرسنلي، بطل رواية (الياطر) يحمل للبحر تلك الصورة الجنسية اللذيذة، إذ يعني البحرُ له الاستثارة والجسد المشتهى. فحين يعرض مينه صورة تلك المرأة التركمانية التي تركها زوجها فريسةً للوحدة، بعد أن ذهب إلى الأناضول، يبدو جسد المرأة عند البحر أشهى لدى زكريا من الفعل الجنسي ذاته:
"أما أنا فقد خرجَتْ جنِّيَتي من الغابة، دافئة وشبقةً إلى حدّ الصرع، وقد كانت معي، بين أحضاني، ولكنني لم أكن أتمتع بفتنة جسدها كما تمتعتُ وهي على الشاطىء تغوص، كما قرصُ الشمس في الماء وتختلف عنه أنها بيضاء، حليبية في ضوء القمر، وجسمها على البُعد، يبدو ممشوقاً، مصقولاً، لامعاً، وردفاها مدورين، وشعرها يتدردر على ظهرها.
حبستُ أنفاسي، سألتُ الله أن تستدير إليّ بوجهها لأرى صدرها ونهديها، ولمّا حدث، قبل أن تغطس في الماء فقدت سيطرتي على أعصابي”
(17).
إذاً فصورة البحر تختلف في التجربة الفلسطينية، عن صورته في التجارب الأدبية الأخرى، فهو ليس مكملاً للبرّ، بوصفه إطاراً للحياة البشرية، ولكنه نقيض له. ولقد بدا هذا التناقض على أكثر من مستوى في الأدب الفلسطيني، وفي الرواية خصوصاً، إذ إنّ الفلسطينيين أفادوا من هذه الثنائية (البرّ # البحر) لتشكيل ثنائيات ضدّية كثيرة، تجاوزت مستوى البناء المكاني، إلى بناء الزمن واللغة والشخصيات، وكأنّ الفلسطينيين يريدون أن يحققوا نوعاً من التوازن، من خلال بحثهم عن عالم لا يكتمل إلا من خلال تضادّ عناصره.
لقد أشار كلود ليفي شتراوس إلى أهمية الثنائيات الضدّية حين رأى أن "بناء الكون يتمثل في مجموعة من الثنائيات التي تبدو متعارضة، ولكنها متكاملةٌ في الوقت نفسه، إذ لا يمكن أن يتم هذا التكامل، إلا من خلال هذا التعارض، والحياةُ مبنية على أساس هذا التكامل"
(18) .
وقد آمن الفلسطينيون بهذا التصور للثنائيات، وربما كان تصورهم هذا نابعاً من ظروفهم التي قلبت حياتهم رأساً على عقب، لتصبح أكثر العلاقات، والمكانية منها بشكل خاص، قائمةً على التضاد بين الماضي والحاضر.
ففي رواية (عائد إلى حيفا) لغسان كنفاني يدخل سعيد وزوجته المنزل الذي كان منزلهما قبل عام 1948، وهنا يعرض لنا الكاتب بكثير من الشفافية انطباع صورة الأثاث على مخيّلة سعيد، هذا الانطباع الذي يكشف عن تضادّ جوهري بين ماهو قديم أصيل، وماهو مستحدث بفعل الاحتلال الذي يحاول تزوير هوية الجرس، والستائر، والمزهرية.
"وحين صارا في غرفة الجلوس، استطاع أن يرى أن مقعدين من أصل خمسة مقاعد هما من الطقم الذي كان له. أما المقاعد الثلاثة الأخرى، فقد كانت جديدة، وبدت هناك فظّةً وغير متسقة مع الأثاث»
(19).
ثانياً: مكوّنات الفضاء:
أ ـ الفضاء الجغرافي:
إن تقسيم الفضاء الجغرافي إلى عدد من المكونات ليس أكثر من ضرورة منهجيّة، ومعلومٌ أن تداخل عناصر الفضاء فيما بينها لا يسمح، في كثير من الأحيان، بمثل هذا التقسيم، إلا نظرياً. فالغرفة الموصوفة جزء من البيت، والمحدّدات الجغرافية الصغيرة، ذات الوظيفة التأثيثية، يجب ألا تُؤخذ، في حقيقة الأمر، إلا محتواه ضمن محدداتها الأكبر. غير أنه لا مفر من مواجهة هذه الصعوبة لصالح التقسيم النظري.
وثمة صعوبة أخرى في التقسيم، يجد المرء نفسه مضطراً إلى اجتيازها، وهي أن تقسيم الفضاء الجغرافي في الرواية الفلسطينية، خاضع لظروف النفي القسري، فالبيت الذي يشتريه الفلسطيني في منفاه، على الرغم من اختياره إياه، يعدّ مكاناً اختيارياً للإقامة، ومكاناً جبرياً في آنٍ، لأنّ وجوده في المنفى هو محضٌ إجراءٍ قسريّ... وقد لجأت الدراسة، مجتازةَ هذه الصعوبة ومجتازةً خصوصية الوضع الفلسطيني الذي يربك الفضاء الذي تراوح بين الإجبار والاختيار، إلى تقسيم الأماكن إلى أماكن إقامة (إجبارية واختيارية)، وأماكن انتقال.
(20)
1ـ أماكن الإقامة
§ أماكن الإقامة الاختيارية:
إنّ البيت هو أكثر أماكن الإقامة الاختيارية وروداً في الرواية الفلسطينية، وثمّة إشارات محدودة إلى القصور، ومرد ذلك إلى عدم وجود أسر غنية، بشكل متواتر، في هذه الرواية. حتى إن وصف القصور يحمل غالباً شعوراً بالعداء تجاهها، مما يلغي الألفة التي نجدها في البيت. ذلك أنّ (البيت هو ركننا في العالم. إنّه، كما قيل مراراً، كونُنا الأول)
(21). فالأمن والحماية مرتبطان به، ومن فقد بيته، فقدَ الحماية، وعليه أن يبحث عن حماية جديدة/ بيتٍ جديد. وهنا تبدو مقدرة الروائي على وصف فضاء البيت، وتأثيثه، بحيث يُحدث الألفة، بعيداً عن التصنيف، إذ إنَّ التقسيم التصنيفي للبيت يُلغي أُلفته، ويسلب منه وظيفته الأساسية، ويمكن أن نطالع مثل هذا الوصف التصنيفي في رواية (البحث عن هوية) لمحمد زهرة، إذ يقدّم البيت/ الملجأ الذي وجدته عائدة في رحلة بحثها المحموم عن مكان للاستقرار، على الشكل التالي:
"دخلت عائدة البيت، ومشت عبر البهو الذي تحيط به غُرف أربع و"منافع" تفحصتها عائدة بسرعةِ الحذرةِ. ودخلت الغرفة المقصودة"
(22). كما قدمت نادرة الحفار في روايتها "الغروب الأخير" وصفاً تصنيفياً للبيت على الشكل التالي:
"سبحت عيناها [سارة] في البيت الصغير، غرفتان فقط، بينهما صالة متواضعة، غرفة نومٍ لها، وأخرى لهما، والصالة المتوسطة للجلوس، والطعام إن لزم الأمر، المطبخ صغير لا يتسع لجلوس ثلاثتهم. الحمّام الملحق به قديم، ربما لا يروق لسوسن الاستحمام به"
(23).
إن وصف المكانين السابقين ينظر إلى البيت بوصفه مجموعةً من الجدران والأثاث، يمكن وصفه تصنيفاً، والتركيز على الخارجي فيه، مما يعني في حقيقة الأمر تقييداً دلالياً كبيراً له.
على أنّ فخامة البيت لا تعني بالضرورة ابتعاده عن الأُلفة، لأنّ التوزيع المتقن للأثاث، وذكر التفاصيل الصغيرة هو الذي يعطي البيت رائحة الحياة، ويمكن أن نطالع، برهاناً على ذلك، وصف عارف آغا صالة بيت ثريٍّ في رواية (زهرة الصّبار)، فها هوذا والد تهاني يستقبل فارس الشاب الفلسطيني الفقير الذي جاء يخطب ابنته:
"قاده إلى صالةٍ فخمة، ودعاه للجلوس على أريكةٍ قديمة الطراز مطعمةٍ بالصدف. واستأذن لحظةً. بقي فارس وحيداً. وراح ينقل عينيه في أرجاء الغرفة. كل مافيها فخم ويوحي بالمهابة والقدم. ومن السقف تدلت ثريا نحاسية ضخمة"
(24) .
كما أنّ وجود الأثر الإنساني في بناء الفضاء البيتي يُمكن أن يُحدث أبلغ الأثر في أُلفةِ البيت، ويمكن هنا أن يُشار إلى السطور التالية من رواية (مذكرات امرأة غير واقعية) لسحر خليفة:
"وفي المساء كنتُ أطرق باب صاحبتي نوال، وارتميتُ على الصوفا الوحيدة، في الغرفة الوحيدة، وبقيتُ صامتةً أتأمل بيتها، وجوّها وكتبها، وتمثالاً صغيراً لرجل كبير بصلعة ولحية. وهذا باب يُفضي إلى المطبخ، وهذا باب إلى حمام. وهذا إلى مساحةٍ فيها سرير وخزانة ومن حيث أجلس، ومن النافذة، رأيت الناس في البلكونات ورأوني"
(25) .
§ أماكن الإقامة الإجبارية:
لا تقتصر أماكن الإقامة الإجبارية عند الفلسطينيين، خاصةً في الشتات، على السجون، بل تتعداها إلى أماكن إقامة كانت معروفة في بداية رحلة العذاب والتشرد. وهي أماكن الاستقبال التي عاش فيها اللاجئون الفلسطينيون إثر خروجهم من فلسطين. وقد كانت هذه المراكز الجماعية تفتقر إلى أدنى أسباب العيش، وهاهوذا حسن سامي اليوسف يرصد، في رواية (الفلسطيني)، صورة الشقاء الفلسطيني بُعيد النكبة، إذ تبدو الاصطبلات أماكن للإقامة:
"لم نحصل على مكان للإقامة إلاّ في واحدٍ من الاصطبلات الكثيرة، أعطونا مساحةً ضيّقةً لا أستطيع تقديرها بدقة الآن (...) كنّا أربعة أشخاص (...) كان مكانها في زاوية الاصطبل، في الزاوية اليسرى من عمق الاصطبل الذي كان مقسوماً طولانياً [كذا] إلى قسمين، في اليسار مجموعة من الأسر، وفي اليمين مجموعة من الأسر، وفي الوسط ممرّ يبدأ عند بوابة الاصطبل وينتهي عند جدار الثكنة”
(26) .
وثمة صورة مشابهة لأماكن الاستقبال في رواية (أزهار الصّبار) لعارف آغا، إذ يصف الكاتب حوش الغواص الذي يغوص في القذارة، فيقول: "أما الطابق العلوي فكان عبارة عن غرف واسعة تصل إلى اثنتي عشرة غرفة، يربطهما معاً ممرٌّ عريضٌ نسبياً، ويتجاوز المترين، وهو أشبه بشرفة تطلّ على الباحة الداخلية للحوش، حيث تجمعت هناك بقايا روث الحيوانات، وفضلات إنسانية، وقمامة، وأكوام من الأتربة السوداء. وقد غدت هذه الغرف العلوية مأوى لعدد من الأسر التي هاجرت من فلسطين إثر نكبة 1948"
(27) .
أما السجن، وهو شكل آخر من أشكال الإقامة الجبرية، فقد برزت صورته في الرواية الفلسطينية بوصفه عالماً مقابلاً لعالم الذلّ، (فالسجن للرجال)، سواءٌ أكان نتيجة لمواجهة الاسرائيليين، أم لمواجهة الأنظمة الرجعية العربية التي تعرقل نضال الفلسطينيين.
فالسجن لا يبدو في الرواية الفلسطينية مناقضاً لعالم الحرية، ولا يبدو مُذلاً. وهو بذلك يفترق عن الرواية العربية حين تتحدث عن السجين المجرم، ويتلاقى معها حين تتحدث عن السجين السياسي. وماذلك إلا لأن الرواية الفلسطينية سياسيةٌ في العموم. وهي لا تحتفل في الغالب بالمفاتيح التي تعد أبرز رموز السجن و(تدور في أقفال الأبواب والمنافذ لكي تحجب العالم الرحب، وتكون الحد الفاصل فيما بين الخارج والداخل"
(28) .
إن هذا الغياب للرموز السجنية الفاصلة بين الداخل والخارج، عائد إلى أنَّ الشخصيات الروائية السجينة لا تحنّ كثيراً إلى الخروج من السجن، لأنّ الخارج في نظرهم ليس إلا سجناً آخر، ويمكن أن نلمح مثل هذا الإصرار على السجن، بل على الموت فيه، في الحوار الذي يجري في الرواية ( إلى اللقاء في يافا) بين المناضلة عبلة أمير، والقاضي الإسرائيلي في أثناء محاكمتها:
ـ إن لم تتكلمي سنحكم عليك بالتعذيب حتى الموت.
ـ ومن قال لكم إنني أهاب الموت؟
ـ لستُ أدري ما الذي يدعو شابةً في ربيع العمر. أن تقدّم نفسها لقمة صائغة [كذا] للموت إن كان بإمكانها النجاة.
ـ إنها الحياة... الرغبة في الحياة"
(29) .
ويمكن أن نقسم مراحل السجن السياسي في الرواية الفلسطينية إلى ثلاث:
(30)
1- مرحلة الاستقبال: الطريق إلى الزنزانة والبقاء فيها مؤقتاً.
2- مرحلة التحقيق: الذي يرافقه تعذيب من كل نوع.
3- مرحلة الاستقرار.
§ إن مرحلة استقبال السجين، تعدّ المرحلة الأولى من مراحل حرب الأعصاب الذي تمارسه ضدّه إدارة السجن، فالسجانون يحدثون السجين منذ البداية عن احتمال إعدامه، ويسمعونه في طريقه إلى الزنزانة صراخاً صادراً عن سجناء آخرين تحت التعذيب، ويمكن أن نرصد ذلك في الرواية العربية من خلال رواية (الخماسين)، التي أحال عليها الدكتور سمر روحي الفيصل، لبيان أثر الصراخ في نفس البطل السجين، إذ إن البطل يشهد فصلاً من تعذيب السجناء السياسيين، وهو في السجن، غير أن ذلك الكابوس يظل يطارده زمناً طويلاً، ولشدّة إلحاح ذلك الكابوس يحارُ البطل فيما كان قد رآه، هل كان وهماً أو حقيقة.
"إنّ كابوس تلك اللحظة لم يفارقه أبداً، وهو عاجز عندما يحكيه أن ينقل للآخرين إحساسه به.قد يكون مارآه وهم مرهق بالتعذيب، وبسماع صرخات الذين يعذبون، أو ربما كان شيئاً آخر أخطأ في تفسيره. ولكن ذلك المشهد ظلّ مطبوعاً في ذاكرته بوضوح فائق"
(31)
وفي الطريق إلى الزنزانة تُغمض العيون، وتطول الممرات، وتلتف على بعضها، ويمكن هنا أن نشير إلى رواية (المحاصرون) لفيصل حوراني، وهو يقدّم سجينه في الطريق إلى الزنزانة، وفق الخطاب الروائي التالي:
"لم ينزعوا العصابة عن عينيه، إلاّ بعد أن دخل مبنى السجن، وقد اقتاده الحراس عبر ممرات طويلة، وتوقفوا عند الإدارة، قيدوا اسمه نزيلاً جديداً، ثم أودعوه الزنزانة"
(32) .
* أما مرحلة التحقيق، فتعد أصعب المراحل عند السجين السياسي لأنها ترتبط بالتعذيب الجسدي والنفسي، وقد يكون التعذيب ضرباً على الرأس، وعلى جميع أعضاء البدن، بما فيها الأعضاء التناسلية، ولعل ألمع الكتاب العرب في تصوير هذا التعذيب كان عبد الرحمن منيف في روايته (شرق المتوسط)، التي تعد بحقٍّ وثيقة إدانة دامغة لأنظمة القمع، ومن مشاهد التعذيب التي يرويها السجين رجب المشهد التالي:
"وضعوني في كيس كبير، أدخلوه في رأسي، وقبل أن يربطوه من أسفل، أدخلوا قطتين.. هل يمكن أن للإنسان أن يتحول إلى عدو للحيوان (...) وكلما ضربوا القطط وبدأت تنهشني، وحاولت أن أنقلب على جانبي، أحسّ برجلٍ ثقيلة فوق كتفي، على وجهي، وأحست الأظافر تنغرز في كل ناحية من جسدي»
(33) .
وقد صورت الرواية العالمية والتقدمية منها بشكل خاص، صور التعذيب التي يعانيها منها السجين السياسي، وتمكن الإشارة ـ هنا ـ إلى رواية (أنت جريح) لإيردال أوز التي يُرجح أن منيف قد استفاد منها في (شرق المتوسط)، فأوز يصوّر وحشية التعذيب الذي يتخذ أشكالاً مختلفة، إذ يتفنن المحققون في ابتداع وسائل جديدة للتعذيب لا تخطر على بال، وفي المقطع التالي يصور الروائي مشهداً من تلك المشاهد التي تثير حزناً كابوسياً في النفوس:
"... وبعد قليل استأنفوا عملية الضرب. صبوّا ماءً على أطراف الأسلاك المربوطة بقدميك، فانتشرت الرعشة إلى حيث سال الماء لتغطي مساحةً أوسع. زادوا من قوة التيار. ظننتَ أنّهم يدسون سلكاً محمىً في قضيبك.
راحوا يجيلون طرف السلك الذي حرروه من قضيبك على أنحاء جسدك، وضعوه فوق حلمتي ثدييك. دسوه في أذنيك، فتحوا فمك، ولامسوا به لسانك، صيحاتك تحوّلت إلى صُراخٍ شديد»
(34) .
وقد يبلغ التعذيب درجة أشد قساوة من التعذيب الجسدي، وذلك حين يختار السجان فتاةً مناضلة، ليعريها، ويغتصبها على مرأىً من رفاقها في محاولة للتأثير على معنوياتهم. وقد كان لهذا النوع من التعذيب أمثلةً متعددةً في الرواية الفلسطينية، وتمكن الإشارة هنا إلى رواية (الأرض الحرام) لمحمود شاهين، إذ يلجأ ضابط السجن، للضغط على الجدّ ملحم، إلى هذه الوسيلة، فبعد أن قام الجنود بتعرية صباح:
"انقض الضابط على صباح يعتصر نهديها بكلتا يديه. تألمت صباح بمرارة. بصقت في وجه الضابط، صفعها على خديها أكثر من عشر مرات، وعاد يعتصر نهديها بقوة وجنون"
(35)
وثمة صورة أخرى للتعذيب الذي يتعرض له السجين السياسي لا تقل بشاعة عن الصورة السابقة، إذ يصف البطل التعذيب الجسدي الذي يتلقاه على يد المخابرات الأردنية في رواية (دائرة الموت) لرجب أبو سرية، وهناك يختفي الفارق بين الموت والحياة:
"وتكورت بينهم فروجاً بدأت عملية شوائه للتو، فيما انهالت العصا على قدميّ الصغيرتين لحظات مابين الموت والحياة، لا تستطيع وصفها، لكنها انحفرت في الذاكرة، كما انحفرت دمامل الدم والصديد بين الجلد والعظم”
(36) .
وتمكن هنا الإشارة، على صعيد الرواية العربية، إلى رواية (البصقة) للدكتور رفعت السعيد، إذ نلمس فيها نوعاً دنيئاً مشابهاً من أنواع التعذيب، فالسجان يعري سناء الحوراني، الفلسطينية، ثم تفترش عيناه الجسد كله في استمتاعٍ دنيء، ثم يُدخل عصا طويلة بين فخذيها: "سمعتْ صرخةً عاليةً، دُهشتْ لأنها صادرة من داخلها (...) كانت العصا تقطر دماً. بقعة حمراء صغيرة ترقد أعلى فخذها الأيسر، انتهى الاستجواب"
(37) .
§ أما مرحلة الاستقرار في الزنزانة فتعني انتهاء التحقيق والتعذيب، وهذا ليس ديدناً غير قابل للاختراق، فالسجين يوضع في مواجهة عذاب شديد هو عذاب الزنزانة من البرودة إلى الظلام إلى لسع الحشرات، وقد غصّت الروايات العربية بصور الزنازين. ويشار هنا إلى رواية (الخبز الحافي) لمحمد شكري، إذ يرد المقطع التالي:
"قال لي حميد الذي جلس على الأرض واضعاً ذراعه على ركبتيه:
اجلس (...) كانت الأرض باردةً كالثلج. على الجدران وفي السقف علامات الرطوبة. في ركن كان هناك مرحاض مسطّح وصنبور فوق ثقب المرحاض"
(38) .
ولم تخرج الرواية الفلسطينية في هذا الإطار عما أنتجته الرواية العربية فالزنزانة مظلمة رطبة عفنة، تسرح الحشرات على جدرانها، ففي رواية (المحاصرون) يرصد فيصل حوراني التجربة الفلسطينية ـ الأردنية المريرة في أوائل الثمانينات، ويتحدث عن الاعتقالات الأردنية في صفوف الفلسطينيين، ويقدّم الوصف النموذجي التالي للزنزانة الانفرادية التي يُسجن فيها البطل خالد:
"زنزانة عارية، لا فراش، ولا غطاء، رطوبة وبرودة، وليالي آذار القارصة، ووحشة الانفراد"
(39) .
وفي رواية (شهادات على جدران زنزانة) يروي غازي الخليلي يوميات من معاناة المعتقلين في السجون الأردنية، ويقدّم للزنزانة وصفاً مفصلاً ذا رصيد دلالي كبير، فالنور لا يجدُ سبيلاً إلى تلك الزنزانة، والجدران تزيد من وحشتها.
«وهذه الزنزانة من أبشع الزنازين، هي والزنزانة رقم 11، كلتاهما صغيرة بطول 2.5م وعرض 1.6ْ، ليس لها طاقة على الخارج، مجرد كوة صغيرة مسيجة فوق الباب الحديدي، تطل على الممر، وفتحة صغيرة في الباب، مغلقةٌ مليئة بالنتوءات، لونها كاتم، المصباح وسط السقف، نوره قوي، يزيد الجو حرارة وضيقاً. بها "فرشة" ممزقة، محشوةٌ بالقشّ مع بعض البطاطين [كذا] الممزقة أيضاً»
(40) .
والسجن بالنسبة للسجين السياسي، وهذا أمر ينطبق على الرواية الفلسطينية والعربية، مكان للعمل، لنشر الوعي، لذلك فهو ليس سجناً عقيماً منعدم الفائدة، والخروج من السجن على الرغم مما يعنيه من لقاءٍ بالأهل والأصحاب، يعني مفارقةً للأصحاب في الداخل. فالسجين يكوّن عائلته الخاصة في السجن، وعندما يخرج تبقى هذه العائلة جزءاً من عالمه الخاص الذي لا يستطيع الخروج منه. فعندما خرج أبو العز من السجن، في رواية "عباد الشمس" لسحر خليفة، أحس بدفء الفراش، ولكنه على الرغم من ذلك أحس بدفء ذلك الدفء الذي يولده الأصحاب في السجن:
"هذا فراش حقيقي. وليس برشاً. وهذه نافذة عريضة، وليست كوةً، وعلى الأرض بساط غزاوي ملوّن (...) أول صبحٍ من غير صالح. يتناوبون النوم والصحو لاكتظاظ الغرفة. وأنا هنا في الغرفة وحدي. شراشف مازالت تنعم بعبير الشمس والصابون”
(41) .
هكذا، يتساوى في الرواية الفلسطينية، الحرّ والسجين، وقد يتساوى السجن مع خارجه، لأن الحرية نسبية، فالفلسطيني خارج سجنه حرٌّ لا تحيط به قضبان السجن، ولكنه يرزح تحت ثقل سجن الاحتلال. وسجن المنفى اللذين يحرمانه مُتعة الشعور بالحرية.
2ـ أماكن الانتقال:
تعدّ الأحياء والشوارع والفنادق والمقاهي أهمَّ الأماكن التي يتمّ فيها الانتقال، وهي الأكثر تردداً في الرواية الفلسطينية، ويمكن أن نقسم هذه الأماكن إلى قسمين:
§ أماكن الانتقال المفتوحة: وتشمل الأحياء والشوارع والساحات.... الخ.
§ أماكن الانتقال المغلقة: وتشمل المقاهي والفنادق... الخ.
§ أماكن الانتقال المفتوحة:
الأحياء هي التجمعات السكنية من مدن وقرى وأرياف ولا يجد المرء ضرورة هنا لتقسيم هذه الأحياء إلى أحياء شعبية وأحياء راقية
(42) . لأن الشعبي والراقي ليس شيئاً جوهرياً في الرواية الفلسطينية، إنما الجوهري هو حيٌّ في الوطن وآخر في المنفى. فالحي الفلسطيني ـ سواء أكان غنياً أم فقيراً، وأياً كان الانتماء الطبقي لشخصيات الرواية التي تعيش فيه أو تتذكره ـ يبقى حيّاً جميلاً ونابضاً بالحياة، وحلم العودة.
لذلك كان الانطلاق نحو الخارج يعني الهلاك، لأنه انتقالٌ من الطمأنينة إلى نقيضها، من الحياة إلى الموت (وهذه هي المقولة الرئيسة لرواية رجال في الشمس لغسان كنفاني)، وقد تجسدت صورة الداخل والخارج أحياناً على شكل صراع بين القرية والمدينة. تبدو فيه المدينة قذرة، هادمةً للأحلام، في رواية (وادي الطواحين) لحسين طه السيد تبدو المدينة جديدة غريبة عن البطل، تحمل له الرهبة والخوف: "ماأقذرك أيتها المدينة، وما أقذر هذا الرصيف الذي تطأه قدماي، وتلك الدكاكين التي تنبعث منها رائحة العفونة"
(43) .
وفي المقابل تبدو صورة القرية ذكرى جميلة أو ملجأ أميناً يحتمي فيه الفلسطيني من المدينة، أو يرى فيه مكاناً ذا طبيعة جميلة لا يغيرها تقادُم الدهر وعسف الاحتلال.
فقرية أمّ العين في رواية (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا، هي قرية أصبحت أثراً بعد عين، ولكن الذاكرة لا تزال تختزنها بوصفها فسحةً جبليةً تحيط بها الفاكهة والأحلام:
"رامات يوسيف تكاد تكون على الحدود، وهي في الأصل قرية عربية تدعى أمّ العين، احتلها الإسرائيليون عام 1948، وأخرجوا سكانها العرب، وأبدلوا اسمها، وحصنوها، تساندها في السنوات الأخيرة مدفعية، ورشاشات، وبضع مدرعات، وهي جبلية متوسطة الحجم، تحيط بها بساتين الفاكهة، وحول البساتين أشجار الزيتون، وغابات السنديان"
(44) .
وثمة صورة رومانسية أخرى، تصور قرية فلسطينية ريفيةً من الداخل، هي قرية (دورا) القريبة من الخليل، توردها ليانة بدر في رواية (بوصلة من أجل عباد الشمس).
"وفي (دورا) القرية الصغيرة القريبة عرفت بيوتاً ريفية طينية وسلال البصل المخزونة في فجوات الحوائط، والأثواب الفلاحية المشعة بألوان الفرح الزاهية على الأرضية التي تكون قماشةً سوداء"
(45) .
إن الريف هنا على الرغم من فقره يضفي على الأشياء شاعريةً محببة، ويجعل من سلال البصل والأثواب الفلاحية قصائد رومانسية تمجد حب الوطن. وهذا هو الشأن في صورة الريف الفلسطيني الذي اختزنته الذاكرة المشردة: أحياء مفتوحة مشرعة النوافذ نحو العائدين. غير أن المخيم/ أو الحي المفقود يتحول حين يتعرض لعسف الاحتلال إلى مكان مغلق، حيث تغيب الصورة الرومانسية، لتنهض مكانها صورة التحدي للاحتلال ولأطواقه التي يفرضها على القرى الفلسطينية، مما يضطر هذه القرى إلى الدفاع عن نفسها. يقدّم الدكتور محمد حسين عبد الله في كتابه الريف في الرواية العربية توضيحاً لكيفية دفاع القرية/ المفتوحة عن نفسها في مواجهة المحتل:
"كيف تدافع القرية الفلسطينية عن نفسها أمام عسف الطغاة؟ إنه التقوقع على ذاتها، التكيف مع العزلة، بل الإفادة منها، وتحويلها إلى نوع من حماية النفس وتعميق الخصوصية"
(46) .
أما صورة الحي الغريب الذي يقطنه الفلسطينيون خارج الوطن، فهو لا يعني سوى إقامة مؤقتة، ولا يشعر المرء داخله بتماهي الشخصيات مع المكان، ولا يكون موضع حنين، إلا إذا تعرض الغريب لغربةٍ أُخرى، إذ تغدو غربته الأولى وطناً مؤقتاً له يحنُّ إليه، كما يحنّ إلى وطنه الأول. في رواية (الطريق إلى بلحارث) لجمال ناجي، تغدو عمان حُلماً من أحلام العودة، بعد أن يعاني عماد غربةً ثانيةً في اليمن، وعندها تستوي قنفذة اليمنّية مع أية غربةٍ أخرى، وتختفي الشاعرية، لتغدو الكلمات مباشرةً، لا تعبر عن التصاقٍ حميمٍ بالمكان:
"القنفذة بيوت طينية، سوق صغير، شوارع ترابية، دكاكين، هواء دبق حارّ، دراجات نارية، سيارات جيب، مقاهي واسعة [كذا]، عمال يمانيون، أباريق شاي فوق مناضد متسخة، ذباب شرس.."
(47) .
وتنبغي الإشارة إلى أن الزمن مارس دوراً مغيراً للنظر تجاه المكان، خاصةً عند المفصل الرئيس في حياة الفلسطيني بعد النكبة (وهو انطلاقة الثورة ـ ومثلهُ الانتفاضة) حيث تحول المخيم من مستودع للذباب والأوبئة إلى معقلٍ للثوار. في رواية (مطار السرطان) لجمال جنيد صورة واقعية للمخيم عندما سكنه اللاجئون الفلسطينيون بُعيد النكبة:
"لم ترني أمي حين خرجتُ أنظر إلى الحفر الممتدة حول المخيم، الحفر ضباب وردي، أدوس عليها حين ألاحق قنفذاً، أغوص، الرمال باردةٌ، أتعلّق بغصن زيتون، يختفي حذائي، أرتجف، أبكي حتى بزوغ القمر"
(48) .
وثمة صور مشابهة للمخيم يمكن للمرء أن يطالعها في روايات عديدة، فالحفر والوحل وبرك الماء، محددات مكانية تميّز المخيم الفلسطيني بُعيد اللجوء، في رواية (وإن طال السفر) لأحمد عمر شاهين، يرد وصف المخيم في المقتبس التالي:
"المخيم موحش في الليل، برك الماء تنتشر بين البيوت، يغوص فيها وتتلوث ملابسه في الوحل، وكانت أمّه تصيح فيه دائماً:
"مش تفتح وأنت ماشي يابنيّ"
(49) .
لذلك لا يجد المخيم حلاً لكلّ مشاكله سوى الانكماش على نفسه، واتحاد جدرانه، ردّاً على الخارج الذي يريد ابتلاع المخيم وانتزاع خصوصيته وهويته:
"تل الزعتر كأيّ مخيم، بيوت متراصّة، الشوارع ضيّقة، ملاجىء تحت الأرض..."
(50) .
أما بعد أن انطلقت الثورة وحين صرّحت أم سعد ببيانها الشهير (خيمة عن خيمة تفرق)
(51) ، فقد تحوّل المخيم إلى ساحة تدريب تعج بالحركة، وفي رواية (أم سعد) صورة مشرقة لذلك المخيم، بتدريبه، وأحاديثه، إذ يتأثر كل شيء، ويصبح للحياة طعم آخر غير طعم الذلّ والمهانة:
"ودوّى تصفيق كالرّعد في ساحة المخيم حين تجنب سعيد ضربة الحربة، وانتزع البندقية بلمح البصر من بين يدي غريمه الطفل، واستدار ثم رفعها بساعده الصغير عالياً تحت العلم الذي أخذت رفاتُه تُصدر صوتاً كاصطفاق الأكفّ"
(52) .
ولا بد من الإشارة إلى أن إهمال مواقع المخيمات وأسمائها، هنا، يعود إلى التشابه الكبير بين مواصفات هذه المخيمات في سورية ولبنان والأراضي المحتلة على حدّ سواء.
§ أماكن الانتقال المغلقة:
تمنح الأماكن المغلقة الروائي، بشكل عامٍّ، إمكانيةً أكبر للعناية بعناصر الفضاء، ويمكن رصد عدد كبير من الأماكن المغلقة المأهولة وغير المأهولة في الرواية الفلسطينية. غير أن أكثر هذه الأماكن وروداً هو الفنادق، والمقاهي والخيام، والمكتبة والمرحاض، والكهوف والآبار.
* وتبدو صورة الفندق، كلاً أو جزءاً، صورة لصيقة بترحال الفلسطيني المنظم، بعد أن اجتاز صدمة النكبة. ويمكن هنا أن يُشار إلى مثالين يصوّران الغرف الفندقية، ففي رواية (صيّادون في شارع ضيّق) لجبرا إبراهيم جبرا يصف جميل فرَّان غرفته في الفندق، ويبين لنا من خلال صفاتها جزءاً من معاناة الفلسطيني في غربته، إذ يسهم وضعه الطبقي في تعميق غربته:
"... ثمّ العودة إلى غرفتي قليلة الأثاث فوق شارع الرشيد، قليلة الأثاث؟ يجب أن أقول عديمة الأثاث، ولكن كان عندي: سرير عليه فرشة، وشراشف ووسادة، منضدة صغيرة ضيقة، صُنع سطحها من قطع خشبيّة متنوعة. تجاور بعضها مع بعض على مضض، كرسي مقعدٍ لا صلة له به. وكان ثمة ثلاثة مسامير مدقوقة في الجدار لتعليق ملابسي"
(53)
أما في رواية "بحيرة وراء الريح" ليحيى يخلف، فتقدم الغرفة في أوراق عبد الرحمن العراقي، من خلال تأثيثها، حيث تظهر طاولة وأدوات حلاقة ومزهرية دون زهور، ودفتر وصندوق:
"أفقنا في الصباح عندما تسلّل النور من النافذة المفتوحة، وملأ الغرفة.. كانت غرفة صغيرة، لكنّها مرتبة. في الركن طاولة سفرية عليها أدوات حلاقة ومزهرية بدون زهور، ودفتر صغير فوقه قلم حبر.
وفي الركن المقابل صندوق مغلق"
(54) .
والصندوق المغلق في هذا النصّ مجرد شيء، ولكنه شيء، يتحول حين يفتح في روايات أخرى، إلى لغزٍ مثير، يمكن تتبع أسراره عند الحديث عن الأشياء.
وإذا انتقلنا إلى صورة المكتبة في الرواية الفلسطينية، وجدناها أقل تكراراً من صورة الفندق. وتمكن الإشارة إلى روايتي (مخيم في الريح) لعارف آغا، و(لم نعد جواري لكم) لسحر خليفة، إذ تغدو المكتبة في (مخيم في الريح) مكاناً يُنبت الحب بين قلبين،
(55) فيما تصبح في (لم نعد جواري لكم) مكاناً للاتفاق والاختلاف والمناقشات الإيديولوجية، وقد جاء وصف قاعتها على النحو التالي:
"القاعة واسعة فسيحة، وبعض أعمدة رخامية تتناثر هنا وهناك، وفي الركن مدفأة أمريكية ضخمة، وفي مقابلها منصةٌ عريضة يجلس خلفها شاب، وإلى جواره صندوق النقود، وخلفه تقبع رفوف من الكتب المنوعة"
(56) .
* أما الخمارة والمقهى فيظهران في الرواية الفلسطينية مكانين لتجمع الناس، إذ يجتمع الناس في المقهى للعب النرد والورق وتذاكر أحوالهم السيئة، أما في الخمارة فيجتمعون للنسيان. ويقوم فضاءا هذين المكانين المغلقين على عناصر متشابهة، بشكل عام، ولا يبدوان مؤثثين بفخامة أو ترتيب. فالظلمة والدخان وفوضى الكراسي صفات لصيقة بهما. فالخمارة في رواية (الفلسطيني الطيب) لعلي فودة ـ واسمها خمارة الأحزان ـ "علبة صغيرة لا ترى الشمس مطلقاً”
(57) ، والمقهى في رواية (المسار) لأفنان القاسم يبدو أكثر ألفةً إذ يرتبط بطقس المطر:
"كانت الأمطار عندما تسقط يمتلىء مقهى "فلسطين" بروّاده، وتصبح سماء المقهى مليئةً بالدخان، وبأصوات النرد، والنارجيلة..."
(58) .
ويستطيع المرء أن يلمح مثل هذه الصورة كثيراً في الرواية العربية، وتبدو (قهوة) كرشة في رواية (زقاق المدقّ) مثالاً ناضجاً للمقهى وكيفية تأثيثه:
"وكاد المدق يغرق في الصمت لولا أن مضت قهوة كرشة ترسل أنوارها من مصابيح كهربية، عشش الذباب بأسلاكها، وراح يؤمّها السُّمار. هي حجرة مربعة الشكل، في حكم البالية، ولكنها على عفائها تزدان جدرانها بالأرابيسك. فليس لها من مطارح المجد إلاّ تاريخها، وعدّة أرائك تحيط بها، وعند مدخلها كان يكبّ عامل على تركيب مذياع نصف عمر بجدارها وتفرق نفرٌ قليل بين مقاعدها يدخنون الجوز ويشربون الشاي"
(59) .
ويفتقد قارىء الرواية الفلسطينية، إلى حدّ كبير، الصورة الفخمة للمقهى والخمارة، والتجمعات الأخرى، فلا مكان للكراسي الفخمة، ولا للكؤس التي تشعّ فيها الخمر، أو حتى الكؤوس النظيفة التي تُصبُّ فيها الشاي... وليس ثمة سوى خمرٍ رديء، وشاي رديء لا يصلحان إلا للشكوى التي يطلقها الرواد من فقرٍ أو مذلة.
وتعدّ الخيمة رمزاً من رموز المقاومة الفلسطينية، بعد أن كانت رمزاً للجوء. فالجيل الذي كان يسكن في الخيام وفي اصطبلات استقبال اللاجئين، أصبح يرفض هذه السكنى المُذلة، وراح يبحث عن مدلول آخر لكلمة الخيمة. فانتقل من خيمة الذلّ والاستسلام إلى خيمة العزة والكرامة التي يتدرّب فيها الفدائيون. وبدت الخيمة مكاناً للتدريب، مؤثثاً بكل الأشياء التي تدل على شظف المقاتل. وفي رواية (بحيرة وراء الريح)، تظهر الخيمة التي يشغلها نجيب بغرض التدريب استعداداً للمعارك الأخيرة قُبيل إعلان اغتصاب فلسطين، كأنها خيمةٌ من خيام التدريب بعد انطلاقة الثورة، وذلك في السياق الخطابي التالي:
"دخل [نجيب] الخيمة الصغيرة. خيمة ذات سريرين، سرير مرتب فوقه غطاء من الصوف الملوّن، وآخر فوقه فرشةٌ من الإسفنج دونما وسادة ولا غطاء"
(60) .
ويمكن في هذا السياق أن يُشار إلى الكهوف التي كان يتخذها الفدائيون الفلسطينيون أمكنة للتدريب، داخل فلسطين المحتلة، وقد بدت هذه الكهوف ـ إمعاناً في إعطائها بعداً دلالياً ـ رطبة وضيقة ومعتمة. ويمكن للمرء هنا أن يشير إلى رواية محمود شاهين (الأرض المغتصبة ـ عودة العاشق)، إذ يرد الكهف في المقتبس التالي:
"يتحلق عامر وأبو كمال والدكتور سليم وفادية وعائد حول قطع السلاح داخل الكهف. يوعز عامر إليهم أن يفكّوا السلاح، يفكونه بسرعةٍ فائقة. يطلب إليهم أن يركبوه. يفعلون ذلك بسرعةٍ أيضاً"
(61) .
ولا يظهر المرحاض في الرواية الفلسطينية إلا منزاحاً عن وظيفته الأساسية، كما لا تظهرصورة المراحيض الخاصة في المنازل، أمّا المراحيض العامّة فتبدو أمكنة للتفكير والتدبر، بل وللتعبير عن الأفكار، أو لممارسة العادة السرية.. ويمكن، على سبيل التمثيل، الإشارة إلى رواية (الفلسطيني الطيب) لعلي فودة، التي يغدو فيها باب المرحاض (جريدة مركزية) للناس جميعاً، ففيها يكتب المعارض لسلطة الملك، والمناصر لها، وفيها يؤيّد الناس الشخصيات الفلسطينية أو يعارضونها، ويبدو أنها مقروءة على نطاقٍ واسع... إن المرحاض إذاً فسحة ديمقراطية يعبر فيه الناس كتابةً ورسماً عن قلقهم الجنسي والسياسي والوجودي، وهذا عبد التواب في الرواية المذكورة، بعد أن قرأ باب أحد المراحيض العامة، يقول في نفسه: "مساكين هؤلاء الناس. إنهم لا يجدون مكاناً ينفسون فيه عن آرائهم السياسية سوى المرحاض”
(62) .
وتبدو صورة المغارة واحدة من أهم الأمكنة غير المأهولة لتواتر ذكرها في الرواية الفلسطينية، بما تحمله من ظلالٍ أسطورية. وقد ارتبط ذكر المغارة، بشكل غالبٍ، بالضبع الذي يعني الاحتلال بوجهٍ من وجوهه، فالاحتلال يريد شعباً فلسطينياً (مضبوعاً)، وهو يقود من يستطيع إلى مغارته. والذي يدعو المرء إلى هذا الافتراض، إضافة إلى تكرار الصورة ذاتها، هو أن الأطول قامة ـ حقيقةً ومجازاً ـ هو الذي ينجو في نهاية المطاف. تصور رواية (بحيرة وراء الريح) المغارة من الخارج، دون أن تدخل إليها، وتؤكد على مفهوم باب المغارة بوصفه حداً فاصلاً في مصير الانسان المضبوع:
"يقولون إنّ الضبع تقترب من فريستها، فتبول على ذيلها، وترشق بالبول وجه الرجل الفريسة فتضبعه.
يفقد الرجل المضبوع إرادته، فيركض بلا إرادة وراء الضبع، فإن كان مدخل المغارةعالياً فإنه يدخل، وعند ذلك تثب عليه فتفترسه، أما إذا كان مدخل المغارة منخفضاً فإن جبين الرجل يصطدم بالصخر فيشجّ رأسه، ويسيل دمه، وعند ذلك يصحو، ويعود إلى رشده، فيعود من حيث أتى، ولا تجرؤ الضبع علىاللحاق به.الضبع لا تفترس الناس إلا في مغارتها"
(63) .
* وثمّة محددات مكانية أخرى تتناثر بين صفحات الرواية الفلسطينية كالآبار والأشجار والقبور والأضرحة وغيرها، وتمكن الإشارة بشكل خاص إلى الآبار والأشجار، فقد استخدم الفلسطينيون الآبار في رواياتهم بوصفها حاملةً للألم والأمل، فثمة آبار تُذَكِّر بجثث الأحبة الذين قتلوا، وآبار تزف بشرى الماء لظمأ الأرض وظمأ الروح.
في رواية (الزورق) لحسن سامي اليوسف، لا يعني البئر لعُمر سوى ذكرى أبيه الذي سقط هناك، ومات بعد أن منع الإسرائيليون أحداً من إنقاذه
(64) . أما في رواية (شارع الغاردنز) لأفنان القاسم فإن البئر هو حلم الماء، لذا كان من الطبيعي أن يبحث محمد خيري عن الآبار أينما حلّ(75)، لأن الماء هو الذي يعطي الأرض والروح خضرتيهما، ومن الطبيعي أيضاً أن يرتبط لديه الماء بالشجر، وأن تعني الشجرة مزيداً من الاخضرار، سواء أكانت بيارة أم غابة، أم شجرة واحدة. لقد غرس محمد خيري أمام ملهاه (ملهى الغاردنز) ثلاث شجرات، لأنه (لا يحبُّ الشوارع التي لا شجر فيها)(66) . لقد زرع هذه الشجرات لتظل ذكراه وارفةً في ذهن الراوي/ البطل، وحتّى يقيم صلة وثيقة بينه وبين البطل من جهة، وبينه وبين نابلس من جهة أخرى، تلك المدينة التي كانت تضمهما معاً في زمنٍ مضى وانقضى.
لقد دلّ استقراء الرواية الفلسطينية عامة أن الشجرة لم تخرج عن دورها الذي رُسمت له، ولم تؤدِّ دلالة مخالفةً لرمزها المعروف، إلاّ في الحالات التي تستخدم فيها اللفظة مجازاً. وعندها يمكن أن ينبثق معنى مضاد للمألوف. وتمكن الإشارة إلى رواية (بحيرة وراء الريح)، إذ يستيقظ نجيب من نومه ليقول، حيث يوحي الخطاب بالنهاية: (أي غراب أسود حط على شجرة الوجع)
(67) . فشجرة الوجع تنهض مخالفة لدلالة الاخضرار، ويزيد هذه المخالفة بروزاً ظهور الغراب الذي يحمل بُعداً تشاؤمياً معروفاً.
3- عناصر الفضاء الجغرافي: الأشياء الموصوفة:
تحتل الأشياء الموصوفة أهمية بالغةً في بناء الفضاء الجغرافي فبالإضافة إلى وظيفتها الجمالية، تناط بها أيضاً وظيفة الكشف عن الوضع النفسي للشخصيات التي تتعامل معها، وعن الوضع الاجتماعي والثقافي الذي تجري الرواية فيه. والأشياء التي تؤثث الفضاء الجغرافي تصبح جديرة بالملاحظة منذ أن "لوحظت ودونت" وأقيمت بينها صلات وثيقة
(68) ، لأن الملاحظة والتدوين مرتبطان بالضرورة، بذات الكاتب التخيلية، ومعبران عن رؤية يشكل فيها الشيء الموصوف أُساً لا غنىً عنه.
وقد أثث الفضاء الجغرافي للرواية الفلسطينية عامة بالخزائن والعلب والصناديق والأسرة والأغطية والوسائد... الخ. في رواية (الفلسطيني الطيب) يتحدث صابر عن معاناته من زوجة أبيه، الجرادة التي تأكل كل شيء:
«أريد أن آكل... لكن الخبز ملفوف بقطعة من القماش، ومخبأ في صندوق حديدي، لا يستطيع أن يفتحه سوى الجرادة! أريد أن أشتري حذاءً، لكن نقودنا القليلة كانت مُخبأة في صُرة الجرادة»
(69) .
إن الجرادة / زوجة الأب، حين تقفل الصندوق على الخبز، والصرة على النقود، إنما تجعل الصندوق والصرة شيئين من الأشياء لا يسهمان إلا في إتمام الديكور الروائي. ولكن فتح مثل هذين الشيئين من شأنه أن يعني أشياء كثيرة لصابر، وأحلاماً مؤجلةً تنتظر التحقيق. يقول باشلار: "حين تكون العلبة مغلقةً تصبح شيئاً من الأشياء، وتتخذ مكانها من المساحة الخارجية (...) فإنه بمجرد فتحها فإن الجدل ينتهي تماماً. يلغي الخارج بضربة واحدة ويسود جوّ من الجدة والدهشة"
(70) .
غير أن العلبة (أو الصندوق)، تصبح في حُكم المفتوحة، حين تكون شفافة أو ذات غطاء شفاف، إذ تصبح الرؤية في متناول العين، والأحلام في متناول التحقيق. وهذا السياق الخطابي من رواية (عروس خلف النهر) لسلوى البنّا يقدّم علبتين صغيرتين تفتحان، وينكشف داخلهما ويحمل حدثاً جديداً:
"أخرجت من جيبك علبتين صغيرتين، لونهما زهري فاتح، كانتا تحملان خاتما الخطبة [كذا]"
(71) .
وقد يكون التأثيث بالغ الدلالة، وقد تحتل رموز حاضرة في المنفى مساحة الغياب جميعها في الوطن، فالمفتاح الذي يرمز للبيت، يغدو جزءاً تأثيثياً في مساحة المنفى، حاضراً دائماً على الرغم من أن الدار كلها بعيدة كالأحلام:
"هذا مفتاح دارنا في العتبة، انظر ما أجمل صنعته وأدقها. قدّمه لي بفخر، فتناولته باحترام وقد عداني انفعاله فدبت في أوصالي قشعريرة جعلت أعصابي كلها تتوفز. كان مفتاحاً كبيراً، ذا شعبتين وثقيلاً حتى خلته مفتاح أحد أبواب القدس»
(72) .
ويحتاج توزيع الأشياء في موقعها إلى حرفية كبيرة،و يمكن للمرء أن يلمس هذا الأمر بمقارنة خطابين من روايتين مختلفتين الأولى (الغروب الأخير) لنادرة الحفّار، والثانية (الطريق إلى بلحارث) لجمال ناجي.
في (الغروب الأخير) تصف نادرة الحفّار بيت أيهم المنفرد في المقتبس التالي:
"رمقت سارة البيت بنظرة خاطفة، غرفة نوم، غرفة جلوس مريحة، مطبخ أنيق صغير، بيت جميل، ناري الأثاث، الألوان كلها نارية، أما الستائر فهي زاهية بيضاء"
(73) . وإذا أردنا أن نرسم شكلاً توضيحياً لعناصر هذا البيت الموصوف نتج معنا الشكل التالي:(74)





أما في (الطريق إلىبلحارث) فيقدم جمال ناجي وصفاً لتوزيع الأثاث على الشكل التالي:
"فتحتُ الباب فوجدتُ سريراً مرتباً، يفتح ذراعيه بغبطة لاحتضان شتاتي، في الركن الآخر من الغرفة، كانت تقبع خزانة حديدية صغيرة، تحمل على سطحها نظارات عتيقة لرجل مترهل، يتقعر فوق سرير صدىء"
(75) .
ويستطيع المرء أن يلمح بسهولة الأثر الإنساني في هذا البيت، ويمكن بتقسيم مشابه لعناصر البيت أن نصل إلى الشكل التالي:








ويمكن أن تقودنا المقارنة بين الوصفين، وما يحتويانه من أشياء إلى الملاحظات التالية:
1- إنّ وصف البيت في (الغروب الأخير)، وإن كان يحتوي على عناصر أكثر، يفتقر إلى وضع هذه العناصر ضمن وضعياتها المناسبة، بينما نستطيع أن نرى وضعيات الباب والسرير والخزانة والنظارات والرجل والسرير الآخر في (الطريق إلى بلحارث)، وهذا يعني أن المقطع الثاني يبحث عن عناصر موصوفة بدقةٍ أكبر.
2- إن الوصفين اهتما إلى حدّ معقول بصفات الأشياء، ولكنهما لم يتوسعا كثيراً في هذا الوصف.
3- إن العناصر كانت مقسمة في المثال الأول تقسيماً هندسياً بالغ التنظيم، بعيداً عن الألفة، إذ إنّ العناصر الأساسية (غرفة ـ غرفة ـ مطبخ ـ الألوان ـ الستائر) لم تتفرع نحو عناصر جديدة. فالغرفة لا تحتوي شيئاً، وكذلك المطبخ، وليس ثمة رسوم على الستائر... أما في المقطع الثاني فإنَّ الأمر يختلف بعض الشيء، إذ إن الخزانة قادتنا إلى عنصر جديد هو النظَّارات، بينما قادتنا النظَّارات إلى الرجل والرجل إلى سرير... مما يجعل أركان الموصوف متداخلةً بعيدةً عن التوزيع الهندسي المبالغ فيه.
إن الاهتمام بالعناصر وتتبعها يمكن أن يعطي النص حركةً وسرعة وإيقاعاً، ويضفي صدقاً أكبر على الحالة الشعورية للشخصية التي تتعامل مع المكان.
إن سعيد. س، وهو يصعد الدرج مع زوجته، في رواية (عائد إلى حيفا)، يتذكر كل الموصوفات التالية من خلال ذاكرته ويعطيها حضوراً يشي بدلالاتٍ كثيرة:
"وبدآ [كذا] يصعدان دون أن يترك لنفسه أو لها فرصة النظر إلى الأشياء الصغيرة التي كان يعرف أنها ستخضّهُ وتفقده اتزانه: الجرس، ولاقطة الباب النحاسيّة، وخربشات أقلام الرصاص على الحائط، وصندوق الكهرباء، والدرجة الرابعة المكسورة من وسطها، وحاجز السلّم المقوس الناعم الذي تنزلق عليه الكفّ، وشبابيك المصاطب ذات الحديد المتصالب، والطابق الأوّل حيث كان يعيش محجوب السعدي، وحيث كان الباب يظلُّ موارباً دائماً، والأطفال يلعبون أمام الدار دائماً، ويملأون [كذا] الدرج صراخاً، إلى الباب الخشبيّ المغلق، المدهون حديثاً، والمغلق بإحكام»
(76) .
إن جمال الوصف هنا للأشياء المذكورة يعود إلى أنه وصف لأشياء تنبع فجأة وسط السرد ولا تبدو جامدة لا حياة فيها، بل هي جزء من نسيج الواقع ومن نسيج الذاكرة، وهي تتحرك في قلب الكاتب وفي وجدانه. ويمكن للرسم التالي أن يوضح غِنى الأشياء وتنوّعها.
إنّ نظرة متفحصة في الرسم توضّح النجاح الذي أصابه كنفاني في عرض عدد كبير من الأشياء الملتصقة بذاكرته. غير أن عدم تحديده هيئات العناصر، وعدم فتحها على عناصر جديدة (إلاّ في حالةالطابق الأول) غل حركة الدلالة، وكان يمكن له في حال استدراك هذا الأمر أن يؤثث مكانه تأثيثاً نموذجياً.
§ وتحتّل الألوان دوراً بارزاً في تجسيد دلالة الأشياء، ويكون اللون في كثير من الأحيان قادراً على حمل رموز الرواية الايديولوجية، أو موازياً الحدث، أو تطور الشخصية.
ويذكر هنا أن الرواية الفلسطينية لم تخرج ـ عامة ـ بالألوان عن دلالتها الملازمة لها. فالأحمر والأسود والأبيض والأزرق والأخضر ألوان لا تخرج دلالتها عما ألفته الثقافة العربية، والوجدان الشعبي العربي.
فاللون الأحمر لون الدم الذي يحمل إرهاصاً بالخطر يمكن أن يعبر عن حالة فردية، كما يمكن أن يعبر عن المجموع.
في رواية (الفلسطيني الطيب) يصف علي فودة حالة صابر في السياق التالي:
"تفو...
لكن نظرته تجمدت هذه المرة فوق البصاق... فالبصاق أحمر... أحمر اللون البصاق... البصاق لونه أحمر... أحمر لون البصاق... دم؟!
ثمّ أجهش بالبكاء"
(77) .
وعلى الرغم من التكرار الممل للتركيب اللغوي، إلا أن الدلالة واضحة للحالة الفردية، أما في (بحيرة وراء الريح) ليحيى يخلف فإن الأحمر يعبر عن الخطر الجماعي، وحين ينافس الأبيض خاصةً، يزيحه عن امتداده الدلالي المألوف ليحيله إلى نقيضه:
"حط سرب من الطيور البيضاء على القرميد الأحمر فوق سطح المحطة"
(78) ، ولعل تجربة نادرة الحفّار مع الألوان في رواية (الغروب الأخير) من أكثر التجارب غنىً، إذ يتضح أنَّ الكاتبة هندست دلالة الألوان بهدوء ودراية، ويمكن ملاحظة ألوان الأثواب التي كانت ترتديها سارة مع تطور شخصيتها في الرواية، وذلك في السياقات التالية:
ـ "إنتقت ثوباً رمادياً، اليوم سترتدي لوناً آخر، سوف تبدل ذلك اللون الأسود"
(79) .
ـ" تبدين فاتنةً ياسارة! أخيراً لبست الثوب الأخضر"
(80) .
ـ" تقدّمت سارة نحو المنصة، ثابتة النظرات، وهي ترتدي ثوباً أزرق اللون"
(81) .
ـ"أمضت سارة في ذلك اليوم وقتاً طويلاً في ارتداء ملابسها، ارتدت ثوبها الأبيض، تزيَّنت على غير عادتها"
(82) .
إن تغيير ألوان الأثواب من قبل سارة كان مرافقاً لتغيرُّ سارة الداخلي: فقد كانت سوداوية، حزينة، متشائمة، بسبب وفاة أمها، ثم مرت في مرحلة التردد، حيث الرمادي لون محايد، وانطلقت بعد ذلك تصعد سلم الألوان، نحو اللون الأبيض الذي هو نقيض للأسود. لأن سارة في بداية الرواية هي نقيضها في النهاية. والشكل التالي يبرز تطور سارة، بتطور ألوان أثوابها:





§ ولكن هل يمكن أن تقوم الأشكال الهندسيّة للأشياء بدورها على صعيد الدلالة، وهل يختلف الشيء المربع عن المستطيل، وهل يختلف المكعب عن الكروي في الدلالة؟
هناك إشارة طريفة إلى ذلك في كتاب (قضايا الرواية الحديثة) لجان ريكاردو تشير إلى علاقة محددة بين الشكل الهندسي للأشياء، ودلالتها وهو يركز على ارتباط المثلث بالجنس، ويشير إلى هذه الدلالة من خلال ربطها بمثال تطبيقي، يشير فيه إلى فتحة الصدر المثلثية، وأشرعة السفن والحوامات، ومثلثا غطاء النهدين، ومثلث لباس السباحة... ويؤكد كون "ذكر كل شيء ذي مركبات مثلثية، في كل الأحوال تلميحاً إلى الفتاة. وبالعكس»
(83) .
بالمقابل، فإن الرواية الفلسطينية لم تخرج عن إطار هذا المعنى، ويمكن هنا أن يشار إلى صورة الحجاب المثلث في رواية (بحيرة وراء الريح) ليحيى يخلف، وهو يكتسب قيمته الجنسية من كونه هدية تلقاها أسد الشهباء من حبيبته ملك، فيما يعطيه لونه الأخضر دلالة حياة مليئة بالسعادة.
"في الليلة الثالثة أخرج أسد الشهباء، من جيبه الحجاب المطوي على شكل مثلث، والمغلف بقماش أخضر... إنه الحجاب الذي أهدته إياه (ملك)"
(84) .
نستطيع أن نلمح أيضاً صورة مكررة للدائرة، التي تعدُّ أكثر الأشكال الهندسية كمالاً وانسجاماً، وتبدو هذه الدائرة في الرواية الفلسطينية شكلاً كتيماً عصّيا على الاختراق. إن الدائرة، في المثال التالي، هي دائرة أفكار، وهي غير قابلة للاختراق من قبل الآخرين، ولكنها قادرة على التوسع من الداخل:
"لكن راضي الذي بدأت دائرة أفكاره تتسع، تساءل بينه وبين نفسه: "ماالذي أثار أشجان العمة ولماذا تصرفت على هذا النحو"
(85) .
ولا يستطيع المرء أن يعمم دلالة هندسة المكان على جميع الأشياء المستوية والفراغية التي عرضتها الرواية الفلسطينية خوفاً من الوقوع في اقتسار النص وإجباره على قولٍ قد يكون بعيداً عن تصور المبدع والقارىء في آنٍ.
ب ـ الفضاء النصي :
على الرغم من أن شكل الكتابة والصفحة والتأطير والغلاف وما إليه لم تأخذ بعد الاهتمام الكافي من قبل المبدعين والنقاد على حد سواء، فإن دراسة الفضاء النصي قد تقدم بعض الفائدة. لا سيما إذا أخذنا بعين النظر أن واحدةً من أهم الروايات الفلسطينية استفادت من تغيير حجم الحرف في تقديم تقنية غريبة حديثة إلى القارىء العربي.
وعلى الرغم من أنّ دراسة هذا الفضاء بدأت تتسع لتشمل أنواع الكتب كافةً، وتستقصي ترتيب فهارسها ومراجعها، وحجم فراغاتها، فإن هذه الدراسة ستكتفي بتقصّي النواحي التالية:
1- التشكيل الطباعي.
2- الكتابة الأفقية والعمودية.
3- علامات الترقيم.
4- التأطير والرسوم.
5- الغلاف والعنوان.
1- التشكيل الطباعي:
لم يستفد الروائيون الفلسطينيون كثيراً من الإنجازات التقنية الطباعية، باستثناءات قليلة، ولا يمكن هنا تجاوز رواية (ماتبقى لكم)، لغسان كنفاني، تلك الرواية التي استفادت من تجربة وليم فوكنر في (الصخب والعنف)
(86) ، وقدمت شخصيات متداخلة فيما بينها إلى أبعد حدود التداخل، حيث تمكّن تغير شكل الحرف أن ينقل رواية الحدث من شخصية إلى أخرى. ويقدم الأحداث المتزامنة بنجاح متألق(87) ويمكن أن نشير إلى انتقال فعل الروي من مريم إلى الصحراء فيما يأتي:
"ولكننا خدعناه يازكريا، خدعناه. لنعترف بذلك. إنه بعيد الآن، يسير منذ ثلاث ساعات على الأقل، وخطواته واحدة واحدة أحصيها مع الدقات المعدنية المخنوقة في الجدار، أمامي. دقات النعش. دقات محشودة بالحياة يقرعها بلا تردد فوق صدري حيث لا صدى، ثمة، إلا الرعب (...) منذ اللحظة التي أحسست فيها بخطواته الأولى على الحافة عرفت أنه رجلٌ غريب"
(88) .
وقد استطاع كنفاني اجتياز امتحان التطبيق ببراعة لأنه أحسن الانتقال، ووجد دائماً، على مدى روايته، سبباً مقنعاً، ورابطاً يمكنه من الانتقال من راوٍ إلى آخر، دون أن يسبب ذلك اختلافاً في مستوى اللغة.
وثمة أمثلة أخرى قليلة في الرواية الفلسطينية تدلّ على استفادة الروائيين من التشكيل الطباعي، يستخدم الروائي خلالها مقطعاً من لغة أجنبية يتوسط اللغة العربية، غير أن مثل هذه التقنية كانت تسبب إرباكاً للقارىء. ولم يجد جبرا حلاً في (السفينة) لهذه المعضلة إلا بترجمة هذا النص إلى العربية.
Are not fearful poisons set up in the soul by a swift concentration of all her energies, her enjoyments, or ideas; as modern chemistry, in its caprice, repeats the action of creation by some gas or other? Do not many men perish under the shock of the sudden expansion of some moral acid within them?
Balzac (“The Wild Ass’s Skin”)
ترجمة النص الانكليزي: ألا تنشأ سموم رهيبة في النفس بفعل التركيز السريع لطاقاتها ولذاذاتها وأفكارها، كما تفعل الكيمياء الحديثة، في نزوة منها، إذ تعيد عملية الخلق بفعل غاز ما؟ ألا يهلك الكثير من الناس من صدمة التمدد الفجائي الذي يحدثه حامض خلقي ما في داخلهم؟
بلزاك («جلد حمار الوحش»)
(89)
غير أن أفنان القاسم، الذي استخدم مقطعاً أجنبياً (فرنسياً)، لم يترجم هذا المقطع إلى اللغة العربية في رواية (المسار)، مما سبب إرباكاً للقارىء الذي لا يعرف اللغة الفرنسية:
وهمهمت امرأة عجوز:
ـ لم أفهم شيئاً!
فالتفت شريف نحو عدنان ليلاحظ مدى انطباعه، وسمع أحدهم يقول دون أن يتبين وجهه:
ـ كان راهباً، وهذا، على ما أظن ترتيل.
IL est ne le divin enfant
Jouez hautbois resonnez musettes
IL est no le divin enfant
Chantons tous son avenmenl.
(90)
وإذا كان غسان كنفاني قد أفاد إلى حد كبير من تقنيات الطباعة الحديثة، فإن استخدام الخط الأجنبي عند جبرا وأفنان القاسم كان يعيق سير العمل القصصي، ولم يلقَ النجاح ذاته، لأن ترجمة النص عند جبرا ـ تلغي الحاجة إليه، فيما يعيقُ إلغاء الترجمة فهمَ النصّ الذي أورده القاسم. ولعلّ حلّ هذه المشكلة يقع على عاتق القارىء نفسه الذي يمكن له من خلال ثقافته أن يسهم في تعزيز دور هذه التقنية.
2- الكتابة الأفقية والعمودية:
لم تستخدم الرواية الفلسطينية سوى الكتابة الأفقية بشكل عام، إلا إذا اقتضى الحوار القصير كتابة عمودية. وباستثناء المقاطع الشعرية الكثيرة، لم يشكل الروائيون الفلسطينيون نصوصاً عمودية. وثمة أمثلة كثيرة لاستخدام المقاطع الشعرية سواءُ أكان ذلك في تقديم الفصول، أم داخل بنية الخطاب الروائي. وتمكن هنا الإشارة إلى الروائية سحر خليفة التي قدمت روايتها (عباد الشمس) بالمقطع الشعري التالي من (أنشودة الصيرورة) للشاعرة فدوى طوقان:
«كَبُروا في غاب الليل الموحش، في ظلّ الصبّار المُر
كبروا أكثر من سنوات العمرْ
كبروا، التحموا في كلمة حبّ سرية
حملوا أحرفها إنجيلاً يُتلى بالهمسْ
كبروا مع شجر الحناء، وحين التثموا بالكوفية.
صاروا زهرة عباد الشمس"
(91)
ويمكن هنا أن يشار إلى مثال آخر تحتل الكتابة العمودية فيه جزءاً لا يتجزأ من اللُحْمة السردية، إذ يغدو الشعر الذي يستشهد به الروائي جزءاً من منطق الرواية ذاتها، في (الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبو النحس المتشائل)، يذكر المتشائل القرى الدارسة التي محا الصهانية أثرها، فيقول:
"لا تلمني يامحترم، بل لُمْ أصحابك، ألم يكتب شاعركم الجليلي:
­
سأحفر رقم كل قسيمةٍ
من أرضنا سُلبت
وموقع قريتي، وحدودها
وبيوت أهليها التي نُسفت
وأشجاري التي اقُتلعت
وكل زُهيرةٍ بريةٍ سُحِقتْ
لكي أذكر
سأبقى دائماً أحفر
جميع فصول مأساتي
وكلّ مراحل النكبة
من الحبّة
إلى القُبّة
على زيتونة
في ساحةِ الدارِ”
(92)
3ـ علامات الترقيم:
بدأ استخدام علامات الترقيم يحتل مكانة متميزة في دلالة النص الروائي، وفي تشكيله مع فرجينيا وولف التي استطاعت أن تستخدم الإشارات الاعتراضية، والأقواس والنقاط، على نحو فريدٍ لفت النظر إلى فعالية استخدام هذه العلامات. وتمكن الإشارة إلى رواية (المنار) على وجه الخصوص. إذ استطاعت وولف فيها أن تستخدم الأقواس على نحو فعال، للدلالة على هيئة الشخصيات داخل بنية الخطاب الروائي.
"وحيث إن مسز ماك ناب ظنّت أنها لا تضّر أحداً بفعلها، لأن عائلة رامزي لن تأتي ـ مطلقاً ـ كما قال البعض ـ وأن المنزل رُّبما يباع في عيد الملاك ميخائيل، فقد قطفت باقة من الأزهار كي تأخذها إلى منزلها. وضعت الباقة على المائدة ريثما تنفض التراب. كانت مسز ماك ناب مغرمة بالزهور، وكانت ترى أن من المؤسف أن تضيع هباءً.
لنفرض أن المنزل سيباع (وقفت مسز ماك ناب "في تراخٍ" أمام المرآة) فإنه رغم ذلك يحتاج إلى رعاية"
(93) .
فإذا دققنا النظر في المقطع الأخير بالذات نجد أن وولف قد لجأت إلى القوسين ( ) لبيان حال الشخصية، ثم استخدمت القوسين " " حين اعترضتها حالٌ أخرى داخل الحال.
وليس مطلوباً أن تستوعب الرواية الفلسطينية تجربة وولف على نحو ممتاز، وإن كان هذا الطموح مشروعاً، غير أن الطموح المبدئي هو أن تُستخدم علامات الترقيم، على نحوٍ صحيح على الأقل، إذا لم يكن بالإمكان استخدامها على نحو يتجاوز الصحيح المألوف إلى الصحيح المبدع، إذ إنّ عدم الدقة في استخدام علامات الترقيم يسيء إلى النص من الناحية الشكلية والدلالية لما يمكن أن تؤديه هذه العلامات من ترتيب لشكل الصفحة، وتوحي للقارىء بترتيب أفكار الروائي، والوعي في ترتيبها، مهما كان هذا الترتيب فوضوياً، إضافةً إلى مايمكن أن تقدّمه على الصعيد الدلالي.
في رواية (الطريد) لنواف أبو الهيجاء، تستخدم علامات الترقيم على نحو غريب، فهو يستخدم النقاط المتجاورة إلى حدّ كبير على مدى روايته، وهذا المقطع مجرد مثال:
"أصابه البرد.. الجليد.. التجمد.. قلبه فقط.. ينطُّ.. يقفز مغتاظاً.. أصابع كفيّه تصلّبت.. شفتاه تتحركان.. إثر تشنجٍ مريع.. عيناه محملقتان.. بلا شيء.. ضباب.. ضباب.. كثيف”
(94)
وفي رواية (العدوى) يكرر وليد أبو بكر استخدام النقطة بين الجمل القصيرة، وينتجُ هذا التكرار توقفاً إجبارياً يعيق مسيرة السرد «عندما خرجتُ، لم أجد صعوبة في الانضمام إلى الجماعة. مدّ سليم سيجارة لي. أخذتها. تطلع إلي. ابتسم، دخنت. لم يقل شيئاً. كان الحديث يدور. صرنا جزءاً منه. كان نظري ينتقل إلى سليم بين فترة وأخرى. كان في مثل سنّي. لم يكن نحيفاً»
(95) .
وكان من الممكن للسرد أن يكون أكثر رشاقة وسرعة فيما لو استخدم الروائي علامات ترقيم أكثر مناسبةً. ولعل من الغريب أن يستخدم بعض الروائيين الخط المائل بين الجمل القصيرة، وتمكن الإشارة هنا إلى رواية (المندل) لأحمد عمر شاهين، إذ إنّ الخط المائل المستخدم بين ثنايا سطور هذه الرواية يكسب السرد سرعة وحيوية، وإن كان يصدم القارىء الناظر إلى جمال الصفحة وأناقتها:
"الماء ساخنة مازالت/ يستحمون على نفقة الحاج عبد الوهاب/ يسخِّن لهم المياه لأوّل مرة/ يقوم بعمل نافع/ لا بد أنه انتهى الآن/ كم مرة استحمَّ في الاسبوع/ صفيحة على موقد كيروسين ووعاء صغير/ واحد/ يلقي بالماء على رأسه وظهره/ الدشُّ يبلله بالماء الساخن/ ساخن جداً/ الحاج دسم جداً/ يفتح صنبور الماء البارد ليخفف من سخونته"
(96)
ويشار هنا إلى أن الروائي جمال ناجي يستخدم علامات الترقيم على نحو دقيق، وليس على نحوٍ فعالٍ مبدع، وإن كان في هذا المقطع يحاول أن يستخدم هذه العلامات بشكل متميز:
"وتبكي فتحيّة‍‍.ما إن تزمّ شفتيها الصغيرتين حتى تسيل دموعها بغزارة، والانتفاخات تظهر على وجوهنا وأيدينا وأرجلنا، لكننا لا نتغيب عن دروسنا، فالمدرسة هي المدرسة، لأن المدير... هو المدير!"
(97).
4ـ التأطير والرسوم:
لم يكن التأطير داخل الصفحة ذا شأن يذكر في الرواية الفلسطينية، والعربية عموماً. ذلك لأن الروائيين العرب عامةً. والعاملين على أمور الطباعة، لم يعيروا التفاتاً لهذه التقنية التشكيلية التي لفت بوتور إليها النظر في كتابه (بحوث في الرواية الجديدة). على أننا نستطيع، رغم ذلك، أن نجد بعض الأمثلة النادرة.
فعلى الرغم من الاعتراض الذي يثار حول رواية (سداسية الأيام الستة) لإميل حبيبي، وجدارة انتمائها للشكل الروائي، فإن ندرة الأمثلة على التأطير تجعلنا نستشهد بها، فحبيبي يقدم لوحاته الست التي تتألف منها الرواية، وهي خمس استهلالات فيروزية مؤطرة، و(أغنية لم تغنها فيروز).
وتمتد هذه الاستهلالات المؤطرة على مدى صفحات الرواية، ويذكر هنا أن الأطر تضاف إلى مجموعة الأشياء التي توحد اللوحات التي تبدو منفصلة، وقد تطرق سعيد علوش إلى هذه الاستهلالات وقال عنها:
"الاستهلالات الفيروزية: وهي عبارة عن مقاطع من أغاني فيروز، تجتثّ من سياقاتها الصوتية والإيقاعية لتعمل على إيهامٍ روائي ـ أطروحي. ولا توحي القراءة الأولية لهذه الاستهلالات، بصلة عضوية بالنصّ الروائي، إلاّ أن الوحدات الخطابية المبثوثة عبر اللوحات، تجعلنا نستعيد اعتبارها كعناصر ذات رصيد ثقافي وتراثي"
(98) وتبدو الاستهلالات وتأطيرها على النحو التالي:(99) .

1- حين سعد مسعود بابن عمه
لماذا نحن يا أبتي
لماذا نحن أغرابُ
أليس لنا بهذا الكون
أصحابٌ وأحباب
"أغنية فيروزية"


2- وأخيراً نور اللوز
بلادي أعدني إليها
ولو زهرةً ياربيع
(أغنية فيروزية)

«اغنية فيرروزية»

«أغنية فيروزية»
3- أم الرو بابيكا
"بالإيمان.. راجعون
للأوطان.. راجعون
راجعون، راجعون
راجعون"
"أغنية فيروزية”


4- العودة
«البيت لنا والقدس لنا
وبأيدينا سنعيد بهاء القدس
بأيدينا للقدس
سلام آت آت آت آت"
(أغنية فيروزية)

«اغنية فيروزية»

«اغنية فيروزية»
5 ـ الخرزة الزرقاء عودة جبينه
يا ساكن العالي طلْ من العالي
عينك علينا على أراضينا
رجع إحوتنا وأهالينا
***
عندنا بيوت وسطوحة عليّة ورا عليّة
بوابها مفتوحة للشمس الحريّة
يا ساكن العالي طل من العالي
وطيّر الحمام عاطراف الأيام
قدرنا منام عا إيدين السلام

6- الحب في قلبي
عسى الكربُ الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريبُ
فيأمن خائف ويفك عانٍ
ويأتي أهله النائي الغريب.
(أغنية لم تنشدها فيروز)

(اغنية فيروزية)

(أغنية لم تنشدها فيروز*


أما التأطير داخل بنية الخطاب الروائي فهو أمر لا يستطيع المرء أن يمثل له في الرواية الفلسطينية لأنها تفتقر إلى هذا النوع من التأطير. وقد أشار حميد لحمداني إلى الدور الذي يمكن أن يقوم به التأطير حين قال إنّ هذا التأطير يقوم بدور "التحفيز الواقعي"، وأشار إلى "ماجاء في إحدى قصص الكاتب المغربي بوزفور عندما جعل أحد الأبطال ينظر إلى مدخل العمارة فيرى اللوحة التالية:
(100)
الدكتور خشّان
طبيب نفساني ـ الطابق الثاني
وقد رسم إميل حبيبي في رواية (سرايا بنت الغول) عصا عمِّ الراوي إبراهيم بعد أن وصفه وصفاً دقيقاً فهو "على شكل صليب غير مألوف الشكل بيضوي الهيئة تتوسطة فتحة كان من الممكن أن تحتوي وجه ابن آدم وله ذراعان ممدودتان أفقياً أشبه بذراعي ابن آدم يرتدي تواً له كمان فضفافان. ويأتي، تحت الشكل البيضوي، جسم خرطومي ينتهي بقاعدة عريضة شبيهة بما يبدو من انتفاخ في ثوب كاهن عند قدميه.
وأضعه الآن أمامي وأرسمه مثلما هو أمامي لازيادة فيه ولا نقصان:
(101)



هـ ـ الغلاف والعنوان:
* الغلاف:
تشكل لوحة الغلاف جزءاً من نسيج الرواية ذاته، وإذا لم يُستخدم الغلاف لكي يسهم في اضفاء جلالة ما، ولكي يشكل إضافةً ما لما تريد أن تقوله الرواية، فليس ثمةً داعٍ لوجوده.
لقد عرفت الرواية العربية أشكالاً متعددة من الأغلفة، منها الغلاف الفاخر الذي لا يحتوي أية لوحةٍ، حيث يكتب العنوان والمؤلف بماء الذهب، مثل رواية (رجاء)
(102) لحسن البحيري، ومنها أيضاً الغلاف الذي يهتم برسم لوحته دون النظر إلى طابع الفخامة الذي يمكن أن يقدمه الغلاف الفاخر ذي اللون الواحد. ويمكن أن نجد ثلاثة أنواع للوحة الغلاف:
§فثمة لوحة غلاف تجريدية يؤدي الفنان دلالتها من خلال رمزها، وامتدادها الدلالي. ويمكن هنا أن نشير إلى رواية (باريس)
(103) لأفنان القاسم، وتبدو لوحة الغلاف أنيقة تستفيد من العلاقةالمحكمة بين باريس الرمز (برج إيفل)، وباريس المرأة الممتدة على صفحات الرواية.













ويمكن في هذا الإطار أن يُشار إلى رواية (الهجرة إلى الجحيم)، وهي لوحة تجريدية، ترمز فيها المرأة إلى (اسرائيل)، التي تقيدها سلاسل العنصرية، وكثيراً من الأمراض الاجتماعيّة ولكنها رغم ذلك تسير، غير عابئة بالقوانين، وبحقوق الإنسان التي يفتقدها حتى اليهود أنفسهم، دون أن تدري أنها تسير إلى هاويتها.
(104)













وثمة لوحة غلاف واقعية، تعبر عن حدث أو مجموعة أحداث تقدمها الرواية، وتعدُّ رواية (ياليلة دانة) مثال واضح على ذلك، فالرواية تتحدث عن رحلة البحار المليئة بالآلام والآمال بحثاً عن الجوهرة الكبيرة التي هي أمنية الغواصّ، ويظهر في لوحة الغلاف بحارٌ وقاربٌ وبحر وسماء، مما يعطي شعوراً بالألفة وسهولة في التصور.












§ وثمة لوحة غلاف مزجت بين الواقعية والتجريدية، ويمكن أن تُعدُّ لوحات أغلفة الروائية سحر خليفة لوحات تمزج بين الواقع والتجريد، ويمكن أن تُذكر هنا لوحةغلاف رواية (لم نعد جواري لكم)، التي تعبر عن تحدي الأنثى الفلسطينية لظروفها التي فرضها الاحتلال، والتي فرضها الفلسطينيون أيضاً، إذ تعبر هذه الرواية عن معركة الأنثى التي تقف في مواجهة الاحتلال، وفي مواجهة التقاليد، وقد جاءت لوحة الغلاف لتدعم هذه المقولة، ولتؤكد أن المرأة غدت فلاحة وممرضة ومناضلة وسيدة منزل... الخ فالواقعية تتضح في تشكيل الغلاف الذي يحتوي على صورة امرأة، ولكن الأيدي الكثيرة لهذه المرأة تعطي هذه الواقعية بعداً تجريدياً:













§ وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الغلاف الواقعي يعدّ أكثر إثارة لخيال القارىء العادي الذي يبحث عن السهولة، ولا يبذل جهداً في التصور، في حين يحتاج الغلاف التجريدي إلى بذل جهدٍ لكشف رموزه، وهو جهد يمتزج بلذة الكشف.
* * العنوان:
إن عنوان الرواية جزء من لوحة الغلاف، ولا تكتمل دلالة الرواية إلا به. وحتى تكتمل دلالة العنوان ينبغي أن يكون مطابقاً للمحتوى، ومثيراً ومختصراً، ومركَّزاً، ونوعياً. فإذا حقق هذه الشروط كان بمثابة نصٍّ موازٍ للرواية ذاتها
(105) .
وعلى الرغم من أن العنوان التالي: (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) للرواية التي كتبها إميل حبيبي يعاني من طول التركيب اللغوي، فإنه يعدّ من أكثر العناوين إثارة في الرواية الفلسطينية. وتبتدىء الإثارة من طول العنوان ذاته، ومن سبب اختفاء سعيد، ومن سبب كنيته (أبي النحس)، ولقبه (المتشائل).
كما يعود نجاح هذا العنوان أيضاً إلى مطابقته للمحتوى، فهو يشرح كيفية اختفاء المتشائل، ويخصص فصْلاً لفكَّ طلسم الكنية واللقب،
(106) ومن خلال كل ذلك يحقق عنواناً نوعياً متميزاً لا شبيه له لغةً وتركيباً ودلالةً في الرواية الفلسطينية.
أما رواية (ماتبقى لكم) لغسان كنفاني فهي تحقق النجاح من خلال عنوانها، ولكن السبب في نجاح العنوان لا يعود إلى إثارته. ولكن إلى اختصاره، وتميُّزه، ومطابقته للمحتوى، وإلى توليده مجموعة من الأسئلة التي تنتهي إلى إجابة واحدة: إنَّ الذي تبقى لنا هو ماتبقى لحامد ومريم: المواجهة.
غير أنَّ ثمة عناوين كثيرة في الرواية الفلسطينية اختيرت على عجلٍ، لذلك لم تسهم قليلاً أو كثيراً في إضافة أيَّ رصيد للرواية، فرواية (نشيد الحياة) ليحيى يخلف، و(الأرض المغتصبة ـ عودة العاشق) لمحمود شاهين و(الينابيع) لجمال جنيد، تقف في مواجهة عناوين ذات رصيد دلالي كبير يُذكر منها (تفاح المجانين) ليحيى يخلف، و(الزورق) لحسن سامي اليوسف إذ إنّ التفاح الذي يأكله بدر، والشعب الفلسطيني، هو سبب خارجي لقوته، وعلى الفلسطيني بسبب ذلك أن يبحث عن سر القوة الكامنة فيه، أما (الزورق) فهو ذو علاقة وطيدة بترحال الفلسطيني في بحر الغربة.
فإذا نظرنا إلى مجموعة عناوين الروايات الفلسطينية، من زاوية التركيب النحوي فإننا سنجد تفوقاً كبيراً لتلك العناوين التي تستخدم الجملة الاسمية، وندرةً في العناوين التي تستخدم الجملة الفعلية أو شبه الجملة. فمن القليل النادر الذي استخدم الجملة الفعلية في العنوان روايتا (لم نعد جواري لكم) و(نزل القرية غريب)
(107) ، ومن القليل النادر الذي استخدم شبه الجملة رواية (إلى اللقاء في يافا). أما الجمل الاسمية في العنوان فكانت كثيرة، وتعددت أنماطها، وتمكن الإشارة إلى الأنماط التالية:
1- الاسم المفرد: مثل (السفينة) و(اخطية) و(الصبار)
(108) و(وقت).
2- الاسم الموصوف: مثل (الغرف الأخرى) و(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل).
3- التركيب الإضافي: وهو أكثر التراكيب شيوعاً في الرواية الفلسطينية مثل: (سداسية الأيام الستة) و(تفاح المجانين) و(نشيد الحياة)، و(عباد الشمس) و(شجرة الصُبير)
(109) و(مجرد 2 فقط)(110) و(حارة النصارى) و(أسطورة ليلة الميلاد)(111) و(أيام الحب والموت)(112) .
4- الخبر جملة: مثل (الحزن يموت أيضاً)
(113) .
5- الخبر شبه جملة: مثل (البحث عن وليد مسعود) و(راقصة على الزجاج)
(114) و(الطريق إلى بير زيت) و(نجران تحت الصفر).
وربّما كان السبب في غلبة النمط الاسمي على النمط الفعلي في عنوان الرواية الفلسطينية، هو أن الاسم أكثر استقراراً وأكثر ثباتاً، وهو بهذا المعنى معادلٌ للبقاء أو للصمود، أما التركيب الفعلي فربما يوحي بالتزحزح وعدم الثبات، وربما يوحي أيضاً بمزيد من التنقُّل الذي يرفضه الفلسطينيون ويخافونه.
وثمة أمر جدير بالملاحظة في الرواية الفلسطينية، وهو حضور المكان في عناوين الروايات بشكل كثيف، إذ إن المرء يستطيع أن يطالع أسماء مدنٍ وقرى، ويستطيع أن يجد محددات مكانية كالشارع والحارة والغرف والسفينة والأرض... الخ، وتمكين هنا الإشارة إلى العناوين التالية: (عائد إلى حيفا) و(الطريق إلى بير زيت) و(باريس) و(الغرف الأخرى) و(حارة النصارى) و(السفينة) و(شارع الغاردنز) و(الشوارع) و(الأرض الحرام)... الخ.
لقد استطاع الفلسطينيون بشكل عام أن يفيدوا من جوانب قليلة تسهم في تشكيل الفضاء النصّي، خاصة الكتابة العمودية، واختيار العناوين، إلا أن نجاحهم في الإفادة كان مديناً إلى دلالة هذه الجوانب لا إلى تشكيلها، أما فيما يتعلق بلوحة الغلاف والتشكيل الطباعي وعلامات الترقيم، فإنها ماتزال بحاجة إلى كثير من الاهتمام.
ـ وظائف الفضاء:
تُناط بالفضاء أساساً وظيفةٌ جمالية لا تنكر، فهو يُسهم في تأكيد شعرية الرواية. غير أن الذي ينبغي تأكيده هو ضرورة ألا يعيق الجري وراء الوظيفة الجمالية للفضاء سير العمل الروائي. وقد استطاع كثير من الروائيين أن يجعلوا من صفحات رواياتهم مسرحاً لتقديم فضاء يسهم إسهاماً كبيراً في إضفاء جمال أخاذ على الخطاب الروائي، سواء أكان ذلك في الرواية العربية أم العالمية. وتمكن الإشارة هنا إلى رواية (الدون الهادىء)، إذ يدافع ميخائيل شولوخوف منذ مطلع الرواية عن الدور الجمالي للفضاء، جاعلاً من مقدمة روايته لوحةً جميلة، كأية لوحة تبدعها يد فنان:
«كان حقل ميلخوف في أقصى قرية “تاتارسك”، وبوابة زريبة الماشية فيه تفتح صوب الشمال على "الدون". ووراء منحدر وعرٍ يمتد ستين قدماً بين ضفتين من الصخور الطباشيرية كانت ضفة النهر، وأما صفحته الفولاذية الزرقة، والتي كانت تداعبها الريح، فقد امتدت هناك عريضةً واسعة. وإلى الشرق، خلف أسيجةً من أغصان الصفصاف تحيط بالبيادر، كان يمتد درب (هتمان)، حيث تنتثر أرومات شجر الشيح، وتتبعثر نباتات لسان الحمل اليابسة، الرمادية اللون، والتي هرستها حوافر الخيل. هناك كان مفترق طرق، ومن ورائه ينبسط السهب يلفُّهُ ضباب يظلّ ينتقل، وكأنه السراب، وإلى الجنوب كانت تبرز مجموعة من تلال طباشيرية صغيرة أما إلى الغرب فيمتد الشارع الذي يجتاز البيدر صوب المروج»
(115) .
غير أن الجري وراء جمالية الفضاء، إلى حد كبير، قد يعيق العمل الروائي، ويسبب له إرباكاً، وتمكن الإشارة إلى مثالٍ من الرواية الفلسطينية، ففي رواية (رجاء) يحاول حسن البحيري أن يستنفذ طاقته الشعرية لتقديم رواية رومانسية، يعيق فيها جمال الأسلوب، والصنعة اللغوية حركة الحدث والشخصية، ومما يسهم أيضاً في ذلك استخدام كلمات غريبة، صعبة على القارىء العادي، يعمد إلى شرحها في الهامش، ويستطيع المرء أن يلاحظ ذلك في المقطع التالي:
"كنت كثيراً ما أُلغى جائلاً في سفوح "جبل الدّوح" صاعداً إلى أعاليه، أو منحدراً إلى أعماق واديه «وادي العقيق» أغنّي مع الطير، وأرقص مع الزهر، وإذا شفّني طول السير اضطجعت في ظل صخرة عاطفة، أو تحت أغصان دوحةٍ وارفةٍ»
(116) .
وتناط بالفضاء وظائف عديدة بعضها أدبي، وبعضها فوق أدبي، إذ إنّه يسهم في تحديد شكل الرواية، وفي أداء مضمونها، كما أن له وظائف غير أدبية إزاء النصّ وإزاء الراوي وإزاء القارىء.
1ـ الوظائف الأدبية للفضاء:
§الفضاء وشكل الرواية:
يسهم الفضاء الجغرافي بشكل خاص، إلى حدّ كبير في تحديد شكل الرواية، ونوعها، ذلك أن الحضور الكثيف للفضاء يحوّل الرواية إلى (رواية فضاء) أو إلى (رواية شخصية)، في حين أن انسحابه إلى حد معين، يتيح للعناصر الأخرى الظهور على مساحة النص، إذ يحتلّ الحدث الذي تقوم به الشخصية دوراً بارزاً، مما ينتج (رواية حدث)... الخ.
لقد أفاد الروائيون الفلسطينيون كثيراً من قلق الوجود المكاني الذي عانوه، مما أنتج عندهم روايات بالغة الامتلاء بالحضور المكاني، وقد سبقت الإشارة إلى رواية (شارع الغاردنز) لأفنان القاسم الذي وظف الفضاءَين الجغرافي والنصي توظيفاً مكانياً ناجحاً في رواية يمكن أن نسميها (رواية فضاء). كما قدم القاسم روايةً قامت على العلاقة المتينة التي تفترضها البحوث النظرية بين الشخصية والمكان: هي رواية (باريس)، وهو يفيد في هذه الرواية التي هي (رواية شخصيةٍ) بالأساس من الدلالة المزدوجة لكلمة باريس. إذ إن جميع الدلالات المكانية التي تحملها الذاكرة القارئة عن هذه المدنية ستضاف إلى شخصية باريس المرأة التي قدمتها الرواية.
ثم إن العلاقة بين المرأة/ باريس، والجدّ/ الراوي هي علاقة مكانية، فباريس ولدت في المكان، وماتت في المكان، مشيعةً الراوي إلى مثواه، منفاه الجديد الذي هو مكان لتجربة جديدة منتظرة. ويكاد المرء يجزم أن أهم (رواية شخصيةٍ) في الروايات الفلسطينية هي (البحث عن وليد مسعود) لجبرا إبراهيم جبرا، فهي تقدَّم عبر تبادل حركة الروي شخصية وليد مسعود، وتكشفها، وبوصفها (رواية شخصية) فإن الأمر يفترض حضوراً بالغاً للمكان
(117) .
إن وليد مسعود وامتداديه (والده مسعود وابنه مروان) ذوو علاقة شديدة بالمكان، فوليد يتذكر بلدته، ويتحدث عنها بعشق مجنون:
"رأيتها تتلألأ كجوهرةٍ، وتملأ أجواءها عصافير السنونو، ورأيتها وزهر اللوز والمشمش يحتضن منازلها، وتنطلق الزغاريد من شبابيكها، ورأيتها والثلج كثياب العرائس يملأ طرقاتها وسطوحها"
(118) .
وحين تُعلّق مريم الصفار على الشريط الذي تركه وليد تركةً صعبةً بين يدي جواد حسني، تقول:
"أية رموز هذه التي تتحدثون عنها؟ كلام الرجل واضح وضوح الشمس. إنه يبكي ابنه، ويعود بنفسه وابنه، معاً، إلى أمه، إلى الأرض التي لم يستطع الكفّ عن التفكير فيها"
(119) .
إنّ الشخصيات الثلاث، وليد مسعود، ومسعود الفرحان، ومروان وليد، هي شخصيات متماثلة في علاقتها مع المكان الأهم في هذه الرؤية وهو الأرض، فمسعود الفرحان سقط شهيداً من أجل الأرض، ومروان وليد راح يقتحم مع رفاقه (أم العين) إيماناً منه بحتمية عودة الأرض، ووليد الذي اختفى تكشف الرواية من خلال غموضها، أنه اتجه إلى الأرض، وكأن هؤلاء جميعاً شخصية رئيسة واحدة تسافر في رحلةٍ من العدم إلى المكان، وهذا هو محور الرواية برمتها. ويمكن للتخطيط التالي أن يبرز أهمية الدور الذي قام به المكان في توحيد الشخصيات المذكورة:





أما في رواية الحدث، فإنّ الفضاء يضيف ويبرز هذا في النوع البوليسي الذي يعتمد على التشويق وتحقيق الإثارة بشكل خاص وتستثنى من هذا الحكم تلك الروايات البوليسية التي تُحل عقدتها اعتماداً على المكان.
رواية (الشيء الآخر) لغسان كنفاني روايةٌ من الطراز البوليسي الذي يعطي الحدث أهمية بالغة، وتتفوّق رواية كنفاني على الرواية البوليسية، بالتوسع في عمق الشخصية وتأملاتها الداخلية. ولكن الفضاء فيها لا يستطيع الحضور إلاّ من خلال سياقات لا تحتل أهمية بالغة على صعيد تطور الرواية، لذلك يجيء وصف المكان باهتاً، إذ يغدو (الباب) و(الداخل) جزءاً من نسيج الحدث، ولا يمتلك استقلاليةً نسبية تعطيه حدّاً أدنى من الخصوصية.
"وفتحت الباب فخطتْ إلى الداخل متردّدة بعض الشيء ولحقتها دون أن أتوقف عن الكلام"
(120) .
§ الفضاء ومضمون الرواية:
يبدو الفضاء ذا علاقة وطيدة بمضمون الرواية، ويقوم على صعيد المضمون، بأداء وظائف إيهامية، ورمزية، ونفسية، وتطويرية.
إذ يمكن للفضاء أن يسهم في خلق إيهامٍ بالواقع، يطمئنُّ إليه القارىء. وقد أفاد الروائيون الفلسطينيون مما حققه المذهب الواقعي، وما أكده من قدرةٍ متجددة على الاستمرار، لذلك كان على الروائيين أن يوهموا القراء بالواقع، عبر كل الطرق الفنية المتاحة أمامهم، من ذكرٍ للأمكنة أو معايشة للشخصيات، أو نقلٍ سماعي عنها، ويؤدي تشكيل الفضاء دوراً مهماً في الإيهام بالواقع، وتمكن الإشارة هنا إلى مدى التوفيق الذي أصابته ليانة بدرفي إيهام القارىء بالواقعي عندما قدّمت سوق صبرا، في رواية (بوصلة من أجل عباد الشمس) على النحو التالي:
"إنها صبرا في الصباح، سوق الخضار الطازجة والفواكه التي تُصدَّر بحمولات هائلة إلى دول الخليج. الجزارون يعلقون ذبائحهم ويزينونها بضمم البقدونس، وعشرات العربات اليدوية الفارغة تنتظر من يستأجرها كي يبيع عليها حمولة النهار. أقفاص الدجاج المزدحمة بالفراخ البيضاء والسوداء، وأسراب الذباب التي تحوم فوق تلال القمامة المتراكمة على مداخل الأزقَّة المؤدية إلى السوق»
(121) .
وإمعاناً من الروائيين في إقناع القراء بواقعية مايجري في سطور الرواية، وبإمكانية وقوعه، فقد توارد ذكر أسماء المدن والقرى الفلسطينيّة كثيراً وها هوذا إميل حبيبي على سبيل المثال في رواية (الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل) يورد أسماء القرى الفلسطينية التي جعلها الصهاينة أثراً بعد عين، حين ينتسب المجتمعون في فناء جامع الجزَّار، ويوجِّهون الأسئلة إلى المتشائل:
ـ أنا من المنشيّة، لم يبقَ فيها حجر على حجر، سوى القبور، فهل تعرف أحداً من المنشيّة؟
ـ لا
ـ نحن هنا من عَمْقَا، ولقد حرقوها، ودلقوا زيتها، فهل تعرف أحداً من عمقا؟
ـ لا
ـ نحن هنا من البروة. لقد طردونا وهدموها، هل تعرف أحداً من البروة.
(...)
ثم عادت الأصوات تنتسب في عِناد، مع أنّ قراها، كما فهمتُ، قد درستها العسكر:
ـ نحن من الرويس.
ـ نحن من الحدثة.
ـ نحن من الدامون.
ـ نحن من المزرعة.
ـ نحن من شعب.
ـ نحن من ميعار.
(...)
ولا تنتظر منّي، يامحترم، بعد هذا الوقت الطويل، أن أتذكر جميع القرى الدارسة، التي انتسب إليها الأشباح في باحة جامعة الجزّار"
(122) .
إن عشرات القرى التي محاها الصهاينة، مازالت أسماؤها شاهدةً على وحشية المحتل، لذلك فإن ذكر أسماء هذه القرى من شأنه أن يقنع القارىء بواقعية الحدث الذي بُنيعليه الخطاب.
ولا بد من الإشارة هنا إلى أن بعض الروائيين لا يجدون أنفسهم مضطرين إلى إيهامنا بالواقع، وربما ينحون منحىً غرائبياً، وجبرا إبراهيم جبرا يبني في رواية الغرف الأخرى فضاءه الجغرافي من خلال ذكر أمكنة غريبة تجري فيها حوادث لا تقل عنها غرابة: فالغرف غريبة الشكل والأثاث، والستائر لا تخفي وراءها أية نوافذ، والمرايا لا تعكس صور الذين ينظرون فيها، وهذا مثال على ذلك:
"واقتادني [عليوي] إلى باب مصعدٍ أنيق، ضغط زره، فانفتح في الحال، كأنه كان واقفاً في انتظارنا، في داخل المصعد مرآة كبيرة: رأيت خيالي للمرة الثانية هذه الليلة، رغم مالاحظتُ من محاولة عليوي أن يقف بيني وبين المرآة، غير أنني أزحتُه لكي أستطيع التمعُن بوجهي فيها، وارتعبتُ... لم يكن ذلك وجهي الذي أعرفه! كأنني رجل آخر لم أره من قبل في حياتي»
(123) .
* ويمكن للفضاء أيضاً أن يمارس دوراً مهماً في كشف آليات التوتر النفسي لدى الشخصيات الروائية، حين يقدّم الروائي عناصرها من وجهة نظر الشخصية أو من وجهة نظر الراوي، فحين يجلس الحبيبان حامد وربيعة في الحديقة، في رواية (مخيم في الريح) لعارف آغا، يُسهم الفضاء في التعبير عن مكنونات نفسيهما:
"في الحديقة، جلسا تحت سروة كبيرة هرمة. أمامها بركة ماء مستديرة، شديدة الزرقة، يتدافع منها الماء بمرح. وعلى يساره استلقى مرج أخضر، وعن يمينهما انتصب حشدٌ من الورود والأزهار الملونة. أشاع هذا الجمال في نفسيهما غبطة نشوانة"
(124) .
وحين يصف يحيى يخلف بحيرة طبرية، من وجهة نظر عبد الكريم، في رواية (بحيرة وراء الريح) فإن وصف هذا الفضاء يشي بالتوجس والقلق الذي يراقب به الفلسطينيون تطور الأحداث السياسية العاصفة قُبيل النكبة:
"هبت رائحة البحيرة، الرائحة هذه المرّة مختلفة. رائحة حشائش مينة، رائحة دخان. رائحة أرض يفور في أعماقها كبريت"
(125) .
ويمكن لبناء الفضاء أن يقوم بمهام رمزية، ويكون ذلك حين تصبح المحددات المكانية مجرد دوالٍ، ويكون المدلول واضحاً من خلال السياق.
في رواية (الطريق إلى بلحارث) يعيش عماد الفلسطيني غربةً مزدوجة في اليمن، حيث يكون بعيداً عن منفاه الأول عمان، وعن وطنه، ويكون الخروج مساوياً للسقوط، يأتي السياق التالي معبّراً عن المأساة التي يعيشها الغرباء الذين تركوا أوطانهم ومنافيهم، بحثاً عن الرزق: “وترتفع بنا الهيلوكبتر، ترتفع، تبدو البيوت والسوق وبلحارث، وبيتنا ذو السقف المثقب. تبدو جميعها صغيرة، والمدرسون يصغرون أيضاً. يصغرون تحت الطائرة. ثم يتحولون إلى نقاط باهتة، وسط بحرٍ من الرمال"
(126) .
إن عماد، الذي يحمل معه في الطائرة جثّة أحد المدرِّسين الذين سقطوا بفعل الغربة، يصف كل ماحوله، محملاً، من خلال لغة الخطاب الروائي ـ المحددات المكانية (البيوت والسوق والقرية والبيت وحجوم الأشخاص) بعداً رمزياً واضحاً. وكأنّ هذه المحددات تحذو بالفضاء نحو أن يكون معادلاً للأحلام، إذ يتلاشى الفضاء، وتتلاشى معه الأحلام، وتصغر معه قيمة الانسان الذي يتحول إلى حبّة رملٍ تضيع بين الرمال في صحراء الغربة.
* ويمكن للفضاء أن يكون محفّزاً بارزاً للأحداث، حين تكون الرواية قائمة أساساً على تشييد الفضاء، وثمة، إضافةً إلى رواية (شارع الغاردنز) لأفنان القاسم، رواية فلسطينية شهيرة أخرى هي رواية (ماتبقى لكم) لغسان كنفاني تنحو بالفضاء، منحىً يمكنه من تطوير الحدث، والإسهام الفَّعال في رسم النهاية، فالصحراء التي يسير فيها حامد ليلةً كاملة مخلوقٌ يستسلم لشباب حامد، ويتعاطف معه، ويتمنى أن يمنحه وقتاً كافياً للعبور نحو هدفه. وفي هذا السياق تتحدث الصحراء عن حامد: “لقد وقف فجأةً، نظر إلى السماء أولاً ثم إلى ساعته، وعرفت أنه يفكر مثلهم كلهم: إن عليه قطع أطول مسافة تستطيعها ساقاه الفتيتان قبل أن يبزغ الضوء المبكر، وكنت مبسوطةً أمامه، مستسلمة لشبابه بلا تردد، ولخطواته وهي تدقُّ في لحمي»
(127)
غير أن الفضاء لدى الكتاب الذي لايدركون طبيعة الفن الروائي، يمكن أن تكون معيقاً للحدث، ويمكن أن يخلق خللاً في البناء الداخلي للشخصية. فمن المفترض أن الشخصية السعيدة لا تصف بيتاً أو حقلاً أو لوحةً إلا وتترك أثراً من سعادتها على الموصوف، والعكس بالعكس. والمكان الذي لا تمتُّ تفصيلاته بصلةٍ إلى مستقبل الأحداث تصبح فيه هذه التفصيلات لا معنى لها. ويمكن التمثيل لإخفاقٍ من هذا النوع في تقديم الفضاء برواية (البحث عن هوية) لمحمد زهرة، إذ تأتي صورة البحر ناشزة عن الحركة العامة للحدث، بل ومعيقةً له. فجمال البحر لا يناسب بحث أحمد المحموم عن زوجته عائدة، إذ إن هذا البحث لا يدع للزوج وقتاً، يستطيع في خلاله أن يتأمل جمال البحر، ولكنّ أحمد لا يكتفي بأن يلتذَّ بنسمات البحر، بل يغيِّر وجهته إليه (!):
«لكنه، وفي طريقه صوب البحر قد يشعر بلذّة نسمات البحر التي كانت تنساب في ثنايا عواطفه فتثيرها شوقاً وهُياماً، فقرر بنفسه أن يتابع طريقه إلى الشاطىء غير البعيد»
(128) .
ويذكر هنا أن هذه الملاحظة يمكن أن تُؤخذ على كثيرٍ من الروايات العربية، وقد أشار الدكتور علي نجيب إبراهيم إلى الأمر ذاته في رواية (ينداح الطوفان) لنبيل سليمان. إذ يرى أن وصف النبعة يعيقُ حركة الرواية، والمحددات المكانية التي تُنشىء الفضاء لا تسهم في إغناء دلالة الرواية، «فالرابط بين ماهو موصوف والقصة المحكية واهٍ ولا يتمخض عن شيءٍ ذي أهمية”
(129) .
وإذا كان هذا الحكم يصدق على وصف النبعة
(130) التي تبدو كأنها تعوضّ شقاء الفلاحين، فإن نبيل سليمان قدّم أوصافاً مناسبة أخرى في العمارة التي تباع فيها المحاصيل(131) ولتقارب البيوت وحقول الدخان(132) ، مما يجعل الملاحظة السابقة صحيحة، ولكنها لا تصلح للتعميم على مجموع الرواية.
2ـ الوظائف فوق الأدبية للفضاء:
إذا تقصينا الوظائف فوق الأدبية التي تناط بالفضاء، وجدنا أنه يمكن أن يسهم في إغناء النص، وفي تكوين لغة الراوي، وفي تشكيل وعي القارىء، وإثراء خياله. فثمة إذاً ثلاث وظائف فوق أدبية للفضاء يُمارسها إزاء النص، وإزاء الراوي، وإزاء القارىء.
§ وظيفة الفضاء إزاء النصّ:
يمكن أن يسهم الفضاء إسهاماً فعالاً، من خلال تشكيله، في إضاءة الرواية، وإثراء مقولتها العامة، وتمكن في هذا الإطار الإشادة برواية (رجال في الشمس) لغسان كنفاني، إذ يسهم الفضاء، ومحدداته المكانية في تعميق الإحساس بمقولة الرواية برمتها. فحين يقدم كنفاني شخصية أبي قيس، يصف لنا السماء في المقتبس التالي:
“واستلقى على ظهره حاضناً رأسه بكفيه، وأخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر أسود يحلق عالياً وحيداً على غير هدى”
(133) .
ثمة، إذاً، أرض تحتضن مخلوقاً ضائعاً، وسماء تحتضن مخلوقاً ضائعاً أيضاً، فإذا عرفنا بُعد الرمز (طائر أسود يحلق على غير هدى) أمكننا أن ندرك مدى إسهام هذا التشكيل في أن يطور الحدث وفق رؤيته الخاصة التي لا تغادر لوحته التشكيلية الأولى.
كما يمكن أن يسهم الفضاء في ضبط حركة الإيقاع الروائي، إذا تمكَّن الروائي من أن يجعل أي عنصر من عناصر الفضاء مركزاً تدور حوله سطور الرواية. في رواية (الشوارع) يوزع أفنان القاسم هذه المقتبسات الأربعة على مدى صفحات الرواية:
«سيشقّون في مخيمنا الشوارع»
(134) .
«سنشقّ في كيبوتسهم الشوارع»
(135) .
«الأشبال يجوبون الشوارع»
(136) .
«اخرجوا إلى الشوارع»
(137) .
فعلى الرغم من التوزع المكاني الواسع لهذه الجمل (ص7ـ ص 101ـ ص175 ـ ص222)، وعلى الرغم من أن الأمكنة الجغرافية التي تقال فيها هذه السياقات تنتقل من الضفة الغربية، إلى الضفة الغربية المحتلة، ثم إلى عمان، وعلى الرغم من الأنماط اللغوية المختلفة لها فإنّ الكلمة السحريّة: الشوارع هي التي تُحكم نسيج هذه الجمل المتفرقة، وتشدها إلى الخط الأساسي لهذه الرواية. ولا شك أن تكرار هذه الكلمة لم يكن محض مصادفة، بل هو نتاج إبداعٍ روائي يدرك دور الفضاء في ضبط إيقاع الرواية.
§ وظيفة الفضاء إزاء الراوي:
تختلف وظيفة الفضاء باختلاف موقع الراوي. فإذا قدّمت الرواية بصيغة الغائب، كان الفضاء أكثر حيادية بالنسبة للراوي، في حين أن الفضاء يكون أقرب إليه، وإلى أزمته حين تقدم الرواية من خلال ضمير المتكلم الذي يتحكم بالروي، ويختلف الأمر كذلك حين يتعدد الرواة.
في (نجران تحت الصفر) ليحيى يخلف يقدم الراوي، بصيغة الغائب، وصفاً لمزبلةٍ، دون أن يُقيم الخطاب أية علاقة بين الراوي وبين الفضاء، إذ لا يكشف الفضاء شخصية الراوي ولا يذكر شيئاً ممّا يخصه: «كومةٌ من العلب الفارغة، وقطعة صفيح كبيرة، وأوراق، وقشور البيض، ولا شيء غير ذلك.. جزء من المزبلة يحترق ببطء، والدخان يتصاعد بلا اكتراث، وليس ثمة كسرةٌ من الخبز»
(138) .
أما إذا كانت الراوية تقدم بلغة المتكلم، فإن وظيفة الفضاء تغدو المشاركة في كشف شخصية الراوي، وإشراكه في الفعل الروائي، وتغدو لصيقة به، وضرورية لاحتواء فعله، بوصفه مشاركاً بالحدث الذي يقع في إطارها. في رواية (بوصلة من أجل عباد الشمس)، تقوم البطلة/ الراوية بتقديم الفضاء في إطارٍ استباقي، ذي علاقة كبيرة بها، إذ يحس المرء أن جميع المؤثثات المذكورة في السياق تخصها، بوصفها مشاركةً في الحدث، لا مجرد شاهدة عليه:
«لو ذهبتُ إلى بيت أم محمود فسوف تستغرقني تفاصيلهم الصغيرة، السرير الكبير إلى اليمين والبساط بنقوشه العربية مفروش في منتصف الغرفة.وسوف تكون هناك حشيَّة واحدة تصرٌّ أم محمود على إنزالها من فوق الفرش المرتكزة إلى فجوة في الحائط كي أجلس عليها”
(139) .
وحين يتعدد الرواة، فإن الفضاء يغدو بمثابة وجهة نظر للشخصيات التي تتبادل الروي. ورواية (ماتبقى لكم) لغسان كنفاني، وهي نموذج رفيع لتعدد الرواة، يقدم الفضاء فيها عناصرها، وفق رؤية الرواة. فزكريا يصف الصحراء من موقع الهازىء بحامد، وبحداثة سنه، فيقول: «إن الصحراء تبتلع عشرة من أمثاله في ليلة واحدة»
(140) . غير أنّ حامد الذي يدرك صحة كلام زكريا يضيف إلى عبارة زكريا (عشرة من أمثاله) كلمةً لتصبح (عشرة رجالٍ من أمثالي) ليقيم علاقة حب اضطرارية بينه وبين الصحراء، ليسهم الفضاء من خلال ذلك في تقديم وعي الشخصية المتناقض تجاهها:
"ليس بمقدوري أن أكرهك، ولكن هل سأحبك؟ أنتِ تبتلعين عشرة رجالٍ من أمثالي في ليلة واحدة ـ إنني أختار حبك، إنني مجبرٌ على اختيار حبك، ليس ثمة من تبقى لي غيرك"
(141)
§ وظيفة الفضاء إزاء القارىء:
من الذي يخلق الفضاء؟ وهل يبتدع الروائي فضاءً من الكلمات؟ أم أنه يضع رموزاً لفضاء ماثلٍ في خياله؟
إن تقديم الفضاء، مهما بلغ من الدقة، فإنه لن يذكر كل التفاصيل، فقد يذكر روائي ما التفاصيل المهمة، ولكن مامن غرفةً مؤثثة تأثيثاً كاملاً بأبوابها، ونوافذها، وخزائنها، وأشيائها، فإذا وصف الروائي محتويات زاويةٍ من غرفة، قال القارىء: ماذا في الزاوية الأخرى؟
من هنا فإن القارىء يسهم إسهاماً كبيراً في بناء الفضاء، ووظيفة الفضاء الروائي بالتالي، هي امتلاك، (الشيفرة) التي تحرك مخيلته، ولا شك أن تخيُّل الفضاء الروائي في رواية محددة يختلف من قارىء إلى آخر، ذلك أن تصوُّر المكان محكوم ببيئة القارىء وثقافته، وإنّ أي تقارب مفترض بين الفضاء المتخيَّل في ذهن الروائي، وفي ذهن القارىء، لن يبلغ حدّ التطابق، لأن الفضاء، بمعناه الواقعي، ليس موجوداً إلا في مخيلة الروائي.
على أن الفضاء في الرواية الفلسطينية عامة، لا تناطُ به من قبل الروائي وظائف ذات أهمية. وعلى الرغم من أن العلاقة بين القارىء والروائي قائمة بالضرورة، فإن الأمثلة التي تدل على اهتمام الروائي بالقارىء. من حيث دفعه إلى تشكيل فضاء روائي خاص به، نادرة، فإما أن يسرف الروائي في وصف الفضاء، ولا يترك لخيال القارىء إلا القليل، وإمَّا أن يذكر إشارات برقية إلى موجودات معينة لا تمكن القارىء من صياغة فضاء يناسب الرواية.
ولعل رواية (الهجرة إلى الجحيم) لمحمود شاهين مثالٍ واضح على مدى ملاحقة الروائي للتشكيل بحيث يضيق مساحةً تخيل القارىء، ها هوذا الكاتب يصف لوحة تشكيلية، يفصِّل فيها الوصف، يرسمها بالكلمات، يستوفي موجوداتها، وإن كانت اللغة لا ترقى إلى مستوى التعبير عن الفن: «استأذنته في النهوض لأتأمل اللوحات..».
عالم مخيف!! لم أعرف فيما إذا كانت اللوحات له أم لا. أوّل ما شدَّ انتباهي لوحة يقارب عرضها متراً ونصف، ويزيد ارتفاعها على المتر: أحد نصفيها: أرض جميلة مكسوة بالخضرة، تنبت فيها الأعشاب وتكسوها الزهور والأشجار المختلفة. ويلفُّها ضباب خفيف تحت سماء مزدحمة بالغيوم المحملة بالمطر"
(142) .
غير أن بعض الروائيين القلائل يدركون عند بنائهم الفضاء أننا نمتلك "قدرات تخيلية معينة لطول النهار، قدرات تمكننا أن نكمل، في أذهاننا، الناس والمشاهد (...) لنعطيها أبعادها، ونجعلها "حقيقة""
(143) .
في رواية (البحث عن وليد مسعود) يقدِّم جبرا إبراهيم جبرا مقطعاً ينشىء فضاءً يُثير الإعجاب، من خلال مفرداته، ورموزه، وإيماءاته، تقول مريم الصَّفَّار، وهي تروي ذكرياتها مع وليد مسعود:
"ودفعتُ الشرشف عني، وقفزت عارية إلى الأرض شاعرةً بعزيمة هائلة في جسدي، وأخذتُ يده واقتدته إلى باب الدار. "أنت قف هنا! لا تتحرك! فاهم، حبيبي؟" وتركته وركضتُ حافية إلى الأشجار التي لم أكن أعرفها، في عتمة وامضة، طرية، باردة، أدور حول كل جذع، وأحوم حول كل صخرة. الحجارة المكسورة الحادة أحسُّها تنغرز في قدميَّ فتزيدهما خفة، وجسدي الوثني المشرَّع لوحشية الليل المثخن بالنجوم ينفذ في الأشياء كلها، وتنفذ الأشياء كلها فيه... أهو تلاشٍ هذا الوجد كله، أم وجود، وجود عنيف كله؟ بلغتُ الطرف القصي من الحديقة حيث تنحدر الأرض إلى ممرٍّ كثيف الشجر...”
(144) ؟
§ كما يُشارك الفضاء النصي في إثارة مخيلة القارىء إلى حدّ كبير، فروايات غسان كنفاني، تحفل بلوحات كثيرة تتنوع بين الواقعية والتجريد، ففي رواية (أم سعد)، وعند الحديث عن المرأة الفلاحة التي تشبه أم سعد والتي قدمت للفلاحين الزاد، تقدم اللوحة التالية التي تحتوي على ملفوظات خطابية من القصة ذاتها (أنا سعد يايما، جوعان)، وتظهر في اللوحة المرأة العجوز، وسعد والبندقية وبعض الأشجار:
(145)













لقد تمّت دراسة الفضاء الروائي من خلال تتبُّع مواصفاته التي طرحت مفهوم الوطن/ الحلم، وصورة المنفى التي امتدت إلى بلاد النفي برَّاً وبحراً، ومن خلال تتبُّع مكوِّناته التي شملت الفضاء الجغرافيَّ والنصيَّ والدلالي وقد تمَّ تقسيم الفضاء الجغرافي إلى: أماكن الإقامة الاختيارية (البيوت...) والإجبارية (السجون...) وإلى أماكن الانتقال المفتوحة (شوارع، قرى، مدن...) والمغلقة (فنادق، مقاهٍ) وإلى محددات مكانية أخرى (القبر، المغارة...)، كما تم تقصي أشكال المحددات المكانية الصغيرة (المؤنَّثات من حيث لونها وتشكيلها الهندسي ودلالتها.
أما الفضاء النصي فقد تمت دراسته من خلال تتبُّع اختلاف التشكيل الطباعي، والكتابة الأفقية والعمودية، وتقصي مدى نجاح الروائيين الفلسطينيين في استخدام علامات الترقيم، وفي الإفادة من التأطير والرسوم ولوحة الغلاف والعنوان، بوصفهما جزءاً من الرواية ذاتها. وقد لوحظ أن الاهتمام بالفضاء النصي، باستثناء اختيار العنوان، لم يكن كافياً، ولم يلتفت الروائيون إلى أهميته في كثير من الأحيان، إذ لم يفد هؤلاء من التشكيل الطباعي، والكتابة الأفقية والعمودية، وعلامات الترقيم والتأطير والرسوم إلاَّ في حدودٍ ضيِّقة.
أما الفضاء الدلالي فقد دُرس من خلال تتبَّع دلالة الفضاءين الجغرافي والنصي في تجليّاتهما المختلفة. كما تمت دراسة الوظائف التي تُناط بالفسحة الروائية، وهي الوظائف الأدبية التي تسهم في تشكيل شكل الرواية ومضمونها، والوظائف فوق الأدبية التي يمارسها الفضاء إزاء النصّ والراوي والقارىء.

(1) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي. ص26
(2) سعد عبد العزيز: الزمن التراجيدي في الرواية المعاصرة (مارسيل بروست، جيمس جويس، فرجينيا وولف، فرانس كافكا، وليم فوكنر، نجيب محفوظ) مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1970، ص8.
(3) المرجع نفسه، ص8.
(4) سحر خليفة: لم نعد جواري لكم، دار الآداب، بيروت، ط1، 1988، ص5.
(5) نشسير أدوين موير إلى انّ رواية الشخصية تتصف بامتلاء المكان، يُنظر أدوين موير: بناء الرواية، ص 84.
(6) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، دار الآداب، بيروت، ط1، 1991، ص19.
(7) جمال ناجي: وقت، ص153.
(8) أسعد الأسعد: ليل البنفسج، الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين وشرق برس. نيقوسيا، ط2، 1990، ص11-12.
(9) غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط2، 1984، ص106.
(10) المرجع نفسه، ص109.
(11) حسن سامي يوسف "الفلسطيني" دائرة الثقافة في م.ت.ف، ط1، 1988، (د.م)، ص ص 38-39.
(12) سعود عوض: الوداع، مطبعة دار الجاحظ، دمشق،د.ط 1987، ص ص 294-295.
(13) حسن سامي اليوسف: الزورق، دائرة الثقافة في م.ت.ف. دار الثقافة الجديدة. القاهرة، طبعة خاصة، 1990، ص5 وص14 على التوالي.
(14) إبراهيم يحيى الشهابي: على الدرب، مطابع ألف باء الأديب، دمشق، 1973، ص187.
(15) حنّا مينه: الشراع والعاصفة، دار الآداب، بيروت، ط2، 1977.
(16) فيصل سماق : الواقعية في الرواية السورية، مطابع دار البعث الجديدة، ط1، 1979، ص147.
(17) حنا مينه: الياطر، ص ص274-725.
(18) د. نبيلة إبراهيم سالم: نقد الرواية من وجهة نظر الدراسات اللغوية الحديثة، النادي الأدبي، الرياض، 1980، كتاب الشهر (20))، ص58.
(19) غسان كنفاني: الآثار الكاملة، ص365.
(20) استفادت الدراسة في تصنيف الأمكنة من: حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص41.
(21) غاستون باشلار: جماليات المكان، ص36.
(22) محمد زهرة: البحث عن هوية، مطبعة سورية، دمشق، 1982، ص ص47-48.
(23) نادرة بركات الحفّار، الغروب الأخير، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1985، ص 8-9.
(24) عارف آغا: أزهار الصبار، مطبعة الاتحاد، دمشق، ط1، 1990، ص38.
(25) سحر خليفة: مذكرات امرأة غير واقعية، دار الآداب، بيروت، ط1، 1986، ص97.
(26) حسن سامي اليوسف: الفلسطيني، ص ص 28-29
(27) عارف آغا: أزهار الصبار، ص32.
(28) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص56.
(29) هيام الدردنجي: إلى اللقاء في يافا، ص11.
(30) يقسم سمر روحي الفيصل مراحل السجن السياسي إلى : الاستقبال ـ الزنزانة الانفرادية ـ التحقيق ـ التعذيب ـ الزنزانة الجماعية. وقد اقترحت هذه الدراسةُ تقسيماً آخر، تراه أقرب إلى الشمولية، وأبعد عن التداخل، يمكن النظر في:
سمر روحي الفيصل: السجن السياسي في الرواية العربية، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1983، ص ص 25-26 وص151.
(31) غالب هلسا: الخماسين، دار الثقافة الجديدة القاهرة، ط1، 1975، ص ص 25-26.
(32) فيصل حوراني: المحاصرون، المطبعة التعاونية، دمشق، 1973، ص5.
(33) عبد الرحمن منيف: شرق المتوسط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط5، 1985، ص94.
(34) إيردال أوز: أنت جريح، ترجمة فاضل جتكر، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1984، ص162، ولدى مقارنة هذه الرواية مع رواية (شرق المتوسط) لعبد الرحمن منيف تبين أن ثمة تقاطعات كثيرة في الموضوع واستخدام التقنيات الفنية وكيفية عرض وسائل التعذيب. والخلاف الأساسي بينهما أن رواية منيف تستخدم ضمير المتكلم، بينما تستخدم رواية أوز ضمير المخاطب.
(35) محمود شاهين: الأرض الحرام، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق 1983، ص335.
(36) رجب أبو سرية: دائرة الموت، دار سعاد الصباح، الكويت، ومركز ابن خلدون القاهرة، د.ت، ص21، وقد كتبت على الغلاف كلمة (سيرة).
(37) د. رفعت السعيد: البصقة، دار ابن خلدون، بيروت، ط2، 1982، ص45.
(38) محمد شكري: الخبز الحافي، دار الساقي، بيروت، ط3، 1993، 185.
(39) فيصل حوراني: المحاصرون، ص177.
(40) غازي الخليلي: شهادات على جدران زنزانة (يوميات معتقل في السجون الأردنية)، الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين، ط1، [بيروت]، ص24.
(41) سحر خليفة: عباد الشمس، دائرة الإعلام والثقافة في م.ت.ف، دار الفارابي، [بيروت]، ط1، 1980، ص43.
(42) حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، ص41.
(43) حسين طه السيد: وادي الطواحين، د.م، د.ت، ط1، ص58.
(44) جبرا إبراهيم جبرا، البحث عن وليد مسعود ص297.
(45) ليانة بدر: بوصلة من أجل عباد الشمس، ص ص 46-47.
(46) د. محمد حسن عبد الله: الريف في الرواية العربية، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، سلسلة عالم المعرفة (143) ت2، 1989، ص38.
(47) جمال ناجي: الطريق إلى بلحارث، ص38.
(48) جمال جنيد: مطار السرطان، ص20.
(49) أحمد عمر شاهين: وإن طال السفر، ص31.
(50) عوض سعود عوض: الوداع، ص9.
(51) غسان كنفاني: الآثار الكاملة مج1، ص ص264-265
(52) المصدر نفسه، ص333
(53) جبرا إبراهيم جبرا: صيادون في شارع ضيّق، ترجمة د. محمد عصفور، دار الآداب، بيروت، طـ3، 1988، ص43.
(54) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، ص173.
(55) عارف آغا: مخيم في الريح، مطابع النسيم، دمشق، 1986.
(56) سحر خليفة: (لم نعد جواري لكم) ص5.
(57) علي فودة: الفلسطيني الطيب، دار ابن خلدون، بيروت، ط1، 1979، ص29.
(58) أفنان القاسم: المسار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط 1، 1981، ص81
(59) نجيب محفوظ: زقاق المدق، دار القلم، بيروت، ط1، 1972، ص6-7.
(60) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، ص37.
(61) محمود شاهين: الأرض المغتصبة (عودة العاشق)، ص122.
(62) علي فودة: الفلسطيني الطيب، ص51.
(63) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، ص131.
(64) حسن سامي اليوسف: الزورق، ص34.
(75) أفنان القاسم: شارع الغاردنز، بشكل خاص، ص ص 40-41.
(66) المصدر نفسه، ص21.
(67) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، ص49
(68) جان ريكاردو: قضايا الرواية الحديثة، ص173.
(69) علي فودة: الفلسطيني الطيب، ص25.
(70) غاستون باشلار: جماليات المكان، ص97.
(71) سلوى البنّا: عروس خلف النهر، دار الاتحاد، بيروت، ط1، 1972، ص30.
(72) إلياس أنيس خوري: طقوس المنفى، منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، تنفيذ دار الكرمل عمان، ط1،1994، ص161.
(73) نادرة بركات الحفّار: الغروب الأخير، 109
(74) استفدنا هنا من:
ـ سيزا قاسم: بناء الرواية، ص ص 121-122.
(75) جمال ناجي: الطريق إلى بلحارث، ص130.
(76) غسان كنفاني: الآثار الكاملة، مج1، ص363.
(77) علي فودة: الفلسطيني الطيب، ص43.
(78) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، ص210.
(79) نادرة بركات الحفّار: الغروب الأخير، ص61.
(80) المصدر نفسه، ص71.
(81) نفسه، ص89.
(82) نفسه، ص135.
(83) جان ريكاردو: قضايا الرواية الحديثة، ص110.
(84) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، ص219.
(85) المصدر السابق، 73.
(86) يمكن النظر في مقدّمة الرواية خاصةً. وهي بقلم جبرا إبراهيم جبرا .
(87) يمكن النظر في :
ـ يوسف حطيني: ماتبقى لكم (لعبة اللغة أم لعبة الرواة)، مجلة الشبيبة، العدد 40 ـ تموز 1993 ـ عدد خاص عن غسان كنفاني، دمشق، ص ص16-17.
(88) غسان كنفاني: الآثار الكاملة، مج1 ، ص172.
(89) جبرا إبراهيم جبرا، السفينة، ص 212.
(90) أفنان القاسم، المسار، ص397.
(91) سحر خليفة: عباد الشمس، ص7
­ توفيق زياد (الحاشية من الأصل).
(92) إميل حبيبي: سداسية الأيام الستة، ص74.
(93) فرجينيا وولف: المنار، ص115.
(94) نواف أبو الهيجاء: الطريد، دار الجمهورية [دمشق]، 1966، ص184.
(95) وليد أبو بكر: العدوى، دار الآداب، بيروت، ط1، 1979، ص25.
(96) أحمد عمر شاهين: المندل، دار الثقافة الجديدة، وم.ت.ف، القاهرة، د.ت، د.ط، ص57,
(97) جمال ناجي: وقت، ص47.
(98) سعيد علوش: عنف المتخيل الروائي في أعمال إميل حبيبي، مركز الإنماء القومي، بيروت، د.ط، د.ت، ص12.
(99) إميل حبيبي: سداسية الأيام الستة، ص7، ص13، ص23، ص29، ص36، ص41 على التوالي.
(100) د. حميد لحمداني: بنية النص السردي ص57
(101) إميل حبيبي: سرايا بنت الغول، رياض الريس للكتب والنشر، لندن ـ قبرص، ط1، 1992، ص153.
(102) حسن البحيري: رجاء، مطبعة الصباح، دمشق، ط1، 1990
(103) أفنان القاسم: باريس، دار النسر، عمّان، ط1، 1994.
(104) محمود شاهين: الهجرة إلى الجحيم، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1، 1984.
(105) تمت الإفادة في دراسة العنوان من:
ـ شعيب حليفي: النص الموازي للرواية: استراتيجية العنوان، مجلة الكرمل، قبرص، عدد 46، 1992، ص ص 82-102.
(106) إميل حبيبي: سداسية الأيام الستة.... ص ص 62-64.
(107) أحمد عمر شاهين: ونزل القرية غريب، الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين (الأمانة العامة) ، دمشق، ط1، 1977.
(108) سحر خليفة: الصبار، دار ابن رشد، بيروت، ط2، 1978.
(109) امتثال جويدي: شجرة الصُبيّر، دار الاتحاد، بيروت، 1972.
(110) إبراهيم نصر الله: مجرد 2 فقط، دار الشروق، بيروت، ط1، 1992.
(111) توفيق المبيّض: أسطورة ليلة الميلاد، دار الثقافة الجديدة، القاهرة، 1977.
(112) رشاد أبو شاور: أيام الحبّ والموت، دار العودة، بيروت، 1973.
(113) يوسف شرورو: الحزن يموت أيضاً، دار الآداب، بيروت، 1972.
(114) نبيل الخوري: راقصة على الزجاج، المؤسسة الأهلية للطباعة والنشر، بيروت، 1958.
(115) ميخائيل شولوخوف: الدون الهادىء، تعريب عمر الديراوي، دار العلم للملايين، بيروت، ط3، 1981، ص7.
(116) حسن البحيري: رجاء، ص ص 19-20
(117) أدوين موير: بناء الرواية، ص84.
(118) جبرا إبراهيم جبرا: البحث عن وليد مسعود، ص243.
(119) المصدر نفسه، ص30.
(120) غسان كنفاني: الشيء الآخر، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، ط2، 1983، ص40.
(121) ليانه بدر: بوصلة من أجل عباد الشمس ، ص 5.
(122) إميل حبيبي: سداسية الأيام الستة... ص ص 73-74.
(123) جبرا إبراهيم جبرا: الغرف الأخرى، ص68.
(124) عارف آغا: مخيم في الريح، ص136.
(125) يحيى يخلف: بحيرة وراء الريح، ص151.
(126) جمال ناجي: الطريق إلى بلحارث، ص111.
(127) غسان كنفاني: الآثار الكاملة، مج1، ص ص21-22.
(128) محمد زهرة: البحث عن هوية، ص216.
(129) علي نجيب إبراهيم: جماليات الرواية، ص248.
(130) نبيل سليمان: ينداح الطوفان، دار الحوار، اللاذقية، ط2، 1983، ص57.
(131) المصدر نفسه، ص14.
(132) نفسه، ص8
(133) غسان كنفاني: الآثار الكاملة، مج1، ص38.
(134) أفنان القاسم: الشوارع، ص7.
(135) المصدر نفسه، ص101.
(136) نفسه، ص175.
(137) نفسه، ص222.
(138) يحيى يخلف: نجران تحت الصفر، ص47.
(139) ليانة بدر: بوصلة من أجل عباد الشمس، ص109.
(140) غسان كنفاني: الآثار الكاملة، مج1، ص168.
(141) المصدر نفسه، ص170.
(142) محمود شاهين: الهجرة إلى الجحيم، ص38.
(143) جيمس، وكونراد وولف ولورنس ولبوك: نظرية الرواية في الأدب الانكليزي الحديث، ص226.
(144) جبرا إبراهيم جبرا، البحث عن وليد مسعود، ص227.
(145) غسان كنفاني: أم سعد، ص283.