لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: حيرة

حيرة
د. يوسف حطيني

(1)
"إذا كنت تظن أنك تستطيع السخرية من الجميع، فأنا لست ممن يرضى بذلك، يبدو أنك قررت أن تعطي ضميرك إجازة طويلة، لذلك فأنا راحلة عنك إلى الأبد".
(2)
لم يكن عبد الجبار يصدق ما حدث، فجأة مثل مطر أسود صاعق هطلت هذه الرسالة على صحراء عطشه السرمدي، قال في نفسه: لا شك أن أمراً جليلاً قد حدث لها. كذبة أو خديعة أو وشوشة عاذل ما، قلبت الطاولة والقهوة فوق رأسي، ولكن: ألم يكن عليها أن تسأل.. أن تفهم..
ضميري في إجازة؟ لن أسامحها أبداً.
ماذا يساوي المرء دون ضميره.. يا لبشاعة الكلمة..
ضميره الذي وسع كل شيء، الأهل والأصدقاء والناس جميعاً؟ ضميره الذي قاده ذات مرة إلى التحقيق من أجل قصيدة؟ ضميره الذي أخذه إلى لبنان ذات اجتياح، ليدافع مع كل أصحاب الضمير عما تبقى من كرامة؟
فجأة تريد أن تسلبه إياه..
"هي مجرد فتاة على أية حال" قال في نفسه، بينما كان يتجه إلى حلب تلبية لنداء ضميره، أراد، رغم شعوره بالعجز المرير، أن يقدم ندوة عن الانتفاضة، وفي حمص قامت في صدره انتفاضة صغيرة، قرأ برقيتها للمرة الأخيرة ثم مزقها، وألقى بها من النافذة.
(3)
لماذا لا أجد لكِ عذراً؟
وأنا الآن بعيد عنك آلاف الأميال، فقد أبعدتني أيدي الرزق عنك، وألقت بي في مكان يأنس فيه المرء لذكرياته الأليمة، وليس ثمة في قلبي طعنة أشد إيلاماً من طعنتك أنت؟ ربما لم تتعودي أن يحبك رجل حباً حقيقياً، ربما حين فاجأك مطري ارتبكتِ، مثلما ارتبكتُ عندما داهمتني عيناك لأول مرة ذات أيار.
سأقول لك سراً من أسرار عينيك، إنهما ببساطة تشبهان زيتون فلسطين الذي لم أره ولم أشمه أو أضمه، إن عينيك تشبهانه.. هكذا أشعر في ضميري.. أعرف الزيتون والبرتقال والناصرة وكل شبر، مثلما أعرف دمشق ويدك التي تستقر في يدي كحمامة بيضاء.
(4)
كان يحب العواصف والجنون والحزن النبيل، ويحلم بوداعها قبل أن يسافر.. كلما رآها كان يجتهد في أن يتجاهل وجودها، ثم يتعجب من نفسه التي صمدت أمام إغواء عينيها، يحب جنون شعرها الذي ينسدل على كتفيها نجوماً شقراء، يحب جنون شفتيها، يحبها.. لأن كل ما فيها رائع ومجنون، والذي يكاد يجننه أنها عاقلة.
عاقلة حين تفكر به، وبمستقبله، بظروفه الخاصة، عاقلة حين تبتعد عنه، حتى تريحه من حالة الخديعة التي تؤرقه، حين قبّلها ذات مرة قالت له:
- خيانة امرأة تشبه خيانة الوطن.
- ولكنني لم أخن.
- أمتأكد أنت؟
أرعبته الفكرة، عاد إلى حزنه الأليف، كيف يخون؟ وهو الذي يرى في إخلاصه معنى حياته، كيف يخون؟
هل كانت هذه الرسالة مجرد كذبة.. هل أرادت أن تبعده عنها من أجل اختصار عذابه وعذابها، ودربهما الذي يبدو نفقاً مظلماً.
تتسلل إلى أذنيه كلمات أغنية أدمن سماعها: "دمرتني لأنني كنت يوماً أحبها"..
لكن هل يستطيع أن يتركها.. إن "شمس" في حياته أكثر من حب، إنها شيء يشبه الماء والهواء.. شيء يشبه الوطن، ولكن كم وطناً يستطيع المرء أن يضع في صدره؟!
لا بأس في غربته هذه أن يتحدى طيف عينيها، ألّا يمشي في الشوارع لأن ذلك يذكره بها، سيحاول ألا يقترب من الأشجار، ألا يداعب النسمات، ألا يتنفس.. سيحاول أن ينسى.
(5)
على وسادة غريبة أغمض عبد الجبار عينيه، صارت تلاحقه مفردات وصور غريبة:242، حبيبة مفجوعة بحبيبها، منازل مهدمة، وطن لا يجد من يرثه، لوحة حزينة، عملية استشهادية، شعر أشقر، أولاد في عمر الزهور، مرج الزهور، 1441، الزيتون، مروان البرغوثي…. ولم ينس،كما في كل ليلة، أن يتخذ قراراً جديداً بإخراج شمس من حياته نهائياً.
ولكن من يضمن الأحلام؟

21/11/2002م