لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: على ذمة البحر

على ذمة البحر
د. يوسف حطيني

(1)
ها أنت ذا تواجه البحر مستلقياً، خدر ناعم لذيذ يداعب خلايا جسدك الملتصق بالرمال، والشاطئ يمتد أمامك ، حيث يملؤه ضجيج الأطفال والأمهات والآباء الذين لا يعرفون السباحة، وعلى مسافة بعيدة تبدو فراشتك الزرقاء جنية تعانق الموج دون خوف أو تردد، هذا الأزرق الذي تلبسه يحرض الموج على عناقها وتقبيل كل خلية من خلايا جسدها المشدود مثل وتر يرمي سهامه نحو قلبك الذي يلتفت بأجمعه إلى الماضي البعيد.
ثلاثة أيام وأنت تراقب ذلك الأزرق الذي يشفّ عن نهدين نافرين غاضبين، منداحاً عن جسد يتحد مع الأمواج، راسماً على صفحة الماء قصيدة عشق خالدة بين امرأة تتهجأ المراكبُ أبجدية جسدها، وموجة تتسابق مع شقيقتها لعناق أنفاسها الحارة.
ثلاثة أيام، وأنت تحمل توثب جسدها في قلبك فرحاً يخترق الحزن الذي يلف سنواتك الستين .. ماذا ستقول تلك الجنية حين ستبدأ معها حديثك الذي لا ينتهي، كيف ستنظر إلى خريف سنواتك وأنت تلاحقها من مكان إلى آخر: "عجوز جاهل"، تبتسم وترنو إلى شوق يداعب ذلك السريّ الغامض الذي يتمرد على الغلالة الزرقاء.
تقترب جنيتك من الشاطئ، تنقب بعينيها عن شخص أو مكان، وحين تراك تتجه نحوك مباشرة، كأنكما قد كنتما على موعد: صديقان حميمان يلتقيان بعد غياب: تمدّ يدها لتصافحك، فتصافحها روحك، تطير بك إلى زمن هرب من بين أصابعك منذ ثلاثة وخمسين عاماً:
كنتما معاً، وكانت حيفا مدينة لذيذة غامضة، تبحثان في الرمال الذهبية عن أصداف ملونة، تبنيان قصوراً سرعان ما تهدمها الأمواج العاتية، دون أن تستطيع إقناعكما بعدم تكرار المحاولة، كم مرةٍ أخبرتها أنك ستبني لها قصراً في وادي النسناس، فاكتفت بضحكة طفولية رائعة. كانت "شراع" أفقاً يمتد ألقه إلى شغاف القلب، وكانت عيناها الزيتونيتان تشيان بلقاء ما، عشر سنوات من العمر، وجدائل شعر أسود، وثوب أزرق ينحسر حين تدخل بحر حيفا عن بياض الرخام.
... لو أتاحت الحياة لشراع أن تكمل مسيرة حياتها مثل بقية خلق الله ، فإنها كانت ستكبر بالتأكيد.. وستغدو، في يوم ما،مثل هذه الجنية التي جلست إلى جانبك على غير توقع، هذا الأزرق المفتوح على الفضاء الممتد بلا نهاية يعيدك إلى الماضي البعيد، إلى "شراعك" التي فقدتها ذات رحيل، إلى حاضرك الذي توشيه حورية البحر التي تجلس قربك بألوان من اللذة الغامضة.
كل هذا الجمال الدافق تراه أمامك دفعة واحدة..تراه على مسافة خطوة واحدة من يدك التي تكاد تعبث بشعرها المبلول، وتمسح قطرات الماء العالقة بين النهدين، لولا أنك تحمل على كتفيك ستين عاماً من الحزن والقهر والنفي.
ها أنتما الآن معاً، وها هي ذي أمام عينيك، والبحر يمتد أمامكما بلا انتهاء: رجل وامرأة يجتمعان على غير موعد، في حضرة البحر ليقول كل منهما ما لديه:
(2)
يا امرأة الفرح الذابل في أعماقي، لا أقول إنك جئت على غير انتظار مني، ولكنك جئت على غير توقع، فما الذي يدفعك إلى رجل حزين أضاع بحره وشاطئه، وموجته الحبيبة ؟
لو تعرفين كم أكره البحر، قضيت عمري منتقلاً من منفى إلى منفى، وهذا البحر اللعين الذي حملت سفنه مئات الآلاف من الأغراب لتزرعها مثل صبار شائك في أرضنا، هي ذاتها التي حملتنا من حيفا، ثم من بيروت وألقت بنا في بلاد الله الواسعة.
تشبهين "شراع"، هذا الحزن الزيتوني الذي يطل من عينيك، ممتزجاً ببريق التحدي يذكرني بها، يذكرني بقرارها المفاجئ الذي اتخذته حين كنا نودع حيفا:
كانت قربي تماماً على ظهر قارب يتجه بنا نحو الغربة حين قالت سأشتاق لك يا أيوب، يجب علي الآن أن أعود إلى بيتي...
:انتظري يا مجنونة.
ولكنها لم تنتظر، رفضت أن تتابع رحلة الذل والقهر.. ألقت بنفسها في البحر، وراحت تجدف بيديها الصغيرتين الناعمتين، عائدة نحو البيت، وفي اللحظة التالية تماماً أطلق الجنود الذين يحموننا من اليهود النار عليها، فاختلط الأزرق الحبيب بالأحمر البغيض..وتابع قاربنا طريقه الدامعة دون "شراع".
آتي كل عام إلى هذا الشاطئ، منذ أكثر من عشرين عاماً وأمواج اللاذقية تفجر في داخلي ينابيع الحزن الجليل، أتأمل الأمواج العاتية، دون أن أسمح للماء أن يمس جسدي، لا أحب الحر، على الرغم من أنني كنت أقضي فيه ساعات طوالاً، أما الآن فأنا أكتفي أن أراقب الشاطئ باحثاً عن موجتي الصغيرة، حتى رأيتك..
ولكن.. لماذا تبكين؟
(3)
يا رجلاً يحمل بين جنبيه حزن العالم، ثلاثة أيام، وربما ثلاثين عاماً، وأنا أبحث عن مثل هذا الحزن، كنت أحلم أن أراك في البحر، تبحث مثلي عن موجة ضائعة، ولكنك تركن إلى مراقبة الذين يسبحون مستمتعاً، مثلما يستمتع كسيح بمشاهدة مباراة بكرة القدم.. شدني إليك حزنك الذي يشبهني، مثلما شدك نحوي الأزرق العميق الذي أراهن أنك لا تدرك عمقه... أبي رحمه الله كان في مثل عمرك تقريباً.. كان يرافقني كل صيف إلى البحر.. كانت طرطوس تجمعنا كل عام بكثير من الأحباب الذين يسبحون، وفي زيارة الوداع الأخيره للبحر أوصاني:" لا تتركيه يا بنيتي".. لا زالت كلماته ترن في أذني منذ حوالي عشرة شهور: يجب أن تتعلمي السباحة جيداً.. وأن تتجهي نحو الجنوب، وإذ ذاك ستجدين حيفا ويافا على مرمى حجر.
خفت أن أعود إلى طرطوس إلى حزن ستقودني إليه ذكرى أبي، فجئت إلى هنا لأصادف حزنك وحقدك على البحر، أليس غريباً أن تجمعنا الغربة ويوحدنا البحث عن موجة صغيرة ضائعة، ثم يفرقنا البحر.. أعرض عليك أن تخرج عن صبرك يا أيوب، أن تكون أبي، ولكن ليس قبل أن تغوص عميقاً في البحر وتحمل لي بعض الأصداف الملونة مثلما كان يفعل.
ولكن... لماذا تبكي؟



(4)

كيف يمكن لك أيها الوحيد أن تنزل إلى هذا الأزرق الغادر العميق، لتعانق ذاك الأزرق الفاتن الذي كبّل روحك منذ ثلاثة أيام، كيف ستخبر "هيمى" أنك لا تحس أنها لا تشبه ابنتك،كيف ستقول لها أنها امتداد لشراع، وأنها امتداد لحبيبتك، لروحك، كيف ستخبرها أن روحك ما زالت بعمر الورود،لقد توقفت روحك عند سنواتك الغضة حين غابت "شراعك" بين صفحات الموج .. لو كنت أصغر قليلاً!
ماذا ستقول هذه الجنية الزرقاء التي تريد أن تشدني نحو البحر، وكيف أستطيع أن أعانقها وسط اصطخاب الأمواج، حيث يخفي الماء تفاصيل ما يدور في الأسفل. أعتذر أيتها الجميلة الساحرة، فأنا لا أستطيع أن أكون أباً أو حتى صديقاً لقد بحثت عنك ثلاثة وخمسين عاماً، فكيف تريدين أن أفتقدك في اللحظة التي وجدتك فيها من جديد.
لا أريد أن أدخل إليه،لا أريد أن أفتقدك بعد أن افتقدت بحري وموجتي و"شراعي"، ولكن سحر الوطن في عينيك يدفعني للإبحار.
[5]
منذ عدة أيام تزورني موجة تائهة، وتنقل أخبار البحر...
قالت لي في اليوم الأول أنها شاهدت بأم عينها رجلاً يعانق امرأة وسط البحر.
وفي اليوم الثاني قالت: إنهما غاصا عميقاً ثم اتجها نحو الجنوب.
وفي اليوم الثالث تعب أيوب، ولكنه رفض العودة، فضمته هيمى إلى صدرها بقوة، وحين خارت قواها انشق البحر عن سفينة حملتهما معاً. بينما كانت ملايين الأكف المتعبة تدفع سفينة العودة بإصرار نحو شاطئ خرجت أمواجه لتستقبل أهلها بعد غياب.


4 تشرين الأول 2001