لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

قصص قصيرة جداً: مرايا

مرايا

د. يوسف حطيني


1 ـ نيوتن
يدخل ذلك الفلاح العجوز إلى حديقة القصر، يتأمل الأشجار الباسقة التي تحمل أشهى الثمار، ينظف الأرض، يشذب الفروع والأغصان، يقلمها،ثم يرتاح في ظل شجرة تفاح كبيرة، وهو يحلم: لعل تفاحة شهية حمراء تسقط فوق رأسه.
هذا ما يفعله منذ كان شاباً
أما اليوم بالذات، فقد حدث شيء غريب:
حين جلس تحت الشجرة، لم تسقط أي تفاحة أيضاً.
2001

2 - براقش
كَتَبَتْ قصيدة جديدة: عـو .. عـو.. عـو..، فاستباحها العسكر.
1994
3 ـ في انتظار غودو
قصيدة مدبجة في المدح فتحت ساقيها، وراحت تنتظر، ولكن شهريار لا يحب الشعر!
1997
4 ـ حجّاج
حين وصل إلى القمة قال: إذا أخطأت فقوموني.
الرجل ذو العمة الخضراء كان يتنطح في كل مناسبة ليقومه.
في يوم ما وعده أمام الجميع ألا يخطئ أمامه أي خطأ.
وكم كانت فرحته غامرة قبل أن تأتيه حمامة سليمان بالبرقية التالية:
بأمر من السلطان المعظم عليك مغادرة البلاد فوراً.
2000

5 ـ على ذمة جدتي
في زمن مضى كان الحمار يمشي منتصب القامة على قدمين، ويذرع البلاد طولاً وعرضاً وهو ينظر إلى الشمس بتحدٍّ.
وفي يوم فاصل في حياته طلب منه الشيطان أن ينحني ليوصله على ظهره إلى نهاية الزقاق، على أن يحني الشيطان ظهره بالمقابل للحمار حتى يوصله رأس إلى الزقاق التالي.
"سنلعب لعبة مسلية" قال الشيطان.
ولأن الحمار حمار فقد وافق على أن يكون البادئ بالانحناء.
وفي نهاية الزقاق اكتشف بحزن شديد أنه لن يستطيع رفع ظهره أو رأسه أو ينظر إلى الشمس مرة أخرى.
1990
6 ـ شهرزاد
بدأت برواية قصتها الأولى، ولأن أبو العباس السفاح استفاد من تجربته السابقة معها لم يسمح لها أن بمزيد من الكلام لأنه كان مشغولاً بالإعداد للفرح في اليوم التالي.
تابع حكايته هو كما رسمها، وقبل أن يطلع الصباح سكتت شهرزاد عن الكلام المباح.
1993

7 ـ سندريلا
الأب: رجل عصبي.
الأم: تعرف أنه لم يكن كذلك قبل أن يتسلط عليه الفقر، فيتركه أسير النزق.
الابن: يتمنى أن يسمع من أبيه قصة سندريلا التي تتحول من فقيرة إلى أميرة. ولكن الأب الذي يؤمن أن هذا لا يحدث إلا في الأساطير والخرافات يُدخل في كل مرة تعديلاً جديداً على الحكاية.
: عندما ماتت والدة سندريلا بقي الأب مخلصاً لذكراها، وحين مات لم يورثها غير الفقر.
:حين عاد الجميع من الحفل كانت سندريلا ما تزال مشغولة بفصل الرز عن العدس.
: حين رأت ابنة عم الأمير جمال سندريلا الباهر طردتها من الحفلة.
عندما داهم الأبَ الذي صار جَداً مرضُ الموت، قرر أن ينتصر على عقده ولو لليلة واحدة حتى يحكي لابنه الذي صار أباً حكاية سندريلا كما يرويها الجميع.
وحين قال: وهكذا دخل حراس الأمير بيت سندريلا وهم يحملون فردة الحذاء، فاجأه الابن بهذه التتمة:
وكانت دهشتها عظيمة حين كان الحذاء ضيقاً لأن رجليها كانتا قد تورمتا من البرد.
1999

8 _ من يوميات أبي عبد الله الصغير
حين دخل إلى الأرض المحتلة فرح الجميع بعودته الميمونة..
بعد أيام أو أشهر أو سنوات اكتشفوا أنه لم يكن يحمل معه خبزاً أو آساً أو حلماً..
وعندما سألوه عن حيفا وطبريا وعكا بكى..
جاءه صوت الأرض من عمق خمسة قرون ماضية:
ابكِ مثلَ النّساء ملكاً مضاعاً
لم تحافظ عليه مثل الرجالِ
1998

9 ـ العدوّ من أمامكم
أحب الشعب قائده كثيراً، حمله على الأكتاف عقوداً، خاض انتفاضة تلو أخرى، وكان اسم القائد يتردد مثل بطل أسطوري.
لم ييئس الشعب من قائده، ولا من الكفاح، فحمله على الأكتاف هذه المرة إلى ساحة المواجهة، وهناك أُحرقت المراكب، وقال الشعب ما قاله طارق بن زياد، وعندما أدرك القائد أنه محاصر من جميع الجهات لم يفعل ما فعله طارق، ولكنه وقّع معاهدة للصلح.
1998
10 ـ النمور قي يوم ما!
إلى زكريا تامر المعلم..
صارت المدينة الكبيرة قفصاً، وصار النمر مواطناً، وعندما امتنع السجان عن تزويده بالطعام جاع.
ولأن المدينة لم تكن تضم سوى السجن والسجان والعبيد فقد راح الجائع يلتهم أهله واحداً واحداً، وقبل أن ينتهي منهم جميعاً فكّر السجان بهلع:
ماذا سيأكل حين ينتهي من التهامهم.
1997

قصص قصيرة جداً: أبجدية

أبجدية

د. يوسف حطيني



1 ـ واسطة!!
أكره حرف الواو كثيراً، لذلك قررت ألا أفرد له أية قصة قصيرة جداً، ولكنه تدلى من نافذتي، وأخبرني أنه من طرف أحمد جاسم الحسين، لذلك كتبت له قصة وضعتها على عجل في آخر المجموعة التي احتلت عنوان "أبجدية".. وكما ترون فقد غافلني هذا الحرف الخبيث، وأقنع صاحب المطبعة أن يكون في المقدمة.
2000
2 ـ عجوز
كان حرف الألف يغني منتصب القامة أمشي، حكوا له قصصاً عن فلسطين والعراق والسودان والشيشان، فاختفى أشهراً عديدة، ولكن أحدهم نقل لنا مؤخراً أنه رآه أمام أروقة الأمم المتحدة يتسول عدلاً ووطناً وحرية، وأقسم أنه كان يمشي على عكازين محني الظهر، كأنه لام مقلوبة.
1999
3 ـ تسول
خرج حرف الحاء من شرق العالم، والباء من غربه، على أن يلتقيا في مكان ما وسط العالم، ولكنهما بعد أن رأيا القتل والدم والتشريد قرر كل منهما أن يجوب العواصم بحثاً عن رغيف.
2000
4 ـ حديقة الجسد
قالت المعلمة :حرف التاء يشبه صحناً فيه جوزتان صغيرتان
قال أحمد: أنا أحب الكرز.
قال خالد: أنا أحب التفاح.
قال عدنان: التوت أشهى.
غضبت المعلمة غضباً شديداً، وصفعت الأولاد حتى ملأ الدم أفواههم الصغيرة، وأسرعت إلى المدير تشكو له قلة أدبهم، وقبل أن يهدأ جموح عواطفها انطلقت تعدو إلى حبيبها الذي راح يمتص بشراهة توت شفتيها وكرز نهديها وتفاح خديها، بينما راحت تتأكد أن فمها لم يكن ينزف.
2000
5 ـ سكوت
ـ سأقدّم لها باقة من الزهر.
ـ سأقضي مع زوجتي ليلة سعيدة.
ـ سنحارب الأعداء بكل إمكاناتنا.
ـ سنجبر المارقين على تطبيق قرارات الشرعية الدولية.
ـ سنوزع الثروات بالتساوي بين دول الشمال والجنوب.
ـ سَـ …..
ـ سَـ …..
جاءهم صوته وسوطه:
ـ سْـ… سْـ… سـْ… سْ.
لم يعد في العالم الجديد إلا الصمت.
2001
6 ـ لسان الضاد
قال معلّم اللغة العربية: لسان الضاد يجمعنا، هات فعلاً يحوي حرف الضاد.
قال طفل صغير: ضربَ.
نظر المعلم نحو الطفل بحقد، وألقى في وجهه ابتسامة مغتصبة.
:استخدموا الفعل ضربَ في جملة.
: ضربَ زيدٌ عَمْراً.
: ضرب عَمْرو زيداً.
: أحسنتم جميعاً.
قال الصغير:
ضرب الطفل جنود الاحتلال بالحجارة.
كالصاعقة انقضّ المعلم على الباب يغلقه، ثم على فم الطفل يغلقه أيضاً،حتى لا يتهم بإعاقة عملية السلام.
2001

قصص قصيرة جداً: من دفتر المحبة

من دفتر المحبة

د. يوسف حطيني



1 ـ ابن فرناس
قال لها ذات لقاء: تشبهين شجرة أتفيأ في ظلها الوارف، ودّعته وعلى شفتيها بقايا ابتسامة غامضة.
حين غابت الشمس، ضاع ظلها، وصار ثوبها مثل جناحين، وعندما حاول أن يلحقها اكتشف أنه لا يحسن الطيران.
2000

2 _ رجولة
ينتابه في بعض الأحيان شعور أنه رجل، خاصة حين يمسد شعر طفلته الأشقر، وحين يساعد زوجته المريضة في أعمال المنزل، ويحمل إلى سريرها طعام الإفطار، ولكن الشعور بالرجولة يزول تماماً حين يصل إلى المدرسة، ويعاقب الأطفال.
1996


3 _ نانا
دائماً تضع على قميصه وردة قلبها المتفتحة، وذات مرة حين وضع وردة قلبه الذابلة على بستانها الأخضر تحولت حياته إلى ربيع.
1991

4 ـ فراق
لمى تحب الورد كثيراً، ربما أكثر من الخبز والسنابل، أبشع جريمة يرتكبها الإنسان في نظرها أن ينزع وردة من حضن أمها.
لسوء حظها فقد كان حبيبها يحب الورد أيضاً.
حين قدم لها وردة حمراء تضرج خداها، ليس من الخجل طبعاً، وقررت أن …

1999
5 ـ هو وهي
وصلا إلى باب المكتبة، واكتشفا في اللحظة الأخيرة أن كلا منهما قد نسي أن يحضر البطاقة.
هو اقترح عليها أن يعودا في اليوم التالي.
هي اقترحت أن يدخلا مثل لصّين من باب الموظفين.
هو،حين دخلا بناء على اقتراحها، طلب شاياً وراح يفكر : ماذا لو طلب منا أي شخص هوية المكتبة. أما هي، فراحت تتحدث بتلقائية عن الشعر والحياة.
خلال خروجهما من باب القراء، بناء على اقتراحها أيضاً، يضطرب، ولكن الأمور تسير بسلام، وإذ يراقب صرصاراً تدهسه سيارة، يكتشف (هو) بسعادة أنه ما زال على قيد الحياة.
2000
6 ـ كاشف
كل ليلة في الثانية عشرة تماماً يرنّ جرس هاتفها، يؤنس وحدتها بعد أن غادرها زوجها إلى دار الأبدية.
كانت تنزعج منه في البداية، ولكنها ألفت الأمر ليلة بعد أخرى حتى صار جزءاً عزيزاً غالياً من حياتها:
ترفع السماعة، يأتيها صوت فيروز: "وحدُن بيبقوا متل زهر البيلسان". وقد أسعدها أن صاحب الاتصال المجهول لا يغلق سماعته قبل انتهاء الأغنية.
حين زارتنا تكنولوجيا كشف رقم المتصل لم تكن تعرف أن عاشق الليل سيكفّ عن الاتصال.
لعنتْ أبا التكنولوجيا.. ونامت على وسادتها وهي تحلم بأغنية وعاشق مجهول وزهرة بيلسان.
7 ـ أسباب أخرى
أحبّ عبد الله شعر الغزل، أما عفراء فقد أحبت أن تنجح في الثالث الثانوي.
ينسى عبد الله كل ما يقوله المدرّسون في الدورة المسائية، ولكنه لا ينسى أبداً أن يكتب لصديقته المجهولة في الدوام الصباحي شعراً معطّراً على مقعدهما المشترك، وفي كل مرة يجيئه الردّ قاسياً.
كتب لها في المرة قبل الأخيرة:
"فلا تخشي الشتاء ولا قواه
ففي شفتيك يحترقُ الصقيعُ"
وحين كتبت له: اخرسْ
قرر أن يكتب لها رسالته الأخيرة:
"لأن حبي لك فوق مستوى الكلامْ
قررتُ أن أصمت .. والسلامْ."
2000
8 - قارئة الفنجان
أشرق وجهها، وهي تنظر إلى فنجان القهوة، قالت له: ستسافر.. أرى في فنجانك طائرة تجوب الفضاء، وبشيء من الحزن الطفيف أضافت: سأفتقدك ولكن.. لن نقف في طريق مستقبلك.. يا الله ما أسرع الأمنيات إلى التحقيق، فقد وجد نفسه، حقاً، كما توقّعتْ في الطائرة، وراح يبتسم للمضيفة ويتخيل كيف سيكون الاستقبال الحافل الذي أُعدّ له، والدراهم والريالات والدنانير التي سوف يجنيها، وأخيراً وصلت الطائرة، ولكنها لم تجد مطاراً تنزل فيه، ولم يكن أمام القبطان من خيار سوى العودة به إلى فنجان القهوة من جديد.
2000

قصص قصيرة جداً: قصاصات في وجه العالم الجديد

قصاصات في وجه العالم الجديد

د. يوسف حطيني


1 ـ عولمة
منذ ليال بعيدة وهو يحلم بصباح مشرق، يفتح له نافذته وقلبه، وها هو ذا كعهده يفتحها، مثل كل صباح، فيرى الدم نازفاً، والثعلب منطلق اليدين، والعندليب سجيناً، يغلق النافذة، ويغمض عينيه على حلمه من جديد.
2000
2 _ كان وصار
كان إذ يخرج إلى حديقة بيته يغمره فرح غامض، فالبلبل يملأ الفضاء بصوت تغريده العذب، والناس يكرهون صوت الغراب، ويحبون الأنهار.
اليوم.. تغيرت الأحوال.. صار كلما خرج من حزنه يلفه حزن جديد، فقد صار الناس يمتعون بمنظر أنهار الدم، .. ويطربون للغراب الذي راح يعزف أجمل الألحان على جثة العالم.
2000
3 ـ وحيد القطب.
تبختر الديك بين دجاجاته دون أن تجرؤ أية منهن على أن تنظر في عينيه، سلّح نفسه بما يستطيع من الحقد والغرور، ثم انطلق إلى دجاجات الديوك القريبة ثم البعيدة، ثم انطلق إلى الديوك أنفسهم دون أن يستطيع ديك أو صوص أن ينظر في عينيه.
في صباح ما دخل الديك إلى مزرعته الكبيرة جداً، وراح يلم البيض من تحت الدجاجات والديوك على حد سواء.
2000

4 ـ مختبر
كان عبد الله يلبس عباءته الطينية، بينما يعبث الهواء بشعره الأشعث، وتفوح منه رائحة حليب النوق، دخل المختبر كي ينفض عنه غبار الطريق، بينما كان يردد قول المتنبي:
وإنما الناس بالملوك وما تفلح عُرْب ملوكها عجم
وحين خرج كان يرتدي الجينز.. وتفوح منه رائحة البارفان، ويقول بينما يلتهم سندويشة الهمبرغر: دولتان لشعبين..242، 338… إلخ
2000
5 ـ كومبيوتر
نظّم لي صديقي الكومبيوتر كثيراً من أعمالي، أرشيف المكتبة والحسابات، وحركة النشر، ولكنه أخيراً تمرّد عليّ، حين سخر من غبائنا، نحن البشر، وحين طلبت منه أن يكتب قصيدة بكى وطلب مني الغفران.
1999

قصص قصيرة جداً: هموم صغيرة

هموم صغيرة
د. يوسف حطيني


1 -ذعر
أغلق النافذة، وراح يتنفس ملء رئتيه، أطلق العنان لآهاته، وأحزانه، وانكساراته، ولكنه شعر بالهلع، حين تذكر الزجاج المكسور!
1994

2 - الأحرف المشبهة بالفعل
إلى نضال الصالح
"وإنك لعلى خلق عظيم" قال رئيس الفرع (ن) للرجل النحيل المرتجف:
"لعلك باخع نفسك على آثارهم؟"
قال النحيل محاولاً تلطيف الجو: كأنك لا تعرفني، أمشي قرب الحائط وأطلب الستر من الله.
كلمة واحدة بصقها السيد (ن) : خذوه.
قال المرتجف:"يا ويلتي ليتني كنت ترابا"
1992

3 - عصفور
أخرَجوه من القفص، ولكنه عاد إليه بعدما رأى نفسه مضطراً إلى استخدام مجهره للبحث عن سماء، يقال أنها تمتد بين المحيط والخليج.
1996


4- حديقة
وضع خوذته الكبيرة فوق صدر المدينة، اختنق الناس والعصافير والأزهار..
وردة صغيرة حمراء استطاعت أن تصنع ماءها وهواءها.. أن تكبر.. وتقلب الخوذة رأساً على عقب.
كان الجنرال منـزعجاً جداً حين شهد، رغم أنفه، تحول الخوذة إلى عش للعصافير الملونة.
1999


5 - تجاوز
أصدر فرماناً يمنع استنبات الورود، ذات ليلة أفاق مذعوراً حين رأى ياسمينة بيضاء تتسلق أحلامه.
1995


6 ـ قدمان
اليسرى واليمنى كانتا تمشيان معاً بينما ينصب الرعب في كل خطوة يخطوانها،
حين وصلتا إلى باب الفرع ن قالت اليسرى:
أنا من يجب أن يدخل أولاً، لأن أفكاري اليسارية هي التي قادتنا إلى هذا المكان.
قالت اليمنى: العرب تدخل باليمين.
كان السيد ن في غاية الشماتة حين رآهما تنزفان دماً، وقد توحدتا تحت الفلقة.
2000


7 ـ مستقبل مضمون
ابن السيد ن عاقب أخته بقسوة، ضربها على فمها حتى نزف الدم غزيراً، ثم ربطها في زاوية السقيفة ومنع أمه من الصعود إليها.
أمه التي استغربت همجيته وعدته ألا تخبر الأب إن هو فك وثاق أخته. ولكنه رفض بعناد. هددته دون جدوى.
حين عرف السيد ن كان في غاية الغبطة.
ربّت على كتف ابنه، وقال له بفخر: إنك موهوب حقاً، ويمكنني أن أعتمد عليك في المستقبل.
2000

8 ـ سقوط
يمشي واثقاً، يواجه الشمس بنظراته الثاقبة، يكتب كثيراً من القصائد التي ينتقد فيها كل راع لا يكون مسؤولا عن رعيته، وحين جاعت رعية الشاعر دخل إلى مطبخ السلطان. ومنذ ذلك اليوم وهو يحاول أن يرفع رأسه دون جدوى.
2000



9 ـ بالجرم المشهود
داهموا بيته، حين كان يكتب قصيدة خضراء، أشبعوه ضرباَ، وألقوه في سيارة سوداء، جندي ذكي عاد إلى بيت الشاعر، وأحضر القلم الأخضر، وقال منتصراً:
لقد أحضرت لكم أداة الجريمة.
1990


10 ـ عذراء
قرر أحد الصحفيين أن يلاحق الحرية في كل مكان من العالم ويسألها عن أسعد لحظات حياتها.
وجد لها نسخاً عديدة.
في بلاد الواق الواق قالت:
أستعيد ليلة عرسي، بكل لذاذاتها حين يخترقني الشاعر الجريء. وفي الهونو لولو قالت: حين تخترقني ريشة فنان يجتاز معي الحواجز كلها، أستعيد تلك الليلة.
حين عاد إلى وطنه بحث عنها في كل مكان وقبل أن يدخل اليأس إلى قلبه وجدها مختبئة في إحدى الزوايا المعتمة.
: مدام حرية متى تشعرين بالسعادة الحقيقية؟
: آنسة.. لو سمحت!
2000


11 ـ كسوف
:لا تنظر إلى الشمس.
:لا ترفع رأسك نحو الأعلى.
:لا تواجه الكسوف بعينيك.
أرهقته الإذاعات والتلفزيونات والجرائد والمحاضرات التي تحذّر وتنذِر.
انتهى الكسوف، ولكن صاحبنا ما زال ينظر بين قدميه.
2000




12 ـ مزحة
عاد العصفور إلى عشه، بعد غياب، فرحاً على غير عادته، وحين سألته زوجته عن سبب ابتسامةٍ عرضُها البلاد الممتدة بين المحيط والخليج أجاب:
_ قطعت سمائي طولاً وعرضاً.. من البصرة إلى القاهرة .. إلى تلمسان دون أن يطلب أي شرطي مني جواز السفر.
فاضت من عينها اليمنى دمعة فرح كبيرة بحجم شط العرب. ولكن دمعة حزينة بحجم شط العرب أيضاً، فاضت من عينها اليسرى، حين قال لها:
_ كذبة نيسان!!
1997

13- خطة
قرر أن يعتزل الناس، اقترح عليه واصل بن عطاء أن يأكل بصلاً، نفذ الخطة، وكان نجاحها باهراً إذ انفض عنه كل من حوله. ولكنّ أشعب استطاع أن يحتمل رائحة البصل، وأن يدمنها فعاد صاحبنا يبحث عن العزلة من جديد.
ذهب إلى رجل فهمان، وطلب نصيحته، فاقترح عليه أن يواجه الناس بالحقيقة.
بعد أيام لم يبق حوله أحد، وانفضّ عنه واصل بن عطاء وصاحب البصل والفهمان.
وحين نظر في المرآة كسرها.
2000

14 ـ متفائل
دائماً يتعجبون مني.. من ابتسامتي التي لا تفارق وجهي على الرغم من كوني موظفاً.. ولكنني خرجت اليوم عن طوري وبكيت.. وضحك مني الجميع.
ولكن الذي حدث كان أكبر من الاحتمال: أن يدنو متسول مني ويضع في جيبي قطعتين نقديتين راحتا تتحدثان عني، ويصل زنين ضحكهما إلى أذنيّ سخريةً لاذعة.
1996



15 ـ ثروة!
وأخيراً نشروا له مقالة نقدية ملأت إحدى الصفحات الثقافية في صحيفة محلية مشهورة، فحمل فرحته عائداً إلى أسرته التي فرحت مثله، ولكن لأسباب مختلفة.
قال الأب بفخر: سأذهب في الأسبوع القادم لأقبض مكافأة المقالة، وسأشتري لكل منكم هدية. : أريد أن تشتري لي سيارة تعمل على التحكم.
: أريد لي عروساً جميلة.
: أما أن فأريد منديلاً ملوناً، فأنت تنسى هدية عيد زواجنا دائماً.
طمأنهم جميعاً، وكتب الهدايا على ورقة صغيرة الهدايا المطلوبة، والحاجات الضرورية التي يحتاجها المنزل: كيس مبيض الأفراح، كيس بمبرز…. ولم ينسَ أن يمنيَ نفسه بهدية أيضاً.
بعد أسبوع استطاع صاحبنا أن يشتري بكدّ قلمه كيس بمبرز، وأجّل كل الهدايا والحاجات الضرورية، إلى المقالة القادمة.
1995



16- سيرة ذاتية
أزعجه أنهم ضحكوا عليه كثيراً حين جاء إلى الدنيا،فمات.. وحين بكوا عليه سخر منهم، وراح يقهقه في صمت.
2000

17 ـ الحارس
سئم الحارس الشخصي الدوران حول سرير الملك كل ليلة، ليحمي نومه من الناموس والبق والكوابيس، لذلك قرر هذه الليلة أن يقتله، غرز سيفه الحاد في القلب تماماً، وراح يفكر، بقية ليلته في الخازوق الذي سيعده له الوزراء والأمراء والحجاب والعسكر، والقصائد التي سيكتبها الشعراء عن خيانته لعهد سيده. قال في نفسه: الخازوق سيكون من نصيبي في جميع الأحوال، لذلك سأبطح الملك على الأرض، وأنام في فراشه، ولكنه حين نام هاجمته الخوازيق، فبقي في فراش الملك مرتجفاً.
في صباح اليوم التالي دخل أحد الحجاب، وحين رأى الجثة على الأرض تسبح في دمائها قال: إنه يستحق القتل أيها الملك، فقد كان حارساً سيئاً.
2000

قصص قصيرة جداً: مفردات وطن

مفردات وطن

د. يوسف حطيني

1- زجاجة حارقة
أبراهام الذي بال في ثيابه، في معركة الكرامة، أبراهام القائد صاح: إنه من المطلوبين.
على الأرض الندية، ودّع طفلٌ شهوره العشرة، كانت في يده زجاجة .. حليب.!
1987
2- تحدٍّ
الجنود الأذكياء ألقوا القبض على أزقة المخيم، صاحت الجدران: المجد للانتفاضة.
1987
3- إصرار
البنت الصغيرة لا تعرف اليأس، حملت عكازها، ذكرى قدمها الراحلة، وانطلقت تلعب مع الأطفال.
1988


4- دموع مؤجلة
حين جاؤوا لاعتقاله لم تذرف دمعة واحدة، في الليل: عانقت طفلهما والوسادة المبللة.!
1990
5 ـ تحرير
استل السيد الأعظم غمده وحطته وعقاله، وانطلق يشعل حرب التحرير، هزّ رأسه موافقاً أو متسائلاً أو نافياً، ارتجفت شفتاه: سنجعل من فلسطين طروادة جديدة.
لم يكن لديه أخيل أو سيف أو حصان.
1992
6 ـ رمال
في اجتماع مهم قررتْ الرمال أن تلتصق فيما بينها التصاقاً حميماً.
فمنذ أكثر من قرن، والغرباء يدوسونها بأقدامهم.
وحين غسلها الدم الفلسطيني، قال لها: كوني…
فكان حجر
وكان وطن
وكانت انتفاضة
1987
7 ـ حرية
حين أخذوه إلى السجن، قال لأمه العجوز أخرجي العصفور من القفص.
1989

8 - وجهات نظر
قال المعلم: أهلاً بكم في العام الجديد.
قال الجنود: تغلق المدرسة حتى إشعار آخر.!
1988

9 ـ متبرّعان!
حين كانوا مقبلين نحوه يجمعون تبرّعات لصالح انتفاضة الأقصى الشريف فكّر:
:خمسون ليرة لا تكفي لعشائي مع أولادي الثلاثة.
:لا يا رجل، خمسة عشرة ليرة أشتري بها فلافل، وعشر ليرات للخبز، سأتبرّع بخمسة وعشرين.
وحين صاروا إلى جانبه تماماً كان قد اتخذ قراراً خطيراً.
* * *
في مـدينة بعـيدة عن الـوطن خلع رجل ما بذلته وسراويله وكرامته في حضرة امرأة من نساء الشمال، ولم ينسَ قبل أن يشرب كأسه العاشر أن يتبرّع بمليون دولار للانتفاضة.
في صباح اليوم التالي تحدّثت جميع الصحف عن اليد البيضاء لصاحب العطوفة، ولكن أية صحيفة لم تكتب كلمة واحدة عن أسرة نامت دون عشاء.
2001

10 ـ فلسطين
يد تبني بيتاً.. تزرع حقلاً أخضر.. تلوح للمستقبل.. تدفعها يد آثمة نحو غربتها. يد تتشبث بالأرض تدفع عنها الغرباء.
يد كبيرة تمسك بحنان يداً غضة، تمتد أمامها في مواجهة يد تضغط على الزناد.
: مات الولد.
يد تعانق التراب، ويد ترفع شارة النصر.
2000

دراسة: القصة القصيرة جداً مرة أخرى

القصة القصيرة جداً.. مرة أخرى[1]
رد على الأستاذ غسان شمّة

د. يوسف حطيني


إذا كنا، نحن النقاد، نستعرض عضلاتنا الثقافية أمام الآخرين، من خلال ذكر أسماء النقاد الأجانب، مثل رولان بارت ونورثروب فراي، وجيرار جينيت، فالأجدر بنا أن نباهي بمعرفة ناقد عربي متخصص نذر حياته للردح لفن القصة القصيرة جداً، وهو أستاذنا الجليل غسان شمة الذي تجاوز النظريات النقدية القديمة الحديثة، وقفز فوق التحليل النفسي والاجتماعي والإشاري والأسطوري للأدب مبتدعاً مدرسة جديدة في النقد هي مدرسة النقد الشتائمي الساخر.
سأنسى أن هذا الناقد درس مجموعتي القصصية "ذماء" في صحيفة الثورة بطريقته الفريدة، وسأنسى أنه اتهمني بالتسرع والاستسهال في قصص كتبت بين عامي 1987و2001، وسأنسى أنه أعطى عدة أمثلة عن القصص التي لم تعجبه، أما القصص التي أعجبته فلم يكتب منها كلمة واحدة.
غير أنني في مقابل ذلك لن أنسى ما نشره في صحيفة النور،ع4، تاريخ3/6/2001 تحت عنوان "قصة قصيرة جداً.. حدثت لجدتي" لأن القضية التي يثيرها في النور ليست الحكم على مجموعة قصص قصيرة جداً بل يناقش فيها النوع ذاته.
تبدأ هذه المقالة بـ"قصة قصيرة جداً" تجشم عناء كتابتها بنفسه، فأبدع فيها أيما إبداع. تقول القصة:
"مر أحد أساتذة اللغة العربية بجدتي وهي تخبز على التنور، فقال لها من فضلك أعطني رغيفين من الخبز، فردت عليه سريعاً، انتظرني أتوستين".
والفائدة الوحيدة التي يجنيها القارئ من هذه القصة، ومن المقالة برمتها، هي زيادة ثروته اللغوية إذ يعرف أن الأتوستين تساويان الدقيقتين في عرف صاحبنا وجدته، لأنه بعد ذلك يداهمنا بلغة تشبه قصته، ويحدثنا عن "البساطة التي تجعل المفارقة واقعاً ملفوظياً" وإذا فهمتم شيئاً أنجدونا، ثم يخالف متواضعاً أحد المنظرين لهذا الفن، وهو يقصد كاتب هذه السطور، لأن القصة بسيطة، بينما مطلوب منها أن تعالج القضايا الكبرى كالعولمة والانتماء ومواجهة الذات.
ألا يدرك المحترم الساخر أن القصة القصيرة جداً يمكن حقاً أن تعالج القضايا الكبرى، يمكن هنا أن أعرض له قصة سهلة، ليست مثل قصة براقش، لأن تلك القصة بحاجة إلى شيء من كد الذهن، واستدعاء الثقافة، وهو ما قد يسبب له الصداع، القصة بعنوان "عراق" للقاصة وفاء خرما ولا يجرؤ صاحب "الأتوستين" أن يذكرها للقارئ حتى لا يعجب بالقصة القصيرة جداً، على الرغم من أنها موجودة في الكتب التي اعتمد عليها أساساً لمهاجمة هذا الفن، تقول قصة "عراق":
"دخلا دارتهما في بغداد. صاح الزوج: سرقوا كيس الرز!
لطمت الزوجة خدها صارخة: بل سرقوا مصاغي… خبأت مصاغي في كيس الرز!
رن جرس الدارة، وقفت بالباب امرأة تمد يدها بصرة وهي تهمس في خجل: خذوا ذهبكم: أولادي جياع إلى الرز فقط"
وفي قصة حملت عنوان "تضامن" يقول علي صقر:
"بعد بروفات دموية على جسد محمد الدرة.. سمحوا بمسيرات تضامنية.
فخرجوا يصرخون:
نحن مع.. مـع.. مــاع.. مــ…ــاع.. مـ..ــ..ــ..ـاع."
هذه نماذج من كثير يشبهها، على الرغم من أستاذنا بحث عن الماء الزلال والثمار الشهية وكان سيقنع بالقليل، ولكنه لم يجد شيئاً، مما يوحي للقارئ أنه لن يجد قصة قصيرة جداً تستحق القراءة.
بشرفك ووجدانك أيها القارئ الكريم ألا تلامس هذه القصص أهم مشاكل الإنسان العربي في العصر الحديث، ثم ألا تستطيع أي كتابة مهما كان جنسها أن تتناول أي موضوع، وهل أصدر أحد ما قراراً يمنع القصة القصيرة جداً من معالجة القضايا الكبرى، لتهتم بالرغيفين والأتوستين؟
لن أدافع عن المشاركين في مجموعة "بروق" وهم عشرون قاصاً متحمساً لهذا الفن، ولن أزعم أن جميع القصص بالمستوى ذاته، فهذا صعب جداً، ولكن كل ما أتمناه أن يخاطب الناس عقولنا بدلاً من أن يشتمونا.
نعرف أن هناك قصصاً قصيرة جداً تعاني التفاهة والسطحية والركاكة، ولكن ألا توجد روايات ومسرحيات وقصائد تعاني الأمر ذاته؟ إن التفاهة والسطحية والركاكة تتعلق بإمكانات الكاتب لا بالنوع الأدبي الذي يكتب فيه. وهنا لا أصر على أن ما أكتبه نفيس وقيم، ولكن ثمة بالتأكيد من يكتب نصاً جيداً ينتمي إلى هذا النوع.
والقصة القصيرة جداً لا لن يفيدها حماس يوسف حطيني أو أحمد جاسم الحسين ولن يضرها هجوم هذا الناقد أو غيره، لأنها مرهونة فقط بالنصوص الجيدة التي تستطيع أن ترفع من شأنها.
ولسنا في عجلة من أمرنا لأن الزمن كفيل بغربلة كل ما هو تافه وسطحي، كما أنه كفيل باصطفاء كل ما هو نقي وإنساني وفني، حتى وإن كان قصة قصيرة جداً. هذا إذا نجت القصة القصيرة جداً من كتاب مثل صاحبنا الذي يستطيع أن يكتب خمس قصص في "الأتوسة" الواحدة.
[1] هذا رد على مقالة للأستاذ غسان شمة: (قصة قصيرة جداً.. حدثت لجدتي)، صحيفة النور، دمشق، ،ع4، تاريخ3/6/2001.

دراسة: كيف تصبح ناقداً في خمسة أيام؟!

فشة خلق
كيف تصبح ناقداً في خممسة أيام
[1]؟!
رد على د. وليد السباعي

د. يوسف حطيني


كلما دق الكوز بالجرة انبرى ناقد من هنا أو هناك ليهاجم القصة القصيرة جداً، حتى صار يخيل إلي أن بعض النقاد لم يعد لديهم ما ينقدونه سواها، مما رسّخ إحساساً لدى الكتاب الذين لم يتخصصوا بعد أن أقرب طريق ليصبح المرء ناقداً، هو الانتقاص من القصة القصيرة جداً، والمتحمسين لها، ويكفي أن يحفظ مصطلحيين نقديين وشتيمتين بذيئتين ليكون من النقاد العظماء، ومثل هذا الهجوم المتواصل يرسخ لدى القارئ الكريم إحساساً بأن المتحمسين لها باتوا في مأزق حرج.
أنا أعتقد أن تقديم دراسات جادة في ميدان النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً أهم بكثير من الرد على الذين يناوشون هذا الفن عن يمينه وشماله، ولكن نفسي الأمارة بالسوء زينت لي الرد على ما جاء في مقالة الأستاذ د. وليد السباعي حول آرائي في القصة القصيرة جداً والتي حملت عنوان: " في محاولة للرد على كتابات الدكتور يوسف حطيني حول القصة القصيرة جداً وعند زكريا تامر: حقائق التبر والتراب، وكانت قد نشرت في الأسبوع الأدبي (ع787، تاريخ 8/12/2001). ذلك لأن هذه المقالة تضع أقدام الذين ينوون دخول ميدان النقد الأدبي على الدرجة العاشرة من السلم دون المرور بالدرجتين الأولى والثانية، حتى إن هذه المقالة اللطيفة يمكن أن تعد نموذجاً يحاذى للذين يريدون أن يصبحوا نقاداً عبر أقصر السبل.
1- منذ البداية يخبرنا الدكتور الفاضل أن ارتفاع سوية التحصيل النقدي لدى الباحث ضرورة قصوى، وقد تجلى ذلك في مقالته من خلال المصطلحات المعروفة على نطاق واسع في النقد الحديث، ومن خلال تعبيراته النقدية المناسبة من مثل "الابتذال" و"الفجور" و"شحط البوابيج".
2- كما يؤكد الدكتور المحترم في منهجه النقدي على ضرورة الغض من شأن الآخرين، والسخرية منهم، ويتجلى ذلك في الألفاظ الكثيرة التي يسوقها في مقالته على سبيل التهكم، وربما كان الأجدر به أن يدخل مع الآخرين في حوار جاد، وفي تقديري أن الجدية في الكتابة قادرة على الإقناع أكثر من قوله ساخراً "كلما نعل رجال الملك خيولهم مدت الخنفساء رجلها". وبدلاً من قوله في موضع آخر من مقالته القيمة ساخراً من الذين يلهثون وراء الحداثة و"التقليعات" التي تعدّ ق.ق.ج آخرها:"وإطلاق مثل هذه التقليعات تجعل النكرات والدغاميص ـ انظر فخامة المصطلح النقدي عزيزي القارئ ـ يبادرون فوراً إلى اعتناقها، بغية اكتساب الصفة الرفيعة دون اجتهاد".
3- يعلمنا أستاذنا وليد السباعي أن أقرب طريق لكسب ود القارئ هو كيل الاتهامات جزافاً للآخرين، وجعل كل ما يقومون به هو جزء من تقليعات المستعمرين والصهاينة (وللأمانة فإن مصطلح "تقليعات" النقدي هو من اختراع الناقد الحصيف، وحقوق الاقتباس محفوظة)، ناهيك عن خلط الأوراق بعضها ببعض، والجمع بين موضوعات نقدية لا علاقة بينها، كاستخدام العامية والغموض وموت المؤلف واحتضار الشعر في جملة واحدة، يقول السباعي:
"وابتدأنا بكتابة القصة القصيرة جداً، واليوم أراهم يكتبون الرواية القصيرة جداً، ناهيك عن الدعوات إلى الكتابة بالعامية، والهجات المحلية، والعبقرية في الغموض وموت الكاتب، واحتضار القصة والشعر، إلخ.... (...) والعجيب أن مصدري هذه التقليعات "الأساسيين" من الغرب وغرب الغرب هم اليهود حصراً دون سواهم."
ويبدو لي أن هذا المقتبس يلخص جانباً مهماً من التوجه النقدي لصاحب المقالة، فهو يخلط فيه الحابل بالنابل، إذ لا علاقة بين دعاة العامية من الأعراب،وبين رولان بارت الذي دعا إلى موت المؤلف، كما أن لا علاقة بين الحداثة الأدبية و(الصهاينة)، وهنا لابد لي من لإشارة إلى خطورة الإحساس بأن هؤلاء يسيطرون على كل شيء لأن مثل هذا الشعور غير الصحي يكرس حالة من العجز تجاه المشاريع الاستيطانية الاستعمارية، وغني عن القول أن هؤلاء الذين يروج الجاهلون لقدراتهم الخارقة لا يستطيعون، بكل وسائل قمعهم، وكل وسائل إغرائهم أيضاً أن يسقطوا حجراً من يد طفل صغير في فلسطين.
4- ويقوم منهج النقد السباعي الحديث على الافتراء، والاجتزاء، فهو يقول ببراءة مصطنعة: "ليس صحيحاً أن التفاصيل غير مهمة كما يقول د.حطيني" والغريب أنني حين عدت إلى مقالتي عن زكريا تامر، وهي المقالة التي اعتمدها السباعي أساساً للهجوم، لم أجد فيها هذا الكلام، فإذا كان هذا وارداً في مقالة أخرى، فإن الأمانة تقتضي أن يشار إلى ذلك بدقة، ونقل الكلام ضمن سياقه، دون اجتزائه، إذ ليس عاقل يمكن أن يقول "إن التفاصيل غير مهمة" إذا لم يكن يتحدث عن أمر لا يحتمل التفصيل فيه.
5- يقدم الدكتور السباعي نصيحة غالية، وهي أنك حين تحب أن تنقد القصة القصيرة جداً فإن من المناسب أن تختار نصاً تافهاً، فإن لم تجد فإنك تستطيع أن تكتب نصاً تافهاً بنفسك، حتى تبرهن على تفاهة ما يكتب جماعة القصة القصيرة جداً، فهو يقدم نصاً قصصياً (!) أقرؤه لأول مرة، ولا أدري حقيقة إذا كان الكاتب هو السباعي نفسه، أو أحد أولئك الذين شاء القدر لهم أن يكونوا عالة على القصة القصيرة جداً، تقول "القصة": "نهض وأمعن النظر من حوله،وحينما لم يجد ما يستحق الاحترام جلس ثانية مبرزاً عجيزته إلى الأعلى". وعلى الرغم من أنني لم أستوعب هذه الصورة "أن يجلس المرء مبرزاً عجيزته نحو الأعلى" فإنني أتساءل عن سر اختيار جميع الذين يهاجمون الـ ق.ق.ج نصوصاً سيئة للدلالة على تفاهة هذه القصص وسطحيتها، كما أتساءل: هل يمكن لي أن أختار نصاً شعرياً سيئاً لشاعر متخلف لأثبت أن الشعر ليس فناً أدبياً جديراً بالقراءة.
إن ما تعانيه القصة القصيرة جداً من ضعف ينطبق على كثير من الفنون الأدبية ولك أن تنزل إلى السوق، وأن تقرأ قصصاً وروايات وقصائد لا تساوي ثمن الأوراق التي سوّدتها.
6- وحتى يتكامل المنهج النقدي عند السباعي، فإنه يشترط الجهل بالحركة الأدبية والنقدية، فهو يجعل قصص زكريا تامر خواطر، وينزهها عن أن تكون قصصاً، على الرغم من أن زكريا جمعها مع مجموعة من القصص القصيرة في مجموعته "الحصرم" دون أن يشير إلى أن فيها أية خاطرة، كما أن المتتبع لظاهرة القصة القصيرة جداً في السبعينات، يدرك مدى تحمس زكريا لهذا النوع من الكتابة، وهو لم يسمه في مجموعته بالقصة القصيرة جداً، وهذا ما قلته في مقالتي التي نتفت ريشها وريشي، أما أن تجعل بضعاً وعشرين قصة في مجموعته مجرد خواطر، فإن هذا ينم عن ثقافة عالية جداً في فنون النثر الحكائي، والله المستعان"
وحتى يطمئن القارئ إلى حسن فهمنا أو سوئه لما قاله الدكتور الفاضل في هذا المجال، فإننا نورد قوله حرفياً: "إن ما أورده د. حطيني من قصص قصيرة جداً للكاتب زكريا تامر لم يشكل الأمثلة المناسبة لمقام القول وهي الحافلة بالتفاصيل، وإن زكريا تامر لم يقصد أبداً أن يكتب ق ق ج كما تمت ترجمتها من قبل بعضهم، ويحق لكاتب كبير مثله أن يكتب الخواطر".
7- وتتجلى آخر النصائح المجانية في منهجه النقدي من خلال التعميم الذي يفتقر إلى الخبرة، فالتعميم كما يعلم الباحثون من أخطر ما يواجه سلامة المنهج النقدي وتوازنه، فهو يعد القصة القصيرة جداً بعجرها وبجرها "مجرد فكرة مبتورة لم تستوف شروطها،تواري تقريريتها، ومباشرتها، واستعلاءها، ويلزمها الكثير من الجهد لتصبح مجرد خاطرة مقبولة". وبالتأكيد فإن القصة القصيرة جداً ستضرر كثيراً إذا اعتمدت على نصوص مثل نص "العجيزة المشرئبة" الذي أورده صاحبنا.
فإذا اتبعت عزيزي القارئ هذه الخطى يمكن بسهولة أن تصبح ناقداً من طرازٍ رفيع، في خمسة أيام، ودون معلم طبعاً.
ولا بد لي أخيراً أن أعتذر منك عن هذه السطور التي لا ترقى إلى مستوى المقالة النقدية، ولكنها "فشة خلق"، وكل تقديري واحترامي للأستاذ الدكتور وليد السباعي، وإلى محاورة أكثر جدية بيننا، وخلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية.
[1] جريدة الأسبوع الأدبي، العدد 802، 6/4/2002.

دراسة (من ق. ق. ج إلى ح. ح. مع المحبة)

من ق. ق. ج إلى ح. ح … مع المحبة[1]
رد على الأستاذ حسن حميد

د. يوسف حطيني


لا شك أن القراء الأعزاء باتوا يعرفون أن (ق.ق.ج) تعني القصة القصيرة جداً، وهو رمز ابتدعته مخيلة مناهضي هذا النوع الأدبي، لا مخيلة المتحمسين لها، أما (ح.ح) فهي تشير إلى علم القصة القصيرة في سورية الأستاذ حسن حميد الذي جرب أن يكون علماً في النقد عبر القدح والردح للـ (ق. ق. ج) وكتابها وجمهورها والمتحمسين لها.
والحق إن الصديق حسن حميد فنان في ابتداع الآراء الغريبة المستفزّة التي تثير حولها كثيراً من الكلام، وتثير هذه الآراء شهوة الكتابة لدي، ولكنني أتراجع في كل مرة لأن حسن صديقي الذي لا أتمنى أن أخسره في يوم من الأيام، ولأنني أخاف من قدرته العظيمة على التجريح، وهي قدرة أعترف بعجزي عن مجاراته فيها، ولأنه وقبل كل ذلك ابن البلد.
في مقالته التي نشرها في الأسبوع الأدبي، والتي حملت عنوان (النصوص القصيرة جداً.. والرؤية القصيرة جداً) ،ع770، 4آب، 2001 يقرر الأستاذ حميد بثقة واطمئنان أن المهرجان الأول امتاز بالإخفاق الذريع، وكأن هذا الأمر يقرره رجل لم يحضر أية فعالية من الفعاليات، فإذا سألنا عن مدى اطلاعه على ما جرى فيه أجاب: لقد تابعت باهتمام عناوين (!!) النصوص التي ألقيت. ولا يفوتنا هنا أن نشكره لأنه أضاع جهده في الاهتمام بها، فتصور يا عزيزي حسن لو أن المثقفين اكتفوا بقراءة عناوين قصصك، ثم أصدروا عليها حكماً نهائياً غير قابل للطعن.. كنا نتمنى منك أيها العزيز، العزيز حقاً، أن يحضر، وأن تنقد وأن تحاول مساعدتنا على النهوض بالتجربة التي ما تزال تعيش مخاضاَ عسيراً يزيده المتسلقون والمستسهلون عسراً، ولكنك لا تشارك في أي نشاط في المركز الثقافي الروسي، بسبب تعاطفك مع الشيشانيين، ولا حتى في اتحاد الكتاب الفلسطينيين، ولعلك تذكر المحاولات التي بذلناها، كأفراد لا كمؤسسات، من أجل أن تكون بيننا.
ها أنت ذا تشكو من الأسماء التي لم تنشر نصاً واحداً، ولكنها تشارك في الملتقى الثاني، وأشير هنا إلى أن اثنين وثلاثين مشاركاً من المشاركين الأربعين لهم روايات ومجموعات قصصية ودراسات، ما عدا الأسماء التي تنشر مقالاتها هنا وهناك، ثم أن هناك أسماء جديدة، ولا عيب ولا تثريب، لأن الأدب بحاجة دائماً إلى أسماء جديدة ودم جديد، فالثقافة ليست حكراً على أحد، ولاشك أنك كنت مبتدئاً في يوم من الأيام، ووجدت من يأخذ بيدك، وأنت إذ تعيب علينا مشاركة الأسماء "الصغيرة" تعيب علينا إشراك الأسماء الكبيرة، فهل تريد أن نقيم مهرجاناً يخلو من الأسماء الكبيرة والصغيرة في آن؟ ربما كنت تريد أن نلغي المهرجان ونعود إلى "رشدنا".. إلى القصة القصيرة حتى ننضوي تحت لواء أعلامها الكبار، ونحن نعرف ونفخر أنك أحد أعلامها، ولكن الساحة الأدبية تتسع للجميع، وليس ثمة علاقة إلغائية بين ما تقوله، وما نحاول أن نقوله.
وأنا هنا أريد أن أطرح سؤالاً: لماذا يشارك كتاب مثل د.رياض عصمت، ووليد معماري وفيصل خرتش ود.لبانة مشوح ود.عبد الله أبو هيف ود. قاسم المقداد بهذا الملتقى، ولماذا يلطخون (!!) سمعتهم الأدبية عبر هذه المشاركة إن كان فيها ما يعيب حقاً، وما أوراق الضغط التي نمتلكها على هؤلاء حتى نجبرهم على الحضور. هنا نؤكد أننا لم نطلب من أحد المشاركة عبر "التخجيل" والموانة، ولم نقبل يد أحد من هؤلاء.. كل ما في الأمر أننا عرضنا عليهم الأمر ووافقوا، ثم لماذا تريد يا أستاذنا الجليل أن تمنع هؤلاء من إبداء رأيهم في قضية بدأت تشغل المشهد الثقافي في سورية، ولا ينقص من شأنها تجاهل بعض الكتاب لها، أو إضرابهم عنها. أنت كاتب تسعى دائماً إلى التجديد، وفي تقديري أنك بإعراضك عن كتابة هذا اللون الأدبي الجميل الذي جربه كبار الكتاب تخسر فرصة يمكن أن تغني تجربتك. صدقني أنني أحاول أن أتعلم من الجميع، وليس عيباً إذا حاول كاتب مبدع أن يتعلم من كل من حوله.
وأنت تأخذ أيضاً على الملتقى أنه يضم حالة عشوائية، وتنتقدهم لأن الاتفاق صار معهم عبر الهاتف، وإذ أهنئك على هذه المعلومات الدقيقة، أؤكد لك أن هذا يتم في كثير من الملتقيات والندوات. كما أنك تنتقد الأسماء التي شاركت فيه (بالموانة) يعني (بالواسطة والمعرفة) متناسياً أن هناك جوائز أدبية (تعرفها قبل غيرك) وتعطى بالموانة أيضاً. وإذ تتهم المشاركين بأنك لم تلحظ لهم أية مشاركة تذكر أو "موجودية" في المشهد الثقافي فإنك تظلمهم ظلماً كبيراً، وأنت الذي تعرف ما قدمه، هذا العام بالتحديد، كل من كنفاني وابتسام شاكوش وهيمى المفتي ونور الدين الهاشمي ومحيي الدين مينو وأحمد جاسم الحسين. ومع ذلك فأنت تتساءل تساؤل المتجاهل: "هل اكتفى كتاب هذا الجنس الأدبي الصعب جداً (لاحظ السخرية يا عزيزي) بالمشاركة في المهرجان السنوي فقط"؟.
بكثير من الود أقول إننا نتمنى أن يبدي الكتاب الآراء الجريئة المنهجية والموضوعية حول القصة القصيرة جداً، وأن يسهموا في إغناء تجربتها عبر حضورهم الفاعل والمؤثر، ونحن بالتأكيد نحاول أن نلتقط السلبيات لنتجاوزها، وقد خصصنا جلسة كاملة للجمهور حتى يبدي آراءه بصراحة، وربما نستطيع من خلال هذه الملاحظات بلورة شيء جديد، وسنحاول في الملتقى الثالث أن نختار النصوص الأكثر تميزاً للمشاركة، سواء أكان كتابها من المعروفين أو المجهولين، والمهم في الأمر أن يحققوا حضوراً باهراً للقصة القصيرة جداً.
وهنا نريد التأكيد أن ليس ثمة تعارض بين القصة القصيرة والقصيرة جداً، وهما يمكن أن تتعايشا جنباً إلى جنب، وليس ثمة من يلغي الآخر، ولا يستطيع المتحمسون والمترددون والمناهضون لهذا النوع أن يعولوا على شيء آخر غير الزمن، فالزمن هو القادر على تمييز الغث من السمين وهو القادر على الانتخاب والاختيار.
همسة أخيرة في أذنك أيها الصديق: لقد قلت في مقالك القيم: "والسلبيات المعروفة لم تحول دون انعقاد الملتقى الثاني" ولا شك أنك تعرف أن "لم" تجزم الفعل المضارع بالسكون مما يفرض حذف الواو من "تحول" لالتقاء الساكنين، وكلي أمل أن لا يفسد الخلاف ما بيننا من ود، وكل ملتقى وأنت بخير.
[1] مجلة تشرين الأسبوعي، العدد 175، 21 /8/2001.

دراسة: كتاب القصة القصيرة جداً ورحلة الواقع والطموح

كتاب القصة القصيرة جداً
ورحلة الواقع والطموح
[1]
د. يوسف حطيني



كتاب جديد للأستاذ أحمد جاسم الحسين بعنوان (القصة القصيرة جداً) وهو الكتاب الخامس الذي أصدره بعد كتاب في التحقيق هو (حقوق الجار للذهبي). ومجموعتين قصصيتين قصيرتين (لو كنت مسؤولاً- صهيل الذكريات) ومجموعة قصص قصيرة جداً بعنوان (همهمات ذاكرة).
وتتوزع صفحات هذا الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسية، يتناول القسم الأول نظرية القصة القصيرة جداً ويقدم القسم الثاني قراءة تحليلية في مجموعة (أحلام عامل المطبعة) لمروان المصري، بينما يستعرض القسم الثالث تاريخ هذا الفن الأدبي الجديد.
هذا بالإضافة إلى بعض الملحقات الأخرى كالإهداء والمقدمة والنتائج وبعض المختارات.
ولأن هذا الكتاب يعد باكورة الأعمال النقدية التي تناولت هذا الفن فإنه من المناسب أن يتم استعراض محتوياته بشيء من التفصيل.
أولاً- في نظرية القصة القصيرة جداً:
في هذا الإطار يبدأ الكاتب بتقديم رؤيته للكتابة والذائقة والتلقي ثم يبين سبب استخدام هذا المصطلح (ق.ق. جداً) عن سائر المصطلحات الأخرى مثل (القصة اللقطة) و(القصة الجديدة) و(القصة الكبسولة) و(القصة الشعر)، ثم يسعى إلى تحليل أسباب تعدد المصطلحات ويقرأ مفاهيمها دون أن ينسى التأكيد على استقلالية القصة القصيرة جداً، ولكنه لا يرفض العلاقة المتبادلة مع الفنون الأخرى.
ثم ينتقل الكاتب إلى بنية (ق.ق. جداً) ويميز منذ البداية بين الأركان والعناصر؛ فالركن لا غنى عنه في كل قصة قصيرة جداً أما التقنيات فيمكن أن يظهر بعضها ويختفي بعضها الآخر كما يمكن أن تتحول التقنية عبر التركيز عليها إلى ركن من الأركان.
ويفترض الكاتب أن الـ (ق.ق. جداً) تتألف من أربعة أركان هي القصصية والجرأة ووحدة الموضوع والتكثيف، والقصصية تتضمن عنده عناصر القص المختلفة كالشخصيات والحدث والحوار والجرأة وحين يبدأ الناقد الحديث عن التقنيات يقرر منذ البداية أنها ليست وصفة يكتسب النص من خلالها شرعيته، ويربط بنباهة بين الشكل والمضمون ويرى أن التقنيات في (ق.ق. جداً) تتلخص في:
- اللغة المكثفة التي تطال الانزياح اللغوي والفكري والموضوعي.
- المفارقة القائمة على التضاد والموازنات والمقارنات.
- التناص الذي تبقى خدمته الجليلة مرتبطة بثقافة المتلقي.
- الترميز الذي ينبغي أن يترك عدداً من المفاتيح للقارئ، هذه المفاتيح التي يجب ألا تصبح أكثر من المرموزات حتى لا يقع النص في المباشرة.
- استخدام الحيوان استخداماً يشي باغتراب الإنسان عن ذاته وعن الآخرين.
- الإفادة من السخرية وتمتين علاقتها مع الجرأة.
- خصوصية البداية المشوقة والنهاية المدهشة.
ثم ينتقل الناقد ليتحدث عن خصائص القصة القصيرة جداً فيراها تنحصر في الطرافة والإدهاش وعمق الأثر والإيقاع القصصي. ثم يتحدث عن مقومات القصة وهمومها، من فهم خاطئ للجرأة إلى واقعية فوتوغرافية يقع فيها الكتاب، إلى رموز متوالية تحول النص إلى طلاسم.

ثانياً- القراءة التحليلية لمجموعة (أحلام عامل المطبعة)
في هذا القسم يقدم الناقد قراءة تحليلية لهذه المجموعة من القصص القصيرة جداً، ويبدأ من المضمون الذي يخلق شكله في محاولة دائبة لربط الشكل والمضمون ثم يتحدث عن جرأة الكاتب في مواجهة القمع والفساد.
وبعد استعرض أهم السمات التي طرحها الكاتب، يحاول الناقد أن يغوص في بنية القصة القصيرة جداً ويؤكد منذ البداية أهمية الحكاية، إذ إن "أي إبحار خارج الحكاية هو موت للقص" ص 73- ويبين مدى التزام الكاتب بهذه الحكائية على الرغم من التفاوت في طول القصص، ثم يستعرض شكلي تقديم الحدث الرئيسين في المجموعة إذ تقدم بعض القصص بينة دائرية للحدث (مثل قصة تجربة) ويقدم بعضها الآخر بنية سهمية.
1- تجربة: "فتح باب القفص، فارتعش العصفور، وخرج للتحري، بعد بضع جولات جاع، فبحث عن قفصه".
ويرصد الكاتب بعد ذلك تنامي العناصر والأحداث والحوار والوصف، ويبدي إعجابه بوحدة الموضوع العام ويستعرض التناص وأنسنة الحيوانات والأشياء ويكتشف الثنائيات الضدية في تجلياتها المختلفة: المستغِلّ والمستغَلّ، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم عليه.. ثم ينتقل الناقد ليتناول ما يسميه بالملحقات الطباعية، فيدرس العناوين وتنوعها مفردات وتراكيب وصيغاً صرفية، ويربط عنوان المجموعة بعناوين القصص وأحلام شخصياتها، كما يدرس الإهداء والرسوم وعلامات الترقيم…
ثالثاً- في تاريخ القصة القصيرة جداً:
يستعرض الكاتب في هذا القسم ظروف نشأة القصة القصيرة جداً: تاريخياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وتقنياً، ثم يؤرخ للقصة القصيرة جداً عالمياً وعربياً ومحلياً ويشير إلى ترتيب ظهور مجموعات قصصية تحتوي بعض القصص القصيرة جداً (الدهشة في العيون القاسية 1972 لابراهيم الأحمد- دار المنفى، 1974) وأشار إلى مجموعة نبيل جديد (الرقص فوق الأسطحة) التي تعد أول مجموعة تختص بالقصة القصيرة جداً، ثم ينهي الناقد بحثه بمجموعة من الاستنتاجات التي تلخص ما وصلت إليه هذه الدراسة.
حول المصطلح:
لا نختلف مع الناقد في أن مصطلح (القصة القصيرة جداً) هو أكثر المصطلحات دقة وتعبيراً عن حدود هذه القصة وأركانها وتقنياتها، وهو مصطلح يمنحها الخصوصية دون أن ينزع عن جلدها عباءة القص، غير أن ثمة مصطلحات أخرى تثير بعض الملاحظات:
· حين يتحدث الناقد عن الانزياح يذكر نوعين للانزياح (غير الانزياح الفكري الذي يطابق المصطلح) وهما مصطلحا الانزياح الفكري والموضوعاتي. ولنا أن نتساءل لماذا لا يستخدم مصطلحاً غير ملتبس؟
· الناقد يستخدم مصطلح (القصصية) بوصفها ركناً من أركان (ق.ق. جداً) وهو يريد به الحكاية ولا يريد القص، وأتساءل هنا أيضاً أليس الأفضل أن يستخدم (الحكائية) هنا ولا سيما أنه يستخدم مصطلح الحكائية بشكل أقل وللمعنى ذاته.
· يستخدم مصطلح (الملحقات القصصية) للإشارة إلى دراسة الرسوم والعناوين ولوحة الغلاف والإهداء… إلخ، وهو لا يفيد من مصطلح موجود أساساً هو (الفضاء الطباعي) الذي يدرس إضافة لما درسه الناقد الهوامش وبياضات الصفحة والفهارس وشكل الكتابة وسمك الكتاب… إلخ.
· الناقد يستخدم مصطلحاً واحداً في موقعين متخالفين، فالإدهاش مثلاً من خصائص القصة القصيرة، وهو من شروط القفلة القصصية الناجحة! أليست القفلة من القصة القصيرة جداً وكلمة الإدهاش الأولى ألا تتضمن الثانية بالضرورة.
· الناقد يرهق القارئ أحياناً بالتمييز بين مصطلحات لا تبدو بعيدة عن بعضها بعضاً كالفصل بين التقنيات والخصائص، وبين العوائق والهموم.
· ثمة ملاحظات أخرى عامة يمكن أن يشار إليها فيما يلي:
· هناك كثير من التكرار خاصة فيما يتعلق بالقص والتكثيف وتواشج العلاقة بين الأركان والتقنيات.
· الكاتب يبدو جريئاً في مغامرته النقدية من أساسها، وفي كثير من صفحات الكتاب، يفتقد هذه الجرأة أحياناً فيلجأ إلى صياغة خاصة، مستخدماً ربما ولعل… ومن ذلك قوله عن الرموز "ويمكن أن تترك عدداً من المفاتيح في النص تسمح لمتلقيه بفك شيفرات الرمز) ص 45.
ترى أليس من الأجدى أن يقول (ولا بد أن تترك الرموز عدداً من المفاتيح… إلخ).
· حين يتحدث الكاتب عن الإيقاع القصصي لا يتقصى مظاهره وتجلياته في (ق.ق. جداً) ولا ينطلق من معنى الإيقاع بوصفه مصطلحاً نقدياً.
· حين يتحدث عن نشأة القصة القصيرة يستعرض الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية، وله كل الحق في ذلك ولكن كان ينبغي البحث عن روابط أكثر عمقاً بين هذه الظروف وبين نشأة القصة القصيرة جداً.
· في خمسة أسطر وكلمتين يتحدث الناقد عن نشأة القصة القصيرة جداً عالمياً ويذكر كافكا وغرييه، وولف وناتالي ساروت، فهل هذا الاستعراض كاف؟
عل أن كل ما تقدم من ملاحظات لا يقلل من قيمة الكتاب وحسب صاحبه رفعة أنه جرؤ ودخل هذا الميدان وهو يحمل آماله وطموحاته وشجاعته ولكن الذي يميز هذه البداية أنها ستشكل بالتأكيد معلماً من معالم الطريق إلى هذا الفن الأدبي الجميل: فن القصة القصيرة جدا.
[1] جريدة البعث 7/ 5/ 1998.

دراسات تطبيقية في القصة القصيرة جداً (3)

محمد توفيق السهلي في مجموعته الجديدة
من الذي يسرق الأحلام؟!

د. يوسف حطيني


يشكل الحلم لدى القاص والباحث الفلسطيني محمد توفيق السهلي أرقاً دائماً، إذ يجد الحلم مكانه في مجموعتيه القصصيتين اللتين صدرتا تباعاً، فقد حملت الأولى عنوان "أحلام محرمة"، فيما حملت الثانية عنوان "الحلم المسروق". وقد ارتضى السهلي لهاتين المجموعتين القصة القصيرة جداً شكلاً فنياً، مما يجسد إيمانه بقدرة هذا الشكل الفني على احتضان أحلامه التي سرعان ما يكتشف المتلقي أنها تنحصر في حلم واحد كبير هو حلم العودة إلى الوطن.
يدرك القاص في مجموعته الجديدة "الحلم المسروق" أن التعامل مع القصة القصيرة جداً يفترض حداً أعلى من التكثيف، وهذا ما ينعكس على جميع عناصر القص، إذ يستطيع المرء مثلاً أن يلاحظ أثر التكثيف على بناء الشخصية التي يرسم لها القاص وجهاً واحداً، إلى جانب الشخصية المضادة التي تعوق مسيرة الأولى وتضيئها، وهنا يندر أن تظهر الشخصيات الثانوية في بنية القص.
ويمكن أن نشير إلى قصة "الشخير" التي تقدم شخصيتين لا تظهر من سماتهما سوى الصفة التي يبني عليها الكاتب قصته، يقول السهلي في هذه القصة:
"تحدثتُ إليه طويلاً.. شرحت نظريات عديدة.. شرقتُ وغربتُ.. ثم أوقفني عن الحديث شخيرُهُ". الحلم المسروق، ص28.
وتقوم المفارقة بدور مهم في قصص السهلي في مجموعته الجديدة، ومعروف أن المفارقة هي أحد الأعمدة التي لا غنى عنها في هذا النوع من القص، ويمكن أن نجد لها مثالاُ في قصة "القوس والنشاب" التي يقول فيها:
"كلما ظهر سلاح متطور اشتروا منه الكثير، وبأعلى الأسعار، فعدوهم خبيث لا يؤمن جانبه. تكدّس السلاح لديهم.. ولم يعرف بعد لماذا تصر هذه العشائر حتى الآن على استخدام القوس والنشاب" ص11.
وفي تقديري أن العنوان هو الذي خان هذه القصة، وخفف من مفارقتها النهائية، وربما كان من الأفضل للكاتب اختيار عنوان يحفظ للخاتمة صدمتها، وسطوتها على المتلقي.
ويمكن أن نلمس نجاحاً آخر للمفارقة في قصة "الضفة الأخرى" إذ تشي كل المقدمات بنهاية مختلفة، ولا يفضح العنوان السر، كما حدث في القصة السابقة، مما يجعل النهاية تحتفظ بقدرتها على الإدهاش:
"كان يفصل بينهما نهر.. أراد أن يعبر النهر إليها.. لكن بنبغي له أن يتعلم العوم. ظل ردحاً من الزمن يتدرب، وعندما أتقن السباحة مات غرقاً قبل أمتار من الضفة الأخرى" ص30، غير أن مشكلة هذه القصة تكمن في أنها تشبه من حيث تركيبها الحكائي، وحوافزها المحركة للأحداث قصصاً أخرى، كـ"المهلهل" ص 45، و"حصاد" ص41، فهي تحمل في بدايتها بشارة التغيير، وفي نهايتها المأساة غير المنتظرة، وربما كان الكاتب يسعى إلى ترسيخ إيقاع الفقد الذي يشعر به، بعد أن فقد، كفلسطيني، أحد مفردات حياته الأساسية: الوطن.
وثمة إيقاع لا يقل حضوراً عن إيقاع الفقد، ألا وهو إيقاع الحنين الذي يبرز في قصص عديدة، ويشير من قريب أو بعيد نحو الأرض الفلسطينية الأسيرة، ونجد ذلك في قصة "كان يشبهني" ص 8، و"النرجس" ص12، و"الأصص" ص14، و"عطش" ص18، و"قسم" ص 60، و"العاشق" التي تأتي من خلال السياق التالي:
"ضربوه وما اعترف.. قطعوا يده اليمنى فاستمرّ في صمته.. بتروا اليسرى فأصرّ على عدم الاعتراف، قلعوا عينيه، فما نبس ببنت شفة.. لكنه، وقبل أن يقطعوا لسانه بثوان اعترف لي بأنه يعشق بلاده حتى النخاع" ص7.
ويستطيع القارئ أن يلاحظ إقبال السهلي على استخدام الجملة الفعلية،لأنه يدرك بفطرته الإبداعية أن هذا النوع من الجمل يصلح حاملاً للحدث السهمي السريع الذي تقدمه القصة القصيرة جداً، وإن كنا في قصصه نلمح ميلاً حاداً لاستخدام الفعل الماضي الذي يهيئ المشهد للنهاية، ويمكن أن نشير إلى قصة "إبصار" التي تحيل على قصة يعقوب عليه السلام، إذ يكون الـ "هناك" / الوطن معادلاً لقميص يوسف عليه السلام:
"انطفأ النور في عينيه، وظلّ على تلك الحال عقوداً من الزمن.. قادته قدماه إلى هناك.. أحس فجأة أنه يغوص في الماء.. تحسس صفحة الماء.. وضعه على وجهه فارتد بصيراً" ص51.
وليست الإحالة على التراث الديني هي الشكل الوحيد للتناص في قصص السهلي، فهو كثيراً ما يفيد من الخرافة والأسطورة والمثل الشعبي، ففي قصة "كان يشبهني" ثمة إشارة واضحة إلى السندباد الذي يصبح فيها معادلاً نفسياً للفلسطيني الذي يعيش حالة الاغتراب، والبحث عن الموطن الأول:
"سمعت عنه الكثير.. تابعت أخباره.. قلما كان يستقرّ في مكان..لفظته الموانئ كلها، وحطمت الريحُ أشرعته.
نظرتُ إلى المرآة، فرأيته أمامي وجهاً لوجه.. كان السندباد يشبهني، وكان مثلي يبحث عن وطن". ص8.
وتظهر في هذه القصة مقدرة السهلي على اللعب في اللغة، فهو مثلاً يستعيض بالضمير بديلاً عن الاسم الظاهر (عنه/ أخباره/ لفظته/ أشرعته/ رأيته…)، ولا يذكر من يعود عليه هذا الضمير إلى في نهاية القصة، وذلك حفاظاً على الإبهار. وأظن اللغة العربية السمحة التي تشترط في الضمير أن يعود على متقدّم في اللفظ والرتبة تسمح بمثل هذا التجاوز لصالح نص أقدر على مفاجأة المتلقي وإدهاشه.
وما يؤكد أن مثل هذا الأمر مقصود تماماً في لعبة السهلي اللغوية تكراره للتقنية ذاتها في قصة "لم تمت"، وإن كنت ـ شخصياً ـ لا أميل إلى تقديم أي نوع من التكرار، سواء في الأسلوب أو الموضوع. يقول في قصة "لم تمت":
"قطعت السيوف أوصالها.. بقرت الخناجر بطنها.. التفت القيود حول معصمها.. كتفوها مئات المرات بالسلاسل، ثم ألقوا بها في دياجير الظلمة.. لكن الكلمة لم تمت" ص21.
كما يحيل السهلي، إضافة إلى التراث الديني والأسطوري على التراث الشعبي مستفيداً من ثقافته الواسعة في هذا المجال، فهو يستخدم سياقات لغوية شعبية، كما في قصة "اللقاطون" ص15، بل يبني قصته في بعض الأحيان على المثل الشعبي، كما نقرأ في قصة "إبريق الزيت" ص 38، و"خيول وفئران" التي يقول فيها:
"انزلق بين الخيول الأصيلة.. تجول بينها بخيلاء.. حاول أن يقلد صهيلها فلم يفلح.. حل موعد حذاء الخيول، فرفع الفأر رجله!" ص24.
كما يفيد القاص من القلب الدلالي والفعلي، فيستخدم الألفاظ، عن عمد، في غير موضعها، ليزيد إحساسنا بالدلالة المرجوة، فهو يستخدم السياق التالي: "ولم يكذبوا عليه" في قصة"القبو" على عكس معناه تماماً، ليعمق إحساسنا بعذاب البطل:
"أنزلوه في قبو شديد الرطوبة.. قالوا له غداً صباحاً ستخرج.. ولم يكذبوا عليه، فقد أشرقت شمس غده بعد سبع من السنين العجاف" ص27.
ومثل هذا القلب يجتاز اللغة عند القاص، ليصل إلى الشخصية، إذ ترتدي الشخصية ثوباً جديداً يصدم وعينا بها، ففي قصة "خروف" تلبس الضحية إهاب جلاد، وتختلط الأدوار في هذا العالم الغريب:
"انتظر حلول العيد بفارغ الصبر.. الخروف صار جاهزاً للذبح بعد أن كبر وصار سميناً.. حلّ العيد الذي لم يكن من قبل حزيناً.. شوهد أبو عُصمان يسبح بدمائه، وقد هُشّم رأسه.. وشوهد إلى جثته الممزقة، خروف يبتسم، وفي يده سكين حادة تقطر دماً".
باختصار، فإن محمد توفيق السهلي يقدم لنا في قصصه القصيرة جداً عالماً زاخراً بالرؤى النبيلة من خلال لغة حكائية كثيفة تحمل على أجنحتها أرق الانتماء، وحلم العودة الذي لن ينجح الغاصبون في سرقته من الصدور.


الحلم المسروق: محمد توفيق السهلي،قصص قصيرة جداً، دمشق، 2001.

دراسات تطبيقية في القصة القصيرة جداً (2)

اقتراف الكتابة في "الجرائم الشتوية"(*)

د. يوسف حطيني



تطرح مجموعة عماد نداف القصصية "جرائم شتوية" ثلّـة من الرؤى الإنسانية الشفافة التي تغص بها قصصه، ويستطيع القارئ أن يجد أمثلة عديدة للحس الإنساني الدافق لسرده القصصي في قصص "اللعبة"، و"الخجل"، و"جريمة شتوية"، و"العصافير الملونة" وفي قصة "الحقيبة" التي يفضخ فيها الإنسانُ المجتمع النفعي الاستهلاكي، بكثافة لغوية وشعورية لافتة:
"تجمّع الناس حول حقيبة ثمينة. صاح واحد منهم:
- لمن هذه الحقيبة؟
وتوالت أصوات أخرى:
- لمن هذه الحقيبة؟؟
- لمن هذه الحقيبة؟؟
ولم يلتفت أحد إلى رجل على الأرض وقد لطّخته الدماء" ص14.
ويلاحظ القارئ أن الخوف موضوع أساسي من موضوعات المجموعة، إذ يعيش الإنسان قلق إنسانيته، وقلق انتمائه.
* * *
من حيث الشكل تطرح قصص المجموعة أسئلة عديدة على النقد الأدبي، وعلى جدارة انتمائها إلى القصة القصيرة جداً، فقصة "الذئبان الخليغان" (ص ص 7-9) قصة جميلة، تقع في أكثر من صفحتين، وهي فيما أتصور أقرب إلى القصة القصيرة جداً منها إلى القصة القصيرة، وذلك بسبب تمحور الحكاية تمحوراً شديداً حول وحدة موضوعية واحدة، وتبئير الحوافز وهذا ما لم ينكره عماد، بل إنه واجهنا منذ البداية بالنسق الكتابي التالي: "إلى زكريا تامر.. نمورك في الذاكرة". ولكن الذي ينقص هذه القصة هو التكثيف؛ إذ كان يمكن للقاص أن يختصر عدداً كبيراً من الشخصيات الزائدة (كالكلب الثاني وأحد الحارسين والطبيب)، ولا أقول الشخصيات الناشزة عن بنية القص الرئيسة، ويعبّـر بسرد فعلي حكائي سريع عن الحوافز التالية:
· الذئبان يتنكران ككلبين.
· الذئبان يفقدان بعضاً من لوازمهما.
· الذئبان يصبحان كلبين حقيقيين.
· وثمة قصة أخرى عنوانها "البريء"، وهي تحتمل كثيراً من الحذف، ، وقد جربت أن أحذف السطور الثمانية الأولى منها، دون أن يؤدي ذلك إلى خلل ذي بال فيها.
ويخيل إلي أن التكثيف واحد من أهم المعوقات التي تواجه تجنيس القصة القصيرة، إذ إن قدرة الكاتب الإنشائية كثيراً ما تدعوه إلى استنفاذ نفسها أمام حكاية يسعى الجميع إلى تكثيفها، وربما يصدق هذا الكلام على بعض "الجرائم الشتوية" التي ارتكبها عماد، والتي قدمت لغة شعرية شاعرية ترهق النص بدلاً من أن تستخدم الشعرية الحكائية، وتخرج به عن جنس النثر الحكائي عموماً، كما نجد ذلك واضحاً في قصة "هدية رخيصة جداً" المثقلة بالعاطفة، المفتقرة إلى الحكاية، وفي قصة "رسالة" التي يقول فيها:
" حبيبتي!
اشتريت لك ثوباً كحلياً..
سأقدمه لك عندما أعود.. أنا الآن أمضي الليلة وحيداً أرقب النجوم..
اسمعي! هذه النجوم أستطيع أن أقطفها لك، وأرميها فوق ثوبك الكحلي، لكي تعرف النجوم أنك القمر!" ص16.
غير أن الشاعرية نفسها قد تكون محفّزاً للحكاية، إذ يقوم الحافز الحكائي نفسه على اللغة علىنحو ما نجد في قصة "مراهقة" التي يمكن أن نأخذ منها النسق التالي:
" في آخر مرة أمسكت يدُه يدَها، وبهدوء شديد، أخرج القلم من جيبه، ورسم على باطن كفها قلباً، فراحت تضحك مثل فتاة صغيرة.
أخذت القلم منه، ورسمت على باطن كفه سهماً…"ص10.
وينجح النداف في بعض قصصه القصيرة جداً، اعتماداً على النظام اللغوي السردي السريع الذي تتيحه الجملة الفعلية، في تكثيف الحدث إلى أقصاه، حيث تصب كل الدفقات الحدثية الصغرى، في الوحدة التي تعدّ ركناً لازماً لهذا النوع من النثر الحكائي. لنقرأ مثلاً النسق الفعلي التالي في قصة "العصافير الملونة"، وهو نسق يتحدث عن مغامرة طفل مع دبور:
"أمسك به ليداعبه، فقرصه الدبور في يده..
تورّمت يد الطفل كثيراً، وصارت تؤلمه" ص15.
ويفيد القاص من المفارقة في جميع نصوصه الناجحة التي تستحق الانتماء إلى هذا النوع الأدبي، على ألا يفهم من المفارقة أنها مجرد ثنائية ضدية بين حالتين، أو طرفة يضحك القارئ لها أو عليها، وتمكن الإشارة هنا إلى قصة "بيت الجدة" التي تنوس بين الماضي ورموزه العديدة كالفوانيس والقش الملون والسجاد من جهة، والحاضر وجدران الإسمنت والتلفزيون الملون والهاتف الذي لا يرن من جهة أخرى:
" بيت جدتي جميل جداً!
في غرفة الجلوس ساعة منبه كبيرة، وفي السقف فوانيس نحاسية…
على الجدار لوحة من القش الملون وسجادة صلاة نقشت عليها الكعبة الشريفة.. وعلى الجدار الثاني علقت صورة جدي الكبيرة، وهو ينظر إلى الأفق بعزة وكرامة لأنه شارك في طرد المستعمرين..
هناك صندوق مزخرف بالصدف.. هناك فاز قديم وسماور شاي نحاسي.. على النوافذ شناشيل.. عند المدخل.. في السقف..
الجدار الثالث.. الرابع.. الباب.. أرض الغرفة..
يا الله.. متحف! أما غرفة بيتي.. جدران من الإسمنت، وتلفزيون ملون مربوط بدش، وهاتف لا يرن أبداً" ص39.
ولعل نجاح هذه القصة يعود بشكل رئيس إلى قيامها على عدد كبير جداً من الثنائيات الضدية التي ترسخ الفرق بين الأليف والمعادي في المكان، وهي تختلف عن تلك المفارقات التي تفضي إلى الاختراق الفج للمنظومة الأخلاقية، وتصبح نوعاً من الطرفة المجانية، وثمة قصة بعنوان "عش وعصفور" تبلغ الغاية في ذلك النوع من المفارقة المجانية التي لا تكاد تثير إلا التعجب من أن كاتباً رقيقاً وذكياً مثل النداف لم يتنبه إليها.
ويذكر أن هناك عدد آخر من القصص تعاني حكايتها من التعثر، أو حتى من الغياب، على نحو ما نجد في قصة " لعبة عشاق" و"النجمة" و"النورس العاشق" وغيرها إذ تبهت الحكاية كثيراً، حتى لا تكاد تبين.
غير أن هناك أيضاً قصصاً ناجحة إلى حد بعيد من حيث الشكل، ولعل أكثر قصصه نجاحاً، من حيث تضافر اللغة والرؤية والتكثيف، هي قصة دمشق التي تقول:
"كان مسافراً في الأمصار البعيدة.. أحبوه، فتجمعوا حوله. ثم سألوه: كم تبعد الشام من هنا؟
فقال بثقة وسرعة:
- نحو ذراع!
ضحكوا وظنوه يمزح.. ثم قال قائل منهم:
- أنت تبالغ!
لكنه ألحّ قائلاً:
- أينما كنت أستطيع أن أضمها إلى صدري." ص13.
* * *
وأعتقد أن ثمة شبه إجماعٍ لدى كتاب القصة القصيرة جداً ونقادها، على قلتهم، على أن الجرأة لا تعدّ ركناً من الأركان، وإن كان وجودها يمنح النصّ حركة وحياة، وفي قصص النداف التي تستغني بشكل عام عن الجرأة، وتطرح الحس الإنساني بديلاً منها، يمكن أن نجد أمثلة قليلة لها، كما نجد في قصة "حزن الحمار" التي يقول فيها:
"الحمار كان متضايقاً جداً من صاحبه!
لم يتناول شيئاً من التبن الذي وضعه له أمامه، ولم يقترب من كومة قشر البطيخ التي رماها قربه بسخاء!!
كان صاحبه قد شتمه قائلاً:
امش جيداً أيها الخَنوع!
لم ترق كلمة الخَنوع للحمار، وكان يشاهد صاحبه، وهو يقدم الطاعة للشرطي، ويتوسله كل يوم!!" (ص17).
* * *
وإضافة إلى اللغة الشاعرية التي تميز سرد عماد النداف، فإنه يستخدم تقنيات أخرى لرفع سوية لغته كالإفادة من الأنسنة، إذ يستخدم الحيوانات والطيور والطبيعة والجمادات حوامل رمزية للفكرة، كالقبرة والعصفور والدبور والليل والمدينة والحجر وغيرها، ويمكن هنا أن نشير إلى قصة "الأم" التي تقول:
"بحث الحجر يوماً عن أمه.. تدحرج في كل الاتجاهات، فلم يجدها. بكى!.. ملأ الأرض بالدموع، وانزوى في حفرة صغيرة يندب حظه العاثر..
شعرت الأرض به.. حزنت عليه.. فاحتضنته!!
ومنذ ذلك اليوم، صار لكل شيء أم.. حتى الحجر!" ص27.
ويفيد عماد أيما إفادة من تقنيات التلوين، حيث تكتسب الألوان عنده دلالات رمزية متعددة، على ففي قصة "لون القلوب"، يقدم سياقات لفظية تعتمد على التضاد اللوني، كما نجد في قوله:
" هطلت الأمطار لدقائق..
كانت كثيفة.. شكلت سيولاً سريعة كان لونها أسود(…)
الرجل العجوز أبيض اللحية، ضحك بسخرية مرة، وقال:
- يجب أن ننتبه إلى لون قلوبنا عندما يغسلها المطر!" ص38.
وقد يفيد القاص في أحيان كثيرة من التجاورات غير المتوقعة بين الفنون، كالإفادة من اللوحة التشكيلية، وانخراط أجزاء اللوحة وعناصرها ونصها الكتابي بالحدث، على نحو ما نجد في نهاية قصة "أكروبات عاشقين":
" - ماذا يوجد في يدي؟!
- كلمة.. كلمة مكتوبة على باطن الكف..
- فتحت كفها.. حنا الاثنان رأسيهما فوق الكف المفتوحة.. وشاهدا عصافير كثيرة تتطاير فرحة في كل الاتجاهات!"
ملاحظة أخيرة يمكن أن أبديها بسرعة حول الملحق المسمى: "بيت صغير جداً" فأنا أعتقد جازماً أن القارئ سيعجب بهذا الملحق، لأسباب لا علاقة لها بالحكاية، فجميع النصوص الشفافة التي كتبها عماد في هذا الملحق لا تنتمي إلا القصة القصيرة جداً، على الرغم من أنها تضيء القلب باللوحات البديعة التي يشترك في رسمها والريشة والقلم وآلة التصوير الفوتوغرافية.


*عماد نداف: جرائم شتوية، قصص قصيرة جداً، 2000.

دراسات تطبيقية في القصة القصيرة جداً (1)

"همهمات ذاكرة"
والبحث عن هوية
[1]
د. يوسف حطيني

تكبر مسؤولية الأديب حين يتعامل مع فن أدبي يسعى إلى ترسيخ دعائمه في الساحة الأدبية، لأنه يضع نفسه إذ ذاك أمام مهمتين صعبتين: الأولى تتجلى في الإخلاص لأدبية الأدب، والثانية في رسم ملامح الجنس الأدبي من أجل التأكيد على سماته المميزة، مما يجعل النص امتحاناً، ليس في مواجهة الإبداع التأليفي، بل في مواجهة الإبداع النقدي أيضاً.
من هنا فإن المسؤولية التي ألقاها الباحث أحمد جاسم الحسين على عاتقه في مجموعته (همهات ذاكرة) كبيرة جداً.. فالمجموعة تتألف من أربع وخمسين قصة قصيرة جداً، تقع كل واحدة منها في أغلب الأحيان، في صفحة واحدة من القطع الصغير، وهو بذلك يحاول الإمساك بزمام هذا الفن الأدبي الذي لم يتلامح بعد بالشكل الذي يرضى عنه المتزمتون، لذلك فهو يشتغل تأليفاً ونقداً في هذا الميدان الذي أثمر هذه المجموعة، وكتاباً بكراً في النقد بعنوان: (القصة القصيرة جداً)- دمشق- دار الفكر- 1997.
يحاول الكاتب في مجموعته القصصية هذه أن يؤكد انتماء القصة القصيرة جداً لجنس النثر الحكائي عموماً عبر خصيصة الحكائية، إذ يقيم الحبكة على بنية لغوية تفيد من التتابع، ومن السببية إلى حد كبير، وصولاً إلى نهايتها التي تأتي تتويجاً لما سبق، من خلال جمل كثيفة مركزة، ويبدو ذلك منذ قصته الأولى التي تحمل عنوان دعوة: "دعا الديك الدجاجات إلى المائدة التي أعدتها صاحبة البيت.. صفهن بانتظام أمرهن ألا يأكلن إلا بعد أن يشبع اقتربت منه صاحبة المنزل، والسكين في يدها..
لم يأبه بها
عندما حاولت ذبحه ذكرها أنها أنثى"- ص7.
والكاتب هنا يقدم باطمئنان بالغ عدة شخصيات، تبدو حاضرة على جميع المستويات، فعلى صعيد الشخصية الفاعلة يظهر الديك شخصية رئيسية في مواجهة شخصية فاعلة أخرى هي شخصية صاحبة البيت التي تبدو ثانوية بالقياس له في سلم التراتب الاجتماعي. وبذلك تنضاف المرأة إلى (عموم الإناث) إلى جانب الدجاجات التي لا تفضلها المرأة سوى كونها تتكلم، مما يعني أن هناك ثلاثة مستويات للشخصية: الرئيسة والثانوية والعابرة.
ويفيد الكاتب في قصصه من إمكانات التشخيص كافة من وصف وحوار ونجوى، بالقدر الذي يسمح به التكثيف المطلوب في القصة القصيرة جداً، وفي قصة (عناد) مثال يبين مدى الإفادة من الحوار في رسم ملامح الشخصيات.. وهذا مقطع منها:
"صاح رئيس المخفر: سأربي فيكما كل من لم يترب
- هل تدعي عليه يا أمجد؟
- طبعاً يا سيدي، لقد شتمني وضربني ومد يده إلى خصره.
- آه.. قلت مد يده إلى خصره فهمت.. هيا أخرج المسدس" ص 50.
وإمعاناً من الكاتب في تأكيد حكائية هذا النوع الأدبي، فإنه يحاول أن يفيد من البدايات والنهايات، فالبداية عنده مدهشة طريفة تضع القارئ في قلب الحدث مباشرة، أو تضعه في التأطير الزمني والمكاني، مستنفذاً طاقة الجملة الفعلية من أجل ترسيخ مفهوم الفعل الذي يقوم عليه الحدث.. ولعل من أكثر بدايات قصصه نجاحاً قصة (مغامر) التي تتضمن جميع عناصر القصة القصيرة جداً بتكثيف بالغ، فالجملة الأولى البداية تثير الفضول لمزيد من القراءة.. وسرعة السرد تنقل القارئ إلى النهاية: "عن على بال الحذاء أن يغير مكانه، فطار إلى رؤوس الناس، وجدها محشوة بالتفاهة والقمل. عاد إلى قواعده سالماً".
وقد يختار الكاتب لقصصه بدايات مكانية.. ولكن الفعل يأبى إلا أن يحضر عبر السرد، فالفعل كما يبدو لي أساس البناء اللغوي للقصة القصيرة جداً وهو نتيجة ضرورية لازمة للتكثيف الذي يفترضه هذا النوع الأدبي، وفي قصة "بوح" يظهر جمال البداية المكانية التي سرعان ما تنسحب على القصة كلها: "في حديقة تشرين التي تمتد من ساحة الأمويين إلى قصر تشرين جلسنا على مقعد خشبي قديم، كانت الأشجار كثيرة، والبشر قليلين، وقاسيون شامخاً، بدأت بالبوح لها، وهو ما أحاوله منذ سنتين في حديقة كلية الآداب الضيقة". ص 15.
فإذا انتبهنا باهتمام إلى النهايات أمكننا أن نلاحظ مدى التوفيق الذي لازم معظم قصص المجموعة.. ولعل قصة شكوى تعبر عن هذا الأمر.. فالجملة الأخيرة تشف عن رؤية إنسانية بالغة الحساسية وتفتح القصة برمتها على إمكانات الدلالة: "اشتكى الكابوس لأخيه الحلم من كثرة النائمين، وملله من زيادتهم، بادله الحلم الشكوى قائلاً: قليلون الذين يستقبلونني مع أنني أقدم لهم أجمل الأمنيات!
في الليل كان الناس يتزاحمون على أبواب الكابوس ليحجزوا دوراً، فيما باب الحلم على الأرصفة بمحاذاة الشوارع" ص 37.
أما فيما يتعلق بعناوين هذه القصص، فيبدو أن قَدَر العنوان في القصة القصيرة جداً أن يكون اسماً، بشكل غالب، إذ إن معظم هذه القصص يغلب على عناوينها الطابع الاسمي الذي غالباً ما يتألف من كلمة واحدة، وهذه ملاحظة تصدق على معظم ما كتب في القصة القصيرة جداً، وليس ما كتبه أحمد الحسين فقط.. ولنقرأ بعض عناوين قصص مجموعته: "دعوة- بحث- حب- طموح- مغامر- سؤال- شكوى- دمعة- إحراج). وهنا نكتشف أن قدر العنوان في القصة القصيرة جداً يعاكس قدر البنية اللغوية التركيبية لبناء حكايتها.
وإذا كان معظم ما كتب في هذه المجموعة ينتمي بحق إلى هذا الفن الجميل، فإن ثمة قصصاً تطرح بعض الأسئلة حول إمكانية وضعها في هذا الإطار، وربما كانت قصة (بصراحة) أكثر قصص المجموعة إعلاناً عن الخروج على شكل القصة القصيرة جداً، وهي تتألف من ثلاثة وعشرين سطراً، تتزاحم فيها القصص فوق بعضها، وكان بإمكان القاص أن يجتزئ منها سطرين، ليقدم لنا قصة من أكثر قصصه تماسكاً وطرافة ودلالة: "رجل طويل عريض يلبس طقماً متميزاً قال لصاحب مكتبة (الكتاب الذهبي): خزانتي قياسها 30 في40 أريد خمسين كتاباً" ص 27.
ويلجأ القاص من أجل بناء رؤيته السياسية والاجتماعية إلى كل الإمكانات التي يتيحها النثر الحكائي مستخدماً لغة خاصة به تنزاح أحياناً عن معناها المعجمي. فقصة (أهلاً) -مثلاً- تمتاز بكثير من الطرافة والإدهاش، وكذلك قصة (مغامر) التي سبقت الإشارة إليها، كما يعتمد القاص على الترميز والتناص والاقتباس والمفارقة التي يمكن التعامل معها على المستويات كافة.. وتقوم عنده المفارقة أساساً على الثنائيات الضدية، كما يبدو ذلك بشكل خاص في قصة (بوح) وفي قصة (بيت) إذ يفيد من التضاد المكاني في تعميق فكرته وترسيخها في قصة (بيت) نقرأ: "في بيتنا العربي القديم في باب سريجة الذي نذهب إليه كل يوم جمعة.. أمي تسلم على الجارات كلهن وتكثر الزيارات، وألعب مع أولاد الحارة.. في (فيلتنا) في المزة التي نعيش فيها أكثر أيام الأسبوع لا أحد يزورنا، لا أحد يسلم علينا، لا أولاد ألعب معهم" ولا يبرز هذا التضاد على مستوى المكان فحسب، بل على مستوى الزمن والحدث والبناء اللغوي إثباتاً ونفياً:
البيت
الزيارة الأسبوعية
أمي تسلم على الجارات
تكثر الزيارات
ألعب مع الأولاد
الفيلا
كل يوم تقريباً
لا أحد يسلم علينا
لا أحد يزورنا
لا أولاد ألعب معهم
ومن خلال هذه الثنائيات يقدم القاص نظرته للريف والمدينة، والماضي والحاضر، والمغلق والمفتوح، والمباح وغير المباح.. إلخ.
ومثلما تفيد القصة القصيرة والرواية من أنسنة الحيوانات والأشياء، فإن القصة القصيرة جداً على يد أحمد جاسم الحسين تفيد أيضاً من هذه الإمكانات الدلالية ولكنها حين تحضر لا تكون جزءاً من نسيج السرد كما يغلب أن يحدث في الأنواع الأدبية الأخرى للنثر الحكائي، بل تشكل منطق السرد برمته، اعتماداً على التكثيف الذي لا يتيح التعامل مع الأجزاء الصغيرة إلا بوصفها واحدات تامة مستقلة.. ومن ذلك قصة (بحث): "انسلت قطرة ماء عن صديقاتها قائلة لقد تعبت من المشي الطويل! دفنت رأسها في التراب، نامت.. استيقظت.. بحثت عن نفسها فلم تجدها" ص8.
وإذا كانت قطرة الماء التي دفنت رأسها في التراب عجزت عن إيجاد نفسها فإن أحمد جاسم الحسين سيجد نفسه بالتأكيد في كتابة القصة عبر بناء صوته الخاص؛ لأنه لم ينم ولم يدفن رأسه في التراب!
[1] جريدة تشرين15/9/1999.
القصة القصيرة جداً في العالم
الملتقى الثالث نموذجاً

د. يوسف حطيني



ما إن انتهى الملتقى الثالث للقصة القصيرة جداً حتى تتابعت الآراء التي تنعى هذا الملتقى، وتقلّل من شأن التجربة، وتعوِّل في هذا الفشل الذريع له على رداءة النصوص التي ألقيت فيه. وإذا كانت هناك رداءة في كثير من النصوص، فإن هذا لا يعني أن الملتقى خلا من نصوص جيدة، مثلما أن الرداءة ذاتها التي يعانيها الشعر الحديث في كثرته الكاثرة لم تعن هزيمة للشعراء المبدعين، ولم تمنعهم من بناء عرش الشعر السامق.
والحقِّ أن القصة القصيرة جداً تحتاج إلى الكثير من النصوص الجيدة كونها تسعى إلى إثبات هويتها التي ما تزال تبحث عنها.
ثم إن هذه الرداءة التي يتكئ بعضهم عليها في استباق وأد التجربة لم تكن صبغة الملتقى الأساسية، لأنًّ هناك – إضافة إلى النصوص الجيدة - تجربتين مهمتين قدمهما الملتقى، تتعلق الأولى بالنظرة النقدية للقصة القصيرة جداً (نظرياً وتطبيقياً)، وقد شارك فيها كلٌّ من الدكتور سمر روحي الفيصل، والدكتور عبد الله أبو هيف والأستاذ باسم عبدو .
أما التجربة الثانية فهي القراءات التي قدمهما أربعة من المترجمين للقصة القصيرة جداً في العالم، وهذا بالضبط ما ستتعرض له هذه الدراسة.
في الأمسية الثالثة من أمسيات الملتقى الثالث للقصة القصيرة جداً الذي عقد في شهر آب (أغسطس) 2002 قدّم أربعة من المترجمين عدداً غير قليل من القصص القصيرة جداً لكتاب من روسيا وتركيا وبلغاريا، وهؤلاء المترجمون هم: ميخائيل عيد وعدنان جاموس وجمال دورمش ونبيل المجلّي. أما الكتاب الذين تمت الترجمة لبعض قصصهم فهم: تشيخوف وتورغينيف وكريفين غورونتس وكورانوف وبيريستوف وأركانوف من روسيا، وبيلين وكونستانتينوف من بلغاريا، وناظم حكمت وعزيز نيسين وغيرهما من تركيا.
وقد تجلت الروح الإنسانية في القصص التي ألقيت، إذ حملت نبل الفقراء، وأحلامهم وآلامهم، كما عبرت عن آمال المستضعفين، ولعلنا نشير هنا إلى قصة "اختيار مهنة" للكاتب الروسي (ف. كريفين) وقد قام بترجمتها نبيل المجلي، إذ تقدّم حلم الفأر في أن يتجاوز دور الفريسة، بالتبادل مع القطة التي تنتظر اللحظة التي تلعب فيها دور المفترس على مسرح الحياة، ويعود نجاح هذه القصة في جزء كبير منه إلى عدم ظهور هاتين الشخصيتين المتناقضتين منذ اللحظات الأولى إلا عبر آثارهما التي تلازمهما، فالبؤبؤان النجميان رمز للقطة، أما الخشخشة فهي رمز للفأر، وهذا ما توضحه الأنساق التالية للرمزين المذكورين، تقول القصة:
"كان هدوء..
كان ظلام..
في الظلام، أضاء من خلال النافذة
بؤبؤان أصفران نجميان
في الهدوء وراء النافذة اختبأت خشخشة ما.
قالت الفأرة: حين سأكبر سأصبح بالتأكيد قطة."
وواضح أنَّ الكاتب يستفيد أيضاً من النهاية الحاسمة التي جاءت من خلال الكلمة الأخيرة / قطة، فقد تزامنت النهاية الحدثية مع النهاية اللغوية على نحو دقيق.
ولعلّ الميزة الأخرى التي ميّزت تلك الأمسية إدراك هؤلاء الكتاب الكبار لدور الحكائية في القصة، وعدم قيام القصة دونها، وتمكن الإشارة إلى قصة "شحاذ" لإيفان تورغينيف (1818 – 1883) التي ترجمها عدنان جاموس، إذ يحشد مجموعة كبيرة من الجمل الفعلية، ولكنه لا يستعجل الحدث ولا يختصر الوصف، مثلما يفعل كتاب القصة القصيرة جداً في بلادنا، ما يطرح سؤالاً نستمدّه من هذا الكاتب العظيم، وهو: إلى أيّ مدى يمكن أن نستخدم الوصف ونتمهل في طرح الحدث دون أن نضيّع هوية هذا النوع الأدبي الذي نسعى إلى ترسيخ جدارته الأدبية. يقول تورغينيف في هذه القصة التي سمّاها نثريات شعرية، بينما سمّها النقاد أقاصيص منمنمة:
"كنت ماشياً في الشارع، أوقفني شحاذ عجوز هرم. عينان ملتهبتان من المرض ودامعتان.. شفتان مزرقتان، وأسمال خشنة، وجراح ملوثة..
لكم شوّه الفقر القاسي هذا المخلوق البائس!
مدّ إلي يداً حمراء، وسخة.. كان يئنُّ.. ويجمجم طالباً العون. أخذت أعيِّث في جميع جيوبي: لا حافظة نقود، ولا ساعة، ولا حتى منديل، لم آخذ معي أي شيء.
والشحاذ كان ينتظر.. ويده الممدودة تهتزّ بوهن وترتجف.. حرتُ وارتبكتُ، ثمّ شددت على هذه اليد الوسخة المرتعشة: (لا تؤاخذني، يا أخ، لا أحمل معي شيئاً).
رنا المتسول إليّ بعينيه الملتهبتين، وانفرجت شفتاه المزرقتان عن ابتسامة مرة، وضغط بدوره على أصابعي الباردة وغمغم:
- لا بأس، يا أخ، شكراً على هذا أيضاً، فهو كذلك عطية.
وفهمت أنني أنا الآخر، تلقيت عطية من أخ لي".
في هذه القصة تتضافر الحكائية مع الوصف، والشخصية مع الرؤية الإنسانية النبيلة.. وفي مجموعة من قصص أنطون تشيخوف (1860 ـ 1940)، يتبع هذا الكاتب طريقة بديعة في ربط تلك القصص بعضها ببعض، عن طريق وحدة المحور العام التي تندرج في إطاره، وقد ترجم عدنان جاموس جزءاً منها تحت عنوان عام هو "متنكرون"، فأبطال هذه القصص جميعاً "متنكرون" يظهرون غير ما يكتمون، ولكن ّ لكلّ منهم حكايتَه الخاصة، ويختلف هذا النوع من الكتابة عمّا يمكن أن نسميه متوالية، إذ إنّ المتوالية تتكون من مجموعة قصص قصيرة جداً، كلذ قصة مستقلة في حدّ ذاتها، ولكنها حين توضع في سياق القصص الأخرى تعطي دلالة إضافية تنبع من موقعها في السياق، ولترتيبها بين القصص دور مهم في فهم دلالتها، كما أن دلالتها مستقلة أقل من دلالتها في سياقها، أما ما كتبه تشيخوف فيمكن اجتزاء قصة أو قصتين أو ثلاثاً منه، كما تمكن إعادة ترتيب القصص دون أن يؤثر ذلك على دلالتها، وقد اخترنا منها قصتين، تقول إحداهما:
"في المحكمة محام يافع عن متهمة.. امرأة جميلة يبدو على وجهها حزن لا حدود له. إنها بريئة! عينا المحامي تتقدان، ووجنتاه تلتهبان، وصوته مخضلٌّ بالدمع.. إنه يتألم من أجل المتهمة، وإذا ما جرّموها سيموت غماً! الجمهور يصغي إليه، ويحبس أنفاسه مستمتعاً، ويخشى أن ينهي مرافعته، يهمس المستمعون: "إنه شاعر"! ولكنه ليس أكثر من متنكر في زي شاعر، يقول في نفسه: " أعطني أيّها المدعي مئة روبل أكثر مما أعطتني هذه المتهمة، وسأشويها لك شيّاً! سأكون في دور المتّهم أقوى تأثيراً".
إن هذا المحامي ما هو إلا متنكر، يتظاهر بالإنسانية والشفقة ويصطنع الأسى على المتهمة البريئة، ولكنه في قرارته يعبر عن استعداده لقلب الحقّ باطلاً إذا ما قدم له المجرم ثمناً لذلك. أما المتنكر في القصة التالية فهو رجل سكير، وجهه الظاهر الذي يضحك يعاكس قلبه الذي يبكي، لذلك يبني هذه القصة مثل سابقتها على الثنائيات الضدّيّة:
"يسير في القرية رجل سكران، يغني ويعزف على الهارمونيكا عزفاً كالعويل، على وجهه يبدو تأثّر ثمِلٌ. إنه يضحك ويرقص. يعيش حياة مرحة، أليس كذلك؟ لا، إنه متنكّر. فهو يقول في داخله: "جوعان.. أريد أن آكل".
وحين يلجأ الكاتب إلى السعي وراء الأمثولة الأخلاقية فإنه بحرفيته الكتابية لا يخرج عن الحكائية، فالكاتب الحقيقي يدرك أن القصة مأخوذة من القص، ومن القصص القصيرة جداً التي تمتزج فيها الحكاية بالأمثولة قدّم المترجم جمال دورمش قصة قصيرة جداً لكاتب تركيا العظيم ناظم حكمت، عنوانها "بواري المدافئ" تقول القصة:
"اشرأبت بواري المدافئ مبشرة بقدوم فصل الشتاء، فلا سقوط أوراق الشجر، ولا نزول الكستناء تدل على قدومه، فقط بواري المدافئ، صحيح أن لا شكل لها ولا لون، لكنها تعطينا الدفء والأمان، هناك أناس يشبهون تلك البواري، يقدمون لنا كلّ يد العون، ويسهلون أعمالنا دون أن ينتظروا منا حمداً أو شكوراً، وعندما ينهون أعمالهم نتمنى أن يغادرونا بأسرع ما يمكن."
ولأن القصة القصيرة جداً تفترض القصر الشديد بطبيعتها فإنها تسعى دون إرادة من الكاتب إلى الاعتماد على الجملة الفعلية، لأن البناء الفعلي للجملة قادر على تقديم الحدث بشكل أسرع، ومن القصص القصيرة جداً التي ظهرت فيها فعلية الجملة قصة لعزيز نيسين، حملت عنوان "عندما تستشرس الفئران" وقد قدمها جمال دورمش إلى جمهور الملتقى الثالث للقصة القصيرة جداً:
"غزت الفئران مهجع قائد وحدتنا الذي استخدم كلّ الوسائل للقضاء عليها، حتى المصائد العادية، لكن دون جدوى، كان عدد الفئران في ازدياد وبات يشكل خطراً.
فكر قائد وحدتنا بالأمر، صنع قفصاً كبيراً، وجمع فيه أكبر عدد منها، ثم قطع عنها الطعام.
راحت الفئران بعد أن أنهكها الجوع تأكل بعضها بعضاً إلى أن بقي منها ثلاثة.. ثم فتح باب القفص ليسرحوا ويمرحوا في غرفته: يبطشون بهذا الفأر ويمزقون ذاك، {ثم راحوا يمزقون بعضهم بعضاً}لأن الفئران الثلاثة الباقية استشرشت، وهكذا تخلص قائد وحدتنا من جميع الفئران.
وتسخدم القصة القصيرة جداً كل ماتتيحه الحكائية من تقنيات، إذ تلجأ إلى الوصف والحوار، بالقدر الذي لا يخرجها إلى نوع القصة القصيرة، فالحوار مركز دالّ مناسب للشخصيات، وقد تقوم القصة القصيرة جداً بمجملها على الحوار على نحو ما نجد في قصة "أمل" للكاتب البلغاري إيلين بيلين، وقد ترجمها ميخائيل عيد في كتاب كتاب " دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين، وزارة الثقافة، دمشق، 1977." وقدمها إلى جمهور الملتقى:
- "ماذا لو وجدتُ جرة مليئة بالليرات الذهبية يا أماه، وأنا أرعى الخراف عند ضفة النهر، وأنكش الأرض بعصاي؟
- إيه يا بني! لقد مات والدك على هذا الأمل"
وثمة لهذا الكاتب قصص أخرى تقوم على الحوار، وتشهد على عمق التواصل الثقافي الإنساني بين شعوب الأرض، وقد قدم ميخائيل عيد له قصة عنوانها "أرز بالحليب" وهي معروفة في تراثنا وحكاياتنا الشعبية، وإن اختلفت بعض التفاصيل:
- هل أكلت الأرز بالحليب يا أخي؟
- كلا لم أذقه.
- إيه أنت إذاً لا تعرف شيئاً. إنه شيء لذيذ جداً.
- وهل أكلته أنت؟
- كلا، لم أذقه، ولكن أبي أخبرني أن أباه قد رأى مختار قريتنا وهو يأكله ذات يوم.
وقد كانت الأمسية التي حملت عنوان "القصص القصيرة جداً في العالم" نصوصاً تتوسل الأنسنة لتقديم دلالاتها، ومن القصص التي ترجمها الأستاذ عـدنان جاموس قصة بعنوان "كلب" لإيفان تورغينيف (1818 – 1883)، ويذكر هنا أن تورغينيف سمّى هذه الكتابات "نثريات شعرية"، بينما سماها النقاد "أقاصيص منمنمة"، يقول في قصة "كلب":
"اثنان في الغرفة: كلبي وأنا، في الخارج تعول عاصفة مرعبة ضارية. الكلب يقعي أمامي ناظراً في عينيّ مباشرة، لكأنه يريد أن يقول شيئاً. إنه أبكم، لا ينطق بكلام، ولا يفهم نفسه، ولكنني أفهمه. أدرك أن شعوراً واحداً ينتابني وينتابه في هذه اللحظة، وأنه لا فرق بيننا الآن البتة، إننا متماثلان، كلانا تتقد فيه وتضيء الشعلة الراعشة ذاتها، وسيأتي طائر الموت، ويرفرف فوقها بجناحيه الباردين العارضين.. وتحل النهاية!
من بعد ذلك سيعرف أية شعلة بالذات كانت تتقد في كلٍّ منّاأ .. لا هذان ليسا حيواناً وإنساناً يتبادلان النظرات.. بل زوجان من العيون المتماثلة، يتفرس أحدهما في الآخر. وفي كلٍّ منهما، الحياة نفسها تلتصق بالأخرى مذعورة."
ولا تمثل هذه القصة التي كتبها تورغينيف عام 1878 بدايات الكتابة لدى هذا الكاتب العظيم، بل تمثل ذروة نضجه الفني، وتذكرنا بأولئك المبدعين العظماء الذي صاغوا من علاقتهم رؤىً إنسانية خالدة، من أمثال "الشنفرى" و"وولت ويتمان" وغيرهما.
وثمة من يخاطب الجمادات، على خطى جدّنا ابن خفاجة، ومن ذلك ما قدمه المترجم نبيل المجلي للكاتب الروسي (لـ . غورونتس) في قصة الطريق:
"جرى الماء، تعثر بالحجارة، سقط بلا قوة في الهاوية، تسلق وجرى من جديد جدولٌ جبلي صغير يناضل بكل نقطة نحو المحيط.
سألت الجدول: كيف أصل إلى المحيط دون أن أضل الطريق؟
شرق الجدول في صدع غرانيتي ضيق خرج من الأحجار وقال:
اتبعني، تذكر فقط.. طريقي بعيد، وليس سهلاً، أنا لا أدعوك لنزهة سعيدة."
لقد كانت الأمسية التي خصصها الملتقى للقصة القصيرة جداً غنية، وجدير بنا أن نحرص على تكرار هذه التجربة في الملتقيات القادمة لأن ما قدمه هؤلاء الكتاب جدير بأن يحاذى، ولا شك أن إغناء هذه التجربة بنصوص عربية قديمة وحديثة من شأنه أن يثري هذه التجربة أيّما إثراء.

دراسة: القصة القصيرة جداً عند زكريا تاكر

القصة القصيرة جداً عند زكريا تامر

يوسف حطيني



ليس ثمة ما يغري بالكتابة مثل نص إبداعي قادر على أن يقارف الواقع ليفارقه، يستند إليه ليتجاوزه، في لغة تبدو فيها القصيدة أوسع أفقاً من سمائها، والقصة ذاتها أرحب دلالة من واقعها، وهذا بالطبع لا يتوفر إلا في القليل الاستثنائي من الإبداع، ومن غير شك فإن زكريا تامر الطائر الذي انطلق من دمشق ليعانق الإنسانية، يعد واحداً ممن ينتمون إلى هذا القليل الاستثنائي، لما فيه من جدة وأصالة وتفرد وإصرار على التجديد.
فمع انطلاق صهيل جواده الأبيض منذ ما يزيد عن أربعين عاماً، أطلق زكريا لغة متميزة، تغرد خارج سرب اللغة السردية العربية الحديثة، وتتمايز عن لغة كتاب القصة العربية وتتجاوزها. غير أنه لم يكتف بتجاوز الآخرين، لأنه كان دائماً مشغولاً بتجاوز نفسه، وهذا أعظم الهواجس التي تخلق كاتباً من طراز فريد.
في عالم زكريا تامر القصصي يزداد الواقع البسيط غنى وتعقيداً، ويبلغ في كثير من الأحيان حداً من التكثيف يجعل النص السردي لا يتجاوز أسطراً معدودة، مما ينتج قصة قصيرة جداً قادرة على أن تمزج الحلم بالواقع، والأسطورة بالحياة والأصيل بالمعاصر، مما يجعل الخوض في هذا النوع من القصص مغامرة محببة، إضافة إلى أنني، شخصياً، أميل إلى هذا النوع الأدبي القادر على حمل الهموم المختلفة من اجتماعية ووطنية وقومية وإنسانية.
وبعيداً عن التنظير للقصة القصيرة جداً، وبعيداً عن الخلاف حول انتمائها إلى القصة القصيرة أو استقلالها عنها، فإن زكريا قدم مجموعة من القصص القصيرة جداً التي افترضت شكلاً آخر من التعامل مع عناصر النثر الحكائي من زمن ومكان وشخصيات، وتعاملت مع لغة الحكاية بشكل أكثر تكثيفاً وإصراراً على الطاقة الفعلية للجملة، كما سيتضح لاحقاً. ويذكر هنا أن القاص قدم عدداً لا بأس به من القصص القصيرة جداً استطاعت أن تقول الكثير، وأن تحمل العديد من الرؤى والدلالات المباشرة المفتوحة على دلالات أكثر اتساعاً.
يؤمن زكريا تامر ودون مواربة بأن الحكائية شرط كل نثر قصصي، وعلى الرغم من استخدام مجموعة التقنيات القصصية التي يتيحها التلاعب بالنظام اللغوي، فإن القاص لا يركن لهذه التقنيات، مستسلماً لغوايتها، بل يضعها جميعاً في خدمة الحكاية، وعلى الرغم مما يشار إلى أن زكريا تامر هو شاعر القصة العربية القصيرة، فإنه بقي قاصاً لأنه عرف كيف يفيد من شعرية الحكاية، ويخيل إلي أن أهم الفروق بين الشعرية الحكائية، والحكائية الشعرية، إضافة إلى الإيقاع، أن الأولى تضع إمكانات الحكاية في خدمة الشعر، أما الثانية فأنها تضع الصورة واللغة والمجاز والأسطورة والحلم والكابوس والتوتر اللغوي… في خدمة الحكاية.
في قصة "رجال"، يقسم عبد الحليم المر خمس مرات أن يطلق زوجته قسماً شَرْطياً:
1. إذا تجرأت على الخروج من البيت من غير إذنه.
2. إذا مشت في الشوارع بغير ملاءة.
3. إذا علم أنها تكلم رجلاً غيره.
4. إذا ما اتضح أن سبب انتفاخ بطنها هو الرجل الذي ضبطه معها في السرير.
5. إذا ما ولدت بنتاً مرة أخرى بعد مضاجعة أحد الأغراب.
ولكن الذي يحدث أن الرجل لا يجد نفسه مرغماً على طلاقها على الرغم من أنها حرصت على الخروج من بيتها كل يوم دون إذنه، وهجرت ملاءتها واستخدمتها ممسحة للبلاط، وضبطت من قبل زوجها في سرير الزوجية مع رجل غريب، ثم انتفخ بطنها وأنجبت بنتاً. والمفارقة التي هي شرط كل قصة قصيرة جداً تأتي مع النهاية التي تصنع عقدتها على عجل وتحلّها في السياق التالي الذي يجسد وعي القاص إلى كون هذا الشكل الطريف للقص لا يسمح بإزجاء الوقت والسطور جرياً وراء أي تفصيل يخرج القصة من كثافتها:
"ولكنه طلقها بعد أسابيع عندما ضبطها وقد نسيت أن تضع ملحاً في طعام طهته[1]".
ومثل هذه المفارقة يمكن أن نطالعها في قصة "السارق والمسروق" التي تحكي حكاية لص يسرق بيته، بعد أن أدركته الشيخوخة، وآن أوان تقاعده من اللصوصية:
"أخلى المطر والبرد والريح والليل الشارع من المارة، ولكن ثمة رجلاً لم يكترث لهم، واستمرّ في سيره المترنّح المتمهّل، وراقب البيوت بيتاً بيتاً، واختار أحدها، وانتظر قربه حتى أطفئت كل أنواره، وانتظر انتظاراً آخر، قدّر أنه كاف لأن يغرق سكان البيت في النوم العميق، ثمّ تسلل إلى إلى داخل البيت هازئاً بكل الأبواب المقفلة، وحريصاً على العمل، بما كان يردده دائماً بتباهٍ: "أدخلُ كالنسيم، وأخرجُ كالنسيم".
وجال الرجل في غرف البيت متجنباً الغرف التي يظنّ أنها غرف نوم باحثاً بهدوء عما غلا ثمنه وخفّ وزنه، وكبت شهقة تعجّب عندما تنبه بغتة لصورة فوتوغرافية معلقة على الحائط لرجل ضخم الرأس ذي وجه صلف متعجرف، وضحك بصوت عالٍ ساخر غير آبه لسكان البيت إذ علم في تلك اللحظة أنه يحاول سرقة بيته، وجلس على أحد المقاعد مكتئباً كآبة لا سبب لها إلا تيقنه بأن يوم تقاعده لم يعد بالبعيد
[2]".
ويحرص القاص في هذا النوع من قصصه على تحقيق الوحدة الموضوعية، واختصار مجموعة الحوافز الحكائية المختلفة التي تتضمنها القصة القصيرة العادية إلى حافز حكائي واحد، أو إلى مجموعة من الحوافز الحكائية المتشابهة، كالنمط الشرطي في القصة السابقة الذي يقدم، إضافة إلى إغناء النص إيقاعياً، مجموعة من الحوافز التي تقوم عليها الحكاية، والتي تتلخص في الخرق المتعمد لأوامر الزوج "المطلاق!!" من قبل الزوجة، ومثل هذا التشابه المقصود في الحوافز المحركة للحكاية يمكن أن نجده أيضاً في قصة "صامتون" التي تتكرر فيها الصفعة، وتتكرر الإشارة إلى الصافع المجهول، إذ يتلقى زهير صبري الصفعات المتتالية من ذلك الصافع المجهول، عندما التقى امرأة تشبه زهرة حمراء على غصن أخضر، وعندما قال لأحد الأثرياء إنه أعظم رجل أنجبته البلاد، وعندما قبل بخشوع يد رجل ذي لحية طويلة مشعثة، ورجاه أن يدعو له، وإمعاناً في إعطاء هذا الحدث صفة الديمومة فقد جعل القاص زهيراً يتلقى الصفعات كل يوم، من دون أن يرى الصافع المجهول، وتتضافر كل هذه الحوافز المتشابهة لتقدم نسقاً ختامياً يستند إليها، ويمنح القصة دلالات وارفة:
"ولم يكلم أحداً عن تلك الصفعات السرية حتى لا يُسخر منه ويُتهم بالجنون، ولكنه كان واثقاً بأن الناس أجمعين يُصفعون مثلما يُصفع ويلوذون بالصمت
[3]".
وفي كل مرة، وفي كل قصة قصيرة جداً يقدم زكريا عدة مقدمات متشابهة ليبني عليها بناءً هرمياً واضح الهوية، وهو أمر لا يلجأ إليه حين تمتد القصة على عدة صفحات، وفي تقديري أن تقديم الحوافز المتشابهة تمهيداً لتقديم حافز مختلف هو لعبة زكريا المفضلة في قصصه القصيرة جداً، ويبدو هذا "الخيار" قسرياً إلى حد بعيد، في هذا النوع من الكتابة،لأن اختلاف الحوافز وتعدد الحبكات والعقد، يمكن أن يقود إلى نوع من الترهل الذي يفقد القصة القصيرة جداً تمركزها.
ويلجأ القاص في قصصه القصيرة جداً إلى التكثيف، وهو تكثيف يستند إلى خبرة ودراية في انتخاب المفردات، دون أن يخل بالرؤى أو الشخصيات، وربما كان التكثيف هو الامتحان الأصعب للقاص الذي يُقبل على هذا النوع من الكتابة، وقد يخفق كثير من القاصين أو الروائيين في كتابة هذا النوع الأدبي، بسبب عدم قدرتهم للتركيز أو عدم ميلهم إليه. وينبغي هنا أن يشار إلى أن مبدأ الانتخاب اللغوي هو مبدأ قائم في جميع أنواع الكتابة، ولكن الإخفاق فيه يبدو في القصة القصيرة جداً واضحاً، لا يستطيع الاختفاء على مساحة القص.
في قصة "الإجازة" يقدم زكريا تامر رؤية إنسانية تنفتح على القراءة والكتابة دون أن يفقد ميله إلى التركيز: "رحب دياب الأحمد بتكاثر الكتب في بيته، وازداد ابتهاجاً عندما خرج من صفحاتها رجال ونساء وأطفال، تكلموا معه، وشربوا من قهوته، ودخنوا من سجائره،وأكلوا من طعامه، وناموا في سريره، واستحموا في حمامه، واطلعوا على مذكراته الخاصة الملأى بالشكوى والسخط، ومزقوها بأيدٍ مرحة، وصنعوا منها قبعات وزوارق وطائرات، ونجحوا في إغرائه بالرحيل معهم إلى أرضهم الخضراء، ففحص الأطباء ملياً جسده الساكن، وقرروا أنه مصاب بإغماء لن يصحو منه، واستغربوا وجهه المطمئن الضاحك.
[4]"
فعلى الرغم من الجمل القليلة التي تحكم البنية اللغوية لهذه القصة، فإن الدلالة تنفتح على عالم الكتابة والقراءة، وهو العالم الذي يبدو، وفقاً لزكريا تامر، الأكثر رحابة وجمالاً وخصوبة وثراءً. وقد استعاض القاص عن الشرح الطويل، بالاستناد إلى الجزئيات الموحية، فالذين خرجوا من الكتب "تكلموا معه، وشربوا من قهوته، ودخنوا من سجائره،وأكلوا من طعامه، وناموا في سريره، واستحموا في حمامه، واطلعوا على مذكراته الخاصة الملأى بالشكوى والسخط، ومزقوها بأيدٍ مرحة". وكل هذه الأفعال الإنسانية الموحية تشي بالنهاية المطمئنة لذلك الذي عاش في عالم من الحق والخير والجمال، عالم يدعو له القاص ولا يجد له مثالاً إلى في أحلامه، وأحلام أبطاله.
ويدرك القاص جيداً أن القصة القصيرة جداً لا تستغني عن المفارقة، إذ هي عنده أساس من الأسس التي لا غنى عنها أبداً، وتعتمد على مبدأ تفريغ الذروة، وخرق المتوقع، ولكنها في الوقت ذاته ليست طرفة، وإذا كانت هذه القصة تضحك المتلقي، في بعض الأحيان، فإن هذا الضحك يكون في كثير من الأحيان مؤلماً إلى حد البكاء، ويسعى إلى تعميق إحساسه بالناس والأشياء، ولعل إيجاد المفارقة أن يكون أكثر جدوى في طرح الأسئلة الكبيرة حول العولمة والهوية وحقيقة الشرف، ونسبية المفاهيم، والقدرة الخارقة التي يتمتع بها المهزومون الذين يجعلون العهر شرفاً، وفي واحدة من أكثر قصصه نجاحاً تقدم النهاية مفارقة تثير السخرية والألم في آن، يقول في قصة "الشهادة":
"تباهت بهية أمام نساء حارتها بحفاظها على شرفها وشرف الحارة التي ولدت فيها، وحكت ما جرى لها أمس عندما كانت تتنزه في أحد البساتين القريبة، فالرجل المجهول الذي اغتصبها شهر سكيناً تذبح جملاً، وأمرها بأن تخلع كل ثيابها، ولكنها لم تخلع جواربها متحدية أمر الرجل وسكينه، فشهقت نساء الحارة معجبات بها، وانتشرن في البساتين عازمات على ألا يخلعن الجوارب"
[5].
وقد تعتمد المفارقة على إعطاء الجملة بعداً دلالياً بنائياً، يتجاوز الدلالة اللغوية المباشرة، على نحو ما نجد في قصة "آخر مشاجرة":
"جاء رجل إلى جحا، وقال له متشكياً: "عندي زوجتان لا تكفّان عن التشاجر، واليوم أوشكت الواحدة أن تخنق الاخرى، فماذ ا أفعل؟"
قال جحا: " ولماذا تشاجرتا اليوم؟"
قال الرجل: "واحدة كانت تقول إن ما يفعله ملكنا يؤهله للشنق، والثانية تقول إنه يستحق السجن فقط، فهل لديك نصيحة تساعدني على وضع نهاية لمشاجراتهما؟"
قال جحا أنت لست محتاجاً إلى أية نصيحة، فحين ترجع إلى البيت لن تجدهما، ومشاجرتهما اليوم آخر مشاجرة".
وتزوج الرجل امرأة ثالثة.
[6]".
ويوظف القاص في قصصه القصيرة جداً الجملة الفعلية توظيفاً خلاقاً فهو يتابع حكايته، وينمي حركتها، فيستخدم الجملة الفعلية بشكل كثيف، كما يتعامل مع الجملة ذات القدرة على الفعل ( كالجملة الاسمية التي يأتي خبرها جملة فعلية )، لأنه يدرك بحسه الإبداعي أن هذا النوع من الكتابة يعتمد على تقديم الفعل الحكائي، مما يكاد يفرض شكلاً محدداً من التعامل مع اللغة، فالجملة الفعلية هنا تدل على وعي بالعملية الإبداعية، ولنا أن نشير إلى إحدى قصصه، وهي تحمل عنوان "التصغير الأول":
"كان عبد النبي الصبان رجلاً ضخماً طويل القامة، عريض الكتفين، اعتقل ليواجه اتهاماً بأنه في كل لحظة يستنشق من الهواء أكثر من حصته المقررة، فلم ينكر، وأقر بأن السبب يرجع إلى أنه يملك رئتين كبيرتين هما وحدهما المسؤولتان، فأحيل تواً إلى مستشفى بعد أسابيع رجلاً جديداً ذا قامة قصيرة، وصدر ضيق ورئتين صغيرتين، يستهلك يومياً هواءً يقل عن الحصة المخصصة له رسمياً"
[7]
ولا يفوت القاص أن يسمي شخصيات قصصه، إذ نقرأ في قصصه عن دياب الأحمد، وعبد الحليم المر، وزهير صبري، وخالد الحلاب وموفق النمس وليلى المجهولة الكنية، ونور الدين الطحان…. ويبدو أن أسماء الشخصيات لديه يسعى إلى منح الشخصية تشخيصاً من نوع ما، ويشعر القارئ أنها واقعية تنتمي إلى زمن ومكان معينين، فهي "نماذج اجتماعية مألوفة رغم أنها غريبة" وتتحرك "في حيز جغرافي محدود هو حي شعبي في أي مدينة عربية، يزيد عن حدوده ليصبح فلكاً اجتماعياً" كما يشير د. إبراهيم مهوّي في كلمته على الغلاف الأخير للحصرم.
ولعل من الغريب أن يشير زكريا في قصة "اسم واحد" مشكلة التسمية التي تقرب الشخصية من بيئتها، إذ يطرح قضية غياب الاسم أو توحيده رمزاً للتذويب أو الاشتراك في الهم، تقول القصة:
"وقف جحا يوماً خطيباً بين الناس، وقال لهم: إياكم وأن تسموا أبناءكم إلا باسم أيوب.
فاتهم الناس جحا بالحمق والبلاهة، ولكنهم عندما ازداد فقرهم وذلهم، أدركوا الحكمة التي كانت متوارية في نصيحة جحا
[8]"
وهذه النصيحة الغالية التي يقدمها جحا، ومن خلفه زكريا تامر تؤكد مدى انشغاله بهموم الناس البسطاء، جماعة أيوب الذين يستثنيهم المطر العابث من عطائه، في قصة أخرى لزكريا من مجموعة قصص عنوانها بيت كثير الغرف، وتحمل هذه القصة عنوان "المطر العابث":
"في يوم من أيام صيف حار، غطت سحبٌ سود سماء المدينة، فنظر الناس إليها بخوف واستغراب، ولكنها باغتتهم بأنها أمطرت فوق رؤوسهم دولارات من الصباح حتى المساء، فأتيح لكل واحد منهم أن يجمع من الدولارات قدر طاقته وجهده.
وفرح الفقراء فرحاً منعهم من النوم ليلاً، وتراكضوا في الصباح إلى المصارف، وتزاحموا على أبوابها قبل أن تفتح، ولكن المصارف أبت التعامل مع دولاراتهم إذ ثبت أنها مزورة تزويراً ساذجاً، لا يخدع أحداً بينما كانت الدولارات التي جمعها الأغنياء حقيقية ومرحّباً بها، واضطرت السلطات المختصة إلى إصدار تعليماتها المشددة التي تقضي بمصادرة تلك الدولارات المزورة ومعاقبة مقتنيها ومروجيها.
[9]"
وتثبت القصة القصيرة جداً على يد زكريا تامر قدرتها الفائقة على التعبير عن الهم الاجتماعي والوطني والإنساني، مما يثبت، على الأقل، أن قصصاً بهذا الحجم قادرة على أن تقول الكثير، ففي قصة "الثوب العتيق" على سبيل المثال يدخل القاص في عمق المجتمع العربي معبراً عن واحدة من أكثر المسائل الاجتماعية طرحاً على القصة العربية، غير أنه كان قادراً على إثارتها من خلال قصة لا تتجاوز الأسطر القليلة:
"أقدم رجل مجهول على اختطاف ليلى ابنة مؤنس العلام في الليلة التي ستتزوج فيها محمود الخال، وأعادها بعد ثلاثة أيام منهكة كأنها لم تنم لحظة طوال مدة اختطافها، وكان محمود الخال يحب ليلى حباً ذاع صيته، فأقسم أنه سيقتل مختطفها ويشرب من دمه، ولكن ما أدلت به ليلى من معلومات عنه لم يرشد إليه، وظلّ مجهولاً تستقصى أخباره.
وتزوج محمود الخال ليلى بعد أن وافق أهلها على خفض مهرها بعد مساومات مضنية دامت أشهراً تغلبت في ختامها حجة الوسطاء المعترفة بالفوارق بين ثمن الثوب المستخدم وبين ثمن الثوب الجديد، فحسده كل أصدقائه لأنه محظوظ نال كل ما كان يحلم به ولم يدفع إلا أقل من نصف السعر المطلوب
[10]".
وفي قصة "نهاية انتظار طال" يكشف القاص وجهاً بشعاً من أوجه الاستغلال، حين يحكي لنا حكاية الأب الذي مات فاستولى أبناؤه على معطفه وقميصه وبنطاله وجواربه وثيابه الداخلية وحذائه، فاستحيا من عريه، وعندما سألهم بصوت متهدج عمن سيرث ديونه، تبادلوا النظرات المتعجبة، " واتفقوا على أن ما سمعوه ليس سوى وهم، فالميت لا يستطيع التكلم بعد موته
[11]".
أما في قصة "الفتوى" فإن البعد الطبقي لرؤية الحدث ذاته يتجلى في صورة فاضحة، إذ ليس ثمة فرق في الفعل، ولكن الفرق يكمن في زاوية النظر فحسب:
"تزوجت إحدى النساء، وأنجبت طفلاً بعد ثلاثة أشهر، فقصد جيران المرأة جحا، وحكوا له ما جرى، ورجوه إبداء رأيه، ففكر جحا طويلاً ثم قال: "إذا كانت المرأة فقيرة فابنها ابن حرام، أما إذا كانت غنية، فابنها معجزة من المعجزات التي تبين قدرة الله جلّ جلاله.
[12]"
وفي القصة الخامسة، من قصص مجموعة "تكسير ركب"، يناقش زكريا قضية اجتماعية منتشرة، إذ إن الشاب حين يريد الزواج فإنه يبحث عن فتاة بلا تجارب بغض النظر عن تجاربه الذاتية، وعلى الرغم من أهمية الفكرة فإن صياغة النهاية بهذه الطريقة يجعل منها طرفة مستهلكة مبتذلة.
"تأخر حسن في الزواج ريثما يجد امرأة بغير تجارب حتى يكون أول رجل في حياتها وآخر رجل، ولم يتزوج إلا من وثق بأنها هي التي بحث عنها طوال سنوات، وما إن أصبحا وحدهما حتى ساعدته على نزع ثيابه بحركات متعجلة ثم شهقت مدهوشة، وقالت له، وهي تحملق إليه: "سبحان الخالق! كنت أظن أن مكان الخنصر هو في اليدين والقدمين، ويبدو أني كنت مخطئة.
فابتسم حسن بغبطة وزهو، وازداد وثوقه بأن زوجته هي فعلاً البريئة المغمضة العينين التي كان يبحث عنها.
[13]"
غير أن الهم الاجتماعي الذي كتب فيه زكريا كان يتسع في أحيان كثيرة، ليشمل الهم الوطني والقومي، والإنساني، إذ كثيراً ما يصور نماذج مختلفة للطغاة والجبابرة الذين يقهرون الشعوب المغلوبة على أمرها، ففي قصة الولادة، وهي ضمن متوالية قصصية حملت عنوان "بيت كثير الغرف"، يكون الرجل الغني القوي الماكر قادراً على شراء كل شيء، بما في ذلك الإنسان:
"استولى أقوى الرجال وأغناهم وأمكرهم على أراض ذات سهول وجبال وأودية، واستولى على سماء وشمس وقمر ونجوم تتلألأ حين يسود الظلام، واستولى على غيوم ترحل من مكان إلى مكان، واستولى على ربيع وصيف وخريف وشتاء، واستولى على قطط وكلاب وطيور، واستولى على صحارى وبحار وبحيرات وأنهار، ثم تفحّص ملياً ما استولى عليه، فرأى أنه أصبح مالكاً لوطن لا ينقصه إلا الرجال والنساء والأطفال، فظفر توّاً بما ينقصه وبغير جهد
[14]".
وإذ يعالج القاص قضايا الانتماء والهوية الوطنية والقومية، فإن ذلك لا يبرز على حساب الهم، وكثيراً ما تختلط صور البلدان الفقيرة والمتخلفة والنامية ببعضها ببعض حين تتشابه الظروف والأحوال، في قصة "لماذا" يتساءل السارد عن سر الهزيمة غير الرغم من أن الإعلام أوسع الأعداء شتماً:
"سأل التلميذ معلمه: ما الفارق بين الحيوان والإنسان؟
فقال المعلم للتلميذ: الحيوان لا يتكلم والإنسان يتكلم.
لم يكذب المعلم، ونحن - العاملين في الإذاعة والتلفزيون والصحف - خير من تكلم.
فإلى خالق السموات والأرض الذي منحنا الألسنة، نقدم الشكر والامتنان، ففوائد الكلام لا تحصى، ويوم حاربنا الأعداء، قام كلامنا بدور مشرّف، فجابه الأعداء بشجاعة، وأسقط طائراتهم، ودمّر دباباتهم وأباد جنودهم.
فلماذا حدث ما حدث وحلّت بنا الهزيمة مع أن كلامنا جاهد جهاد الأبطال؟
[15]"
وعلى الرغم من قتامة الصورة التي يعرضها زكريا فإن التفاؤل موجود في قصصه من خلال الأطفال بشكل خاص، فهم عدة المستقبل في رأي زكريا الذي أفرد لهم عدة قصص في مجموعاته، ففي قصة "لماذا" ينتصر الأطفال على الملك من خلال الابتسامة:
"شاهد الملك يوماً عدداً لا بأس به من الأولاد يلعبون في أحد الحقول الخضراء ويضحكون بمرح، فسألهم: لماذا تضحكون؟
قال أحد الأولاد: أضحك لأن السماء زرقاء.
وقال ولد ثان: أضحك لأن الأشجار خضراء.
وقال ولد ثالث: وأنا أضحك لأن العصافير تطير.
فنظر الملك إلى السماء والعصافير والأشجار، فألفاها لا تضحك، فاقتنع بأن ضحكات الأولاد لا هدف لها سوى الهزء بهيبته الملكية، فعاد إلى قصره، وأصدر أمراً بمنع أهل مملكته من الضحك، فأطاع الناس الكبار السن، وكفوا عن الضحك. غير أن الأولاد الصغار لم يبالوا بأمر الملك وظلوا يضحكون لأن الأشجار خضراء والسماء زرقاء والعصافير تطير
[16]".
في هذه القصة يضحك الأطفال من أجل أمور خارجة عن إرادة الملك، أما الكبار فيضحكون لأشياء ربما ضمن سيطرته، وهذا يعني عدم إمكانية ضبط الطفل وحلمه وابتسامته، وإذا كانت إحدى قصص زكريا أنتجت نمراً مروضاً وبشراً مروضين فإن الطفال عنده، خارج هذه الرؤية، وهذا ما تؤكده أيضاً قصة الساحر التي أحيت الحب والإنسانية في نفوس الجنود.
فالحكاية تتحدث عن ضابط يأمر خمسة من جنوده بإطلاق النار على قلب طفل، وإذ يضحك الطفل يتذكر الجنود الخمسة أياماً جميلة في حياتهم، وتكون النهاية المفاجئة التي يلعب فيها زكريا لعبة اللغة ببراعة فائقة منذ الجملة الأولى التي تنجح في أن توقف نبض القلب، ثم يفتح لنا عالماً فسيحاً يشع من عيني ذلك الطفل:
"وبادر الجنود الخمسة إلى إطاعة الأمر العسكري، وأطلقوا نيران بنادقهم على صدر ضابطهم الذي تهاوى أرضاً مثقوباً خمسة ثقوب دامية، وانتظروا غير آسفين أن تطلق النار عليهم، ولكنهم ظلوا أحياء ومات كل آمر بإطلاق النار"
[17].
وفي هذه الحكاية لا يعبأ القاص بالنظام الثلاثي التعاقبي المعروف للحكاية، إذ لم يجعل الجنود ثلاثة، يتذكر كل منهم شيئاً، ولكنه جعلهم خمسة، وكان من الممكن أن يجعلهم أكثر من ذلك لو تطلبت الحكاية، فهو يعول على مبدأ الضرورة، بعيداً عن التقليد، وحسبه أنه لا يشبه إلا نفسه. ولنا هنا أن نمتع أبصارنا بهذا النسق السردي الذي يرصد الذكريات التي استدعتها ضحكة الطفل وهي تقابل أمر إطلاق النار:
"واختلط صوت الضابط الصارم الآمر بضحكة ندت عن الطفل، وبلغت مسامع الجنود الخمسة، فتذكر الأول زوجته الجميلة حين تضحك، وتذكر الثاني سريره قرب نافذة تطل على نهر، وتذكر الثالث شارعاً مشجراً يمشي فيه مثرثراً مع صديق، وتذكر الرابع يوم كان صغير السن يعلمه أبوه صيد السمك على شاطئ بحر، وتذكر الخامس أمه تكبر في السن فجأة حين مرض."
[18]
هذه الضحكة الآسرة إذاً أعادت إلى ذاكرة الجنود كل ما هو خصب ودال، وكل ما هو إنساني، لقد مارست دور السحر، لذلك ليس غريباً أن يطلق القاص على قصته اسم "الساحر"، ويقدم لنا من خلال ستة عشر سطراً قصة تختلط فيها الجزئيات الصغيرة الدالة بسحر الضحكة التي تختلط بدورها بسحر العنوان واللغة البديعة.
وكثيراً ما يتستعين القاص بالطبيعة لكي يبرهن على رؤيته التفاؤلية حين تضيق به الحال من الناس، مما يجسد إيمانه بحتمية التغيير، يقول في قصة "الشتاء":
"أعلن صنّاع السّرر الإضراب عن العمل مطالبين بزيادة أجورهم.
وحين نمي النبأ إلى الملك لم يغضب إنما ابتسم بحنو، وقال متسائلاً: من أيّ شيء تصنع السّرر؟
فقيل له إنها تُصنع من خشب الأشجار، فابتسم الملك ثانية، وأمر الأشجار بأن تنبت سرراً غير أنها لم تطع الأمر الملكي، فاستاء الملك، وحكم على الأشجار بالموت عطشاً.
وفرح الملك أشد الفرح إذ ألفى الأشجار موشكة على الهلاك إثر منع الماء عنها، ولكن فرحه ما لبث أن توارى يوم أقبل الشتاء"
[19].
وهو إذ يطرح في قصة أخرى بعنوان "انتظار امرأة" مشكلة إنسان يولد دون رأس يفتح أمامنا سؤالاً على مصراعيه: من هو هذا الإنسان؟ هل هو مجرد إنسان عادي؟ أو أنه هوية للإنسان في العام الجديد الذي لا يقيم وزناً لرؤى الإنسان وأحلامه، يقول في قصة انتظار امرأة:
"ولد فارس المواز بغير رأس، فبكت أمه وشهق الطبيب مذعوراً، والتصق أبوه بالحائط خجلاً، وتشتت الممرضات في أروقة المستشفى.
ولم يمت فارس كما توقع الأطباء، وعاش حياة طويلة، لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم ولا يتذمر ولا يشتغل، فحسده كثيرون من الناس، وقالوا عليه إنه ربح أكثر مما خسر.
ولم يكف فارس المواز عن انتظار امرأة تولد بغير رأس حتى يتلاقيا وينتجا نوعاً جديداً من البشر آملاً ألا يطول انتظاره".
[20]
إننا، ونحن نستعرض هذه القصص القصيرة جداً نحاول، بوصفنا نقاداً، أن نلحق بالنص الذي يبدعه زكريا، بعد أن يأسرنا، ويحملنا على أجنحة الماضي، إذ نتذكر معه أبا حيان التوحيدي، وطارق بن زياد والمتنبي، ونعيش معه الحاضر ونعانق أرق المستقبل، وما هذا إلا لأنه مشغول بالتجديد والتجاوز والاختيار، من أجل أن يقدم لنا صفوة ما يكتب، وحسبه أنه اكتفى بعد أكثر من أربعين عاماً من الكتابة بتسع مجموعات قصصية.
هوامش



لزكريا تامر تسع مجموعات قصصية فقط، خلال أعوامه الأربعين:

1. صهيل الجواد الأبيض ـ 1960.
2. ربيع في الرماد ـ 1963.
3. الرعد ـ 1970.
4. دمشق الحرائق ـ 1973.
5. النمور في اليوم العاشر، رياض الريّس للكتاب والنشر، لندن، ط4، 2000.
6. نداء نوح، رياض الريس للكتاب والنشر، لندن، ط1، 1994.
7. سنضحك، رياض الريس للكتاب والنشر، لندن، ط1، 1998.
8. الحصرم، رياض الريس للكتاب والنشر، لندن، ط1، 2000.
9. تكسير ركب، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، ط1، شباط 2002.
1.
[1] الحصرم، رياض الريس للكتاب والنشر، لندن، ط1، 2000، 31ص.

[2] سنضحك، رياض الريس للكتاب والنشر، لندن، ط1، 1998، ص51..

[3] الحصرم، ص75.
[4] الحصرم، ص49.
[5] المصدر السابق، ص105.
[6] نداء نوح، ص355.
[7] الحصرم، ص167.
[8] نداء نوح، ص354.
[9] سنضحك، ص106.
[10] الحصرم، ص149
[11] المصدر نفسه، ص179
[12] نداء نوح، ص ص 370-371.
[13] تكسير ركب، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، ط1، شباط 2002، ص13.
[14] سنضحك، ص101.
[15] النمور في اليوم العاشر، رياض الريّس للكتاب والنشر، لندن، ط4، 2000، ص15
[16] المصدر نفسه، ص22.
[17] الحصرم، ص171
[18] المصدر نفسه، ص171.
[19] النمور في اليوم العاشر، ص172.

[20] الحصرم، ص155.