لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: ذات سفر

ذات سفر
د. يوسف حطيني



1
وحيداً يجلس في فضاء المطار.. لا أحد يأتي لوداعه، مثل نبتة برية حزينة تذبل أحلامه، الجميع يودعون بعضهم بعضاً، دموع وبسمات وأمنيات مسفوحة: أم تعانق ولدها، طفلان صغيران يلوحان ويبكيان قبل أن يعرفا طعم الغربة والوداع، زوجة تنسى وقار جلبابها وتعانق زوجها قبل لحظة واحدة من دخوله ذلك النفق الموجع الذي يبتلع المسافرين، أما هو فلا أحد يبتسم في وجهه، ولا أحد يذرف في وداعه دمعة واحدة.
2
بدت دمشق في عينيه مثل نعش صغير، أين أمه التي تختزن في عينيها حزن دمشق، أين أصدقاؤه الكثيرون الذين عبروا معه شوارع تلك المدينة العاشقة، وأكلوا معه في مطعم "أبو العز"، وشربوا القهوة في مقهى الروضة وهم يقتاتون الشعر والأحلام..
كان من الممكن للجميع أن يحضروا.. ولكنه مثلما فعلت براقش ذات يوم جنى على نفسه.
3
أين سلمى؟
4
أيام تشبه الحلم الجميل، كان يدرك أنها ستمر مثل برق عابر، وكانت سلمى تدرك ذلك أيضاً.. تركته يداعب خصلات شعرها الشقراء، وسمحت لأصابعها أن تشابك أصابعه فوق جسر تمنى أن يطول، وأن تطول خطواتهما التي ارتسمت فوقه..
أي حلم عاش؟:
سلمى بين يديه، وهما بين أحضان الأشجار التي تتسامق نحو سماء مليئة بغيوم داكنة، لكأن هذه الظهيرة الربيعية مساء دافئ ظليل. فجأة.. مثل خبر عاجل.. سقط المطر.. التجأ الناس إلى الاستراحات والمطاعم القريبة، وبقيا وحدهما في حضرة غيم ومطر وشجر يختلسان الوقت الذي يهرب من بين أيديهما ساعة بعد أخرى.. لحظة بعد أخرى.. يخرجان نحو الشارع فيرمقهما الحارسان اللذان يشربان الشاي بنظرة خبيرة مشوبة بالحسد. لكم تمنى أن يشرب الشاي أمام ذلك الكوخ معها فقد ملّ الجلسات التي يجلس فيها الرجال الأنيقون الذين لا ينتظرون مطراً يغسل قلوبهم، تمنى أن يدخل مع سلمى إلى الكوخ الدافئ حتى يخبرها بما يقول العصفور العاشق لعصفورته، حتى يزقّها قبلتين.. همّ أن يقترح عليها شرب الشاي معهما، ولكنها دعته إلى ما هو أكثر إغواءً: مدت له يدها حتى يتجاوزا ذلك الجسر الحبيب.. ومثل صحراء طال انتظارها للمطر راحت يده تعانق يدها..
- سنلتقي غداً؟
- سنلتقي كل يوم..
- صباحاً ومساءً؟
- وظهراً وعصراً.
- وفي يوم السفر؟
- سأرافقك إلى المطار.
- سيكون وجهك آخر ما أراه من دمشق.
5
ولكن أمه تريد أن تراه، أن تصنع له الطعام الذي يحبه، أن تختزن ملامح وجهه، أن تصنع له الشاي بالميرمية. يخرج منذ الصباح مستعجلاً، ويعود في المساء، ربما يدخل البيت في الظهيرة لساعة أو بعض الساعة، ترجوه أمه أن يتغدى معها، فيعتذر لأنه غير جائع، لا يقول لها شيئاً عن غدائه مع سلمى، وحين يتألق الحزن في عينيها يتناول غداءه مرة ثانية ويخرج سريعاً إلى سلمى.
- يجب أن ترتاح قليلاٌ قبل السفر.
- لا أستطيع يا أمي، يجب أن أستكمل الأوراق المطلوبة.
تعرف أنه يخترع كذبة خضراء، يبدو ذلك في نظراته المشتعلة التي تتجه صوب الباب، ولكنها تتركه يفعل ما يشاء..
أما أن يطلب منها ألا تذهب معه إلى المطار فذلك لن يكون أبداً.
- أرجوك يا أماه.. لا تتعبي نفسك.. سأودعك من هنا.
- لا يا بني.. سأذهب معك.. وسيذهب إخوتك..
- لا أحب لحظات الوداع يا أمي.. أرجوك.. أتوسل إليك.
- كما تشاء يا بني.
6
كانت خطة محكمة: يبقى الجميع في المنزل وينطلق إلى سلمى، ستنتظره في الرابعة تماماً أمام الحديقة العامة، يمر عليها مع حقائبه، فتصعد إلى جانبه في السيارة، ويمضيان ساعتين حزينتين لذيذتين في المطار..
ولكن المواعيد تجري في كثير من الأحيان بما لا يشتهي العشاق.. ولولا إلحاح سائق سيارة الأجرة لانتظرها ساعة أخرى.
7
- النداء الأخير لركاب الرحلة 912 المتجهة إلى دبي:
حمل حقائبه ونظر نحو دمشق للمرة الأخيرة فرآها تودعه بابتسامة حزينة، لم ير شجراً، لم ير شعراً أشقر ولا أصابع متشابكة..
8
- النداء الأخير لركاب الرحلة 911 المتجهة إلى دمشق:
حين صار بإمكانه أن يرى دمشق من الطائرة نظر إلى وجوه الركاب فرأى ابتسامة أمه الصافية، بينما راح عبق الشاي والميرمية يشق أجواء السماء ليصل إلى أنفه.



13/6/2002