لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: حلم ما

حلم ما
د. يوسف حطيني


(1)
أيّ حلم هذا الذي دفعني إلى استقبال نهاري بهذه السعادة؟
أيّ حلم؟
(2)
قبل أن أذهب للفراش ليلة الأمس هاجمتني غربة قاسية، فاجأت روحي هواجس كثيرة راحت تتعربش على ذاكرتي مثل شجرة ياسمين:
تذكرت دمشق إذ أجوب شوارعها الحزينة التي يغسلها المطر فيعيدها شابة عذراء، رغم آلاف السنين التي مرت على رأسها، أمد يدي بخوف إلى يد امرأة أحبها، وسرعان ما تتشابك اليدان في عناق حميم، تخترقان الزحام والأعراف، معلنتين انتصاراً مؤقتاً للحب تحوله الغربة وآلاف الكيلو مترات التي تفصل بين جسدينا هزيمة مرة.
أتجول في أنحاء البيت الواسع الذي يحاصرني بفراغه الكئيب، أنظر من النافذة الواسعة فلا أرى إلا فضاء ضيقاً لا يتسع لعصفور قلبي الذي يبحث عن أحبة يغادرون، أعود منكسراً إلى غرفة الجلوس، أتامل المزهرية الخالية من الورود، أفتح التلفزيون، عشرة شهداء فلسطينيون يسقطون في يوم واحد، ولا وقت لدى العرب لتشييع الشهداء، والحكومات مشغولة للضغط على المقاومة من أجل وقف العمليات الاستشهادية، ولا شيء.. لا شيء يحدث دون أمر من الحاكم الأوحد الذي نصبه العالم الحر بهلولاً على عباد الله في كل مكان.. أتامل صورة معلقة على الجدار: حنظلة يدير ظهره لنا، أدعوه إلى النزول، يرفض، أتذكر قدميه المقيدتين فأبكي..
أغلق التلفزيون، أعود إلى الشرفة، أحاول أن أستحضر طيف حبيبتي مرة أخرى، تلك القبلة الخاطفة التي سرقتها ذات يوم، العناق الحميم، اليد الجريئة التي تعبث بالشعر الأشقر الطويل في حافلة عامة، تكسرني ذكريات لاحقة: الشعر بات قصيراً والقبلة أصبحت حلماً بعيداً، مثلما هو بردى الآن، ومثلما هو قاسيون..
أفكر بصوت مرتفع يؤنس وحشتي: النوم هو سلاحي الوحيد الذي يعيدني إلى هناك:
(3)
تبدو دمشق لعيني خضراء أكثر من ذي قبل، تتدفق مياه بردى حتى تكاد تفيض على الجانبين، فيما تبتسم الشوارع كأنها تستعد لاستقبال عاشقين، تتهادى المرأة التي أعشقها مثل حمامة، تقترب مني، تهدل في أذني أغنية سكرى بالحب الخالد، تحمل طاقة من ورد أحمر، تقول لي: خذ هذه الورود، فهي البلسم والشفاء، تركض أمامي في حديقة ضبابية لا حدود لها، وخلفها يلهث شعرها الأشقر الطويل، ووراء جذع شجرة تذوب الشفاه في قبلة طويلة ولا يقف العناق اللاهب عند حد..
أودع تلك المرأة على أمل جديد، ترفع يدها مثل راية نصر قادمة في لقاء قادم، يمتد الأخضر حولي، يطلع أمامي الخبز والعشب وناجي العلي، أعانقه، نراقب بفرح شهيداً آخر يشبهنا جميعاً، يشبه المحيط والخليج، ينبت بيننا، يحيينا ثم يفك الأغلال التي تصفد قدمي حنظلة، يمضي بهدوء تاركاً خلفه بسمة قادرة على تحطيم أنياب الذئاب البشرية.
(4)
أي حلم هذا الذي دفعني إلى استقبال نهاري بهذه السعادة؟
أي حلم؟
(5)
برد خفيف يتسلل إلى جسدي، ولا بد لي أن أنهض من فراشي وأتناول قهوة سريعة، قبل أن يحين وقت الذهاب إلى العمل، لا بأس في القهوة التي أصنعها، لا سيما أنني وحيد في هذه الغربة، وليس لدي خيار آخر.
أقوم متكاسلاً، ولكن السعادة تغمرني بعد حلم الليلة الماضية، أمرُّ عبر غرفة الجلوس، كان ثمة أمران يصعب تصديقهما: ورود حمراء متفتحة تملأ مزهريتي، وحنظلة ينظر إلي مبتسماً، وقدماه طليقتان.
ها هوذا يحاول النزول إلي.

27/12/2002