لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الجمعة، 2 أغسطس 2013

(جَمَل المَحَامِل) مئة قصة فلسطينية قصيرة جداً للدكتور يوسف حطيني


(جَمَل المَحَامِل) 100 قصة فلسطينية قصيرة جدّا، د. يوسف حطيني، ٢٠١٣


الإهداء: إلى الشعب العربي الفلسطيني.. بطل هذه القصص جميعاً.

1 ـ مذبحة
بينما كان الفلاحون عائدين من حقولهم إلى كفر قاسم، أسندهم ضابط قذرٌ إلى جدار، ثمَّ بصق أمام جنوده كلمة واحدة: احصدوهم.
في ذلك المساء أضاءت تسع وأربعون نجمة حمراء سماء فلسطين.
* * *
2 ـ ناجي العلي
متأمّلة لوحةً معلّقة فوق الجدار، كانت أمّ الشهيد تعاني نزعها الأخير.
قالت لرجل اللوحة الذي يدير لها ظهره معاتبة: لقد أصبح ابني فدائياً حتى يرى الفلسطينيون وجهك يا حنظلة، وها أنا ذي قاب فجرٍ من الموت، وأنت ما تزال مصرّاً على تجاهلي.
في الصباح حمل أهل المخيم جثة امرأة غرقى بدموع مالحة.
* * *
3 _ محمود درويش
وأخيراً تحقق الحلم، وصارا عروسين.
وها هما كما خططا تماماً يذهبان، بالقطار، لقضاء شهر العسل في قرية نائية.
قال العاشق: ما أجمل النهر!
قالت العاشقة: ما أجمل السماء من النافذة!
قال راكب حزين: "أنزلني هنا"، فإني قد "تعبت من السفر".
* * *
4 ـ برتقالة
إلى مصطفى لغتيري
منتشياً راح يعرّي بسكّينه برتقالة شهية، فاجأه مذيع نشرة أخبار المساء بخبر عاجل عن أب يذبّ رصاص الموت عن ابنه بيدين عاريتين.
ردّد الأب المفجوع: مات الولد!!
كانت دموع البرتقالة تسيل بين شدقيه، وهو يشتم العرب والمسلمين.
وها هو ذا يمسك بين يديه برتقالة أخرى تكاد تنفجر غيظاً.
* * *
5 ـ خنساء
كنت أكتب عنها قصة قصيرة جداً، رَسَمَتْ حروفَها امرأةٌ لم تذرف دموع الوحدة بعد أن استشهد أبناؤها الأربعة. وحين نزف القلم دمعاً ودماً تركْتُهُ جانباً، وأقمْتُ بين السطور لأقبّلَ جبينها، وأعتزل الكتابة.





* * *
6 _ انتفاضة مبكّرة
ضمّته إلى صدرها، بحث عن حلمتها المتورّدة بشفتيه الصغيرتين. وعلى الرغم من غيوم سود تملأ سماء المخيّم، كان حليبها معطّراً بالابتهالات ونكهة الميرمية ورائحة حيفا، وصوت فيروز: "سنرجع خبرني العندليب".
قالوا: "كيف نكلّم من كانَ في المهد صبيّا؟؟"
قال: "كانت تسمّى فلسطين.. صارت تسمّى فلسطين".
* * *
7 ـ مدينة
جمع الله البحر والبرتقال والدم والتراب والعشق الصوفي، ثم قال: كوني مدينة..
فكانت يافا.
* * *
8- شجرة العائلة
سعيدةً كانت تلعب مع أفراد أسرتها، عندما داهمها قصف ألهب شاطئ غزة.
في حصة الرسم طلبت المعلمة من الجميع أن يرسموا شجرة عائلتهم الصغيرة، فرح الطلاب وراحوا يجتهدون في رسمها، ويجترّون ذكرياتها في قلوبهم النزقة.
لم ترسم هدى غالية في ذلك اليوم سوى ورقة يتيمة. 
* * *
9- دراكولا خائباً
جاءها قاهراً مدججاً بالحقد، أطلق أزيز رصاصه وهدير مدافعه ورذاذ كلماته : لا فائدة من المقاومة، ولكن جنين لم ترفع علماً أبيض.. رفعت دماء أبنائها، فزهّر لوزٌ، واخضلت مروجُ السنابل. 
* * *
10 ـ صندوق أخضر
ضبطوه متلبّساً بعشق الأرض، فأطلقوا عليه رصاص حقدهم.
مبتسماً كان حين تجمّعوا حوله، فأثار الأمر حيرتهم وريبتهم ورعبهم، بحثوا عن الصندوق الأسود في قلبه، لكشف سرّ ابتسامته، دون جدوى..
لو بحثوا عن الصندوق الأخضر لعرفوا سر تلك الابتسامة، وأدركوا ماذا قالت له الأرض.
* * *
11 ـ قرب الجدار
متقمّصاً ظلّ محرقة مزيفة وقف أمام الناس، اعتمر قبعة صغيرة فوق رأسه، وراح يبكي قرب جداري، ذرفَ دموعاً غزيرة.
كان يخفي خلف ظهره سكّيناً.
* * *
12 ـ بلفور
في ليلة داكنة السواد، دخل اللصُّ بيتي، قتل أبي وجدي، وسرق قمصاني وأشجاري ومواويلي العاشقة.
وفي ليلة داكنة أخرى أهدى حزني وقصائدي وترابي إلى لصّ آخر، من شذاذ الآفاق.
ها أنا ذا أبحث، بين ليالٍ سود، عن فجر جديد..
* * *
13 ـ وجهاً لوجه
جلسنا متقابلين تحت ضوء الشمس، كان عيناه تشبهان عيني ذئب، وهو يتكئ على بندقيته التي يلتمع نصلها. بينما اتكأتُ على زوادة من قمح وذكريات وموالٍ حزين..
كنتُ أشعر باطمئنان لا حدّ له، أما هو فقد كان يخفي خلف ملامحه القاسية قلباً مذعوراً.
* * *
14 ـ غيمة
حمل جدي أعوامه السبعين على كتفيه، وهو ينقّل بصره بين حقله المتعطش لقطرة ماء، وغيمة شاردة في سماء فسيحة.
مرّت الغيمة فوق مستوطنات متعددة، ثم وقفت فوق حقله تماماً، وراحت تذرف دموعاً سخيّة.
* * *
15 ـ أحمد ياسين
داهمه صاروخ مبكّر، باغتَ المؤذن والمصلين والشيخ الجليل. انتفض كرسيُّه مثلما انتفضت فلسطين، ها هو ذا يطلّ على نهار غزة محمولاً على الأكتاف، يمشي فوق الغيم، ويوزع بسمته الخضراء من النهر إلى البحر.
الصواريخ المبكرة تهطل كالمطر بين وقت وآخر، تباغت أطفالاً ونساءً وشيوخاً.. ولكنّ كراسيَ أخرى كثيرة لم تنتفض مثلما انتفضت فلسطين.
* * *
16 ـ صبرا وشاتيلا
حاصر الأعداء مخيمي صبرا وشاتيلا، أربعة آلاف روح ذرفَها المخيمان في ثلاثة أيام.

كانت الأرواح تشق عنان السماء، وهي تطلب الثأر، بينما تصرخ الهامات في ألمٍ:

"اسقوني.. اسقوني".

جاءت هامات أخرى من بلد الشيخ والعباسية والشيخ بريك ويازور والطنطورة والرملة والمجدل ووادي شوباش ورفح وكفر قاسم ودير ياسين وجنين وغزة، صرخت معترضة:

بالدور يا شباب، فنحن ننتظر قبلكم.,,..

* * *

17 ـ العلم نور

قال المعلم: أهلاً بكم في العام الجديد.

قال الجنود: تغلق المدرسة حتى إشعار آخر.!

* * *

18 ـ إصرار

البنت الصغيرة لا تعرف اليأس، حملت عكازها، ذكرى قدمها الراحلة، وانطلقت تلعب مع الأطفال.
* * *

19 ـ دموع مؤجلة

حين جاؤوا لاعتقاله لم تذرف دمعة واحدة.
في الليل: عانقت طفلهما والوسادة المبللة!
* * *

20 ـ حرية
حين أخذوه إلى السجن، قال لأمه العجوز أخرجي العصفور من القفص.
* * *
21- الثورة

وضع خوذته الكبيرة فوق صدر المدينة، اختنق الناس والعصافير والأزهار..

وردة صغيرة حمراء استطاعت أن تصنع ماءها وهواءها.. أن تكبر.. وتقلب الخوذة رأساً على عقب.

كان الجنرال منـزعجاً جداً حين شهد، رغم أنفه، تحول الخوذة إلى عش للعصافير الملونة.

* * *

22 - تجاوز

حفاظاً على الأمن في المخيمات، أصدر قانوناً يمنع زراعة الأزهار، ذات ليلة أفاق مذعوراً حين رأى ياسمينة بيضاء تتسلق أحلامه.
* * *
23 ـ انتحار
كان ناجحاً جداً في عمله السرّي، سرى بين المناضلين مثل سمّ الأفعى، فقدّم للمحتلّين قوائم بأسماء الخلايا والقادة وأماكن الاجتماعات..
سال بسببه دم كثير، وانتظرت نساء عودة أبنائهن وأزواجهن دون جدوى.
خطر له بعد هذا النجاح المبهر أن ينظر في المرآة..
* * *
24 ـ الأشجار واغتيال كنفاني
حمل فلسطين على كتفيه، وضعها أيقونة في قلبه، ثم امتشق قلمه في كل ميدان، بينما كانت تترصده عيون الغدر.
في ظهيرة يوم قائظ أدار مفتاح سيارته، فطارت أشلاؤه فوق أغصان الأشجار في الحازمية.
لم ينتبه رجال الموساد إلى أغصان جديدة كتب عليها: (أم سعد وسرير رقم ١٢ وعائد إلى حيفا) راحت تنمو بسرعة مكان صورة الدم، وتضيء ليل المشهد.
* * *
25 ـ البيت
(أصبحنا عجوزين).. قال عبد الرحمن مبتسماً لزوجته صفية.. حين ننتهي من بناء الغرفة الجديدة سنزوج عدنان.
ابتسمت صفية، قبل أن تداهم فرحتها جرافة إسرائيلية جاءت لتهدم الغرفة والبيت معاً.. استعاد العجوزان شبابهما، معتصمين بخيمة جديدة، وراحا يرشقان، مع عدنان، جنودَ الاحتلال بالحجارة التي كانت بيتاً دافئاً قبل ساعتين.

* * *
26 ـ لسان الضاد
قال معلّم اللغة العربية: لسان الضاد يجمعنا، هات فعلاً يحوي حرف الضاد.

قال طفل صغير: ضربَ.

نظر المعلم نحو الطفل بحقد، وألقى في وجهه ابتسامة مغتصبة.

:استخدموا الفعل ضربَ في جملة.

: ضربَ زيدٌ عَمْراً.

: ضرب عَمْرو زيداً.

: أحسنتم جميعاً.

قال الصغير:

ضرب الطفل جنود الاحتلال بالحجارة.

كالصاعقة انقضّ المعلم على الباب يغلقه، ثم على فم الطفل يغلقه أيضاً،حتى لا يُتَّهَم بإعاقة عملية السلام.

* * *

27 _ من يوميات أبي عبد الله الصغي
حين دخل إلى الأرض المحتلة فرح الجميع بعودته الميمونة.
بعد أيام أو أشهر أو سنوات اكتشفوا أنه لم يكن يحمل معه خبزاً أو آساً أو حلماً..
وعندما سألوه عن حيفا وطبريا وعكا بكى..
جاءه صوت الأرض من عمق خمسة قرون ماضية:
ابكِ مثلَ النّساء مُلكاً مضاعاً.... لم تحافظ عليه مثل الرجالِ

* * *

28 ـ العدوّ من أمامكم
أحب الشعب قائده كثيراً، حمله على الأكتاف عقوداً، خاض انتفاضة تلو أخرى، وكان اسم القائد يتردد مثل بطل أسطوري.

لم ييئس الشعب من قائده، ولا من الكفاح، فحمله على الأكتاف هذه المرة إلى ساحة المواجهة، وهناك أُحرقت المراكب، وقال الشعب ما قاله طارق بن زياد، وعندما أدرك القائد أنه محاصر من جميع الجهات لم يفعل ما فعله طارق، ولكنه وقّع معاهدة للصلح.

* * *

29 ـ ميرمية
- هل تعرف اسم هذه النبتة؟ إنها تنبت في فلسطين.
أجاب موشيه ساخراً: لست عالماً بالنبات، ولكن ما علاقة هذا بموضوعنا مستر أبو ناصر؟
ثم أضاف: نحن أصحاب الأرض الحقيقيين.
قال أبو ناصر: ولكن عشرة ملايين فلسطيني يعرفونها.
قال أبو العبد الذي كان يشاهد المناظرة في صقيع منفاه القسري:
"قومي يا مَرَة اعملي لنا كاسة شاي بالميرمية."
* * *
30- سرايا 
حكيتُ لابني حكاية سمعتها من أبي الذي سمعها من جدي عن "سرايا" التي خطفها الغول، وأنقذها ابن عمها، بعد أن دس سمّاً في شراب الغول، وقتله، وعادا معاً إلى القرية.
فرح ابني بالحكاية مثل كل الأطفال، ولكنه كبر الآن، ووعدني أن يحكيها لابنه الذي سيحكيها لحفيده.... إلخ، إلخ، ..إلخ.
* * *
31 ـ هيتَ لك
إلى الصديق جمعة الفاخري
أتمثّله يقفُ في حضرةِ الجمال الآسر، مستنداً إلى ملاذه في حضرة العزّ والسَّطوة، قائلاً: "معاذَ الله"، أتخيلُ امرأةً أخرى : أخذت زرقة عينيها من البحيرة، ورفعت جبهتها العالية مثل غزة، وخزنت في شفتيها عنب الخليل.
ترى لو جاءتني تلك المرأة الآن، هل كنت أستطيع الصمود، أمام إغوائها.
* * *
32 ـ أضغاث
كنت ما أزال في غيابة الجب، متزمّلاً بصبري، رأيت فيما يرى النائم أن إخوتي العشرين عادوا، ومدّوا لي حبل النجاة، أفقت على أصوات رصاص تحاصر جدران المكان: يدي على الزناد، وفي خاطري حلم بعيد..
* * *
33 ـ القميص
وقفت، مسنتداً إلى جدار إخوتي، في مواجهة الأعداء، ذرفت ذماء روحي، تسابق الشعراء إلى رثائي وتعداد مناقبي، وانهالت الأوسمة على ضريحي مثل مطر مفاجئ. شهد شاهد منهم: "إن كان قميصه قُدَّ ......" 
كان القميص مطرزاً بالرصاص والطعنات من كل صوب.
* * *
34 ـ الأمم المتحدة
كل واحدة منهن تحمل سكيناً، وقد أعدَّ الزعيم الأوحد لهنّ متّكَأ، حين خرجتُ عليهن بقميصي وحَطتي وعِقالي وزيتوني ودمي، تابعن أكل الفواكه دون أن ترفّ أجفانهن الكحيلة، ورمين القشور في وجهي، لم يكن ثمة بين الأصابع إلا دمي.
* * *
35 ـ اجتياح
قال رضيعة في بيت حانون، وهي تلتصق بصدر أمها، أريد أن أحفظ طعم الحليب.
قالت وردة في مخيم جباليا، ناشرةً عبقها الحزين: ربما تدوسني مجنزرة متأهبة.
قالت حمامة من مخيم البريج برعب: جناحاي ما زالا أبيضين.
قالت نملة من مخيم المغازي: "يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم" لا يحطمنّكم أفيخاي وجنوده
تبسم أفيخاي ضاحكاً مما سمع، وأعطى أوامره ببدء الاجتياح.
* * *
36 ـ الخمر والأمر
متصبباً عرقاً، راح مدرّس اللغة العربية يشرح لطلابه حكاية امرئ القيس، بينما كانت تزكم أنوف الطلاب رائحة مجزرة إسرائيلية جديدة.
قال المعلم بحماسة: تلقّى امرؤ القيس خبر مقتل والده بهدوء؛ إذ تابع جلسته الخمرية، قائلاً: اليوم خمر....
قاطعه أحد الطلاب: وغداً؟
هتفوا جميعاً: وغداً؟
رددت الملايين: وغداً؟
- ....................
لم يصافح أسماعهم غير صمتٍ مطبق.
* * *
37 ـ كابوس
هَلِعاً جاءني طفلٌ غزاوي طالباً مني تعبير منامه:
"بقرة عجفاء تأكل عشرين بقرة سماناً"، قلت له وأنا أشدّ يدي على الزناد: إن تعبيرها أوضح من أن يقال، ولكن ضع بندقيتك تحت رأسك، ولن ترى مطلقاً مثل هذه الكوابيس المرعبة.
* * *
38 ـ الثلاثاء الحمراء
جاءت الحياة تعرض عليهم نفسها، سألتهم أن يتوبوا عن عشقهم القديم، قال محمد جمجوم في وصيته: "لا تبيعوا منها شبراً واحداً". امتد أمامهم الموت أخدوداً تملؤه النيران، سألهم خَزَنَتُهُ أن يتوبوا حتى يعودوا إلى أهلهم، قال عطا الزير مخاطباً أمه البعيدة: "لو تندهي وينو عطا كل الشباب ترد". 
زغردت النساء، في بيوتهن، وسبق فؤاد حجازي أخويه نحو المشنقة.
* * *
39 ـ أريج
الموتُ، على غير عادته، كان يحوّمُ فوق رأس الطفل خجلاً مطاطئ الرأس، وكان فارس عودة يرشق، بالحجارة المقدّسة، دبابة إسرائيلية على بعد ثلاثة أمتار.
ما يزال الناس يذكرون قرب معبر المنطار كيفَ أطلقت دبابةٌ حممها اللاهبةَ على صدره العاري.. وكيف أرَجَتْ ورودُ عمرِهِ الخمسَ عشرةَ فضاءَ المكان.
* * *
40 ـ بيت العنكبوت
- لو تعلمين يا ديبورا كم تعذّبني الخدمة على حدود غزة!
- يجب أن تكون فخوراً بذلك العمل عزيزي موشيه.
- أشعر أن الجدران تحيط بي، ولا أستطيع منع الغوييم من النظر نحو البحر والسماء.
بهلع راحت تنظر نحو الجدران، وهي تقترب منها لتحاصر خواء الروح.
* * *
41 ـ إعادة تقييم
(بنوع من التردد)..
ـ ألستَ يوسف؟
ـ بلى..
(بنوع من الخوف)..
ـ أتغفر لإخوتك سوء صنيعهم؟
ـ نعم.
(بنوع من الخبث)
ـ نجعلك على خزائن الأرض، وتأتي بأبيك وجدّك وعشيرتك معزّزين مكرّمين إلى هنا.
ـ بل أذهب إليهم.. إلى هناك.
* * *
42 ـ شهرزاد
كل ليلة، يحشد موشيه قذائفه وقنابله وخناجره، في مواجهتها، كي يرسم نهاية حكايته كما يشاء.
كل صباح، تستيقظ المجدلية، كي تروي حكايتها من جديدiii..
* * *
43 ـ العلم الوطني
في البدء مشت مريم مغتبطة في حقول خضر بلا نهاية، داهمها حقد الطغاة، فدافعت عن نفسها بانتظار ولادة جديدة. وإذ حلّق نسرها الصغير فوق سماء الوطن، استباحت دمه عساكرهم، وهطل على الأرض غيوماً حمراً.
المرأة المتشحة بالسواد، أقسمت، فوق قبر ابنها، أن ترتدي ثوب زفافها الأبيض، رغم كل الجراح، حتى تكون حياتها أطيافاً لعلم سيرفرف لا محالة فوق قمة الكرمل. 
* * *
44 ـ الرمادي
في فندق ما.
سألوه عن رأيه في المفاوضات قال، وهو يعقد ربطة عنقه: في المسألة قولان.
استفتوه في العمليات الاستشهادية ضدّ المحتلّين، قال أيضاً: في المسألة قولان.
ثمة رائحة مزبلة تزكم الأنوف، تنبعث من فندق ما.
* * *
45 ـ العجوز والشجرة
حين تقدّم أبراهام بجرافته صوب شجرة الزيتون، اقتربت منها العجوز. احتار أمام المشهد، لم يعرف أيّهما تعانق الأخرى.
كانتا تشبهان أمّاً وابنة، أو لعلهما ابنتان لأم واحدة.
بعد اقتلاعهما.. أقسم العشاق الساهرون في ذلك المكان أنهم يرون كل ليلة ظلالاً تغرس جذوراً في كل شبر من أرض الزيتون.
* * *
46 ـ على دلعونة
أحتسي كأس القهر المرّ، أجرّر نفساً مثقلة بالكوابيس، أسمع غولدا الشمطاء تهذي: فلسطين أرض بلا شعب.
يزورني طيف جدي كنعان، يمسح على رأسي، يزرع شجرة أخرى.
متفيّئاً ظلّها: أكنسُ خيبتي ومرارتي، وأرتّب أحلامي الجميلة، وأغني.
* * *
47 - عن الرجال والظلال
راح الجنود يكسّرون عظامنا، ويبتسمون للكاميرا، وقف رجل من جماعتنا إلى جانبي قائلاً:
"وإن جنحوا للسلم...."
قال طفل لم يبلغ الحلم: "لا تصالح"، ثم جرى، وراح يجري خلفه ظلُّه الطويلُ جداً.
لاحظتُ أن الرجلَ الواقفَ إلى جانبي لاظلّ له
* * *
48 ـ البشرى
يجلس جانب زوجته يفرط حبّات عمره السبعين، عيناها خوختان حمراوان: تتذكر ولديها الذين سقطا في الحرب قبل عشرين عاماً.. تمسح دموعها، وتلتفتت بحنان إلى الرجل العجوز: لو سمعت كلامي.. لو تزوجت.
قال العجوز، وهو يبكي، ربما أول مرة،: أنا لا أغيّر حبيبتي.
ـ ولكننا بحاجة إلى من يكمل الطريق.
جاءه رجع صوت بعيد: "إنا نبشرك بغلام"
* * *
49 ـ عكّا
بينما كان جدي يتكئ على صخرة من صخور عكا، هبّت رياح هوجاء، جمعت غيوماً سوداً، وأمواجاً حمراً، وألقت بها في وجهه.
من بينها رأى وجه بونابرت خائباً منكسراً أمام الأسوار. 
قال جدي ساخراً: "يا خوف عكا من هدير البحر".
الرياح ما زالت تهب.
جدي، متكئاً على صخرة من صخور عكا، ما زال يبتسم.
* * *
50 ـ اللصوص
في مدينة من مدن الشمال الباردة، أشعل قلبي إعلان عن معرض للتراث الإسرائيلي، اتّكأت على غيظي، ودخلتُ:
رحّب بي رجل ذو عينين زرقاوين، ثم راح يتجول معي في المكان.
كانت عباءة جدتي وسروال جدي يتوسطان المعرض.
نظرت في عينيه مباشرة، وأخرجت له ـ من جيبي ـ مفتاح بيتنا القديم.
* * *
51 ـ سيزيف
زرع الطفل وردة فوق حطام سور بيته، اقتلعتها الجزافات، 
بعد أكثر من ستين عاماً تكاثرت الجرافات.
والورد كذلك.
* * *
52- خارطة الطريق
كان جدي يحتضر حين رفع سبابته.
قبل أن ينطق بالشهادتين أشار إلى صورة معلقة على الجدار: عزّ الدين القسام يضع بندقيته على كتفه.
فجأة تذكرت خارطة الطريق؛ وإذ ذاك خطر لي أن أضحك، لولا أن جدّي شهقَ شهقته الأخيرة.
* * *
53 _ خبر عاجل
تقطع الحواجز كل صباح إلى المدرسة الثانوية، تحمل في قدها الممشوق أزهار سبعة عشر ربيعاً، يستوقفها جندي ماكر أزرق العينين، يحاول أن يتحرش بها، تنظر إليه بتحدّ:
- ابتعد عني حتى لا أجعل منك خبراً عاجلاً.
يبتعد عن طريقها، رغماً عنه، فتفتح رئتيها للعلم والحياة.
* * *
54 ـ سحر خليفة
زرعتْ في بستانها شجرة مباركة من الصبّار، ذقتُ من حلاوة ثمارها، مثل ملايين العرب.
وحين حاول الجنود اقتلاعها من جبل النار أدمتهم الأشواك.
* * *
55 ـ رؤيا
والدي الشهيد، ابن جدي الشهيد، جاءني الليلة الماضية: استيقظ من نومه الساحر، سألني عدة أسئلة، ثم شتم جميع الفصائل.
أطفأت غضبه بكأس شاي ساخن، ربّت على كتفي قائلاً: لا تصالح.
ثم مضى إلى نومه الساحر.
* * *
56 ـ أم الخير وابنها والوسادة
عندما خرجنا من حيفا بعد أن أحاط بنا جحيمُ الموت.. كان البحر منفذنا الوحيد، لم تشأ 
أم الخير أن تترك ابنها، ولكنها - في حمأة القصف وحمى الركض في الطرقات، حملت وسادته بدلاً عنه، وراحت تجري حتى حملتها السفينة، مع مئات الباكين الراكضين الخائفين.
حين اكتشفت الوسادة بين يديها ضحكت ثم بكت ثم زغردت ثم بكت ثم رقصت ثم بكت، حتى احتضنها المنفى، وضاعت في شَتاته.
ما زالت أم الخير تبحث عن ابنها، وما زلت أبحث عنها وعن وسادتها، وما زلنا، هي وأنتم وأنا، نبحث عن عبق حيفا.
* * *
57 ـ حلوة زيدان
حين قتلوا زوجها أطلقت زغرودة طويلة.
وحين قتلوا ابنها ردّت بزغرودة ثانية.
وحين قتلوا زوج أختها وابن أختها وضرة أختها أشعلت فضاء القرية بالزغاريد.
وحين قتلوها...
زغردت جدران البيت في دير ياسين، وغنت أغنية الوداع الأخيرة:
زغردي... يا ام الجدايل...زغردي زيّني فخر الأصايل ...بالودَعْ
وازرعي الحِنّا على الصدر الندي واربطي العصبة على كل الوجَعْ
* * *
58 ـ فرحان السعدي
من قرية المزار إلى سجن عكا إلى سجن نور شمس إلى حيفا سجّل سطور حياته، واجه ظلم المستعمرين، قطف رؤوسهم التي أينعت من أزهار دمنا الخضيب:
- أأنت مذنب؟
- معاذ الله أن أكون مذنباً.
كان صائماً حين علّقوه على أرجوحة المجد، فروى باستشهاده أرواح كل الصائمين.
حكاية أخرى يرويها جدّي لأصغر أحفاده.
59 ـ عُشَّاق
لم يكن ثمة غير حسنة وغير الأرض في قلبه، تحمّل ظلم العشيرة وفقر الحال، غير أنه لم يتحمل ظلم الإنكليز، وها هي ذي البادية تشهد أنه واجهم بكل شجاعة،؛ وإذ ذاك خافت حسنة عليه، فقالت له:
"حَيِّدْ عن الجيشي يا غبيشي"
ولكن غبيشي ما حاد عن دربه، وبقي متمسكاً بكلتا حبيبتيه، ينظر بتحدٍّ إلى الأمام.
كم أخاف عليك يا حبيبي من رصاصة تباغت ظهرك المكشوف.
* * *
60 - تاريخ الأيدي
يد تزرع القمح والورد والحُبّ منذ فجر التاريخ، يد تعزف أصابعُها على الناي، يد تمسك يداً في حلقة الدبكة.
يد تطلق سبابتُها النار على البراءة مجزرة إثر مجزرة، يد تقتلع الشجر، يد تكمّ الكلمات الحرّة في أفواه الشعراء.
يدان تتضرعان ، يد ترفع سبابتَها قبل الشهادة، يد تشكل بأصبعين شارة النصر، يد ترفع فوق أسوار القدس علم فلسطين.
* * *
61 ـ حتمية تاريخية
مصادفة في شارعٍ باريسي أعجبته سُمرتُها اللافحة، وعيناها اللتان ترقبان المجهول، أعجبتها عيناه الخضراوان الغامضتان. دون مقدّمات اتفقا أن يلتقيا في التاسعة مساء، تحت قوس النصر، وقد أضمر كل منهما أن يعترف للآخر بصدمة الحبّ العاصف.
قبل خروجه للموعد تلا فصلاً من تلموده ثم وضع عطراً يليق بالمناسبة، بينما استذكرتْ قصيدةً لمحمود درويش، وهي تلبس شالها الأخضر.
في التاسعة تماماً كانا على الموعد، في المكان المحدّد، ولكنهما لم يلتقيا.. ولن يلتقيا أبداً.
* * *
62 - أحمد داود صيام
فجراً داهمت شرطة الاحتلال بيتاً مقدسياً، بحثت عن طفل في الثانية عشرة، وضعته في سيارة الجيب بلا رحمة، قال أحمد راجياً: "اتركوني اليوم فقط، لأن لديّ امتحاناً في المدرسة، عودوا غداً وسآتي معكم".
لم يسمع صرخته الجنود في سيارة الجيب، ولم يسيتقظ أحد من النائمين.
* * *
63 - سيرة
يحمل القتيل جثته نحو المقبرة
يسير معه القاتل مشيّعاً
يدسُّ القتيلُ جسده المضرّج في التراب
ثم يعودان
يجري القاتل هارباً، بينما يبحث القتيل عن دمه المسفوك.
* * *
64 - ربيع عربي
شجرة، قيل: إنها مباركة، نبتت في أرضنا مثل خبر عاجل، وإذ ذاك سال دم كثير، وهاجر الحمام من مآذن المساجد، وبكى الياسمين.
وحين خرج مارد أزرق العينين من الشجرة سأله صابر: وأين فلسطين؟
فتلا المارد عليه أحد مزاميره، ثم اختفى بين أوراقها الصفراء.
* * *
65 - خالد الجعبري
لم يبق له، بعد أن وقع أفراد أسرته بين مصاب ومعتقل، سوى أبيه، ولكن جنود الاحتلال في الخليل أرادوا أن يحرموه منه أيضاً، كان الجنود يدفعون الأب نحو سيارة الجيب، بينما يحاول خالد، بساعديه، وقوة سنواته الأربع، أن يمنعهم من اعتقاله.
لم يبق من تلك الحادثة سوى صورة طفل يجري وراء سيارة، وصرخة تشقّ القلب: "بابا"، راجيةً أن يصل صداها إلى شخص ما.
* * *
66 - لقاء أخير
اجتمعت غالية وحورية صغيرتين عند شيخ الكتّاب، صارتا صديقتين تجتمعان كل صباح.
فرقتهما النكبة ثم جمعهما مخيم البريج، فصارتا والدتين تجتمعان كل مساء.
مرة أخرى فرقتهما الحرب على غزة، وحين التقتا في الخيام أبت طائرة حربية إلا أن تجمعهما، للأبد، في مقبرة جماعية..
* * *
67 - إيهاب الوحيدي
"باب النجار مخلوع" هكذا تقول له أمه ضاحكة، حين تطلب منه أن يصورها مع زوجته. كان يبتسم ثم يذهب إلى عمله مصوراً لتلفزيون فلسطين في غزة.
تحقق طلب أمه، ذات قصف، بصاروخ أطلقه طيار إسرائيلي فحوله مع أمه وزوجته إلى صورة في تلفزيون فلسطين.
* * *
68 - أمل
بقي حمدان وصبحة ينتظران المولود عشر سنوات كاملة، وحين تحقق الحلم ذات غروب نحر حمدان ذبيحة وأطعم منها فقراء المخيم.
الحرب التي قامت أخيراً لم تكتف بهدم بيت حمدان وصبحة، بل سرقت، أيضاً، حلمهما قبل أن يكمل شهره الخامس.
إنهما ينتظران الآن حلماً آخر سيأتي ذات شروق.
* * *
69 - بيضاء مضرّجة
عندما وقعت المجزرة، تظاهرت يارا بالموت، فلم تصل إليها سواطير الإخوة والأعداء، حين انصرفوا، بعد ساعات من الرعب المطبق، بحثت عن أفراد عائلتها.
لم تفرح أبداً عندما وجدت الجميع حولها: أمها وأباها وجدتها وأخويها.. كانت قطتها البيضاء معهم أيضاً، مضرجة مثلهم، بالأرجوان.
* * *
70 - مناوشات
قال كبيرهم:
"اللي بيتجوَّز إمي بيصير عمي".
قال طفلٌ صغير:
"الثلم الأعوج من الثور الكبير".

* * *

71 – الظلال

اقتلعت الجرافة الإسرائيلية شجرة زيتون هرمة، أخذتها بعيداً عن جذورها، فانخلع قلب عشتار. غير أن الطمأنينة عادت إلى ذلك القلب برداً وسلاماً، بعد أن لاحظت أن ظل الشجرة الوارف لم يبرح المكان.

* * *

72_ شفاء

حين أصيب برصاص الأعداء على حدود الوطن، انفتحت جراحه على مصراعيها.. بقيت تؤلمه شهوراً عديدة من الانتظار الممض، ولم تندمل إلا حين أخبره الطبيب أنه يستطيع العودة من جديد إلى تلك الحدود.

* * *

73 ـ العجوز
إلى عدنان كنفاني
ظهره الذي ينوء بحمل خمسة وستين عاماً، من النفي التشرد، يبدو محنياً مثل قوس.
عندما عاد ابنه إليه شهيداً زغردت الأم، أما أبو العبد فقد انتصب ظهره مثل رمح.

* * *

74 ـ جمل المحامل
إلى ذكرى باشلار
راح يتأمل سلحفاة تسير أمامه ببطء، حين أخبره جدّه أنه أحضرها من بلاد بعيدة، أيام الحرب العالمية الأولى.
حزن الحفيد الذي ذاق الغربة من أجل السلحفاة المسكينة، فطمأنه الجدّ أنها لا تعرف الغربة أبداً، لأنها تحمل بيتها على ظهرها.
نام الطفل آملاً أن يستفيق وقد تحول إلى سلحفاة.

* * *

75 ـ احتشاد
تجمع حوله الخطباء، قرؤوا بين يديه أجمل القصائد التي تمجّد نزيفه.
أحس رغم ازدحام المكان أنه ما زال في عزلته.

* * *

76 ـ خديعة
تعهدوا بتدريبه كي يحرر الوطن، أعطوه، لأول مرة، سلاحاً فتاكاً، ثم أخذوه إلى ساحة التدريب حتى ينفذ رماية حقيقية. لم ينتبه المسكين أبداً إلى إخوته الموثقين هناك: في الجانب الآخر من حقل الرمي.

* * *

77 ـ الشافعي
حين فتح عينيه على الدنيا عانق سماء غزة، ودّعها مرتحلاً إلى أقطار الأرض، أنجدَ وأيمنَ وأعرقَ وأمصرَ، ولكنه كان، حين يخلو إلى نفسه، يردّد في لوعة:
وإني لمشتاقٌ..... إلى أرض غزّةٍ وإن خانني بعد التفرّق... كتماني
سقى الله أرضاً لو ظفرتُ بتربها كحَلْتُ به من شدّة الشوق أجفاني

* * *

78 ـ انتصار الدم
حمل كل منهما معولاً منطلقين يغذّان السير نحو الأرض.
كان الأول مشغولاً بحفرها كي يزرع شجرة جديدة
الآخر حمل معوله وانهال على رقبة الزارع فأسال دمه فوق جنين بذرة.
يهوذا هام باحثاً عن ضحية جديدة، دون أن ينتبه إلى شجرة خضراء راحت أغصانها تظلل الشهيد.

* * *

79 ـ ماجدة السلايمة
"إلى سمر صبيح وانتصار القاق وأميمة الآغا وسميحة حمدان، وأخريات...."
كانت تشبه مريم في نقاء سريرتها، ولكن المخاض لم يأتها إلى جذع النخلة، بل في ساحة السجن، وبعد أن أحاطت بها صديقات الأسر مشجعات أعلنت صرخة عن ولادة طفلة جديدة.
ـ ماذا ستسمينها؟
ـ فلسطين.

* * *

80 ـ المنفى

يولد، يكبر، يأخذه البحر من منفى إلى منفى.
رأى في حلمه أنه في لجة البحر، وبعد صراع مرير مع الأمواج العاتية يصل إليه أحد المنقذين المدربين، فيسأله: إلى أي شاطئ تريد الذهاب؟
يجيب في حلمه، كما في يقظته: بعيداً عن البحر، بعيداً عن الشاطئ.
* * *
81 ـ حُبّ.. وفيس بوك.. واحتلال

"ـ من أين أنتِ؟

ـ من رام الله.

أخيراً حقّق له الفيس بوك حلمه الجميل، خفق قلبه بشدّة، قال لها: سيضيء حبُّكِ ليلَ غزّة المظلم.

على غير العادة، فرحت أمّه، ورأت أحفادها يملؤون حوش الدار صخباً وحياة.. غير أنّ أمنيتها لم تتحقق:

كان معبر "إيريز" الذي يفصل الضفة عن غزة يقف للعاشقَين بالمرصاد.

* * *

82 ـ سرطان

وصل إلى الحاجز الإسرائيلي، كان عائداً من مستشفى في القدس إلى بيته في نابلس، بينما تفشّى المرض في خلايا جسمه بلا رحمة.

على حاجز ما أوقفوه ساعات، ثم تركوه في النزع الأخير يشق طريقه على قدميه نحو الحافلة.

على حاجز آخر لم يسمحوا لسيارة الأجرة التي يستقلّها بالعبور، فأوصى ابن عمّه بأولاده خيراً، ثم أسلم الروح، ووصل جسده إلى مقبرة المدينة المغتصبة..

ثمة سرَطَان آخر قَتَلَ تيسير القيسي..

* * *

83 ـ ولادة جديدة

لم يسمحوا لـ "وديان أبو رامي" أن تغادر قرية أبو ديس نحو مستشفى التوليد.

هناك على الحاجز قال لهم صوت مولودها: "إنا هنا باقون".

* * *

84 ـ أحلام غير مصفَّحة

إلى عبد الله المتّقي

حمام كثير يملأ سماء المخيّم، هديل أبيض يحجب عن المستظلين بالسلام وهج الشمس، على غير موعدٍ يزعق هدير أحمر، ويجرح الفولاذُ أجنحةَ الحمام، ثم يرتدّ حلمي خائباً.

* * *

85 ـ وجهان يبكيان

كان فارس يحبّ الموسيقى، يجمع حوله العصافير وأصدقاء المدرسة الابتدائية، ليغنّي معهم أغنية يتيمة كان قد أتقن عزفها، بينما تضع أمه الحَبّ والماء للعصافير، وتصنع عرائس الزعتر للأطفال.

ذات قَصْفٍ.. فقد أصدقاءه ويديه الصغيرتين، فتجمعت العصافير حوله، وحول أمه الدامعة، وهي تنشد لهما الأغنية ذاتها:
"الطفل في المغارة، وأمه مريم، وجهان يبكيان".
* * *

86 ـ الجريمة والعقاب
جلس تحت شجرتنا يتفيّأ ظلّها، فتح صندوقه المليء بالطعام والشراب والرصاص، وراح يلتهم ما لديه بشراهة؛ وإذ عبّ من زجاجات الماء لم ينتبه إلى أنّ شجرتنا التي تظلّه قد اصفرّت أوراقها، وهي تحتاج بضع قطرات.
بعد سنوات عجاف نفد ماءه وطعامه ورصاصه، فمات جوعاً وعطشاً، وعندما هطل الماء فوقهما بقي موشيه جثة هامدة مبللة، وأمّا الشجرة....
* * *

87 ـ تواطؤ
زارني محمد الدرة هذه الليلة، كان يحمل على كتفه حقيبة مدرسية خضراء، حاصره الرصاص من كل صوب؛ وإذ نجا بأعجوبة كان يحمل في قلبه جرحاً.
حاولت إنقاذه ولكنني استيقظت على صوت المنبه الصباحي.
ثلاثة اشتركوا في قتل صديقي: الجندي والكابوس وآلة الزمن.
* * *

88 ـ الحارس
أرهقني ظلّي، كان يتبعني من مكان إلى آخر، يقرأ قصصي، ويحصي أنفاسي، ويحاصر خلايا الروح.
عليّ أن أغافله حتّى أتمكّن من عبور النهر..
استيقظت قبل صلاة الفجر، ورحت أعبره نحو قريتي، وفي قلبي شوقُ خمسةٍ وستين عاماً من الغياب.
كان ينتظرني على الشاطئ الآخر، ويطلب مني بإشارة من مسدّسه أن أعود.
* * *

89 ـ يا دَمَهُ..

ـ "مات ميتة طبيعية".

هكذا قرّر أبو الجماجم حاسماً، وهو ينهر الطبيب الشرعي، طالباً منه الكفّ عن متابعة فحص الجثّة..

على شاهدة رخامية بيضاء، كتبوا: هنا يرقد الصحفي (س) الذي رفع قلمه في وجه الاستبداد والرشوة والفساد.

كان حفّار القبور مندهشاً وهو يرى الشواهد في صباح اليوم التالي وقد اصطبغت بالأحمر القاني.

* * *

90 ـ وفاء

زرع جدّي أرضه الواسعة زيتوناً وبرتقالاً وقمحاً، وحين طردوه منها ودّعها بنظرة حزينة.. بكت الأرض يومذاك، وخبّأت بين جوانحها سرّاً.

منذ ذلك اليوم لم يجنِ الغرباء من أرضه إلا الشّوك.

* * *

91 ـ رؤيا

حاصرها الجنود من كلّ صوب، ثم قيدوا يديها بالسلاسل.

حين سقط مضرجاً بدمه، بينما كان يدافع عن طهرها، رأى طيورا خضراء تحلق في سمائها.

أغمض عينيه باطمئنان، وغط في نوم هانئ.

* * *

92 ـ بِرْكَتَان

قبل أن يذهب يعالون في إجازته أوصى أحد جنوده بتعذيب طفل فلسطيني تم اعتقاله مؤخراً:

- اضربه بقسوة، كسّر عظامه، حتى لا يعود إلى رشق سيارات الجنود بالحجارة.

أخذ يعالون طفله وزوجته إلى المسبح، وكانت الأسرة تعيش أسعد لحظاتها.

حين ألقى الطفل نفسه سعيداً في بركة المسبح، كان ثمة طفل آخر يسبح في بركة دمائه.

* * *

93 ـ رَجُلُ البيت

أمه التي لم تخلع ثوبها الأسود منذ استشهاد زوجها، أخذت منه حقيبته المدرسية، ولفّت له عروسة زيت وزعتر، لينطلق إلى ورشة الخياطة القريبة.

حين عاد في المساء، وضع في يد أمه نقوداً قليلة معروقة، وعلى ضوء شمعة، راح يحضّر دروس الغد الذي سيشرق بعد ليل طويل.

* * *

94 ـ دعم لوجستي

حين قام يهوذا بقتل الطفل الفلسطيني الأول بعث له السيد الأبيض غراباً، يعلمه دفن الأموات، ولكنه تركه في العراء. 

وحين صار القتلى بعشرات الآلاف بعثَ له جرافاتٍ كثيرة تحفر في بطن الأرض حُفَراً ضخمة عميقة تليق بمجازره الرهيبة.

* * *

95 ـ الأُخُوّة

حملوا بنادقهم، اتجهوا صوبَ أرضهم المقدّسة. وعلى الحدود سمعوا صوتاً يصرخ بهم : قف.

لم يشعروا بأي خوف، بل زاد اطمئنانهم حين سمعوا كلمات عربية تبادلها حارس الحدود عبر اللاسلكي مع شخص آخر.

قال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟".

قالوا: "أخٌ كريم وابن أخ كريم".

ما زالوا حتى الآن ضيوفاً على السجن المركزي الشقيق.

* * *

96 ـ ورقة حمراء

في مدرسة الخليل الابتدائية رسم طفل على ورقة بيضاء ملعباً أخضر، وراح مسروراً يرسم أصدقاءه، وهم يلعبون كرة القدم، بينما رسم طفل آخر في مستوطنة كريات أربع طائرة حربية تشبه طائرة أبيه. 

فجأة غادرت الطائرةُ الورقةَ البيضاء وحوّلت ساحة الملعب رعباً أحمر، وراح الطفل الخليلي يلم أشلاء أصدقائه، بينما تخضبت يداه بدماء حارة.

* * *

97 ـ ديمة ودميتها

- "لقد أصبحتِ كبيرة، ويجب أن تفهمي كل شيء".

هكذا قالت ديمة لدميتها في ذلك المساء، ثم راحت تحدّثها عمّا يفعله الجنود في أرجاء الوطن.

في الصباح خرجت ديمة ودميتها في المظاهرات، فقابلهم الجنود بالرصاص المطاطي وقنابل الغاز. عند ذلك بكت الدمية التي تشترك أولَّ مرة في مظاهرات الكبار، غير أن أغنيات ديمة ودعواتها بقيت ترافقها حتى أطلت من بين دموعها ابتسامة تشبه مرجاً أخضر.

* * *

98 ـ مرج الزهور

أبعد الطُّغاة أربعمائة وخمسة عشر فلسطينياً؛ وإذ ذاك قرروا أن يرابطوا على حدود الحلم.. جعلوا مرج الزهور مخيّماً للعودة.. باتوا في العراء، يتحدّون الثلج والمطر، ملؤوا صدورهم بدفء فلسطين، حتى عادوا أخيراً. 

ثمة ملايين، وأنا منهم، ما زالوا يرابطون على حدود الحلم، وينتظرون.. وما بدّلوا تبديلاً.

* * *

99 ـ جدار

عِندَ بيتٍ على أطراف المخيم يلتقيان.. يتَّكئان على جدار حزين، يحكي لها عن بيتٍ ذي فسحة سماوية واسعة، وتحكي له عن طفلةٍ ذات ضفائر شقراء. فجأة أشعل مناحيم حرباً ذات لهب أحرقت الزرع والضرع والبشر والحجر. 

ولم يبق في زاوية المخيم غيرُ بيتٍ مهدّم، وجدارٍ يحمل تحت أنقاضه حلم عاشقين.

* * *

100 ـ مصير الأمواج

وقفتُ على شاطئ البحر، تأكلني أنياب الغربة، رأيت على بعد مئات الأمتار موجات عالية متلاطمة، لاحظت أنها كانت تضعف كلما اقتربت، وعند أقدام الشاطئ تلفظ أنفاسها.

تذكرت آنئذٍ موجة عاتية هبّت على شاطئ الوطن.