لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

دراسة: كيف تصبح ناقداً في خمسة أيام؟!

فشة خلق
كيف تصبح ناقداً في خممسة أيام
[1]؟!
رد على د. وليد السباعي

د. يوسف حطيني


كلما دق الكوز بالجرة انبرى ناقد من هنا أو هناك ليهاجم القصة القصيرة جداً، حتى صار يخيل إلي أن بعض النقاد لم يعد لديهم ما ينقدونه سواها، مما رسّخ إحساساً لدى الكتاب الذين لم يتخصصوا بعد أن أقرب طريق ليصبح المرء ناقداً، هو الانتقاص من القصة القصيرة جداً، والمتحمسين لها، ويكفي أن يحفظ مصطلحيين نقديين وشتيمتين بذيئتين ليكون من النقاد العظماء، ومثل هذا الهجوم المتواصل يرسخ لدى القارئ الكريم إحساساً بأن المتحمسين لها باتوا في مأزق حرج.
أنا أعتقد أن تقديم دراسات جادة في ميدان النقد التطبيقي للقصة القصيرة جداً أهم بكثير من الرد على الذين يناوشون هذا الفن عن يمينه وشماله، ولكن نفسي الأمارة بالسوء زينت لي الرد على ما جاء في مقالة الأستاذ د. وليد السباعي حول آرائي في القصة القصيرة جداً والتي حملت عنوان: " في محاولة للرد على كتابات الدكتور يوسف حطيني حول القصة القصيرة جداً وعند زكريا تامر: حقائق التبر والتراب، وكانت قد نشرت في الأسبوع الأدبي (ع787، تاريخ 8/12/2001). ذلك لأن هذه المقالة تضع أقدام الذين ينوون دخول ميدان النقد الأدبي على الدرجة العاشرة من السلم دون المرور بالدرجتين الأولى والثانية، حتى إن هذه المقالة اللطيفة يمكن أن تعد نموذجاً يحاذى للذين يريدون أن يصبحوا نقاداً عبر أقصر السبل.
1- منذ البداية يخبرنا الدكتور الفاضل أن ارتفاع سوية التحصيل النقدي لدى الباحث ضرورة قصوى، وقد تجلى ذلك في مقالته من خلال المصطلحات المعروفة على نطاق واسع في النقد الحديث، ومن خلال تعبيراته النقدية المناسبة من مثل "الابتذال" و"الفجور" و"شحط البوابيج".
2- كما يؤكد الدكتور المحترم في منهجه النقدي على ضرورة الغض من شأن الآخرين، والسخرية منهم، ويتجلى ذلك في الألفاظ الكثيرة التي يسوقها في مقالته على سبيل التهكم، وربما كان الأجدر به أن يدخل مع الآخرين في حوار جاد، وفي تقديري أن الجدية في الكتابة قادرة على الإقناع أكثر من قوله ساخراً "كلما نعل رجال الملك خيولهم مدت الخنفساء رجلها". وبدلاً من قوله في موضع آخر من مقالته القيمة ساخراً من الذين يلهثون وراء الحداثة و"التقليعات" التي تعدّ ق.ق.ج آخرها:"وإطلاق مثل هذه التقليعات تجعل النكرات والدغاميص ـ انظر فخامة المصطلح النقدي عزيزي القارئ ـ يبادرون فوراً إلى اعتناقها، بغية اكتساب الصفة الرفيعة دون اجتهاد".
3- يعلمنا أستاذنا وليد السباعي أن أقرب طريق لكسب ود القارئ هو كيل الاتهامات جزافاً للآخرين، وجعل كل ما يقومون به هو جزء من تقليعات المستعمرين والصهاينة (وللأمانة فإن مصطلح "تقليعات" النقدي هو من اختراع الناقد الحصيف، وحقوق الاقتباس محفوظة)، ناهيك عن خلط الأوراق بعضها ببعض، والجمع بين موضوعات نقدية لا علاقة بينها، كاستخدام العامية والغموض وموت المؤلف واحتضار الشعر في جملة واحدة، يقول السباعي:
"وابتدأنا بكتابة القصة القصيرة جداً، واليوم أراهم يكتبون الرواية القصيرة جداً، ناهيك عن الدعوات إلى الكتابة بالعامية، والهجات المحلية، والعبقرية في الغموض وموت الكاتب، واحتضار القصة والشعر، إلخ.... (...) والعجيب أن مصدري هذه التقليعات "الأساسيين" من الغرب وغرب الغرب هم اليهود حصراً دون سواهم."
ويبدو لي أن هذا المقتبس يلخص جانباً مهماً من التوجه النقدي لصاحب المقالة، فهو يخلط فيه الحابل بالنابل، إذ لا علاقة بين دعاة العامية من الأعراب،وبين رولان بارت الذي دعا إلى موت المؤلف، كما أن لا علاقة بين الحداثة الأدبية و(الصهاينة)، وهنا لابد لي من لإشارة إلى خطورة الإحساس بأن هؤلاء يسيطرون على كل شيء لأن مثل هذا الشعور غير الصحي يكرس حالة من العجز تجاه المشاريع الاستيطانية الاستعمارية، وغني عن القول أن هؤلاء الذين يروج الجاهلون لقدراتهم الخارقة لا يستطيعون، بكل وسائل قمعهم، وكل وسائل إغرائهم أيضاً أن يسقطوا حجراً من يد طفل صغير في فلسطين.
4- ويقوم منهج النقد السباعي الحديث على الافتراء، والاجتزاء، فهو يقول ببراءة مصطنعة: "ليس صحيحاً أن التفاصيل غير مهمة كما يقول د.حطيني" والغريب أنني حين عدت إلى مقالتي عن زكريا تامر، وهي المقالة التي اعتمدها السباعي أساساً للهجوم، لم أجد فيها هذا الكلام، فإذا كان هذا وارداً في مقالة أخرى، فإن الأمانة تقتضي أن يشار إلى ذلك بدقة، ونقل الكلام ضمن سياقه، دون اجتزائه، إذ ليس عاقل يمكن أن يقول "إن التفاصيل غير مهمة" إذا لم يكن يتحدث عن أمر لا يحتمل التفصيل فيه.
5- يقدم الدكتور السباعي نصيحة غالية، وهي أنك حين تحب أن تنقد القصة القصيرة جداً فإن من المناسب أن تختار نصاً تافهاً، فإن لم تجد فإنك تستطيع أن تكتب نصاً تافهاً بنفسك، حتى تبرهن على تفاهة ما يكتب جماعة القصة القصيرة جداً، فهو يقدم نصاً قصصياً (!) أقرؤه لأول مرة، ولا أدري حقيقة إذا كان الكاتب هو السباعي نفسه، أو أحد أولئك الذين شاء القدر لهم أن يكونوا عالة على القصة القصيرة جداً، تقول "القصة": "نهض وأمعن النظر من حوله،وحينما لم يجد ما يستحق الاحترام جلس ثانية مبرزاً عجيزته إلى الأعلى". وعلى الرغم من أنني لم أستوعب هذه الصورة "أن يجلس المرء مبرزاً عجيزته نحو الأعلى" فإنني أتساءل عن سر اختيار جميع الذين يهاجمون الـ ق.ق.ج نصوصاً سيئة للدلالة على تفاهة هذه القصص وسطحيتها، كما أتساءل: هل يمكن لي أن أختار نصاً شعرياً سيئاً لشاعر متخلف لأثبت أن الشعر ليس فناً أدبياً جديراً بالقراءة.
إن ما تعانيه القصة القصيرة جداً من ضعف ينطبق على كثير من الفنون الأدبية ولك أن تنزل إلى السوق، وأن تقرأ قصصاً وروايات وقصائد لا تساوي ثمن الأوراق التي سوّدتها.
6- وحتى يتكامل المنهج النقدي عند السباعي، فإنه يشترط الجهل بالحركة الأدبية والنقدية، فهو يجعل قصص زكريا تامر خواطر، وينزهها عن أن تكون قصصاً، على الرغم من أن زكريا جمعها مع مجموعة من القصص القصيرة في مجموعته "الحصرم" دون أن يشير إلى أن فيها أية خاطرة، كما أن المتتبع لظاهرة القصة القصيرة جداً في السبعينات، يدرك مدى تحمس زكريا لهذا النوع من الكتابة، وهو لم يسمه في مجموعته بالقصة القصيرة جداً، وهذا ما قلته في مقالتي التي نتفت ريشها وريشي، أما أن تجعل بضعاً وعشرين قصة في مجموعته مجرد خواطر، فإن هذا ينم عن ثقافة عالية جداً في فنون النثر الحكائي، والله المستعان"
وحتى يطمئن القارئ إلى حسن فهمنا أو سوئه لما قاله الدكتور الفاضل في هذا المجال، فإننا نورد قوله حرفياً: "إن ما أورده د. حطيني من قصص قصيرة جداً للكاتب زكريا تامر لم يشكل الأمثلة المناسبة لمقام القول وهي الحافلة بالتفاصيل، وإن زكريا تامر لم يقصد أبداً أن يكتب ق ق ج كما تمت ترجمتها من قبل بعضهم، ويحق لكاتب كبير مثله أن يكتب الخواطر".
7- وتتجلى آخر النصائح المجانية في منهجه النقدي من خلال التعميم الذي يفتقر إلى الخبرة، فالتعميم كما يعلم الباحثون من أخطر ما يواجه سلامة المنهج النقدي وتوازنه، فهو يعد القصة القصيرة جداً بعجرها وبجرها "مجرد فكرة مبتورة لم تستوف شروطها،تواري تقريريتها، ومباشرتها، واستعلاءها، ويلزمها الكثير من الجهد لتصبح مجرد خاطرة مقبولة". وبالتأكيد فإن القصة القصيرة جداً ستضرر كثيراً إذا اعتمدت على نصوص مثل نص "العجيزة المشرئبة" الذي أورده صاحبنا.
فإذا اتبعت عزيزي القارئ هذه الخطى يمكن بسهولة أن تصبح ناقداً من طرازٍ رفيع، في خمسة أيام، ودون معلم طبعاً.
ولا بد لي أخيراً أن أعتذر منك عن هذه السطور التي لا ترقى إلى مستوى المقالة النقدية، ولكنها "فشة خلق"، وكل تقديري واحترامي للأستاذ الدكتور وليد السباعي، وإلى محاورة أكثر جدية بيننا، وخلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية.
[1] جريدة الأسبوع الأدبي، العدد 802، 6/4/2002.