لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

دراسات تطبيقية في القصة القصيرة جداً (2)

اقتراف الكتابة في "الجرائم الشتوية"(*)

د. يوسف حطيني



تطرح مجموعة عماد نداف القصصية "جرائم شتوية" ثلّـة من الرؤى الإنسانية الشفافة التي تغص بها قصصه، ويستطيع القارئ أن يجد أمثلة عديدة للحس الإنساني الدافق لسرده القصصي في قصص "اللعبة"، و"الخجل"، و"جريمة شتوية"، و"العصافير الملونة" وفي قصة "الحقيبة" التي يفضخ فيها الإنسانُ المجتمع النفعي الاستهلاكي، بكثافة لغوية وشعورية لافتة:
"تجمّع الناس حول حقيبة ثمينة. صاح واحد منهم:
- لمن هذه الحقيبة؟
وتوالت أصوات أخرى:
- لمن هذه الحقيبة؟؟
- لمن هذه الحقيبة؟؟
ولم يلتفت أحد إلى رجل على الأرض وقد لطّخته الدماء" ص14.
ويلاحظ القارئ أن الخوف موضوع أساسي من موضوعات المجموعة، إذ يعيش الإنسان قلق إنسانيته، وقلق انتمائه.
* * *
من حيث الشكل تطرح قصص المجموعة أسئلة عديدة على النقد الأدبي، وعلى جدارة انتمائها إلى القصة القصيرة جداً، فقصة "الذئبان الخليغان" (ص ص 7-9) قصة جميلة، تقع في أكثر من صفحتين، وهي فيما أتصور أقرب إلى القصة القصيرة جداً منها إلى القصة القصيرة، وذلك بسبب تمحور الحكاية تمحوراً شديداً حول وحدة موضوعية واحدة، وتبئير الحوافز وهذا ما لم ينكره عماد، بل إنه واجهنا منذ البداية بالنسق الكتابي التالي: "إلى زكريا تامر.. نمورك في الذاكرة". ولكن الذي ينقص هذه القصة هو التكثيف؛ إذ كان يمكن للقاص أن يختصر عدداً كبيراً من الشخصيات الزائدة (كالكلب الثاني وأحد الحارسين والطبيب)، ولا أقول الشخصيات الناشزة عن بنية القص الرئيسة، ويعبّـر بسرد فعلي حكائي سريع عن الحوافز التالية:
· الذئبان يتنكران ككلبين.
· الذئبان يفقدان بعضاً من لوازمهما.
· الذئبان يصبحان كلبين حقيقيين.
· وثمة قصة أخرى عنوانها "البريء"، وهي تحتمل كثيراً من الحذف، ، وقد جربت أن أحذف السطور الثمانية الأولى منها، دون أن يؤدي ذلك إلى خلل ذي بال فيها.
ويخيل إلي أن التكثيف واحد من أهم المعوقات التي تواجه تجنيس القصة القصيرة، إذ إن قدرة الكاتب الإنشائية كثيراً ما تدعوه إلى استنفاذ نفسها أمام حكاية يسعى الجميع إلى تكثيفها، وربما يصدق هذا الكلام على بعض "الجرائم الشتوية" التي ارتكبها عماد، والتي قدمت لغة شعرية شاعرية ترهق النص بدلاً من أن تستخدم الشعرية الحكائية، وتخرج به عن جنس النثر الحكائي عموماً، كما نجد ذلك واضحاً في قصة "هدية رخيصة جداً" المثقلة بالعاطفة، المفتقرة إلى الحكاية، وفي قصة "رسالة" التي يقول فيها:
" حبيبتي!
اشتريت لك ثوباً كحلياً..
سأقدمه لك عندما أعود.. أنا الآن أمضي الليلة وحيداً أرقب النجوم..
اسمعي! هذه النجوم أستطيع أن أقطفها لك، وأرميها فوق ثوبك الكحلي، لكي تعرف النجوم أنك القمر!" ص16.
غير أن الشاعرية نفسها قد تكون محفّزاً للحكاية، إذ يقوم الحافز الحكائي نفسه على اللغة علىنحو ما نجد في قصة "مراهقة" التي يمكن أن نأخذ منها النسق التالي:
" في آخر مرة أمسكت يدُه يدَها، وبهدوء شديد، أخرج القلم من جيبه، ورسم على باطن كفها قلباً، فراحت تضحك مثل فتاة صغيرة.
أخذت القلم منه، ورسمت على باطن كفه سهماً…"ص10.
وينجح النداف في بعض قصصه القصيرة جداً، اعتماداً على النظام اللغوي السردي السريع الذي تتيحه الجملة الفعلية، في تكثيف الحدث إلى أقصاه، حيث تصب كل الدفقات الحدثية الصغرى، في الوحدة التي تعدّ ركناً لازماً لهذا النوع من النثر الحكائي. لنقرأ مثلاً النسق الفعلي التالي في قصة "العصافير الملونة"، وهو نسق يتحدث عن مغامرة طفل مع دبور:
"أمسك به ليداعبه، فقرصه الدبور في يده..
تورّمت يد الطفل كثيراً، وصارت تؤلمه" ص15.
ويفيد القاص من المفارقة في جميع نصوصه الناجحة التي تستحق الانتماء إلى هذا النوع الأدبي، على ألا يفهم من المفارقة أنها مجرد ثنائية ضدية بين حالتين، أو طرفة يضحك القارئ لها أو عليها، وتمكن الإشارة هنا إلى قصة "بيت الجدة" التي تنوس بين الماضي ورموزه العديدة كالفوانيس والقش الملون والسجاد من جهة، والحاضر وجدران الإسمنت والتلفزيون الملون والهاتف الذي لا يرن من جهة أخرى:
" بيت جدتي جميل جداً!
في غرفة الجلوس ساعة منبه كبيرة، وفي السقف فوانيس نحاسية…
على الجدار لوحة من القش الملون وسجادة صلاة نقشت عليها الكعبة الشريفة.. وعلى الجدار الثاني علقت صورة جدي الكبيرة، وهو ينظر إلى الأفق بعزة وكرامة لأنه شارك في طرد المستعمرين..
هناك صندوق مزخرف بالصدف.. هناك فاز قديم وسماور شاي نحاسي.. على النوافذ شناشيل.. عند المدخل.. في السقف..
الجدار الثالث.. الرابع.. الباب.. أرض الغرفة..
يا الله.. متحف! أما غرفة بيتي.. جدران من الإسمنت، وتلفزيون ملون مربوط بدش، وهاتف لا يرن أبداً" ص39.
ولعل نجاح هذه القصة يعود بشكل رئيس إلى قيامها على عدد كبير جداً من الثنائيات الضدية التي ترسخ الفرق بين الأليف والمعادي في المكان، وهي تختلف عن تلك المفارقات التي تفضي إلى الاختراق الفج للمنظومة الأخلاقية، وتصبح نوعاً من الطرفة المجانية، وثمة قصة بعنوان "عش وعصفور" تبلغ الغاية في ذلك النوع من المفارقة المجانية التي لا تكاد تثير إلا التعجب من أن كاتباً رقيقاً وذكياً مثل النداف لم يتنبه إليها.
ويذكر أن هناك عدد آخر من القصص تعاني حكايتها من التعثر، أو حتى من الغياب، على نحو ما نجد في قصة " لعبة عشاق" و"النجمة" و"النورس العاشق" وغيرها إذ تبهت الحكاية كثيراً، حتى لا تكاد تبين.
غير أن هناك أيضاً قصصاً ناجحة إلى حد بعيد من حيث الشكل، ولعل أكثر قصصه نجاحاً، من حيث تضافر اللغة والرؤية والتكثيف، هي قصة دمشق التي تقول:
"كان مسافراً في الأمصار البعيدة.. أحبوه، فتجمعوا حوله. ثم سألوه: كم تبعد الشام من هنا؟
فقال بثقة وسرعة:
- نحو ذراع!
ضحكوا وظنوه يمزح.. ثم قال قائل منهم:
- أنت تبالغ!
لكنه ألحّ قائلاً:
- أينما كنت أستطيع أن أضمها إلى صدري." ص13.
* * *
وأعتقد أن ثمة شبه إجماعٍ لدى كتاب القصة القصيرة جداً ونقادها، على قلتهم، على أن الجرأة لا تعدّ ركناً من الأركان، وإن كان وجودها يمنح النصّ حركة وحياة، وفي قصص النداف التي تستغني بشكل عام عن الجرأة، وتطرح الحس الإنساني بديلاً منها، يمكن أن نجد أمثلة قليلة لها، كما نجد في قصة "حزن الحمار" التي يقول فيها:
"الحمار كان متضايقاً جداً من صاحبه!
لم يتناول شيئاً من التبن الذي وضعه له أمامه، ولم يقترب من كومة قشر البطيخ التي رماها قربه بسخاء!!
كان صاحبه قد شتمه قائلاً:
امش جيداً أيها الخَنوع!
لم ترق كلمة الخَنوع للحمار، وكان يشاهد صاحبه، وهو يقدم الطاعة للشرطي، ويتوسله كل يوم!!" (ص17).
* * *
وإضافة إلى اللغة الشاعرية التي تميز سرد عماد النداف، فإنه يستخدم تقنيات أخرى لرفع سوية لغته كالإفادة من الأنسنة، إذ يستخدم الحيوانات والطيور والطبيعة والجمادات حوامل رمزية للفكرة، كالقبرة والعصفور والدبور والليل والمدينة والحجر وغيرها، ويمكن هنا أن نشير إلى قصة "الأم" التي تقول:
"بحث الحجر يوماً عن أمه.. تدحرج في كل الاتجاهات، فلم يجدها. بكى!.. ملأ الأرض بالدموع، وانزوى في حفرة صغيرة يندب حظه العاثر..
شعرت الأرض به.. حزنت عليه.. فاحتضنته!!
ومنذ ذلك اليوم، صار لكل شيء أم.. حتى الحجر!" ص27.
ويفيد عماد أيما إفادة من تقنيات التلوين، حيث تكتسب الألوان عنده دلالات رمزية متعددة، على ففي قصة "لون القلوب"، يقدم سياقات لفظية تعتمد على التضاد اللوني، كما نجد في قوله:
" هطلت الأمطار لدقائق..
كانت كثيفة.. شكلت سيولاً سريعة كان لونها أسود(…)
الرجل العجوز أبيض اللحية، ضحك بسخرية مرة، وقال:
- يجب أن ننتبه إلى لون قلوبنا عندما يغسلها المطر!" ص38.
وقد يفيد القاص في أحيان كثيرة من التجاورات غير المتوقعة بين الفنون، كالإفادة من اللوحة التشكيلية، وانخراط أجزاء اللوحة وعناصرها ونصها الكتابي بالحدث، على نحو ما نجد في نهاية قصة "أكروبات عاشقين":
" - ماذا يوجد في يدي؟!
- كلمة.. كلمة مكتوبة على باطن الكف..
- فتحت كفها.. حنا الاثنان رأسيهما فوق الكف المفتوحة.. وشاهدا عصافير كثيرة تتطاير فرحة في كل الاتجاهات!"
ملاحظة أخيرة يمكن أن أبديها بسرعة حول الملحق المسمى: "بيت صغير جداً" فأنا أعتقد جازماً أن القارئ سيعجب بهذا الملحق، لأسباب لا علاقة لها بالحكاية، فجميع النصوص الشفافة التي كتبها عماد في هذا الملحق لا تنتمي إلا القصة القصيرة جداً، على الرغم من أنها تضيء القلب باللوحات البديعة التي يشترك في رسمها والريشة والقلم وآلة التصوير الفوتوغرافية.


*عماد نداف: جرائم شتوية، قصص قصيرة جداً، 2000.