لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

دراسة: القصة القصيرة جداً مرة أخرى

القصة القصيرة جداً.. مرة أخرى[1]
رد على الأستاذ غسان شمّة

د. يوسف حطيني


إذا كنا، نحن النقاد، نستعرض عضلاتنا الثقافية أمام الآخرين، من خلال ذكر أسماء النقاد الأجانب، مثل رولان بارت ونورثروب فراي، وجيرار جينيت، فالأجدر بنا أن نباهي بمعرفة ناقد عربي متخصص نذر حياته للردح لفن القصة القصيرة جداً، وهو أستاذنا الجليل غسان شمة الذي تجاوز النظريات النقدية القديمة الحديثة، وقفز فوق التحليل النفسي والاجتماعي والإشاري والأسطوري للأدب مبتدعاً مدرسة جديدة في النقد هي مدرسة النقد الشتائمي الساخر.
سأنسى أن هذا الناقد درس مجموعتي القصصية "ذماء" في صحيفة الثورة بطريقته الفريدة، وسأنسى أنه اتهمني بالتسرع والاستسهال في قصص كتبت بين عامي 1987و2001، وسأنسى أنه أعطى عدة أمثلة عن القصص التي لم تعجبه، أما القصص التي أعجبته فلم يكتب منها كلمة واحدة.
غير أنني في مقابل ذلك لن أنسى ما نشره في صحيفة النور،ع4، تاريخ3/6/2001 تحت عنوان "قصة قصيرة جداً.. حدثت لجدتي" لأن القضية التي يثيرها في النور ليست الحكم على مجموعة قصص قصيرة جداً بل يناقش فيها النوع ذاته.
تبدأ هذه المقالة بـ"قصة قصيرة جداً" تجشم عناء كتابتها بنفسه، فأبدع فيها أيما إبداع. تقول القصة:
"مر أحد أساتذة اللغة العربية بجدتي وهي تخبز على التنور، فقال لها من فضلك أعطني رغيفين من الخبز، فردت عليه سريعاً، انتظرني أتوستين".
والفائدة الوحيدة التي يجنيها القارئ من هذه القصة، ومن المقالة برمتها، هي زيادة ثروته اللغوية إذ يعرف أن الأتوستين تساويان الدقيقتين في عرف صاحبنا وجدته، لأنه بعد ذلك يداهمنا بلغة تشبه قصته، ويحدثنا عن "البساطة التي تجعل المفارقة واقعاً ملفوظياً" وإذا فهمتم شيئاً أنجدونا، ثم يخالف متواضعاً أحد المنظرين لهذا الفن، وهو يقصد كاتب هذه السطور، لأن القصة بسيطة، بينما مطلوب منها أن تعالج القضايا الكبرى كالعولمة والانتماء ومواجهة الذات.
ألا يدرك المحترم الساخر أن القصة القصيرة جداً يمكن حقاً أن تعالج القضايا الكبرى، يمكن هنا أن أعرض له قصة سهلة، ليست مثل قصة براقش، لأن تلك القصة بحاجة إلى شيء من كد الذهن، واستدعاء الثقافة، وهو ما قد يسبب له الصداع، القصة بعنوان "عراق" للقاصة وفاء خرما ولا يجرؤ صاحب "الأتوستين" أن يذكرها للقارئ حتى لا يعجب بالقصة القصيرة جداً، على الرغم من أنها موجودة في الكتب التي اعتمد عليها أساساً لمهاجمة هذا الفن، تقول قصة "عراق":
"دخلا دارتهما في بغداد. صاح الزوج: سرقوا كيس الرز!
لطمت الزوجة خدها صارخة: بل سرقوا مصاغي… خبأت مصاغي في كيس الرز!
رن جرس الدارة، وقفت بالباب امرأة تمد يدها بصرة وهي تهمس في خجل: خذوا ذهبكم: أولادي جياع إلى الرز فقط"
وفي قصة حملت عنوان "تضامن" يقول علي صقر:
"بعد بروفات دموية على جسد محمد الدرة.. سمحوا بمسيرات تضامنية.
فخرجوا يصرخون:
نحن مع.. مـع.. مــاع.. مــ…ــاع.. مـ..ــ..ــ..ـاع."
هذه نماذج من كثير يشبهها، على الرغم من أستاذنا بحث عن الماء الزلال والثمار الشهية وكان سيقنع بالقليل، ولكنه لم يجد شيئاً، مما يوحي للقارئ أنه لن يجد قصة قصيرة جداً تستحق القراءة.
بشرفك ووجدانك أيها القارئ الكريم ألا تلامس هذه القصص أهم مشاكل الإنسان العربي في العصر الحديث، ثم ألا تستطيع أي كتابة مهما كان جنسها أن تتناول أي موضوع، وهل أصدر أحد ما قراراً يمنع القصة القصيرة جداً من معالجة القضايا الكبرى، لتهتم بالرغيفين والأتوستين؟
لن أدافع عن المشاركين في مجموعة "بروق" وهم عشرون قاصاً متحمساً لهذا الفن، ولن أزعم أن جميع القصص بالمستوى ذاته، فهذا صعب جداً، ولكن كل ما أتمناه أن يخاطب الناس عقولنا بدلاً من أن يشتمونا.
نعرف أن هناك قصصاً قصيرة جداً تعاني التفاهة والسطحية والركاكة، ولكن ألا توجد روايات ومسرحيات وقصائد تعاني الأمر ذاته؟ إن التفاهة والسطحية والركاكة تتعلق بإمكانات الكاتب لا بالنوع الأدبي الذي يكتب فيه. وهنا لا أصر على أن ما أكتبه نفيس وقيم، ولكن ثمة بالتأكيد من يكتب نصاً جيداً ينتمي إلى هذا النوع.
والقصة القصيرة جداً لا لن يفيدها حماس يوسف حطيني أو أحمد جاسم الحسين ولن يضرها هجوم هذا الناقد أو غيره، لأنها مرهونة فقط بالنصوص الجيدة التي تستطيع أن ترفع من شأنها.
ولسنا في عجلة من أمرنا لأن الزمن كفيل بغربلة كل ما هو تافه وسطحي، كما أنه كفيل باصطفاء كل ما هو نقي وإنساني وفني، حتى وإن كان قصة قصيرة جداً. هذا إذا نجت القصة القصيرة جداً من كتاب مثل صاحبنا الذي يستطيع أن يكتب خمس قصص في "الأتوسة" الواحدة.
[1] هذا رد على مقالة للأستاذ غسان شمة: (قصة قصيرة جداً.. حدثت لجدتي)، صحيفة النور، دمشق، ،ع4، تاريخ3/6/2001.