لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

دراسة: كتاب القصة القصيرة جداً ورحلة الواقع والطموح

كتاب القصة القصيرة جداً
ورحلة الواقع والطموح
[1]
د. يوسف حطيني



كتاب جديد للأستاذ أحمد جاسم الحسين بعنوان (القصة القصيرة جداً) وهو الكتاب الخامس الذي أصدره بعد كتاب في التحقيق هو (حقوق الجار للذهبي). ومجموعتين قصصيتين قصيرتين (لو كنت مسؤولاً- صهيل الذكريات) ومجموعة قصص قصيرة جداً بعنوان (همهمات ذاكرة).
وتتوزع صفحات هذا الكتاب على ثلاثة أقسام رئيسية، يتناول القسم الأول نظرية القصة القصيرة جداً ويقدم القسم الثاني قراءة تحليلية في مجموعة (أحلام عامل المطبعة) لمروان المصري، بينما يستعرض القسم الثالث تاريخ هذا الفن الأدبي الجديد.
هذا بالإضافة إلى بعض الملحقات الأخرى كالإهداء والمقدمة والنتائج وبعض المختارات.
ولأن هذا الكتاب يعد باكورة الأعمال النقدية التي تناولت هذا الفن فإنه من المناسب أن يتم استعراض محتوياته بشيء من التفصيل.
أولاً- في نظرية القصة القصيرة جداً:
في هذا الإطار يبدأ الكاتب بتقديم رؤيته للكتابة والذائقة والتلقي ثم يبين سبب استخدام هذا المصطلح (ق.ق. جداً) عن سائر المصطلحات الأخرى مثل (القصة اللقطة) و(القصة الجديدة) و(القصة الكبسولة) و(القصة الشعر)، ثم يسعى إلى تحليل أسباب تعدد المصطلحات ويقرأ مفاهيمها دون أن ينسى التأكيد على استقلالية القصة القصيرة جداً، ولكنه لا يرفض العلاقة المتبادلة مع الفنون الأخرى.
ثم ينتقل الكاتب إلى بنية (ق.ق. جداً) ويميز منذ البداية بين الأركان والعناصر؛ فالركن لا غنى عنه في كل قصة قصيرة جداً أما التقنيات فيمكن أن يظهر بعضها ويختفي بعضها الآخر كما يمكن أن تتحول التقنية عبر التركيز عليها إلى ركن من الأركان.
ويفترض الكاتب أن الـ (ق.ق. جداً) تتألف من أربعة أركان هي القصصية والجرأة ووحدة الموضوع والتكثيف، والقصصية تتضمن عنده عناصر القص المختلفة كالشخصيات والحدث والحوار والجرأة وحين يبدأ الناقد الحديث عن التقنيات يقرر منذ البداية أنها ليست وصفة يكتسب النص من خلالها شرعيته، ويربط بنباهة بين الشكل والمضمون ويرى أن التقنيات في (ق.ق. جداً) تتلخص في:
- اللغة المكثفة التي تطال الانزياح اللغوي والفكري والموضوعي.
- المفارقة القائمة على التضاد والموازنات والمقارنات.
- التناص الذي تبقى خدمته الجليلة مرتبطة بثقافة المتلقي.
- الترميز الذي ينبغي أن يترك عدداً من المفاتيح للقارئ، هذه المفاتيح التي يجب ألا تصبح أكثر من المرموزات حتى لا يقع النص في المباشرة.
- استخدام الحيوان استخداماً يشي باغتراب الإنسان عن ذاته وعن الآخرين.
- الإفادة من السخرية وتمتين علاقتها مع الجرأة.
- خصوصية البداية المشوقة والنهاية المدهشة.
ثم ينتقل الناقد ليتحدث عن خصائص القصة القصيرة جداً فيراها تنحصر في الطرافة والإدهاش وعمق الأثر والإيقاع القصصي. ثم يتحدث عن مقومات القصة وهمومها، من فهم خاطئ للجرأة إلى واقعية فوتوغرافية يقع فيها الكتاب، إلى رموز متوالية تحول النص إلى طلاسم.

ثانياً- القراءة التحليلية لمجموعة (أحلام عامل المطبعة)
في هذا القسم يقدم الناقد قراءة تحليلية لهذه المجموعة من القصص القصيرة جداً، ويبدأ من المضمون الذي يخلق شكله في محاولة دائبة لربط الشكل والمضمون ثم يتحدث عن جرأة الكاتب في مواجهة القمع والفساد.
وبعد استعرض أهم السمات التي طرحها الكاتب، يحاول الناقد أن يغوص في بنية القصة القصيرة جداً ويؤكد منذ البداية أهمية الحكاية، إذ إن "أي إبحار خارج الحكاية هو موت للقص" ص 73- ويبين مدى التزام الكاتب بهذه الحكائية على الرغم من التفاوت في طول القصص، ثم يستعرض شكلي تقديم الحدث الرئيسين في المجموعة إذ تقدم بعض القصص بينة دائرية للحدث (مثل قصة تجربة) ويقدم بعضها الآخر بنية سهمية.
1- تجربة: "فتح باب القفص، فارتعش العصفور، وخرج للتحري، بعد بضع جولات جاع، فبحث عن قفصه".
ويرصد الكاتب بعد ذلك تنامي العناصر والأحداث والحوار والوصف، ويبدي إعجابه بوحدة الموضوع العام ويستعرض التناص وأنسنة الحيوانات والأشياء ويكتشف الثنائيات الضدية في تجلياتها المختلفة: المستغِلّ والمستغَلّ، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم عليه.. ثم ينتقل الناقد ليتناول ما يسميه بالملحقات الطباعية، فيدرس العناوين وتنوعها مفردات وتراكيب وصيغاً صرفية، ويربط عنوان المجموعة بعناوين القصص وأحلام شخصياتها، كما يدرس الإهداء والرسوم وعلامات الترقيم…
ثالثاً- في تاريخ القصة القصيرة جداً:
يستعرض الكاتب في هذا القسم ظروف نشأة القصة القصيرة جداً: تاريخياً وثقافياً واجتماعياً وسياسياً وتقنياً، ثم يؤرخ للقصة القصيرة جداً عالمياً وعربياً ومحلياً ويشير إلى ترتيب ظهور مجموعات قصصية تحتوي بعض القصص القصيرة جداً (الدهشة في العيون القاسية 1972 لابراهيم الأحمد- دار المنفى، 1974) وأشار إلى مجموعة نبيل جديد (الرقص فوق الأسطحة) التي تعد أول مجموعة تختص بالقصة القصيرة جداً، ثم ينهي الناقد بحثه بمجموعة من الاستنتاجات التي تلخص ما وصلت إليه هذه الدراسة.
حول المصطلح:
لا نختلف مع الناقد في أن مصطلح (القصة القصيرة جداً) هو أكثر المصطلحات دقة وتعبيراً عن حدود هذه القصة وأركانها وتقنياتها، وهو مصطلح يمنحها الخصوصية دون أن ينزع عن جلدها عباءة القص، غير أن ثمة مصطلحات أخرى تثير بعض الملاحظات:
· حين يتحدث الناقد عن الانزياح يذكر نوعين للانزياح (غير الانزياح الفكري الذي يطابق المصطلح) وهما مصطلحا الانزياح الفكري والموضوعاتي. ولنا أن نتساءل لماذا لا يستخدم مصطلحاً غير ملتبس؟
· الناقد يستخدم مصطلح (القصصية) بوصفها ركناً من أركان (ق.ق. جداً) وهو يريد به الحكاية ولا يريد القص، وأتساءل هنا أيضاً أليس الأفضل أن يستخدم (الحكائية) هنا ولا سيما أنه يستخدم مصطلح الحكائية بشكل أقل وللمعنى ذاته.
· يستخدم مصطلح (الملحقات القصصية) للإشارة إلى دراسة الرسوم والعناوين ولوحة الغلاف والإهداء… إلخ، وهو لا يفيد من مصطلح موجود أساساً هو (الفضاء الطباعي) الذي يدرس إضافة لما درسه الناقد الهوامش وبياضات الصفحة والفهارس وشكل الكتابة وسمك الكتاب… إلخ.
· الناقد يستخدم مصطلحاً واحداً في موقعين متخالفين، فالإدهاش مثلاً من خصائص القصة القصيرة، وهو من شروط القفلة القصصية الناجحة! أليست القفلة من القصة القصيرة جداً وكلمة الإدهاش الأولى ألا تتضمن الثانية بالضرورة.
· الناقد يرهق القارئ أحياناً بالتمييز بين مصطلحات لا تبدو بعيدة عن بعضها بعضاً كالفصل بين التقنيات والخصائص، وبين العوائق والهموم.
· ثمة ملاحظات أخرى عامة يمكن أن يشار إليها فيما يلي:
· هناك كثير من التكرار خاصة فيما يتعلق بالقص والتكثيف وتواشج العلاقة بين الأركان والتقنيات.
· الكاتب يبدو جريئاً في مغامرته النقدية من أساسها، وفي كثير من صفحات الكتاب، يفتقد هذه الجرأة أحياناً فيلجأ إلى صياغة خاصة، مستخدماً ربما ولعل… ومن ذلك قوله عن الرموز "ويمكن أن تترك عدداً من المفاتيح في النص تسمح لمتلقيه بفك شيفرات الرمز) ص 45.
ترى أليس من الأجدى أن يقول (ولا بد أن تترك الرموز عدداً من المفاتيح… إلخ).
· حين يتحدث الكاتب عن الإيقاع القصصي لا يتقصى مظاهره وتجلياته في (ق.ق. جداً) ولا ينطلق من معنى الإيقاع بوصفه مصطلحاً نقدياً.
· حين يتحدث عن نشأة القصة القصيرة يستعرض الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتقنية، وله كل الحق في ذلك ولكن كان ينبغي البحث عن روابط أكثر عمقاً بين هذه الظروف وبين نشأة القصة القصيرة جداً.
· في خمسة أسطر وكلمتين يتحدث الناقد عن نشأة القصة القصيرة جداً عالمياً ويذكر كافكا وغرييه، وولف وناتالي ساروت، فهل هذا الاستعراض كاف؟
عل أن كل ما تقدم من ملاحظات لا يقلل من قيمة الكتاب وحسب صاحبه رفعة أنه جرؤ ودخل هذا الميدان وهو يحمل آماله وطموحاته وشجاعته ولكن الذي يميز هذه البداية أنها ستشكل بالتأكيد معلماً من معالم الطريق إلى هذا الفن الأدبي الجميل: فن القصة القصيرة جدا.
[1] جريدة البعث 7/ 5/ 1998.