لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

دراسات تطبيقية في القصة القصيرة جداً (1)

"همهمات ذاكرة"
والبحث عن هوية
[1]
د. يوسف حطيني

تكبر مسؤولية الأديب حين يتعامل مع فن أدبي يسعى إلى ترسيخ دعائمه في الساحة الأدبية، لأنه يضع نفسه إذ ذاك أمام مهمتين صعبتين: الأولى تتجلى في الإخلاص لأدبية الأدب، والثانية في رسم ملامح الجنس الأدبي من أجل التأكيد على سماته المميزة، مما يجعل النص امتحاناً، ليس في مواجهة الإبداع التأليفي، بل في مواجهة الإبداع النقدي أيضاً.
من هنا فإن المسؤولية التي ألقاها الباحث أحمد جاسم الحسين على عاتقه في مجموعته (همهات ذاكرة) كبيرة جداً.. فالمجموعة تتألف من أربع وخمسين قصة قصيرة جداً، تقع كل واحدة منها في أغلب الأحيان، في صفحة واحدة من القطع الصغير، وهو بذلك يحاول الإمساك بزمام هذا الفن الأدبي الذي لم يتلامح بعد بالشكل الذي يرضى عنه المتزمتون، لذلك فهو يشتغل تأليفاً ونقداً في هذا الميدان الذي أثمر هذه المجموعة، وكتاباً بكراً في النقد بعنوان: (القصة القصيرة جداً)- دمشق- دار الفكر- 1997.
يحاول الكاتب في مجموعته القصصية هذه أن يؤكد انتماء القصة القصيرة جداً لجنس النثر الحكائي عموماً عبر خصيصة الحكائية، إذ يقيم الحبكة على بنية لغوية تفيد من التتابع، ومن السببية إلى حد كبير، وصولاً إلى نهايتها التي تأتي تتويجاً لما سبق، من خلال جمل كثيفة مركزة، ويبدو ذلك منذ قصته الأولى التي تحمل عنوان دعوة: "دعا الديك الدجاجات إلى المائدة التي أعدتها صاحبة البيت.. صفهن بانتظام أمرهن ألا يأكلن إلا بعد أن يشبع اقتربت منه صاحبة المنزل، والسكين في يدها..
لم يأبه بها
عندما حاولت ذبحه ذكرها أنها أنثى"- ص7.
والكاتب هنا يقدم باطمئنان بالغ عدة شخصيات، تبدو حاضرة على جميع المستويات، فعلى صعيد الشخصية الفاعلة يظهر الديك شخصية رئيسية في مواجهة شخصية فاعلة أخرى هي شخصية صاحبة البيت التي تبدو ثانوية بالقياس له في سلم التراتب الاجتماعي. وبذلك تنضاف المرأة إلى (عموم الإناث) إلى جانب الدجاجات التي لا تفضلها المرأة سوى كونها تتكلم، مما يعني أن هناك ثلاثة مستويات للشخصية: الرئيسة والثانوية والعابرة.
ويفيد الكاتب في قصصه من إمكانات التشخيص كافة من وصف وحوار ونجوى، بالقدر الذي يسمح به التكثيف المطلوب في القصة القصيرة جداً، وفي قصة (عناد) مثال يبين مدى الإفادة من الحوار في رسم ملامح الشخصيات.. وهذا مقطع منها:
"صاح رئيس المخفر: سأربي فيكما كل من لم يترب
- هل تدعي عليه يا أمجد؟
- طبعاً يا سيدي، لقد شتمني وضربني ومد يده إلى خصره.
- آه.. قلت مد يده إلى خصره فهمت.. هيا أخرج المسدس" ص 50.
وإمعاناً من الكاتب في تأكيد حكائية هذا النوع الأدبي، فإنه يحاول أن يفيد من البدايات والنهايات، فالبداية عنده مدهشة طريفة تضع القارئ في قلب الحدث مباشرة، أو تضعه في التأطير الزمني والمكاني، مستنفذاً طاقة الجملة الفعلية من أجل ترسيخ مفهوم الفعل الذي يقوم عليه الحدث.. ولعل من أكثر بدايات قصصه نجاحاً قصة (مغامر) التي تتضمن جميع عناصر القصة القصيرة جداً بتكثيف بالغ، فالجملة الأولى البداية تثير الفضول لمزيد من القراءة.. وسرعة السرد تنقل القارئ إلى النهاية: "عن على بال الحذاء أن يغير مكانه، فطار إلى رؤوس الناس، وجدها محشوة بالتفاهة والقمل. عاد إلى قواعده سالماً".
وقد يختار الكاتب لقصصه بدايات مكانية.. ولكن الفعل يأبى إلا أن يحضر عبر السرد، فالفعل كما يبدو لي أساس البناء اللغوي للقصة القصيرة جداً وهو نتيجة ضرورية لازمة للتكثيف الذي يفترضه هذا النوع الأدبي، وفي قصة "بوح" يظهر جمال البداية المكانية التي سرعان ما تنسحب على القصة كلها: "في حديقة تشرين التي تمتد من ساحة الأمويين إلى قصر تشرين جلسنا على مقعد خشبي قديم، كانت الأشجار كثيرة، والبشر قليلين، وقاسيون شامخاً، بدأت بالبوح لها، وهو ما أحاوله منذ سنتين في حديقة كلية الآداب الضيقة". ص 15.
فإذا انتبهنا باهتمام إلى النهايات أمكننا أن نلاحظ مدى التوفيق الذي لازم معظم قصص المجموعة.. ولعل قصة شكوى تعبر عن هذا الأمر.. فالجملة الأخيرة تشف عن رؤية إنسانية بالغة الحساسية وتفتح القصة برمتها على إمكانات الدلالة: "اشتكى الكابوس لأخيه الحلم من كثرة النائمين، وملله من زيادتهم، بادله الحلم الشكوى قائلاً: قليلون الذين يستقبلونني مع أنني أقدم لهم أجمل الأمنيات!
في الليل كان الناس يتزاحمون على أبواب الكابوس ليحجزوا دوراً، فيما باب الحلم على الأرصفة بمحاذاة الشوارع" ص 37.
أما فيما يتعلق بعناوين هذه القصص، فيبدو أن قَدَر العنوان في القصة القصيرة جداً أن يكون اسماً، بشكل غالب، إذ إن معظم هذه القصص يغلب على عناوينها الطابع الاسمي الذي غالباً ما يتألف من كلمة واحدة، وهذه ملاحظة تصدق على معظم ما كتب في القصة القصيرة جداً، وليس ما كتبه أحمد الحسين فقط.. ولنقرأ بعض عناوين قصص مجموعته: "دعوة- بحث- حب- طموح- مغامر- سؤال- شكوى- دمعة- إحراج). وهنا نكتشف أن قدر العنوان في القصة القصيرة جداً يعاكس قدر البنية اللغوية التركيبية لبناء حكايتها.
وإذا كان معظم ما كتب في هذه المجموعة ينتمي بحق إلى هذا الفن الجميل، فإن ثمة قصصاً تطرح بعض الأسئلة حول إمكانية وضعها في هذا الإطار، وربما كانت قصة (بصراحة) أكثر قصص المجموعة إعلاناً عن الخروج على شكل القصة القصيرة جداً، وهي تتألف من ثلاثة وعشرين سطراً، تتزاحم فيها القصص فوق بعضها، وكان بإمكان القاص أن يجتزئ منها سطرين، ليقدم لنا قصة من أكثر قصصه تماسكاً وطرافة ودلالة: "رجل طويل عريض يلبس طقماً متميزاً قال لصاحب مكتبة (الكتاب الذهبي): خزانتي قياسها 30 في40 أريد خمسين كتاباً" ص 27.
ويلجأ القاص من أجل بناء رؤيته السياسية والاجتماعية إلى كل الإمكانات التي يتيحها النثر الحكائي مستخدماً لغة خاصة به تنزاح أحياناً عن معناها المعجمي. فقصة (أهلاً) -مثلاً- تمتاز بكثير من الطرافة والإدهاش، وكذلك قصة (مغامر) التي سبقت الإشارة إليها، كما يعتمد القاص على الترميز والتناص والاقتباس والمفارقة التي يمكن التعامل معها على المستويات كافة.. وتقوم عنده المفارقة أساساً على الثنائيات الضدية، كما يبدو ذلك بشكل خاص في قصة (بوح) وفي قصة (بيت) إذ يفيد من التضاد المكاني في تعميق فكرته وترسيخها في قصة (بيت) نقرأ: "في بيتنا العربي القديم في باب سريجة الذي نذهب إليه كل يوم جمعة.. أمي تسلم على الجارات كلهن وتكثر الزيارات، وألعب مع أولاد الحارة.. في (فيلتنا) في المزة التي نعيش فيها أكثر أيام الأسبوع لا أحد يزورنا، لا أحد يسلم علينا، لا أولاد ألعب معهم" ولا يبرز هذا التضاد على مستوى المكان فحسب، بل على مستوى الزمن والحدث والبناء اللغوي إثباتاً ونفياً:
البيت
الزيارة الأسبوعية
أمي تسلم على الجارات
تكثر الزيارات
ألعب مع الأولاد
الفيلا
كل يوم تقريباً
لا أحد يسلم علينا
لا أحد يزورنا
لا أولاد ألعب معهم
ومن خلال هذه الثنائيات يقدم القاص نظرته للريف والمدينة، والماضي والحاضر، والمغلق والمفتوح، والمباح وغير المباح.. إلخ.
ومثلما تفيد القصة القصيرة والرواية من أنسنة الحيوانات والأشياء، فإن القصة القصيرة جداً على يد أحمد جاسم الحسين تفيد أيضاً من هذه الإمكانات الدلالية ولكنها حين تحضر لا تكون جزءاً من نسيج السرد كما يغلب أن يحدث في الأنواع الأدبية الأخرى للنثر الحكائي، بل تشكل منطق السرد برمته، اعتماداً على التكثيف الذي لا يتيح التعامل مع الأجزاء الصغيرة إلا بوصفها واحدات تامة مستقلة.. ومن ذلك قصة (بحث): "انسلت قطرة ماء عن صديقاتها قائلة لقد تعبت من المشي الطويل! دفنت رأسها في التراب، نامت.. استيقظت.. بحثت عن نفسها فلم تجدها" ص8.
وإذا كانت قطرة الماء التي دفنت رأسها في التراب عجزت عن إيجاد نفسها فإن أحمد جاسم الحسين سيجد نفسه بالتأكيد في كتابة القصة عبر بناء صوته الخاص؛ لأنه لم ينم ولم يدفن رأسه في التراب!
[1] جريدة تشرين15/9/1999.