لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

القصة القصيرة جداً في العالم
الملتقى الثالث نموذجاً

د. يوسف حطيني



ما إن انتهى الملتقى الثالث للقصة القصيرة جداً حتى تتابعت الآراء التي تنعى هذا الملتقى، وتقلّل من شأن التجربة، وتعوِّل في هذا الفشل الذريع له على رداءة النصوص التي ألقيت فيه. وإذا كانت هناك رداءة في كثير من النصوص، فإن هذا لا يعني أن الملتقى خلا من نصوص جيدة، مثلما أن الرداءة ذاتها التي يعانيها الشعر الحديث في كثرته الكاثرة لم تعن هزيمة للشعراء المبدعين، ولم تمنعهم من بناء عرش الشعر السامق.
والحقِّ أن القصة القصيرة جداً تحتاج إلى الكثير من النصوص الجيدة كونها تسعى إلى إثبات هويتها التي ما تزال تبحث عنها.
ثم إن هذه الرداءة التي يتكئ بعضهم عليها في استباق وأد التجربة لم تكن صبغة الملتقى الأساسية، لأنًّ هناك – إضافة إلى النصوص الجيدة - تجربتين مهمتين قدمهما الملتقى، تتعلق الأولى بالنظرة النقدية للقصة القصيرة جداً (نظرياً وتطبيقياً)، وقد شارك فيها كلٌّ من الدكتور سمر روحي الفيصل، والدكتور عبد الله أبو هيف والأستاذ باسم عبدو .
أما التجربة الثانية فهي القراءات التي قدمهما أربعة من المترجمين للقصة القصيرة جداً في العالم، وهذا بالضبط ما ستتعرض له هذه الدراسة.
في الأمسية الثالثة من أمسيات الملتقى الثالث للقصة القصيرة جداً الذي عقد في شهر آب (أغسطس) 2002 قدّم أربعة من المترجمين عدداً غير قليل من القصص القصيرة جداً لكتاب من روسيا وتركيا وبلغاريا، وهؤلاء المترجمون هم: ميخائيل عيد وعدنان جاموس وجمال دورمش ونبيل المجلّي. أما الكتاب الذين تمت الترجمة لبعض قصصهم فهم: تشيخوف وتورغينيف وكريفين غورونتس وكورانوف وبيريستوف وأركانوف من روسيا، وبيلين وكونستانتينوف من بلغاريا، وناظم حكمت وعزيز نيسين وغيرهما من تركيا.
وقد تجلت الروح الإنسانية في القصص التي ألقيت، إذ حملت نبل الفقراء، وأحلامهم وآلامهم، كما عبرت عن آمال المستضعفين، ولعلنا نشير هنا إلى قصة "اختيار مهنة" للكاتب الروسي (ف. كريفين) وقد قام بترجمتها نبيل المجلي، إذ تقدّم حلم الفأر في أن يتجاوز دور الفريسة، بالتبادل مع القطة التي تنتظر اللحظة التي تلعب فيها دور المفترس على مسرح الحياة، ويعود نجاح هذه القصة في جزء كبير منه إلى عدم ظهور هاتين الشخصيتين المتناقضتين منذ اللحظات الأولى إلا عبر آثارهما التي تلازمهما، فالبؤبؤان النجميان رمز للقطة، أما الخشخشة فهي رمز للفأر، وهذا ما توضحه الأنساق التالية للرمزين المذكورين، تقول القصة:
"كان هدوء..
كان ظلام..
في الظلام، أضاء من خلال النافذة
بؤبؤان أصفران نجميان
في الهدوء وراء النافذة اختبأت خشخشة ما.
قالت الفأرة: حين سأكبر سأصبح بالتأكيد قطة."
وواضح أنَّ الكاتب يستفيد أيضاً من النهاية الحاسمة التي جاءت من خلال الكلمة الأخيرة / قطة، فقد تزامنت النهاية الحدثية مع النهاية اللغوية على نحو دقيق.
ولعلّ الميزة الأخرى التي ميّزت تلك الأمسية إدراك هؤلاء الكتاب الكبار لدور الحكائية في القصة، وعدم قيام القصة دونها، وتمكن الإشارة إلى قصة "شحاذ" لإيفان تورغينيف (1818 – 1883) التي ترجمها عدنان جاموس، إذ يحشد مجموعة كبيرة من الجمل الفعلية، ولكنه لا يستعجل الحدث ولا يختصر الوصف، مثلما يفعل كتاب القصة القصيرة جداً في بلادنا، ما يطرح سؤالاً نستمدّه من هذا الكاتب العظيم، وهو: إلى أيّ مدى يمكن أن نستخدم الوصف ونتمهل في طرح الحدث دون أن نضيّع هوية هذا النوع الأدبي الذي نسعى إلى ترسيخ جدارته الأدبية. يقول تورغينيف في هذه القصة التي سمّاها نثريات شعرية، بينما سمّها النقاد أقاصيص منمنمة:
"كنت ماشياً في الشارع، أوقفني شحاذ عجوز هرم. عينان ملتهبتان من المرض ودامعتان.. شفتان مزرقتان، وأسمال خشنة، وجراح ملوثة..
لكم شوّه الفقر القاسي هذا المخلوق البائس!
مدّ إلي يداً حمراء، وسخة.. كان يئنُّ.. ويجمجم طالباً العون. أخذت أعيِّث في جميع جيوبي: لا حافظة نقود، ولا ساعة، ولا حتى منديل، لم آخذ معي أي شيء.
والشحاذ كان ينتظر.. ويده الممدودة تهتزّ بوهن وترتجف.. حرتُ وارتبكتُ، ثمّ شددت على هذه اليد الوسخة المرتعشة: (لا تؤاخذني، يا أخ، لا أحمل معي شيئاً).
رنا المتسول إليّ بعينيه الملتهبتين، وانفرجت شفتاه المزرقتان عن ابتسامة مرة، وضغط بدوره على أصابعي الباردة وغمغم:
- لا بأس، يا أخ، شكراً على هذا أيضاً، فهو كذلك عطية.
وفهمت أنني أنا الآخر، تلقيت عطية من أخ لي".
في هذه القصة تتضافر الحكائية مع الوصف، والشخصية مع الرؤية الإنسانية النبيلة.. وفي مجموعة من قصص أنطون تشيخوف (1860 ـ 1940)، يتبع هذا الكاتب طريقة بديعة في ربط تلك القصص بعضها ببعض، عن طريق وحدة المحور العام التي تندرج في إطاره، وقد ترجم عدنان جاموس جزءاً منها تحت عنوان عام هو "متنكرون"، فأبطال هذه القصص جميعاً "متنكرون" يظهرون غير ما يكتمون، ولكن ّ لكلّ منهم حكايتَه الخاصة، ويختلف هذا النوع من الكتابة عمّا يمكن أن نسميه متوالية، إذ إنّ المتوالية تتكون من مجموعة قصص قصيرة جداً، كلذ قصة مستقلة في حدّ ذاتها، ولكنها حين توضع في سياق القصص الأخرى تعطي دلالة إضافية تنبع من موقعها في السياق، ولترتيبها بين القصص دور مهم في فهم دلالتها، كما أن دلالتها مستقلة أقل من دلالتها في سياقها، أما ما كتبه تشيخوف فيمكن اجتزاء قصة أو قصتين أو ثلاثاً منه، كما تمكن إعادة ترتيب القصص دون أن يؤثر ذلك على دلالتها، وقد اخترنا منها قصتين، تقول إحداهما:
"في المحكمة محام يافع عن متهمة.. امرأة جميلة يبدو على وجهها حزن لا حدود له. إنها بريئة! عينا المحامي تتقدان، ووجنتاه تلتهبان، وصوته مخضلٌّ بالدمع.. إنه يتألم من أجل المتهمة، وإذا ما جرّموها سيموت غماً! الجمهور يصغي إليه، ويحبس أنفاسه مستمتعاً، ويخشى أن ينهي مرافعته، يهمس المستمعون: "إنه شاعر"! ولكنه ليس أكثر من متنكر في زي شاعر، يقول في نفسه: " أعطني أيّها المدعي مئة روبل أكثر مما أعطتني هذه المتهمة، وسأشويها لك شيّاً! سأكون في دور المتّهم أقوى تأثيراً".
إن هذا المحامي ما هو إلا متنكر، يتظاهر بالإنسانية والشفقة ويصطنع الأسى على المتهمة البريئة، ولكنه في قرارته يعبر عن استعداده لقلب الحقّ باطلاً إذا ما قدم له المجرم ثمناً لذلك. أما المتنكر في القصة التالية فهو رجل سكير، وجهه الظاهر الذي يضحك يعاكس قلبه الذي يبكي، لذلك يبني هذه القصة مثل سابقتها على الثنائيات الضدّيّة:
"يسير في القرية رجل سكران، يغني ويعزف على الهارمونيكا عزفاً كالعويل، على وجهه يبدو تأثّر ثمِلٌ. إنه يضحك ويرقص. يعيش حياة مرحة، أليس كذلك؟ لا، إنه متنكّر. فهو يقول في داخله: "جوعان.. أريد أن آكل".
وحين يلجأ الكاتب إلى السعي وراء الأمثولة الأخلاقية فإنه بحرفيته الكتابية لا يخرج عن الحكائية، فالكاتب الحقيقي يدرك أن القصة مأخوذة من القص، ومن القصص القصيرة جداً التي تمتزج فيها الحكاية بالأمثولة قدّم المترجم جمال دورمش قصة قصيرة جداً لكاتب تركيا العظيم ناظم حكمت، عنوانها "بواري المدافئ" تقول القصة:
"اشرأبت بواري المدافئ مبشرة بقدوم فصل الشتاء، فلا سقوط أوراق الشجر، ولا نزول الكستناء تدل على قدومه، فقط بواري المدافئ، صحيح أن لا شكل لها ولا لون، لكنها تعطينا الدفء والأمان، هناك أناس يشبهون تلك البواري، يقدمون لنا كلّ يد العون، ويسهلون أعمالنا دون أن ينتظروا منا حمداً أو شكوراً، وعندما ينهون أعمالهم نتمنى أن يغادرونا بأسرع ما يمكن."
ولأن القصة القصيرة جداً تفترض القصر الشديد بطبيعتها فإنها تسعى دون إرادة من الكاتب إلى الاعتماد على الجملة الفعلية، لأن البناء الفعلي للجملة قادر على تقديم الحدث بشكل أسرع، ومن القصص القصيرة جداً التي ظهرت فيها فعلية الجملة قصة لعزيز نيسين، حملت عنوان "عندما تستشرس الفئران" وقد قدمها جمال دورمش إلى جمهور الملتقى الثالث للقصة القصيرة جداً:
"غزت الفئران مهجع قائد وحدتنا الذي استخدم كلّ الوسائل للقضاء عليها، حتى المصائد العادية، لكن دون جدوى، كان عدد الفئران في ازدياد وبات يشكل خطراً.
فكر قائد وحدتنا بالأمر، صنع قفصاً كبيراً، وجمع فيه أكبر عدد منها، ثم قطع عنها الطعام.
راحت الفئران بعد أن أنهكها الجوع تأكل بعضها بعضاً إلى أن بقي منها ثلاثة.. ثم فتح باب القفص ليسرحوا ويمرحوا في غرفته: يبطشون بهذا الفأر ويمزقون ذاك، {ثم راحوا يمزقون بعضهم بعضاً}لأن الفئران الثلاثة الباقية استشرشت، وهكذا تخلص قائد وحدتنا من جميع الفئران.
وتسخدم القصة القصيرة جداً كل ماتتيحه الحكائية من تقنيات، إذ تلجأ إلى الوصف والحوار، بالقدر الذي لا يخرجها إلى نوع القصة القصيرة، فالحوار مركز دالّ مناسب للشخصيات، وقد تقوم القصة القصيرة جداً بمجملها على الحوار على نحو ما نجد في قصة "أمل" للكاتب البلغاري إيلين بيلين، وقد ترجمها ميخائيل عيد في كتاب كتاب " دموع العصفورة ذات الجناحين الفضيين، وزارة الثقافة، دمشق، 1977." وقدمها إلى جمهور الملتقى:
- "ماذا لو وجدتُ جرة مليئة بالليرات الذهبية يا أماه، وأنا أرعى الخراف عند ضفة النهر، وأنكش الأرض بعصاي؟
- إيه يا بني! لقد مات والدك على هذا الأمل"
وثمة لهذا الكاتب قصص أخرى تقوم على الحوار، وتشهد على عمق التواصل الثقافي الإنساني بين شعوب الأرض، وقد قدم ميخائيل عيد له قصة عنوانها "أرز بالحليب" وهي معروفة في تراثنا وحكاياتنا الشعبية، وإن اختلفت بعض التفاصيل:
- هل أكلت الأرز بالحليب يا أخي؟
- كلا لم أذقه.
- إيه أنت إذاً لا تعرف شيئاً. إنه شيء لذيذ جداً.
- وهل أكلته أنت؟
- كلا، لم أذقه، ولكن أبي أخبرني أن أباه قد رأى مختار قريتنا وهو يأكله ذات يوم.
وقد كانت الأمسية التي حملت عنوان "القصص القصيرة جداً في العالم" نصوصاً تتوسل الأنسنة لتقديم دلالاتها، ومن القصص التي ترجمها الأستاذ عـدنان جاموس قصة بعنوان "كلب" لإيفان تورغينيف (1818 – 1883)، ويذكر هنا أن تورغينيف سمّى هذه الكتابات "نثريات شعرية"، بينما سماها النقاد "أقاصيص منمنمة"، يقول في قصة "كلب":
"اثنان في الغرفة: كلبي وأنا، في الخارج تعول عاصفة مرعبة ضارية. الكلب يقعي أمامي ناظراً في عينيّ مباشرة، لكأنه يريد أن يقول شيئاً. إنه أبكم، لا ينطق بكلام، ولا يفهم نفسه، ولكنني أفهمه. أدرك أن شعوراً واحداً ينتابني وينتابه في هذه اللحظة، وأنه لا فرق بيننا الآن البتة، إننا متماثلان، كلانا تتقد فيه وتضيء الشعلة الراعشة ذاتها، وسيأتي طائر الموت، ويرفرف فوقها بجناحيه الباردين العارضين.. وتحل النهاية!
من بعد ذلك سيعرف أية شعلة بالذات كانت تتقد في كلٍّ منّاأ .. لا هذان ليسا حيواناً وإنساناً يتبادلان النظرات.. بل زوجان من العيون المتماثلة، يتفرس أحدهما في الآخر. وفي كلٍّ منهما، الحياة نفسها تلتصق بالأخرى مذعورة."
ولا تمثل هذه القصة التي كتبها تورغينيف عام 1878 بدايات الكتابة لدى هذا الكاتب العظيم، بل تمثل ذروة نضجه الفني، وتذكرنا بأولئك المبدعين العظماء الذي صاغوا من علاقتهم رؤىً إنسانية خالدة، من أمثال "الشنفرى" و"وولت ويتمان" وغيرهما.
وثمة من يخاطب الجمادات، على خطى جدّنا ابن خفاجة، ومن ذلك ما قدمه المترجم نبيل المجلي للكاتب الروسي (لـ . غورونتس) في قصة الطريق:
"جرى الماء، تعثر بالحجارة، سقط بلا قوة في الهاوية، تسلق وجرى من جديد جدولٌ جبلي صغير يناضل بكل نقطة نحو المحيط.
سألت الجدول: كيف أصل إلى المحيط دون أن أضل الطريق؟
شرق الجدول في صدع غرانيتي ضيق خرج من الأحجار وقال:
اتبعني، تذكر فقط.. طريقي بعيد، وليس سهلاً، أنا لا أدعوك لنزهة سعيدة."
لقد كانت الأمسية التي خصصها الملتقى للقصة القصيرة جداً غنية، وجدير بنا أن نحرص على تكرار هذه التجربة في الملتقيات القادمة لأن ما قدمه هؤلاء الكتاب جدير بأن يحاذى، ولا شك أن إغناء هذه التجربة بنصوص عربية قديمة وحديثة من شأنه أن يثري هذه التجربة أيّما إثراء.