لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: الشعراء المكفوفون في سورية

الشعراء المكفوفون في سورية


د. يوسف حطيني



بدأت صلتي بالشعراء المكفوفين منذ أكثر من خمسة عشر عاماً ، وتعرفت في تلك الفترة التي شهدت حياتي الجامعية الأولى إلى عدد من هؤلاء الشعراء ، مثل محمد شفيق محمود ومحمد حامد وميساء السقا ، وهم من المقلين ، والمرحوم حماد الشعراني وأحمد نقرش اللذين كانا أكثر إصراراً على إسماع صوتيهما للآخرين ، وحين أقدمت وزارة الثقافة على طباعة ديوان المكفوفين في سورية تحت عنوان فوح الألباب * أسعدني أنني استطعت من خلاله أن اطلع على ما كتبه شعراء مكفوفون آخرون .
وقد بدا لي لدى قراءة ديوانهم أنهم يختلفون فيما بينهم في شكل التعامل مع العاهة ، ففي حين استطاع بعض هؤلاء مثل عبد الله شنان (المولود في داعل 1945) أن يخرج من أسرها من خلال موضوعاته المختلفة كالأبوة والشعر الديني و الطفولة و السلام وأن يرسّخ كونه شاعراً بعيداً عن كونه مكفوفاً ، أصرّ آخرون ، مثل حماد الشعراني ( المولود في السويداء 1962) ، أن يبحثوا عن تميزهم الشعري ، منطلقين من العاهة نفسها ، وتتسرّب هذه العاهة حتى في خلال رؤية الشاعر للأنثى ، يقول حماد (ص48) :
فأنا كما تدرين أعمى لا أرى سحر الجفونْ
لـكنني بالروح بالعـقل المنير و بالظنـونْ
أيقنت أنك كل ما كـان وما سوف يكونْ
وهو في ذلك يشبه عنترة الذي كان ينطلق من سواده ليؤكد شجاعته ، لأنه مثله ينطلق من نقصه ، الذي يشعر به هو ،ليرسخ مقدرته الفائقة على مواجهة الصعاب (ص51):
أنا سيد النور المتوَّج بالسماحة و البهاءْ
أنا من يسيِّر خطوَه نورٌ يشعّ من السماءْ
وينطلق عبد اللطيف المقداد (المولود في غصم 1969) و أحمد نقرش فهدة (المولود في الضمير 1950) من المنطلق ذاته ،حين يؤكدان أنهما قهرا العمى ، واستطاعا رغم هذه العاهة أن ينتصرا في معركة الحياة . يقول أحمد نقرش في قهر العمى (ص88) :
إن يكن غاب في العيون ضياءٌ فلقد عاش بعدُ في الألبابِ
نحن دُسنا على الخطوب كراماً ومشينا خُطىً بغير اضطرابِ
أما الاتجاه الآخر ويقف على رأسه عبد الله شنان فهو ينطلق من عدم شعوره بهذا النقص ، ويبدو ذلك من خلال تناوله للموضوعات الإنسانية المختلفة مما يدلّ دلالة قاطعة أن شنان كان أقدر على تجاوز عاهته ، أو على الأقل ، وضع مسافة ما ، بين النفس و العاهة بحيث يمكنه أن "يرى" ما حوله بشكل أقلّ حدّة من الآخرين ، الأمر الذي قاد هذا ااشاعر ، وإلى جانبه الشاعر سالم السعيد ، إلى غنى الموضوعات وتنوّعها بشكلٍ يلفت النظر ، وهذا لا يعني افتقاداً كلياً للموضوعات المختلفة في شعر المكفوفين الآخرين ، إذ سنلاحظ تنوّعاً طفيفاً قاد إلى نوعٍ من التكرار ، ولكنه أبرز كذلك قدرة هؤلاء الشعراء على التعامل مع الموضوعات المختلفة.
لقد كان الفخر بالذات و بالإنجازات على رأس الموضوعات التي ألح عليها الشعراء المكفوفون ، وهذا حمادالشعراني يؤكد فخره بنفسه من خلال تحديه للموت (ص 58) :
وكاد المـوت يأتيـني مـراراً ولكني عصـيت على الفـناءِ
شققت الدرب في الدنيا بكدحي وعلـمي لا أبـالي بالـعناءِ
حتى إن حماداً في غزلياته كان يفتخر بنفسه ، و يضحي مطلوباً ، لا طالباً ، معيداً إلى ذاكرتنا غزليات عمر بن أبي ربيعة، يقول في فصيدته التي يبهرنا بموسيقاها الجميلة (ص52):
لـثمتُ ثـغر فـتاة طالما حلمَتْ بقُبلـتي فـإذا بالـحلم يأتيها
تبدي لك الحسن حتى لا تطيق نوىً فإن وصلتَ نأتْ كي لا توافيها
وقد عدّ معظم هؤلاء الشعراء أن الانتصارت الأدبية المذهلة التي حققها سلفهم من المكفوفين هي انتصاراتهم ، فبرزت في شعرهم ، وكأنها تنتمي إلى تراث المكفوفين ، لا إلى عموم التراث العربي ، وقد غدا هؤلاء الأفدمون حائطاً دفاعياً يطمئن إليه المكفوفون في مواجهة أي هجوم يتعرضون له من قبل الآخرين، يقول الشاعر سليم الخضراء ( المولود في صفد 1943) في بعض أقربائه الذين أنكروا قدرته على بلوغ أهدافه (ص189) :
قالوا : كفيف ليس فيه منافعٌ أفلا استفاقت عصبة الأوغادِ
كنا وما زلنا نقول كعهـدنا يا جـاهلون تذكّروا أجدادي
من هنا فنحن نلمس حضوراً طاغياً لبشّار بن برد وأبي العلاء المعري وطه حسين لدى معظم هؤلاء الشعراء ، فقد قال الشاعر سالم السعيد (المولود في منطقة الحفة 1948) في حفل أُقيم باللاذقية ، بمناسبة يوم الكفيف العالمي ، مؤكداً على تفوق هؤلاء ، وبالتالي إمكانية تفوّق المكفوفين في كل زمان ومكان (ص120):
والفجر بالفكر مثلُ العين أبصَرَهُ شيخ القريض المعري فاسأل الزمنا
ولابن بردٍ لسانٌ لم يـدعْ قلماً إلا بسحر معانيـه الحـسان عنى
وعصرُ نهضتـنا طـه به عَلَمٌ في الشرق أشرق عن مبداه ما شطنا
ويمكن أن نجد ما يقارب هذا المعنى عند سليم الخضراء / ص ص 190 _ 191 / ويمكن هنا كذلك أن نشير إلى قصيدة أُلقيت في مكتبة الأسد الوطنية استعرض خلالها الشاعر أحمد نقرش فهدة تاريخ مآثر المكفوفين ، وكان من الطبيعي أن يلتقي مع سابقه في استجلاب ذكرى هؤلاء (ص ص77_ 78 ):

ما المعري غير سـفرٍ ناطقٍ ساطعٍ كالشمس بين الكتبِ
وابن بردٍ ذاك من قـال لنا تعشـق الأذْنُ قبيـل الهدُبِ
وأديب العصـر طه لم يزلْ فكره يهـدي لنيـل الأربِ
ونستطيع أن نجد عند بعض هؤلاء الشعراء نزوعاً نحو الشعر الديني ، الذي جعل من عاهة العمى في بعض الأحيان قدراً لابد من التعامل معه كأمر واقع ، ويمكن هنا أن نشير إلى شعر حماد الشعراني في هذا المجال ، ويبدو حماد من خلاله راضياً مؤمِّلاً في الوقت ذاته (ص 51):
ربي أراد لي العـمى وأنا رضـيت بما أرادْ
واللافت للنظر حقاً الشعر الديني الذي يكتبه المرحوم عبدالله شنان نوّع في الموضوعات الدينية فبرز عنده الإيمان العيق بالله ، و أثر الإسلام في النهضة العربية ، و الاهتمام بسيرة النبي محمد عليه السلام، حتى إنه خصص قصيدة لرصد صور من حياته الشريفة ، وهذه صورة الهجرة المحمدية كما بدت في القصيدة (ص15):
ينجو النـبي من المكـائد كلـها بالعنكبوت فما أجلّ و أعظما
و يسـير نـحو مديـنة قد فُتِّحت أبـوابـها تـشدو الغناء ترنما
أهلاً ببـدر جـاءنا مـن ربـنا أهـلاً بـأحمد قائداً و معلّما
وهذا التناول التقليدي للموضوع الديني ينسحب أيضاً على موضوعات أخرى مثل موضوع الرثاء ، ويوجد في الديوان نموذجان رثائيان ، هما رثاء أحمد نقرش فهده لصديقه الشاعر عبدالله شنان ، ورثاء سليم الخضراء للشيخ أحمد الشامي ، وهما بشكل عام رثاءان تقليديان ، لا تجديد فيهما ، غير أنه من الواضح تفوق نقرش على الخضراء في هذا المجال ، فرثائية نقرش إضافة إلى جزالة التعبير ، و التمكن من أصالة الشكل التقليدي تمتلك نبرة حسٍّ عالية ، وتورث القارئ إحساساً أكبر بالصدق ،يقول نقرش (ص91):
خذني إلى اللحد أقبسْ من سناه هدى وأغزل الحب شعراً والدموع ندى
خـذني.. لأتـلـوَ آيـاتٍ معطّرةً من الكتاب لتزكي الروح والجسدا
ويمكن أن نلاحظ ببساطة أن الموضوع الاجتماعي العام ، والإنساني الشامل ،لم يحضرا عند الجميع ، إلا في إطار رصد رأي المجتمع في المكفوفين والمشاكل التي يعانونها تبعاً لذلك ، ويستثنى هنا ، من مجموعة سبعة المكفوفين كل من عبد الله شنان وسالم السعيد ، إذ نستطيع أن نقرأ للأول قصائد مشغولة بالهم الإنساني ، مثل قضية الاهتمام بالطفل ودعوة المحاربين للسلام ، فهو يتساءل عن ذنب الأطفال الذين لا ذنب لهم حين يقول( ص17):

ما لهـذا العـالم المـجنون يملاه صـغار جائعـونْ ؟
ولماذا يُتـرَك الأطفـال نهبـاً للمآسـي و الجنـونْ ؟
وفي القصيدة ذاتها التي يتمرد فيها على الشكل التقليدي ، يخاطب شنان المحاربين الذين لا شأن لهم سوى القتل ، لاهثين وراء من يدفعونهم للحب من أجل المال ومن أحل نهب خيرات الشعوب ، ويطلب من هؤلاء أن يفكّروا بما يفعلونه (ص18):
أيها الجندي مهلاً يا محاربْ
باسم من تقتل طفلاً ؟ .. أنت ماذا منه طالبْ ؟
أيّ حقد تشتفيه ؟
أي غلٍّ ؟ أي ثأرٍ ؟
وعلى أية أموالٍ ودين أنت للطفل محاسبْ ؟
أما سالم السعيد فقد نوّع في موضوعاته الاجتماعية ، إذ يمكننا أن نقرأ له قصيدة عن رجل الأطفاء، و أخرى عن الممرضة ، وثالثة عن وصف غرفة عامل بائس … مما يرسّخ الشعور بأن هذا الشاعر لم يغلق الباب على نفسه ، وعلى عاهته ، بل راح يفتح آفاقه في كل اتجاه . يقول في وصف غرفة عامل بائس (ص 138):
يا غرفـة فيـها ترعرع نوحُ أبـداً إذا ما الريح هبّ تنوحُ
فالباب كالناي الـحزين عويله وصـراخ شبّاك لها مفـضوحُ
والعنكبوت مزخـرِفٌ جدرانها و الأرض من عفن القبور تفوحُ
وثمة غرض شعري آخر يبرز في شعر هؤلاء المكفوفين ، وهو الغزل وشكل العلاقة مع المرأة ، فكثيراً ما خفقت القلوب بالحبّ ، وكثيراً ما حضرت المرأة في أوج ألقها وورقتها ، وبشكل خاص في شعر المرحوم حماد الشعراني ، إذ تظهر آية من آيات الجمال المبدع ، وفي حضرة المرأة الجميلة: العينان السوداوان و الرموش الفاتنات والفم المعسول تسقط كل الحواجز ، يقول حماد (ص 54):
عندها نحـلـم ما شـئنا ويـنهار المحالُ
عندها ننسى .. فلا يبقى حرامٌ أو حـلالُ
ويُؤخذ على صورة المرأة لدىهؤلاء الشعراء أنها ، في الأغلب الأعم ، صورة تقليدية موروثة ، فحماد نفسه يقدّم المرأة في قصيدة أخرى ، وكأنها امرأة جاءت إلينا من عصرٍ آخر ، على الرغم من سلاسة التراكيب ، وسيطرة الغنائية الرقيقة على هذه القصيدة ، إذ لافرقَ جوهرياً بين هذه المرأة ، والمرأة العالقة في ذاكرتنا الثقافية (ص52):
بيضـاءُ ورديـة العينين ناعمة تُنمي لك الحسن من شتى نواحيها
فالشعر أسود مثل الليل في سحرٍ والوجه بدر لدى الظلماء يمحوها
والجيد جيد غزال شـبّ شادنها والطرْفُ طرْفُ مهاً .. يا نعم راميها
أما في شعر سعيد عبده (المولود في الاسكندرية عام 1943) فإن للمرأة شأناً آخر ، تقرأ عنها فتسحرك بجمالها ، ثم تقرأ ثانية فتشمئزّ نفسك من قبحها ، ويزداد تعجبك حين تدرك أن المرأتين هما امرأة واحدة ، إن " سمراء " رقم _1_ هي التي ألهمت الشاعر شعره ،وملكت مشاعره وهي منزهة عن كل عيب (ص 153):
لقد ملكت سمراء كل مشاعري فهمتُ بها و الشوق في الصدر مُضرَمُ
فليس بها عيب وليـس كمثلها مـن النـاس إلا بنت عمران مـريمُ
وفي المقابل فإن سمراء رقم _ 2 _التي هي المرأة ذاتها تظهر في صورة أخرى بعد أن يحلّ الجفاء ، فالمشاعر ليست لها وحدها ، والجمال ليس حكراً عليها ، وكم كنت أتمنى أن يحتفظ الشاعر لنفسه بالقصائد التي يعري فيها القيم التي تغيرت في نفس سمراء من وجهة نظره ، حتى لا تبقى في الذاكرة إلا الصورة المشرقة لتلك المرأة ، ولا سيما أن الشعر الذي قيل في سمراء الجميلة كان أنصع بياناً، وأحلى موسيقا ، و أوقع أثراً في النفس ، لأنه فيما يشعر القارئ أكثر صدقاً ، يقول في وصف سمرائه الثانية (ص ص 159_160):
هكذا صـوّر الغـرور لها الأمر فظـنّت أنْ ليـس منها شفاءُ
لستِ هنداً ولستِ في الحبّ ممن لم تـلد قَطُّ مثـلهنّ النـساءُ
فدعـي الكـبرياء ما أنت إلا بعض ما قد عرفتُ .. يا حمقاءُ
وإذا كان حبّ المرأة قد استقرّ في قلوب هؤلاء ، بأشكال مختلفة فقد برز لديهم أيضاً حب المكان متمثلاً بشكل غالب في المدن السورية ، نتيجة الانتماء ، وقد ظهرت دمشق _ بشكل خاص _ مدينة معشوقة من قبل الجميع ، و قد ضم ديوان الشعراء المكفوفين قصائد عديدة تجسد انتماء هؤلاء إليها ، ففي قصيدة "عروس تشرين" يخاطب الشاعر سعيد عبده هذه المدينة الخالدة بأبيات تمتاز بغنائيتها وعذوبتها (ص ص 149 _150):
دمشق يا قلعة العُـرْب التي بقيتْ على المدى ملعباً للـعزّ و الشممِ
يا غرة في جبين الشـمس زاهيةً أأنتِ في صحوةٍ أم أنت في حلمِ
تبصّري هل تـريْنَ ‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏‏الراية ارتفعتْ خفاقة في ذرا الجـولان في القممِ
وقد برزت مثل هذه المعاني كذلك لدى الشاعر عبد الطيف المقداد (المولود في غصم 1969) الذي جاء إلى دمشق كي يبثّها همه العربي المتمثّل في جراح فلسطين ولبنان ، وينهل منها ومن رباها الثقة بالنصر ويشمّ عبق العروبة ، ويمتِّع نفسه بحلاوة الأنسام ، يقول المقداد ( ص 167) :

يا شام جئتـكِ شـارحـاً آلامـي أشـكو إليـك مـرارة الأيـامِ
جئـتُ الربا و القلـب بين جوانحي يشـتمّ فيـك حـلاوة الأنسامِ
فرأيـتُ فيك الفجـر يسـطع نوره و الشـمس تحرق كل طيف ظلامِ
وواضح من خلال صُوَر الشاعر الذي يشتمُّ النسيم مدى تأثير العاهة عليه ، وهو هنا يذكّرنا ببشار الذي جعل الحديث المسموع يشبه قطع الرياض المرئية ، مزاوجاً بين حاستي السمع والبصر ، وهو ما يسمى في لغة النقد "تراسل الحواس" ، وإذا كان مثل هذا التراسل يغدو غاية فنية مقصودة ،حتى عند الشعراء الكبار مثل بودليير ، فإنه يبدو في شعر المكفوفين نوعاً من المصالحة مع العاهة التي تمكِّن الشاعر المكفوف من اختراق حاجز المألوف ، وتقديم علاقات لطيفة بديعة بين الحواس المختلفة .
وإذا كان نسيم الشام غذّى روح شاعرنا المقداد فما الذي يمكن أن يدفعه إلى قصد حلب؟ هل يسعى إذ ذاك إلى معانقة التاريخ ؟ أو إلى رؤية المجد العربي ؟ أو إلى استرجاع دولة صارعت الروم دهراً ؟
وهل يمكن أن يكون قد بحث عن هذه الأشياء جميعاً ، قبل أن يقصد مدينة حلب ؟ نقدّم ها هنا خمسة أبيات من مطلع قصيدة "درّة الشرق" ، لنرى مدى التوفيق الذي حالف المقداد في هذا المطلع الذي أحسُّ أنه من أكثر المطالع توفيقاً في ديوان المكفوفين (ص175):
خذني لسـاحٍ بها مـجد العلا كتبا أُعانقِ الفجـر و التاريـخ و الأدبا
وأَنشُد الحبّ في أرض سَمَتْ شرفاً وأنفض السهـد عـن عينيّ والتعبا
قد حدّثتنيَ نفـسي إذ خـلوت بها عن درّة الشرق حيث العزم ما غُلبا
عن روضة لبني حـمدان خـالدة قد صارعت صولجان الروم فانعطبا
فقـلتُ : يا نفس إني قد ظفرت بها قودي السفين شمالاً و اقصدي حلبا
كما تبدو تدمر في ديوان المكفوفين ، عروساً للزباء ، فكلاهما في الصمود صنوان ، وإذ يكون أحمد نقرش فهدة في حضرة الاثنتين يقول (ص ص 67 _ 68) :
يا عروس الصحراء هذي سطوري فاض عشقاً و رقّ فيها شعوري
ذاك تاج الزبّـاء يسـطع نـوراً في البـرايا و يا لـه مـن نورِ
و كثيراً ما اتّخذ وصف المدن السورية لدى هؤلاء الشعراء بعداً قومياً ، فالشام عند نقرش نشيد الدهر الذي يعزفه الشاعر بموسيقا شعرية مطمئّنة ، ويقدّم خلاله مدينة منتمية للتاريخ منذكان طفلاً ، إنها تاريخ السيف و القلم ، وإذ يتّحد العزفان : عزف التاريخ و عزف نقرش تولد قصيدة "تحية إلى الفيحاء " التي نجتزئ منها (ص63):
خذي من نشيد الدهر لحن العجائبِ و فيضي على الأيام عطر التجاربِ
كواكـب في علياكِ تبـدو وتختفي ويبهرني ما عشـت نجم الكواكبي
أميـة من نهدَيـكِ عبّت وأنجـبتْ عـلى العزِّ تاريخاً سخي السحائبِ
ولاتبدو صورة النضال القومي ، في أرجاء أقطار العروبة بعيدة عما يشغل تفكير هؤلاء ، فالانتفاضة حاضرة في شعرهم ، و أطفالها الذين يسميهم نقرش " أبابيل الفدا " يملؤون مساحة شعرية كبيرة، وهو ، كما يظهر في هذا الديوان ، الأكثر إصراراً على طرح هذه الصورة المشرقة للنضال العربي ضد الصهيونية . وقصيدة "نشيد الحجر " ترسّخ رؤيته لهذا النضال و تفاؤله به ،وتقدّم من خلال نسق موسيقي حديث تفاصيل الفعل الانتفاضيّ ، مستفيدة من إيقاع سيابيٍّ مشهور (ص ص 65 _ 66):
أصغيتُ أرشف بالمسامع لحن أغنية المطرْ
مطرٌ يجرّ سحابه زيدٌ ويتبعه عُمَرْ
مطرٌ من الأحجار لا يبقي الجفاف ولا يذرْ
كَفي حجرْ
قدمي حجرْ
عزمي و إصراري حجرْ
و لا ينسى علي سالم السعيد أن يرصد البطولة في قصيدة يخصصها للفدائي /الطيار الشراعي/ الذي هطل على الأعداء حمماً، كما لا ينسى سعيد عبده أن يصور بطلاً ذاهباً إلى المعركة طالباً من حبيبته عدم البكاء (ص 152):
أعَزَّ عليكِ أن أمضي مع الأحرار في بلدي
إلى حيث الجباه السمر شامخةً شموخ الطَودْ
شموخ القدسْ
شموخ الأرز في لبنانْ
شموخ القمة البيضاء في الجولانْ
فإن أُدرجت في رمسي بلا كفنِ
فلا تبكي .. بل ابتسمي.. وغني أغنيات المجدْ
وقولي قد وفيت العهدْ
وخُطِّي بالدم القاني على رمشي نشيد النصرْ
وهذا سليم الخضراء يوقّع واحدة من أجمل قصائده باسم شهيد ، يسقط في سبيل الوطن ، فيأخذ الشاعر قلبه ولسانه ، و يقول مستبشراً بالنصر العربي على الأعداء ، ذلك النصر الذي سيحمل مصباح الفرحة إلى كل بيت (ص 185):
إني سقطتُ على الطريق فواصِلوا درب الشهادة بالنجيع القاني
وترقبوا أعـراس نصـرٍ قـادمٍ تمتـدّ فرحـته لكل مكانِ
وفيما يتعلق بالبنية الفنية لما قدمه هؤلاء الشعراء فإن قارئ ديوان المكفوفين يستطيع أن يلمح في بعض النصوص إفادة محدودة من القدرة الإيحائية للألفاظ ، و من التناص الذي كاد يقتصر على ما قدمه نقرش الذي تعامل مع النصوص القديمة بنجاحٍ ، بعد أن حاول تطويرها ، يقول في مخاطبة أبي العلاء (ص 83):
يا بن المعـرة قد هـُدّت محابسـنا وحطّم العاشقون القيد والقضبا
ويمتاز هذا الشاعر عن الآخرين بحسن مطالعه التي تفيد من التصريع و الترابط المتين بين الكلمات ، وقد يستخدم أحياناً روافع أخرى كالاتكاء على موروث الذاكرة الثقافية ، ففي قصيدة يخاطب فيها زوجته و ابنه البكر يفيد نقرش من صيغة مخاطبة المثنى ، وهي معروفة في الأدب القديم ، غير أنه لا يعيد مخاطبة صاحبين مفترَضَين ، وإنما يخاطب شخصين موجودين عزيزين على قلبه في مطلع لا تعوزه الغنائية لا ينقصه الصدق الفني (ص 95):
مـُرّا علـي بيقـظتي ورقـادي نفـد القصـيد وجفّ بحر مدادي
ألشـاعرية بعـض أحلام الصبا عندي ومهـوى خافـقي ومرادي
كما نستطيع أن نسمع صوت الغنائية عالياً في بعض نصوص شنان و الشعراني ، وأن نسمع إيقاع شعر التفعيلة ، على ندرة في ذلك ، عند شنان و نقرش و سعيد عبده ، الذين يبدون حذرين في التعامل مع هذا النوع من الشعر ، ويرتاحون موضوعاً وبنيةً إلى الشكل التقليدي .
ويمكن في النهاية أن نقول أن هؤلاء الشعراء ،استطاعوا _ على الرغم من اشتغال معظمهم على موضوع العاهة _ أن يتلمّسوا الموضوع الاجتماعي و الوطني والقومي الإنساني ، ويقدموا قصائد جديرة بالانتماء إلى دوحة الأدب.
د. يوسف حطيني
9/9/99

* فوح الألباب :ديوان الشعراء المكفوفين في سورية ، مراجعة حسن الرفاعي ،مطابع وزارة الثقافة والإرشاد القومي في دمشق ، 1999.ويضم هذا الديوان سبعاً وخمسين قصيدة مختارة لسبعة شعراء مكفوفين . ولا يزال الكثير طيّ الدفاتر و الضمائر .