لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: حسن البحيري قصيدة الوطن الخالدة

حسن البحيري قصيدة الوطن الخالدة


د. يوسف حطيني


يعد الشاعر العربي الفلسطيني حسن البحيري واحداً من أهم الشعراء في العصر الحديث لما اشتمل عليه شعره من سمات فنية تتجلى في جمال لغته ونصاعة ديباجته وعبقرية موسيقاه. وعلى الرغم من أن ظلال الرومانسية توشح قصيدته ذات الطابع الكلاسيكي إلا أن الشاعر كان يبحث عن خصوصية التجديد في العمود الشعري، وعن خصوصية الألم في رومانسيته.
ويتضح لقارئ دواوين شعر البحيري أن ثمة فارقاً في صورة الوطن الحبيب فلسطين أحدثته النكبة التي هزت أعماقه، ففي حين كان الوطن قبلها ظلال جمال منقطع النظير، وسعادة تتبدى من الألفة بينه وبين المكان، فقد ظهر الألم بعد النكبة على الصورة المكانية، وغدا أهم عناصرها. في ديوانه "أفراح الربيع" الذي صدر عام 1944 ظهر الوطن بشجره وقمره وكواكبه وأزهاره آية من آيات الجمال الخالد، فهو يقول عن قمر الكرمل (أفراح الربيع، ص 38):
بعـث الـمنى فهفا إلى آفاقه قـمر أطـل مـن الغيوم وأشرقا
ألقى على ماء الخليج شـعاعه فتضـاحك الموج اللعوب وصفقا
كما يقول في وصف نجم فوق بحيرة طبريا (أفراح الربيع، ص 33):
يا حسن نجم لاح فوق بـحيرة وشعاعه الهادي على الماء انسـكبْ
والبدر، في ليل سجى، مـتألقٌ والموج عند الشط ذو شجن وصبْ
أما حينما بدأ جرح النكبة بالانفتاح، وصار الدم الفلسطيني على مرمى القلب والعين، فقد صارت فلسطين عنده حبيبة عذرية لا يلتقيها، وصار يمتح مفرداته الشعرية من لغة الشعراء العذريين، فكان ثمة لوعة وحسرة وشوق ولهفة،إضافة إلى كثير من المفردات التي تنتمي إلى اللغة العذرية النابضة بإيقاع الفقد، يقول البحيري مصوراً لوعته (ظلال الجمال، ص59):
فلسطين يا لهفة في الضلوع يعز على الدهر سلوانها
ويا حرقة في مسيل الدموع يفيض من القلب هتّانُها
ويا حسرة لو غدت في الجبا ل لكان تصدّع صفوانها
وهاهو ذا يخاطب المسجد الأقصى، ويبحث عن سبب حزنه، وهو يعرف تمام المعرفة أن حزنهما واحد، وكأني بالشاعر يبحث عن فسحة ما في الحزن الذي غلف حياته كلها (لفلسطين أغني 83):
وقفت في المسجد المحزون أسأله والنار في جنبات الصدر تستعر
وأدمع القلب تستتلي مصاوبُها من مهجتي دمَ عيني وهْيَ تنهمر
ما بال محرابك الطهريِّ تغمره ظلال هم دجـاها ليس ينحسر
وضمن هذا السياق النفسي الذي صبغ شعره غدت فلسطين عنده دائماً إحدى ثنائيتين، فهي حاضرة حين يشعر بالألم، وحين ينظر في عيني حبيبته، وحين يصف خورفكان، وحين يعانق بردى، وحين يناجي طائراً في تونس أو الجزائر….. إلخ، غير أن لحيفا خصوصيتها، فهي المعشوقة الأكثر حضوراً وطيفها هو الموئل الذي يلوذ به الشاعر حين يعاني الغربة المكانية والنفسية، إنها مزاج الروح وجرح الهوى ودمعة العين التي لا تجف (لفلسطين أغني، ص77):
حيفا وأنت مزاج الروح في رمقي وعمق جرح الهوى في موجعي الخفق
يشدني لك شوق لـو غمست له يراع شعري في صوب الحيا الغـدق
ورحت بالحب والذكرى أصوره دمعاً على الخد أو حرفـاً على الورق
لجف حبري و لم أبلغ قـرارة ما ضمت جوانح صدري من لظى حرقي
إن كل ما يحيط بالشاعر ومن يحيط به يذكره بحيفا، التراب، والزهر والبرتقال والأصدقاء، والأحبة، حتى إنه يرى حيفا حين ينظر في عيني حبيبته، يقول في واحدة من أروع قصائده التي تمتزج فيها صورة المرأة بالوطن مخاطباً حبيبته (حيفا في سواد العيون، ص ص 107، 109):
ما أشـرقت عـيناك إلا خانني بصبابتي صبري وحسن تجملي
وتحسست كفاي من ألم الجوى سهماً مغارس نصله في مقتلي
وتسارعت من مهجتي في وجنتي حمـر المدامع جدولاً في جدول
فلقد رأيت بلحظ عينك إذ رنت والتيه يكـحلها بمـيل تدلـل
حيفا وشاطئها الحبيب وسفحها وذرى تعالت للسماك الأعزل
ولمـحت بيـن سوادها وبياضها ظل الصنوبر في أعالي الكرمل
وحين يذكر الشاعر دمشق التي عاش فيها عقوداً من الزمن، ولفظ آخر أنفاسه فيها، يتحدث عن جمالها، عن غوطتها وأشجارها، عن برداها، ولكنه لا ينسى في أية مرة أن يربط دمشق بحيفا ضمن بوتقة الجمال والحب، لنستمع إليه يقول (الأنهر الظمأى، ص ص 124، 127):
بل هذه جلق الفيحـاء مـاثلة ما حاكها من رؤى الأوهام حسبان
كأن حيفا كستها من مفاتنها ما ليـس يبـلغه بالوصـف تبيان
قد ضمها بردى شوقاً وأرشفها من صـرفه فثـراها منـه ريـّان
وثمة ملاحظة جديرة بالانتباه في شعر البحيري، وهي أنه شاعر حساس، مخلص للحالة التي يعيشها بشكل لا حدود له، فعلى الرغم من أنه مؤمن بالله عز وجل إيماناً عميقاً، مواظب على أداء واجباته الدينية، وعلى الرغم من أنه أفرد ديوان تبارك الرحمن لشعر الوجد الإلهي الذي يتحدث عن الأرض والزهر والطيور والبحر والنجوم التي تجسد قدرة الله عز وجل، على الرغم من كل ذلك فقد جعله فقدان فلسطين يهتز، وجعل إيمانه باليقينيات يتزعزع أمام الصدمة الكبرى، يقول في قصيدة "فلسطين يوم الحشر والنشر": (الأنهر الظمأى، ص ص 97، 98):
سلوا المقادير هل في الغيب رحمـن ألواحـها في يديها الدهر إذعان
فكان في لوحه المحفوظ من أزل ااـ آزال للنـاس إعـزاز وإهـوان
وكان في اللـوح مقتـول و قاتله وكان في اللوح مسجون وسجّان
فكيف يقضـي بـجور ثم ينقمه وكـيف يرضى بعدل وهو ديان
وإذا كانت المعلومات تشير إلى أن حسن البحيري كان قد اشترك بتنفيذ عمليات فدائية ضد المراكز الصهيونية والإنكليزية أيام الانتداب، فإنه كان أيضاً يؤكد على فعل المقاومة، ويفخر بأبطالها، ويرثي شهداءها، الذين سقطوا على طريق النضال، فقد فخر بأبطال ثورة 1936، ورثى الشهداء الذين ربطوا بين القول والفعل، وعلى رأسهم الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي استشهد في معركة الشجرة 1948، يقول البحيري في رثائه (حيفا في سواد العيون، ص ص 88، 89)
دثـروه يالحريـر الأخضـر وادفنـوه في ثـرى من عنبر
كـيف يبكى موكب المجد إذا سـارللمجـد بليث هيصر
وظل البحيري مرافقاً للأحداث يصور فرح الوحدة بين سورية ومصر، ويحزن للانفصال، وتطربه انتصارات المقاومة، وقد رصد في قصيدته الطويلة (رسالة في عيد) بطولات الانتفاضة الأولى التي فجرها أبطال الحجارة عام 1987 في فلسطين، فقال (رسالة في عيد ص39):
ما من سلاحٍ في معاركهم تُصـدُّ به الجنودُ
إلا الحجارةُ في الأكف العزل والصبر الجليدُ
ومشـاعل الإيـمان يرفعها بمرّته الصمودُ
* * *
فيما يتعلق بالسمات الفنية التي ميزت شعر هذا الشاعر الكبير فإن الاعتماد على رونق الشعر العربي القديم وديباجته أمر في غاية الوضوح عنده، واللغة التي تزين شعره صحيحة فصيحة، وإن كانت فصاحتها في بعض الأحيان تحد من انطلاقها وتحليقها في سماء الشعر، وقد ظهر أثر التقليد عنده، إضافة إلى الوزن واللغة على مستوى الإحالة إلى الشعراء الكلاسيكيين في القديم والحديث، إذ نقرأ على سبيل المثال هذا الشعر للبحيري الذي يضمن فيه أحد أبيات شوقي الشهيرة (الأنهر الظمأى، ص 82 _ 83):
تناجون المطـالب بالتمني عساها أن تجـيب وأن تجابا
وقبلي هب دون النيل داع ليكشف عن سنى الحق النقابا
تسنم هامة الإفصاح عوداً فقـال وقوله جلـى الصوابا
"وما نيل المطـالب بالتمني ولكـن تؤخـذ الدنيا غلابا"
أما الصورة الشعرية فقد كانت في الغالب تقليدية يبذل الشاعر جهداً كبيراً في صياغتها، بدلاً من أن يبذل جهداً موازياً في اقتناصها، ولعلنا هنا نشير أن هذا الأمر لا يعدو كونه توصيفاً لشعر حسن البحيري إذ إنه بلا شك شاعر كلاسيكي من طراز ممتاز، يقول في وصف اندفاع الشباب العربي للدفاع عن الوطن، مستفيداً مما أنجزته الصورة الفنية في الشعر العربي (ابتسام الضحى، ص48):
إذا دعـت الأوطـانُ يوماً لبغية بأرواحنا الظـمأى أجبـنا نـداءها
نذود عـن المجـد التليد بصـارم شموس الضحى منه استعارت ضياءها
كما يبرز أثر النص الآخر في شعره، وهذا ما يحسب لصالحه، في أكثر من قصيدة، فهو في قصيدة فلسطين يوم الحشر والنشر يفيد من مفردات القرآن الكريم ويتناص شعره مع سورة الزلزلة بشكل واضح، إضافة إلى كون هذه القصيدة في الأساس هي معارضة في الوزن والقافية والغرض الشعري لقصيدة أبي البقاء الرندي في وصف الممالك الزائلة (الأنهر الظمأى، ص99):
وإن تكن أزفت بالبعث آزفة دهماء فالكون أسداف وأدجان
فكيف والبعث لم ينفخ لمحشره صور ولم يُدنِ يوم الدين إيذان
والأرض ما أخرجت أثقالها فرقاً ولم يقل ما لها إنس ولا جان
* * *
هكذا يبدو لنا الشاعر حسن البحيري شاعراً كلاسيكياً مجيداً، وعبقرياً من عباقرة الرومانسية الذي زاد على الرومانسيين في أنه مزج الألم الفردي بالجماعي، وإذا كان القدر قد خطف هذا الشاعر دون أن يحقق حلمه بالعودة إلى فلسطين وحيفا فإنه أكد في شعره أنه لن يفقد الأمل، حتى وإن كانت عظامه رميماً (حيفا في سواد العيون، ص ص 15،16):
وإما تولى ربيع الشباب وصوّح منه نـديُّ الزهَـرْ
وحُمّ الردى أجلاً في كتاب به من منايا البرايا سُوَرْ
فلا تيأسي من إيابي إليك وإن غيبتني طوايا الحفـرْ
فإني ولو حفنة من تراب سأرجع في قبضات القدرْ
هامش:
لحسن البحيري خمسة عشر ديواناً شعرياً نشرت قبل وفاته منها: (ابتسام الضحى) و(حيفا في سواد العيون)، و(لفلسطين أغني)، (والأنهر الظمأى)، و(سأرجع)….، وله رواية مطبوعة بعنوان (رجاء)، وترجمات عن الإنكليزية لأوسكار وايلد، وله عدة دواوين شعرية مخطوطة وكتابات في النثر الفني، وتعليقات سياسية، ويذكر أيضاً أن مجموعة من الكتب والدراسات والرسائل الجامعية قد تناولت الجوانب الفنية والموضوعية لهذا الشاعر الكبير.



وهاهو ذا يخاطب المسجد الأقصى، ويبحث عن سبب حزنه، وهو يعرف تمام المعرفة أن حزنهما واحد، وكأني بالشاعر يبحث عن فسحة ما في الحزن الذي غلف حياته كلها (لفلسطين أغني 83):
وقفت في المسجد المحزون أسأله والنار في جنبات الصدر تستعر
وأدمع القلب تستتلي مصاوبُها من مهجتي دمَ عيني وهْيَ تنهمر
ما بال محرابك الطهريِّ تغمره ظلال هم دجـاها ليس ينحسر
وضمن هذا السياق النفسي الذي صبغ شعره غدت فلسطين عنده دائماً إحدى ثنائيتين، فهي حاضرة حين يشعر بالألم، وحين ينظر في عيني حبيبته، وحين يصف خورفكان، وحين يعانق بردى، وحين يناجي طائراً في تونس أو الجزائر….. إلخ، غير أن لحيفا خصوصيتها:
المسجد الأقصى في عيد ميلاد سيدنا المسيح عليه السلام: ألوان ص 87.
فيـم الترنـم والصـلاة وفيم أجـراس تـدق
والمسجد الأقصى لنزف جراحه في الصدر حرق
ـ ابتسام الضحى 73.
ويل لنا أنـرى العـدا تنهى وتأمـر بالحرم
وبه ابن عبد الله صلـى المسـيح لـه ارتسم
ونرى مقاليد القيـامة في يـد الطـاغي تزم
وبها أبو حفص كركن البيت طوّف واستلم؟
ومعالم الحرية السمحاء أصفاد ورِقُّ
الوحدة العربية:
رفض التعصب الأعمى للمذهب على حساب العروبة: ابتسام الضحى 99
إذ لا مصري ولا سوري ولا عراقي ولا مسلم ولا مسيحي ما دامت تجمعنا أرض العروبة:
لا يعرف العربي بالأحداث بالمصري والسوري واللبناني
فالشرق تجمعه العروبة عروة أدنت أقاصي مصر من بغدان
ص 101:ما بيننا عند التنادي مسلمٌ كلا ولا في جمعنا نصـراني
فالشرق موطننا ونحن حماته بنفوسـنا والديـن للديـان
فرحته بالوحدة بين سورية ومصر، الأنهر الظمأى ص47:
أيّ فجر لاح بالبشرى على أفق الوجودِ
صبحه من بهجة الإشراق في عيد سعيدِ
غنت الطير له في أيكها لحـن الخـلودِ
والندى والعطر زفّا طلعة اليـوم الجديدِ