لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: البناء الإيقاعي في شعر جبرا إبراهيم جبرا

البناء الإيقاعي
في شعر جبر إبراهيم جبرا


د.يوسف حطيني


لقد طغى جبرا الروائي في أذهان المثقفين العرب على جبرا الشاعر والمترجم والناقد الأدبي والفني، على الرغم من أن إبداع هذا الرجل المتعدد في أي من الفنون الأدبية لا يقل روعة وتعمقاً عن حقل الرواية الذي اشتهر فيه.
لقد أسهمت تجربة النفي ومواجهة الآخر في صقل تجربة جبرا الإبداعية التي أفرزت على مدى حياته نحو ستين كتاباً في الرواية والنقد والترجمة والشعر وغيرها، غير أن الذي صنع جبرا الشاعر كان بالدرجة الأولى تصميمه على دخول معركة الشعر الحديث وهي في أوجها، ليدلي فيها بدلوه، فقد كان يرفض فكرة شعر التفعيلة ويرفض مصطلح قصيدة النثر، ويبحث عن موسيقى الشعر في الشعر ذاته: في كلماته وصوره وأفكاره بعيداً عما هو خارجي.
وقد أصدر جبرا إبراهيم جبرا أربعة دواوين هي على التوالي: تموز في المدينة 1959، والمدار المغلق 1964، ولوعة الشمس 1979، وسبع قصائد 1989(وقد صدرت جميعها عن دار الريس للكتب والنشر، عام 1990 بعنوان المجموعات الشعرية الكاملة)، إضافة إلى الكثير من القصائد التي نشرها بالعربية والإنكليزية، والقصائد التي امتلأت بها صفحات رواياته.
ويلاحظ قارئ شعر جبرا أنه يبحث دائماً عن القصيدة الكاملة ولا يحاول أن يبني مقطعاً ينأى بموسيقاه أو رؤيته عن مقطع آخر مجاور.إذ تخلق قصيدته دائماً مقولتها وشكلها دفعة واحدة.
إن جبرا الذي اطلع اطلاعاً جيداً على الشعر العربي والغربي يقدم رؤاه المختلفة من خلال نص متماسك من الناحية الموسيقية، وإن كانت موسيقاه لا تنبع بالضرورة من خلال إيقاعات يحس بها قارئ كسول لا يبذل جهداً كبيراً في فهم الشعر، فموسيقى قصيدة جبرا لغز مغلق قد ينجح القارئ وقد لا ينجح في كشف كنهه. وهذه الموسيقى قد تكون ناتجة عن المفردة ذاتها، أو من تجاورها مع مفردات محددة تجاوراً مغامراً وغير مألوف، مما ينتج شعوراً بالغرابة التي تولّد ما تمكن تسميته "موسيقى الإدهاش"، وهي كثيرة جداً في شعر جبرا، ويمكن أن نسير هنا إلى السياق التالي الذي تقوم موسيقاه على المفردات المتعاطفة التي تنتهي بمفردة الضمائر التي تحقق تلك الغرابة اللذيذة. فحراس القيود:
"يبيعون
ويشترون
العطور والقمصان واللبان والسيارات والسكائر والجرارات والحراثات والحرائر والأسنان والعقاقير والضمائر" المجموعات الشعرية الكاملة، ص33.
وقد يقيم الشاعر الإيقاع في قصيدته على أساس التوازن أو التقابل بين الجمل على المستوى التركيبي أو الصرفي، فلو نظرنا إلى السياق الشعري التالي:
ألست أنا قاطف الزيتون
في وادي الجمل
صائد الأسماك في يافا
حادي الإبل الظامئات في وادي النقب ـ ص19.
استطعنا أن نلاحظ أن ثمة رافعين موسيقيين يتضافران لتحقيق إيقاع النص، أولهما الصيغة الصرفية (اسم الفاعل: قاطف، وادي، صائد، حادي) وثانيهما تكرار النسق التركيبي كاملاً (المبتدأ والخبر والجار والمجرور)، مما يمنح النص غنىً إيقاعياً متميزاً يتجاوز مفهوم إيقاع التفعيلة إلى إيقاع أكثر اتساعاً وشمولاً، وهذا يتلاءم مع رؤية جبرا للشعر التي تقوم على رفض اعتماد مبدأ التفعيلة أساساً للبناء الموسيقي، وهي رؤية أشبعت نقاشاً منذ عقود.
وثمة أيضاً طريقة أخرى يؤكد فيها الشاعر دور بناء الجملة في ترسيخ موسيقى النص الشعري حين يكرر جملاً بأعيانها، ويجعل منها لوازم موسيقية، وقد استخدم جبرا هذه الطريقة عدة مرات في قصائده (مطلع قصيدة: "قدحاً ملأت بألفاظي" ص ص 17 ـ 18). ولا ينسى الشاعر أن يقدم أنواعاً من نوع آخر يفرضه تكرار فكرة معينة، فتكرار فكرة بذاتها على مدى قصيدة أو عدة قصائد أو عدة دواوين يمنح اللغة الشعرية إيقاعاً موحداً، ومن ذلك إيقاع القمع الإسرائيلي الذي يتكرر في عدة قصائد ،ففي قصيدة مونولوغ لفاوست معاصر يصف جبرا ما فعله الصهاينة بالموسيقي الأعمى:
في حينا كان أعمى
يطنطن على العود ويغني
وبعدها يغفو عليه في فيئنا
ساعة أو ساعتين في الظهيرة
قتلوه، وفي أمعائه غنى الرصاص
أغنية أخيرة" ص37.
إن هذا القمع الذي هو موضوع أثير في الأدب الفلسطيني عموماً يتكرر في قصيدة أخرى هي قصيدة (قبية) حيث يقول:
رصاص
ينثر في الحجرات رياحيناً من الدم
ويلصق زخرفة الدماء على الجدران" ص69.
ويبدو أن إيقاع الأرض الذي ميز أعمال جبرا الروائية (وبشكل خاص: البحث عن وليد مسعود) قد طبع شعره أيضاً بطابعه الخاص، فمنذ بدايات مجموعاته الشعرية الكاملة يطالعنا بحبه للأرض وتعلقه بها ليجعل شعره هذا فروع زيتونة أخرى في جبل الزيتون:
فلتكن هذه فروع زيتونة أخرى
في جبل الزيتون،
زرع بذرتها في زمن مضى
فتى كثير الرؤى
ولا يملك من أيامه
سوى الحب والكلمات. ص11.
وكما يكرر جبرا إيقاع الأرض روائياً، فإنه يجعل منه في أعماله الشعرية فكرة محببة لا يمل تكرارها، فهو يقول في قصيدة أخرى:
وأرضي الأولى، جنتي
حلمت بها في الضحى.. في الظهيرة. ص185.
ويذكر أن استخدام الشاعر للأسطورة يعد شكلاً آخر من أشكال الغنى الإيقاعي. فثمة أسطورة تبني قصيدة، وثمة قصيدة تبني أسطورة. فقصيدة "لعنة بروميثيوس" ص ص 152 ـ 159 تقوم برمتها على أسطورة بروميثيوس وتفيد منها في بنائها الدرامي والرؤيوي. بينما لا تفيد قصيدة ياقوت وحجر من أساطير فدياس وأثينا وبركستليس، سوى في تشكيل مقطع صغير، وسرعان ما يتجاوز النص هذا الأمر إلى المقاطع الوصفية الأخرى دون إفادة حقيقية من طاقة التوظيف الشعري للأسطورة:
أأذكر فدياس وبركستليس
فهذا الأنف إغريقي
وهذا الفم سوّته أثينا … إلخ
ولا يغفل الشاعر عما للتناص من دور في منح النص إيقاعاً متميزاً، يعطي القارئ دوراً في استنتاجه والشعور به، إذ إن المقارنة بين النص المكتوب وبين النص المستجلب من الذاكرة يمنح شعوراً بالتساوق والانسجام بينهما، والشاعر بارع في استجلاب صور كثيرة وأبيات شعرية تبدأ من التراث العربي (الصمة القشيري) ص57، وتمر بالحكي الشعبي (بصارة يا بصارة) ص64، ولا تنتهي بالأدب الإنكليزي (كيتس وبايرون) ص239 وص82. ويولد بذلك شعوراً فذاً بالموسيقى التي يلتذ بها القارئ نتيجة مشاركته الفعالة في إنتاجها وتمثلها.
من هنا يبدو جبرا قادراً على تقديم رؤاه بشفافية ووضوح، غير مستسلم لسلفية الإيقاع العروضي، مبدعاً نظامه الإيقاعي الخاص الذي قد نختلف معه في إمكانية الاقتصار عليه، ولكننا لا نستطيع إلا أن نعجب بإصراره عليه وشغله فيه، بكل هذا الإخلاص، على مدى ما يزيد عن ثلاثين عاماً.

* * * *


















ولعلنا نتذكر هنا قصيدة (هُلاس) التي تستكنه رؤية الشاعر للمبغى الذي لا يسمع فيه غير نقيق الضفادع والضحكة السوداء:
سوى الضحكة السوداء هذه
لا يسمع صوتاً في الدواخل
وحين يتعمق الشاعر فيما حوله، حين يسبر غور الحياة الغريبة تتحول الأصوات من ضحكة خنازير إلى قرقرة سواقٍ تنقّ الضفادع فيها، ليصل إلى نتيجة معاكسة:
ضحكة الظلماء، ضحكة الأسْود السوداء..
البغيّ في أعمق الدواخل
ومن خلال هذا البناء الهرمي للقصيدة يحاول جبرا أن يطرح رؤيته للحياة ويصل إلى نتائج عميقة، تستند إلى فكرة التضاد بين الجسد والروح في تحقيق الانسجام وتنعي جنازة الروح في لغة تنتصر على تقريريتها باستنادها إلى طاقة جمالية تعبيرية:
آلامك كلها في الجسد
ولن تعلمي أن ثمة في الروح
آلاماً أعمق وأرهب
وأطيب…" المجموعة الشعرية الكاملة، ص 206.
ولأن (قاتل الروح لا تدري به البشر) فقد صار العالم كله في نظر الشاعر شتاء قطبياً:
"ساعات الفرح فيها كالضياء، خاطفة،
والفواجع كالليل لا تنتهي" ص249.
إن زمن الفاجعة هو زمن ممتد يلتقي فيه الخاص بالعام، ورؤية الشاعر للعالم تنطلق من وضعه، من كونه فلسطينياً يترجح في مكانه وزمانه بين قطبين (الآن ـ هنا) و (آنذاك ـ هناك). إذ إن الـ (هنا) في (الآن) تحمل كل جراح النكبة والغربة وآلام الروح وغياب الفرح وإطلال الفاجعة، في مقابل الـ (هناك) في (الآنذاك)، إذ يبدو الزمن البعيد، في المكان البعيد/ الحلم ـ الوطن زمناً للأحلام. إذ يتذكر الشاعر جبرا الشقي الذي يأكل التوت والتين ويقطع الجلنار/ إنها صورة مقتطعة من زمن مضى وانقضى، من وطنه الذي لم تبقَ منه إلا ذكرى الناطور وقمبازه:
وأبو خليل يصيح
راكضاً في قمبازه
في إثرنا
وسوطه في يده
"والله لأذبحنّكم
أكلتم التوت والتين
وقطعتم الجلنار!" ص ص78 ـ79.
ملاحظة: هناك مقطع لاحق: مع العودة إلى الأصل.