لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: خالد أبو خالد: لغتي أكون لكي أكون

خالد أبو خالد في مجموعته الأخيرة
لغتي أكون لكي أكون

د.يوسف حطيني


بعد أربعين عاماً من الشعر، وما يزيد عن عشرة دواوين شعرية، مليئة بالهم الوطني والقومي والإنساني، أصدر الشاعر خالد أبو خالد مجموعة شعرية جديدة حملت عنوان "رمح لغرناطة"، الذي يقدم لنا فيه الشاعر، من خلال سبع قصائد، عصارة روحه وحسه ورؤيته ورؤياه، مثلما يقدم لنا غضبه ورفضه دون مواربة:
لن أسامحَ من زيفوا لغتي ـ سامحيني..
إذا اختلط الخمرُ بالخلِّ .. والأبجدية بالذلّ
واختبأ الهمس بالقولِ.. أو إن أضاع
الخواءُ الدماءَ
ونخل البيوت
الرماد بلادٌ.. ويقتلني أنني لا أموت" ص101.
مع هذا الإهداء يأخذنا أبو خالد بشعور الواثق بالمستقبل "إلى نخلة ستشبه ذاتها". ص5، ويصرّ على رفض الانتهاك، الذي يأتي في صياغة إيقاعية تفيد من توليد اللغة، ومن تفجير دلالاتها، زمانياً ومكانياً، فالرفض الذي يجسده العاشقان في قصيدة "فضاء لأجراس المنافي"، هو في حقيقته رفض جماعي لأي مشروع استبدادي ينتهك إنسانية الإنسان:
تحبينَ صوتي.. أحبك أنتِ
يريدون موتي.. أريدك أنتِ
ونرغب ألا نصالح ما قد ألِفْنا
وألا نصالح هذا الوباءْ" ص52
ويطرح أبو خالد على الإنسان العربي، والفلسطيني خصوصاً سؤال الانتماء، ويبحث عن وطن في غيمة ، وعن ملجأ في شعر فتاة غجرية:
"أي هذي السماوات.. تغدو بلاداً..؟
وأيّ القبابِ..؟
ستتركنا.. في يدينا..؟
وأي الأواني ستكسرنا.. يوم نذهب فيها
إلينا..؟
وأي البيوت ستمنحنا ملجأً..؟
أو تردُّ الغطاء علينا..؟ ص ص 34 _ 35.
ويبدو لي أن أرق المكان الذي يطبع ديوان "رمح لغرناطة" هو سمة عامة من سمات الأدب الفلسطيني: شعراً ونثراً، وإن كان هذا لا يلغي خصوصية كل أديب، ويظهر أبو خالد في ديوانه الجديد مولعاً بالخيبة المكانية، التي كانت، في زمن مضى وانقضى، شيئاً آخر:
" تجوّل حولَ المكان..
الفرنجةُ ينتشرونَ سكارى على السور" ص11.
من هنا تظهر غرناطة بعد نحو 500 عام من أفول شمس المجد العربي عن تلك البقعة مدينة أخرى لا تشبه ذاتها:
"غرناطة المرمرية.. تخلع عن كتفيها رخام النسور
ـ وأبهى بساتينها ـ
وتبدله برخام القبور.." ص9
ولأن غرناطة هنا رمز متعدد للمدن العربية، والانكسارات والخيبات، فإن تأكيد مأزقها هو تعبير عن إحساس الشاعر العميق بألم الفقد العام الذي يتجلى في أشكال متعددة:
"تحاولُ غرناطةُ القفز.. يبتعدُ البحر
تحلمُ بالسير.. يحتجبُ الماء..
تلجأ للصخر.. ينحسر الظلُّ
تبقى محاصرة.. وتُذَلُّ " ص13.
لذلك يعيش الشاعر قلقاً مضاعفاً، وأرقاً متعدداً: فالماضي غير ماثل إلا في أذهان الشعراء، وضمائر المقهورين، والحاضر يبحث عن مستقبل غامض مسكون بالخوف:
"الفرنجةُ يقتسمونَ الغنائمَ.. والناسَ.. بالسيف..
والسوطِ
يعتصرون النبيذَ من الصيف..
والخوفُ مستوطن في الحليب.. وفي الكتب المدرسية" ص17
ولكن هذا الخوف يرفده تفاؤل مادام هناك " فتى يستريح إلى قلبه" ص18، وما دام يولسييز الفلسطيني قادراً على أن يعيد تجربة جدّه يولسييز، فها هو ذا الشاعر يخاطبه بقوله:
يا أيها المفتون بالإبحار.. والمرساة..
جُزُرٌ ستصعد في صباح البحر.. كي تأتي إليكْ
بحر يتوئم ما لديه.. بما لديكْ
البحر بيتك.. أنت بيت البحر
شردك الغزاة.. وشردوه.. وطاردوك..
وطاردوه.. فصار أعلى" ص65.
وتمتاز اللغة الشعرية لهذه المجموعة بعدد من الخصائص التي يبدو أكثرها وضوحاً الانسيابُ وعدمُ التعثر واللعبُ بالأسماء والأفعال والحروف، وفي المقطع التالي يستثمر الشاعر حروف الجر استثماراً ناجحاً قادراً على توليد المعاني والدلالات:
ليس من يأتي من الريح.. كمن يأتي من الريح..
ولكني مع الريح سأذهب..
ناشراً أجنحة مكسورة الرؤيا…" ص113.
وكثيراً ما يلجأ خالد أبو خالد إلى تسريع سرده الشعري، كما يمكن أن نقرأ في المقطع التالي، الذي يفيد من تكرار الفعل المضارع، ويملأ القارئ بإحساس التدفق الغامر الذي لا حدود له:
"يجول بعينيه ـ غرناطةُ الآنَ مشغولةٌ بالكلام ـ
سينهضُ ـ ينهضُ.. يفتحُ خطواته.. يتوازنُ..
يبطئُ.. يطفئُ سيجارةً تحت إبهامه…
ـ سوف تأتي ـ يغازلُ غصناً طرياً.. يضيءْ ـ
الحديقةُ خاليةٌ.. والشتاء صديقْ.." ص10.
وتمتاز لغة الشاعر بأنها كثيراً ما تحيل على الديني والثقافي والأسطوري، إذ يحيل في عدد من قصائده على حطين وذي قار والقادسية ويحضر يوسف عليه السلام، والمتنبي وعبدُهُ وعصاه، ويعود معه مُلك امرئ القيس وعذابُ المعري وداليةُ الثقفي التي تعبر عن ظمأ الشاعر لخمرة الحرية والكرامة، وفي واحدة من أوضح إحالاته للتراث الأسطوري، يحضر طائر الفينيق العربي الذي يشكل معادلاً موضوعياً للتشاؤم الذي كاد يطغى على المجموعة، لأن طائر الفينيق قادر دائماً أن يتجدد، وأن يولد، لا من رماده هذه المرة، بل من حداده:
"إني سيبعثني من رمادي رمادي
أخبّئ تحت جناحيَّ باديتي..
وفؤادي يخبّئ طائره.. وينادي..
لأنكِ شمسي.. سأولد ثانية.. أو
سأولد ثانية.. أو سأولد ثانية.. من
حدادي" ص106.
* * * *
وفي بناء الموسيقى يعتمد أبو خالد في معظم الصياغات الشعرية على القافية الداخلية التي تمنح النص غنائية عذبة:
"ينسحب الأصدقاء من الصورةِ المدرسيةِ..
والصورةُ المدرسيةُ.. من نفسها.. والإطارْ
فتسقط صفصافةٌ وصبيّ..
ونهرُ نهارٍ
ودارْ
ويبقى وحيداً.. فراغ الجدارْ" ص ص 30 _ 31.
وتبلغ الغنائية ذروتها حين يوقّع الشاعر مفرداته بقافية قوية، تعتمد على التشديد، كما نجد في المقطع التالي الذي يجسد عبقرية الموسيقى الشعرية:
"تسمينني غيمة أو دخاناً
أسميك ضوءاً قصيّا
تسمينني مطراً أو سرابَ شتاءٍ
أسميك تقسيمة للوداع.. وصوتاً شجيّا
تسمينني حالماً أو شقيّا" ص 45
وكثيراً ما تكون القافية ضابطاً إيقاعياً للنص، يشد النص بأكمله إلى جو موسيقي واحد، كما نجد في قصيدة "رمح لغرناطة.. سارية للحداد" إذ نقرأ على مدى صفحات السياقات الشعرية التالية:
… وجبالٌ على سفر وعقيق. ص9.
الحديقة خالية.. والشتاء صديقْ. ص10
الحديقة ميتة والهواء غريقْ. ص10
فتدخل عارية كالرحيقْ
ووارفة كشراع رفيقْ. ص14
ينفتح القمح (…) عن جبل عسليِّ السبات.. ومنحدرٍ ومضيقْ.ص15
غرناطة الغجرية.. أغنية الغجري.. وحزن اللآلئ.. والسنديان العتيقْ. ص15.
ويلتفت أبو خالد أحياناً إلى إيقاع المفردة، وذلك حين يشعر بضرورة التأكيد على موقف أو إحساس، فالسياق اللاحق يكرر كلمة "دم" مرات عديدة، حتى ليشعر القارئ أن رائحة الدم تزكم أنفه، مما يعني أن الشاعر ينجح في إدخال القارئ إلى قلب قصيدته:
"دمٌ في الأسرّة.. بين الخزائن.. والباب..
في الحرش.. فوق حطام الشبابيك.. والمقعد المدرسيّ..
دمٌ في الجوامع.. نبع تلاحقه الطائرات..
دمٌ في الصوامع.. والنيل..
في صرخة لصبيّ.. دم في القيامة.. والمهد..
دمٌ يا حبيبي" ص23.
ويظهر إيقاع المفردة بأبهى ما يكون في قصيدة "قراءة في كتاب الزبد" إذ يكرر مفردة الـ "زبد" ستاً وثلاثين مرة، مما يشي ببناء فني يتجه من خلال الإيقاع ليقدم رؤياه للعالم الذي يحيط به، ويمكن أن نلمس هذا الإيقاع منذ مطلع القصيدة:
"زبدٌ حصاركِ
فافتحي شبّاك أحلامي.. على حلُمٍ
يعرّش في مدارِكْ
زبدٌ على فنجان قهوتنا الصباحيّ الشفيفْ
زبدٌ.. وموسيقى الخريفْ
تأتي .. لتذهب في الكتابة.." ص59.
بقي أن نقول أن "رمح لغرناطة" تنتمي بجدارة إلى الشعر الذي رسم أبو خالد جمالياته بصبر بناة الأهرامات، مما يجعل منها مجموعة شعرية جديرة بالقراءة، وقادرة أن تثير في المتلقي حنيناً دافقاً إلى الخير والحق والجمال.

د.يوسف حطيني


(*) خالد أبو خالد: رمح لغرناطة، دار النمير، ط1، 1999.
(*) ألقي هذا البحث في حفل التكريم الذي أقامته جمعية الشعر في اتحاد الكتاب العرب للشاعر خالد أبو خالد، في الثالث من نيسان 2001 في المركز الثقافي العربي بالمزة.