لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: حالة شغف: حكاية التاريخ: حكاية الحكايات


حالة شغف :حكاية التاريخ..حكاية الحكايات!!

د.يوسف حطيني


رواية جديدة للكاتب الروائي والمسرحي والدرامي السوري نهاد سيريس تضاف إلى تراكم ثرِّ ونوعي يعمل على ترسيخه عبر كل ما يقدمه من إنتاج أدبي متميز . الرواية الجديدة حملت عنوان "حالة شغف " وهي تحاول أن تؤسس لحالة شغف موازية عند القارئ الذي يبدو عنصراً مهماً من عناصر البناء الروائي، إذ إن نهاد يوضح له بعض الأشياء ويحاوره ويعتذر منه أحياناً ،في محاولة منه لكسر الحاجز بين المبدع والمتلقي ،في عصر صار فيه المتلقي منتجاً آخر للنص الإبداعي .
"فإن وجدتني أخي القارئ لا أجيد كتابة القصص فاعذرني ..ثمّ إني قد فتحت كتاباً أدبياً بالأمس فوجدت المؤلف قد استهل كتابه بالاعتذار من قارئه لأن الكتاب غير كامل والكمال من صفات الخالق "ص19.
حتى إن نهاداً يقحم القارئ في السرد الروائي ذاته ويقيم علاقة مميزة بين الراوي والمتلقي الذي يجد نفسه في أتون الحدث :"وأريد هنا أيها القارئ أن أعترف أنني شعرت في هذه اللحظة ببعض الخوف خصوصاً وأن البيت يكتنفه كثير من الغموض"ص53.
ولكن :ماذا عن الحكاية ؟ وما الإطار الذي اختاره الكاتب لروايته ؟
إنه إطار اجتماعي،كما يبدو للوهلة الأولى ،يرصد حالة شغف مثيرة بين الراوي الشيخ ووداد ، وحالة شغف أكثر إثارة بين النساء والنساء ،وإذ تصدم هذه الحالة بعض القراء فإنها لا تفقد مبررها الحبكوي ،ولا منبتها الواقعي ،ولا تفقد كذلك القدرة على إثارة المتعة والتشويق..
إنها حكاية موظف يذهب في اتجاه قرية أبي الفدا ،في مهمة وظيفية شاقة ،وحين تتعطل السيارة تبدأ معركته مع الليل والكلاب ، وينبت بيت وسط الظلام ،وفي البيت شيخ،وفي فم الشيخ حكاية فيها الكثير من الإثارة:
وداد التي تصل إلى حلب باحثة عن الخوجة بهيرة بعد موت أمها بديعة ( تلك الأم التي أنجبت ابنتها نتيجة علاقة حب مع ضابط تركي)ولكن الأم التي تسير على طريق أمها
تتمرد على الخوجات ونظام الجنس المثلي ، وتفعل مثلما فعلت أمها تماماً حين تجد الرجل الذي نكتشف فيما بعد أنه الراوي الشيخ ذاته ، وإذ يفترق الشيخ عن وداد لا تجد لاحقاً إلا أن توصي ولدهما أن يلتحق بالشيخ ليكون شاهد الحكاية وشهيدها الذي يحاول أن يحبسها في صدر الشيخ دون جدوى ،لأن الحكاية تأبى إلا اكتمالاً.. ليعود الموظف في آخرها إلى بيته بعد أن انتهى من أسرها.
* * * *
غير ان الذي يدقق في الخلفية التاريخية للرواية يقرأ ، بين السطور، تطور الأحداث التاريخية التي شهدتها سورية في ذروة نشاط الأحزاب الوطنية إبان أفول العهد التركي، حين يجد الأتراك أنفسهم في مواجهة العرب من جهة والإنكليز من جهة أخرى.والوطنيون العائدون من فرنسا لا يضغطون على منطق الرواية ، والكاتب الذي يرافق الشخصية الرئيسة وداد خلال وصولها إلى حلب يحتال ، وهذا احتيال مشروع ، علينا ليقدم بشكل غير مباشر، وصول الكتلة الوطنية ، دون أن تفقد حكاية وصول وداد مع الوفد حيويتها إذ إن مكان وصول الوفد هو مكان اللقاء الأوّل بين وداد والشّيخ "فكل واحد يريد إلقاء نظرة على رئيس الكتلة الوطنية هاشم الأتاسي الذي كان يرئِس الوفد وإلى سعد الله الجابري ابن المدينة والسياسي الأنيق ..وهناك من كان محتاراً إلى من ينظر إليه ، فمن النادر أن يجتمع في مكان واحد وفي زمان واحد كل هذا العدد من الوطنيين ورجالات السياسة إلى جانب رجالات الحكم الاستعماري "ص26.
ولا يبدو التاريخ الذي ينسرب من بين السطور سياسياً فقط إذ ثمة حياة اجتماعية تاريخية تتحرّك ، وثمة توثيق غنائي يرصد المغنيات والراقصات ، يقول الشيخ للموظف:
"وأستطيع هنا أن أعدد لك أكثر من واحدة من المغنيات والراقصات والعازفات ممن عرفتهن المدينة مثل أَسّامة التي كانت أشهر مغنية في حلب (…) كما كانت هناك إنعام توفيق ووفاء صدقي وبهية السودا وبههية البيضا.."ص34.
ولابد هنا من الإشادة بهذه الرواية لأنها استطاعت أن تخرج من مأزق التأريخية المباشرة التي قلما تنجو منها رواية تتعامل مع الموضوعة التاريخية ، ولنا هنا أن نتذكر رواية "بوابة الجنة"لحسن سامي اليوسف التي تنجح من الخروج من المأزق ذاته حين تجعل الانتفاضة الفلسطينية إطاراً عاماً لحكاية الرواية.
ونستطيع أن نلمس تميّز هذه الرواية من خلال تنوع طرق الأداء الزمني ،إذ يخلق نهاد كثيراً من حالات الاسترجاع الداخلي والخارجي ، ويقيم نوعاً من التجاور المغامر بين الماضي والحاضر .فالموظف / الراوي الأساسي يقطع خط سيرورة الرواية من أجل الالتفات إلى الماضي ، ويحس نهاد بعين الناقد الخبير أن هذا القطع للحاضر جاء مفاجئاً ، فيعتذر ـ الراوي لا الروائي ـ من قارئه،ويغدو اعتذاره جزءاً مسوّغاً تماماً من أجزاء الحبكة :
"قبل أن أتابع في سرد حكايتي هذه أجد لزاماً عليّ أن أحكي شيئاً عن ابنة المرهج هذه ، وليعذرني القارئ بسبب هذه الاستطرادات فقد حذرته منذ البداية بأنني لا أفقه شيئاً من أساليب كتابة الحكايات"ص10.
وهو كثيراً ما يراوح بين هذين الزمنين ، فيأخذك من خلال الحكاية نحو الماضي ثم يعيدك إلى الحاضر بشعور غامض أو حركة غريبة أو كأس شاي :
"دخل الخادم علينا وبيده إبريق من الشاي الحار
(…)
وما إن خرج وأغلق الباب حتى جاءني صوت الشيخ الهادئ الرخيم: ظلّت وداد واقفة خارج المحطة ساعة كاملة"ص27.
وقد أثْرت الحكايات الزمن الروائي إثراءً كبيراً ،فالحكاية تدخلك إلى حكاية جديدة ، والزمن الماضي يتجه إلى الماضي الذي قبله ،ثم ينبثق الحاضر لينشّط الذاكرة ويلم ما تبعثر من الخيوط. وإذ يستغرق الماضي الراويين الشغوفين به / الموظف والشيخ/ لا تفقد الحكاية إنسانيتها، ولعل أكثر التطورات تعبيراً عن البعد الإنساني لها هو موت الشيخ قبل إتمامها.. فالشيخ يموت بعد أن يسرد تلك الكلمات السحريةالتي تصور لقاءه الجنسي الحميم مع وداد . وحين يطلب منه الموظف أن يتابع يقول:
"والآن اتركني أرجوك .. لاأريد أن أفقد متعتي ..إنني أستعيد تلك اللحظات التي قضيتها بين يديها "ص212.
لقد مات الشيخ في هذه اللحظة تماماً لأنه أراد ،وفق المنطق السيريسي، أن يغلق عينيه على لحظة النشوة المستعادة ، وهو ما تمكن تسميته بـ" تبئير لحظة النشوة" ، وهذا يعيدنا إلى "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح حيث تطلب جين مورس من مصطفى سعيد وهي في أوج نشوتها أن يضغط خنجره بين النهدين، مثلها في ذلك مثل ظبية نجران في رواية "شارع الغاردنز" لأفنان القاسم ،و"في الدارة أعلى التل" لسومرست موم إذ يطلق رجل بسيط النار على نفسه بعد أن يعانق جسد سيدة لم يكن يحلم بالنظر إليها.
وبعد أن ينتهي الرجل في "حكاية شعف"قبل الحكاية تكشف الوثائق التي كانت بحوزته زواجه من جليلة التي ماتت فيما بعد و الرسالة التي تخبره فيها وداد أن اسماعيل هو ابنه ، وعندها يكتشف الراوي سبب خوف إسماعيل من الحكاية ،ويغادر البيت الذي كسر رتابة حياته المملة.
* * * *
ويعتمد سيريس اعتماداً كبيراً على الاسترجاعات التي تأتي على شكل استطرادات مقصودة تدل على الحرفية الروائية لديه، وإن كان الراوي يحاول أن يقول غير ذلك : "قبل أن أتابع في سرد حكايتي هذه أجد لزاماً عليّ أن أحكي شيئاً عن ابنة مرهج هذه ـ وليعذرني القارئ بسبب هذه الاستطرادات فقد حذرته منذ البداية بأنني لا أفقه شيئاً من أساليب كتابة الحكايات ". ص10.
فالاسترجاع ديدن الزمن الروائي ، والتوازي بين الزمنين الماضي والحاضر هو لعبة الرواية الأساسية ،فبعد حكاية قصة مرهج وابنته يعود بنا الكاتب إلى الزمن الواقعي، ثم إن الحكاية الرئيسية التي يرويها الشيخ تقوم في أساسها على الاسترجاعات المتلاحقة التي تستحضرها ذاكرة الشيخ أمام هذا الغريب ،والشيخ المتعب الذي يرى خلاصه في الحكي الماضي كثيراً ما يتفيّأ بالحاضر ، مستظلاً بوضعه الأسري والاجتماعي باحثاً بين فترة وأخرى عن محفّز للذكرى أومستعدّاً لنوم قلق أو لطعام أو شراب يقدمه الخادم / الابن الذي ظلّ مجهولاً بالنسبة للراوي إلى أمد بعيد ، ثمّ يخرج ليفتح الماضي على حكاياته من جديد:
"وما إن خرج وأغلق الباب حتى جاءني صوت الشيخ الهادئ الرخيم:ظلت وداد واقفة خارج المحطة ساعة كاملة". ص27.
وعلى الرغم من أن الابن / الخادم يريد إعاقة الحكاية ولو اضطر إلى قتل الراوي، فإن هذا الراوي يستسلم لغواية الحكاية استسلاماً عجيباً متجاهلاً المتاعب التي قد يتعرض لها نتيجة لذلك ، حتى إنه صار يعدّ محفّزاً من محفّزات الحكاية، فهو يقول للشيخ :"لقد تركنا وداد في عربة حنتور ،برفقة السائق الذي كان يتلصلص إلى وجهها الجميل ،وبيدها مظروف كتب فيه عنوان الخوجة بهيرة..ماذا حصل بعد ذلك؟"ص57.
إنها الحكاية التي لا تريد أن تنتهي ،لأنها إذ تنتهي تنفتح على حكاية جديدة ، فالراوي الأساسي يخاف من الشيخ ويخشى من تآمر الخادم / الابن معه، ويروي لنا إذ ذاك حكاية الخادم الذي تآمر مع صاحب البيت ليجعلا من زائرهم خادماً لهم مدى الحياة…إضافة إلى مجموعة من الحكايات التي تنبق وسط السرد كما نبق ذلك البيت الغريب بعد معركة الكلاب/حكاية عبود السنكة وحكاية كردو الجبل الذي يذكّر بصعاليك العرب في العصرين الجاهلي والأموي ، وحكاية خديجة الخادمة مع زوجها وعروسه التي قتلته ، وحكايات الصراع بين بهيرة وسماح على استجلاب الفتيات الجميلات …إلخ /.
ويذكر هنا أن الحكايات التي يرويها الشيخ تنتمي إلى الماضي زمانياً ، ولكنها مكانياً تنتمي إلى حاضر وزّعه الشيخ على جدران بيته على شكل صور ،ويشار إلى أن بيت الشيخ كان مؤثثاً تأثيثاً يلتفت كثيراً إلى الوراء .يقول الراوي واصفاً غرفة الشيخ :
"كانت الجدران مليئة بالصور المؤطرة ، لم يكن هناك مكان لصورة أخرى (…) كانت صور نساء ورجال ..أطفال وشيوخ (…) كلهم كانت له علاقة بهم يوماً" ص41.
ويبدو الراوي ، ومن ورائه الروائي ، مهتماً إلى حد كبير بملاحقة المكان الأليف والغريب على حد سواء ، وفي حالة بيت مثل بيت الشيخ الذي يثير وجوده في مكان منعزل كثيراً من الغرابة لا يدري المرء ما الغريب وما المألوف.ويذكر هنا أن ألفة المكان في وسط الفضاء الموحش كانت أول ما أثار غرابة الراوي الذي كان يلاحق بعينه جميع التفاصيل: " وللغرابة كانت نوافذ البيت واسعة ، اقتربت من النافذة المضاءة ونظرت إلى الداخل : كانت هناك مرآة كبيرة تعكس نورالمصباح إلى الخارج مما جعلني أشاهد من بعيد المصباح وانعكاسه على المرآة.. كانت الغرفة واسعة مفروشة على طريقة أهل المدن الأغنياء، شاهدت لوحات زيتية معلقة على الجدران وأثاث فخم ومريح ومدفأة حطب مبنية في الجدار"ص13.
وحين يعتاد الراوي على المألوف الذي كانت ألفته تثير الدهشة ، يلعب نهاد لعبته الجديدة ويواكب حاجة البناء المكاني إلى التشويق ، إذ يدخل الراوي المصرّ على سماع الحكاية والخائف من إسماعيل الخادم / الابن إلى غرفة إسماعيل نفسه، وينفتح المكان عندها على الغرائبيّ:
"عند الباب المفتوح ، شاهدت أنه بانفتاحه يخفي باباً آخر، كان عليّ أن أُغلق باب المطبخ لأعاين ذلك الباب، وهذا ما فعلته.. وكان الباب الثاني ضيقاً لا يزيد عرضه عن الستين سم بدون مسكة عند القفل لفتحه (…)حسبت أن الباب مقفل ولكنني تجرّأت فدفعته وإذ به ينفتح إلى الداخل.. هذه إذاً غرفة إسماعيل"ص132.
وللأمانة فإن المرء يلمس اهتماماً بالغاً بالمكان وتأثيثه في هذه الرواية ويمكن هنا أن نتذكّروصف صالون بيت الشيخ /ص43/ ووصف المظهر الخارجي لبيت بهيرة /ص58/ وحوش بيتها الذي كان "عبارة عن مربع غير مسقوف تطل عليه نوافذ الغرف من الجهتين الغربية والشرقية وكان هناك درجان في الجهتين الأخريين يقودان إلى المربعات والأسطح بينما احتلّ ديوان كبير مفروش بعدد كبير من المقاعد والكنبات الجهة القبلية (…) أما وسط الحوش فقد احتلته بركة ماء…."ص60.
* * * *
فيما يتعلق بالشخصية فإن نهاد سيريس يبنيها بالطرق المتاحة كافة ، مستخدماً التسمية والبناء الجسدي والنفسي ونمذجة الشخصيات كاريكاتورياً وواقعياً ، ومن خلال قراءة الرواية نلمس تعاملاً متمايزاً مع الأسماء ،فقد تمرّ الشخصية دون تسمية ( ابنة المرهج ـ الراوي الأساسي ) وقدتحكي تسميتها شيئاً ما ، متغلغلة حيناً في وجدانه ( وداد / وداد الحقيقية) أو في لعبته الفنية ، وعندها يصبح اختيار الاسم جزءاً لازماً للحبكة الروائية:
"كانوا قد أرسلوا لوداعها عبدو السنكة وهو ولد مجذوب بنصف عقل أطلقوا عليه اسم السنكة لأنه اجتاز أحد الأيام الحدود التركية(…) فطعنه أحد الجنود الأتراك بالسنكة، فصار يعرج وصار مضحكاً أكثر وهناك عاهة ثالثة تجعله مضحكاً جداً ففي صف أسنانه العلوية الأمامية فجوة كبيرة تجعله يصفر دون قصد حين يتكلم " ص21.
ونستطيع هنا أن نطالع امتزاجاً بين التسمية والوصف الجسدي للشخصية كما نستطيع أن نطالع مثل هذا الامتزاج بين دور الشخصية وعالمها الداخلي ( وداد / الشيخ ) إلا أن هذا لا يكون صحيحاً دائماً إذ تظهر بعض الشخصيات التي تكون قادرة غالباً على ضبط متغيرات الأحداث حولها كما تضبط بهيرة"بنات العشرة" لذلك فهي بحاجة أن تغير لهجتها وأسلوب تعاملها مع الأحداث ، بوصفها أخت الرجال ، مثلما كانت تغير اسمها:
" بهيرة ليس هو اسمها الحقيقي ،ولا أحد يعرف ماذا كانت تسمى ، ولعل البعض أطلق لخياله العنان فراح يدعي بأن اسمها الحقيقي كان على شاكلة حسين أو عبد الـ…. أو أبو اصطيف وغيره من الأسماء التي تطلق على الرجال بسبب شبهها بهم"ص35.
وإذ ينطلق الروائي بعيداً في وصف سطوة بهيرة وتشبهها بالرجال إذ ترتدي ثيابهم "ولا تنسى أن تضع الطربوش الأحمر" ص35. فإنه لا يفوته أن يدخل عميقاً إلى عالم الشخصية الداخلي ، ويستجلب ماضيها في استرجاع يمتد على مساحة نصية واسعة نسبياً ،تظهر فيه وقد رئست عصابة أولاد على أساس أنها ذكر ، وخلال إحدى الغارات على دجاجة هاجم أفرادُ العصابة الذكَرَ بهيرة ، وقاموا بخلع بنطلونـ (ه) ثم حاولوأ اغتصابـ (ها)، وهكذا استطاع سيريس أن يقنعنا بشخصية بهيرة وحقدها على جنس الرجال وطرد فاطمة التي جعلت من "كردو الجبل" بطلاً ذكراً تتعلق وداد بأهداب حكايته لتسير فيما بعد على طريق أمها في حبها للماضي وللرجل وللانعتاق من إسار الجنس المثلي.
ولا ينسى الروائي خلال تقديم شخصياته الرئيسة والثانوية (الشخصيات البهيرية مثلاً) أن
يهتم بالشخصيات الأقل أهمية مثل شخصية فاطمة /الخادمة وشخصية حميدة خانم التي يقدم لها نهاد وصفاً كاريكاتورياً بديعاً:
"كانت كتلة الشحم تلك بحاجة أيضاً إلى من يساعدها في الاغتسال وفي التجفيف وفي ارتداء ثيابها وترتيب شعرها . أما حين أصبحت واحداً من سكان البيت فقد كنت أجد متعة كبيرة في مراقبة امرأة عمي التي هي في نفس الوقت خالتي التي تشبه جبلاً من اللحم الأبيض المتهدّل،وفي إحدى المرات رأيتهما يساعدانها في ارتداء سروالها الداخلي"ص155.
ومثل هذا التنوع الثرّ في أشكال تقديم الشخصيات وفي غنى نماذجها استطاع الروائي أن يمنح الرواية حركتها وأتاح للشخصيات أن تقوم بوظائفها المنوطة بها دون أن تحدث الملل الذي قد ينجم عن تكرار شكل التعامل مع الحدث من قبل الشخصيات الروائية.
* * * *
إضافة إلى هذا الغنى الزماني والمكاني والشخصياتي تتضافر اللغة العالية مع لغة الحكي الشعبي لتقدم أنساقاً لغوية تناسب تطور الموقف الروائي ، ففي بداية الرواية يقدم سيريس صورة لغوية أنيسة للظلام الذي كان يكتنف الطبيعة :
"أحسست أن الظلام لم يكن دامساً بل إن السماء كانت مضاءة بنور خفيف لا يعرف مصدره .. بل هو ضوء الظلام .. الضوء المتناثر بنسق واحد والذي يجعل الظلام لا يكون ظلاماً تاماً " ص11.
وقد يبلغ التعبير الصوَري ذروته ، ويقدم لنا الروائي أنساقاً تنتمي إلى الشاعرية السردية التي تتجاوز المألوف إلى المبتكر ، وتفاجئ القارئ ـ ولا تفاجئ السرد طبعاً ـ بما هو خارق للمحفوظ والمتوقَّع :"كنت أحرس ذكرياته بواسطة بندقية"ص175.
ويغلب على السرد استخدام صيغةالمتكلم ، ولكن المتكلم ليس واحداً إذ إن تداخل الأزمنة وتداخل الروايات ،وتبادل حركة الرويّ بين الرواة ـ والراويين الأساسيين: الموظف والشيخ بشكل خاص ـ كل ذلك قاد حركة السرد إلى نوع من التشتت الممتع ، وقد يتناسل الرواة في بعض الأحيان تناسلاً محيّراً ، إذ يجد القارئ نفسه في مواجهة الشيخ الذي يروي للموظف حكاية سمعها من وداد وكانت أمها قد روتها لها…
ويلاحظ في لغة نهاد ميل للشعبي الذي يلجأ إليه بغية إقناعنا بواقعية الأحداث ، فيفزع إلى التاريخ الاجتماعي الشعبي ويقدم العديد من الوصايا (وصية بديعة لوداد بالالتحاق ببهيرة، ووصية وداد لإسماعيل حتى يلتحق بوالده الشيخ ، ووصية والد الشيخ للشيخ ، حين كان شاباً بأن يتزوج جليلة ) ويعود الروائي إلى أغاني العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي (القرن العشرين) ويرصدها ، إذ يغيب الشيخ " بعيداً مع أغنية :جمالك.. ربنا يزيده ، والليل يطول ويكيدني ،ويا آسي الحي " ص16.ويورد في بعض الأحيان مقاطع من فنون الغناء ، كالمقطع الذي يفتتح به الفصل الرابع ، وهو عتابا غنتها الخوجة بهيرة لوداد في حفلة حمّام الشهرة :
"صباح الخير يا عـود الحـور واقف
داب اللحم يا يوم وتم الغصن واقف
لأجـل عيونو السـود لأتم أنا واقف
عبـد مـرهـون لحـين الطـلب"ص110.
* * * *
باختصار تقدم "حالة شغف" نموذجاً جيداً للرواية التاريخية التي تُخضع التاريخ لمنطق السرد، وتخرج بذلك من مأزق التأريخ ، وتفهم الماضي مجموعة من العلاقات السياسية والاجتماعية والفكرية التي ينتجها أفراد ينتمون إلى حقبة محددة ،ويعيشون حياتهم بجميع حالاتها الإنسانية.


د.يوسف حطيني
25كانون الأول ‏1999‏