لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: مجاز العشق: لذة الكتابة في حضن الماء

مجاز العشق : لذة الكتابة في حضن الماء

د.يوسف حطيني

" أصوات كما في ساحة الشيخ ضاهر لا يلفّقها صوتك : رواية ـ ماء : رواية ـ موت : رواية ـ حياة : رواية أسطورة وبحث " . ص ص 124 ـ 125
مجاز العشق رواية جديدة للروائي الناقد نبيل سليمان تختصر المسافة بين الرواية والموت، بين الرواية والأسطورة ، رواية تَغرق بالتفاصيل ، كما تغرق بالماء ، لتعيش حياتها وفقاً لرؤية تنعي المبادئ ، وتحوّل هزيمة الروح إلى نصر مؤزّر للجسد .
* إن الاقتباس الذي لجأت هذه الدراسة إلى تظهيره في بدايتها هو واحد من الأنساق اللغوية الكثيرة التي يقدّمها الكاتب حين يبحث في هذه الرواية عن أهميتها ، وهو إذ ذاك يحاول أن يجد صيغة ترضي طموحه وتفجّر الدلالات الكامـنة في قلـبه ، وفي قـلوب الشخصيات التي تعيش قلق التجربة وقلق الكتابة.
إنها حقاً.. رواية موت : لأنهاتحمل في داخلها جثثاً تحاول أن تدقّ جدران الخزان ، جثثاً حيّة ليس لها إلا قلوبها الدافئة ، ورغبتها العنيفة في ممارسة عشق الجسد ، وهي تحاول مواجهة الموت الذي يحيط بها من جميع الجهات : فثمة فلسطين التي تموت مرتين : مرة على يد جلادها ومرة على يد الحاكمين بأمر أوسلو وعقابيلها ، وثمة موت تحمله ندوة في عمّان تجمع الجلاد والضحية علىطاولة واحدة ، وثمة موت يؤججه الوجه الكولونيالي للصراع العربي الإسرائيلي ، وثمة موت يكرسه أولئك الذين يموتون على مذبح الحياة القاسية ، وأولئك الذين يجهضون أحلامهم على مذبح التطور السياسي للقضية الفلسطينية…إلخ .
مجاز العشق أيضاً رواية أسطورة وبحث : فهي تحيل على كثير من المرجعيات التاريخية التراثية الأدبية والدينية ، كما تحيل على الرواية الحديثة والفن التشكيلي ، والتقارير المختلفة للهيئات السياسية والاقتصادية المحلية والدولية حول ما ينوي الإسرائيليون وغيرهم سرقته من العرب .
هي رواية تبحث عن الماء ، وتطلب الموت في أحضانه ، كما يطلب الراوي الموت في أحضان عشيقاته ، تُنبه على الخطر المحدق الذي يمنع مجتمع الرواية ، الذي ابتُئِر من المجتمع الممتد بين المحيط والخليج ، من أن ينشد ماءَه لذةً وغرقاً في ظل التخطيط الاستعماري القديم الجديد للسيطرة على مياه لبنان وسورية والأردن .. وهنا تمارس الرواية دورها التحريضي الفاعل الذي يترك في نفس المتلقي، بسبب تركيزه على هذه القضية ، إحساساً بالهلع على مستقبل الماء ، وعلى الحياة التي يصنعها كتابةً وجنساً وعشقاً وحرية ترفض جميع القيود التي تحاول فرض رؤيتها على ما تبقّى من عرب لا تطربهم تصريحات أقطاب النظام العالمي الجديد .
وفي ظل الهزيمة التي تبدو شاملة يحاول الروائي أن يبحث عن انتصارات محدودة يريد من خلالها أن يقنعنا ، وأن يقنع نفسه بقدرته على الفعل . ويبدو الفعل الجنسي واحداً من الانتصارات السهلة التي لا يحتاج تحقيقها إلى مواجهات كبيرة ،إذ يجد الراوي نماذج من المناضلات اللواتي يناضلن و يعبرن عن إبداعهن الجسدي بالكفاءة نفسها، يمارسن الطقس الجنسي ، ويصلحن نماذج للشرف و الأمانة ـ صبا العارف مثلاً ـ إذ يبدو الشرف عند الراوي موشوراً يُنظر إليه من زوايا مختلفة.
* يبدو البطل فؤاد الذي يحضر على مساحة السرد الروائي كله مهووساً بالثقافة والجنس ،مهووساً بالرواية والكومبيوتر ، ومن أراد أن يتبعه فعليه أن يدخل إلى هذا الملكوت ، وهذا ما فعلته صبا العارف خاصة حين سافرت فاتن طروف إلى قبرص لرؤية زوجها ، ثم إلى الأرض المحتلة لرؤية وطن كانت تحلم أن تعود إليه ، كما عاد أوديسيوس .
فؤاد هذا يتلقى الحرن و الموت بما يشبه الحياة: فالقلب كسير أثخنته الجراح ، وأثخنه الموت المكرر أمامه بآلاف الصور حتى (تكسّرت النصال على النصال) كما قال شاعرنا العربي. وفي هذا الجو المحبط لا يجد أمامه إلا صبا التي تخلصه من رائحة الفقد وتفرض عليه (خبرتها النضالية!!) وجوّها المتعب المعطر بأريج الجنس المبدع الذي جاء بديلاً حقيقياً عن كل ما مارسه كل منهما من جنس سابق :
"تهجّى الجسدان لغة جديدة ، لكأن المرحوم مازن لم يفضّ بكارة ، ولا فؤاد ضاجع فاتن ،ولا صبا فرّت من أصابع أبو كريمظفر بثدي لها مرة ، ولا فؤاد عطّر رابية لنوال الشيخ ،أو تشمم أو استمنى ،ولا صبا ألطفت إلطافاً على سيف الفرات: لذا هما الآن آهة وحواء ، وفحيح وعواء ، وزقزفة وحفيف أوراق: مرضعة جاهلة وصديق جاهل: وجع وعراك وفضول وحبور: حقائق وأخيلة مثل وحش وإنسان وزلزلة وخلودوشهقة تتفجّر ماء: الماء سيغدو مشيجاً والمشيج سيغدو علقة والعلقة ستغدو مضغة: مبروك يا عروس: مبروك يا حبيبي" / ص 155.
وقد افترض هذا اللقاء الجنسي الحار مخططاً لزواج لم يكتمل ، زواج قائم على الحب والتقارب الفكري، في مواجهة زواج نفعي بين نوال الشيخ وشهاب الوزير الذي يحاول ألا يخسر فؤاد ، لأن فؤاد مؤتمن على كنز ثمين ، مؤتمن على صبا التي تمتلك وثائق تدين شهاباً بالتهريب و التزوير والإثراء غير المشروع ..ولأن الطهارة (بالمفهوم السليماني) والدنس لا يلتقيان ،والوطنية والخيانة لا يلتقيان ، فإن فؤاد وصبا من جهة وشهاب من جهة أخرى لم يلتقوا في نهاية الرواية ، وهنا ليس المقصود باللقاء طبعاً سوى اللقاء الفكري والروحي القائم على الرؤى المشتركة ، ذلك اللقاء الذي يمثله كل من فؤاد وصبا ، لأنهما كانا معاً في النهاية كلاً متجدداً لا يمل من مواجهة المحور الآخر: السياسي والاجتماعي والسياسي النفعي الذي بدا مستعداً لسرقة الماء والوثائق ، ولسرقة الكحل من العيون .
من هنا نرى أن المواجهة دائمة على مساحة الرواية بين الموت والحياة ، بين الطهارة ،والدنسوعندها يبدو الجنس المخرج الوحيد للانتصار، وقد بدا لنا أن (انتصارات)فؤاد وصبا كثيرة في هذا المجال، إذ يبدو كلاً منهما ذا خبرة مكّنته من أن يصنع لقاء جنسيياً لاهباً .
والذي يلاحظ أن معارك الحب التي تجري على مساحة الرواية تنتهي بانتصار الطرفين ، وهذه ميزة معارك الحب ، وهنا نستخدم كلمة المعارك لأن ساحة الجنس لدى نبيل سليمان تبدو مثل ساحة الحرب ،تضيئها فلسفات الشخصيات ورؤاها للمشروع الجنسي، فنوال الشيخ تبدو نموذجاً غير مألوف في الرواية العربية، إذ تبدو في لقائها الجنسي مع فؤاد غير مكترثة بالشريك ـ على خلاف ما يبدو قبل هذا اللقاء ـ فالشريك عندها واحد من مجموعة ، وهي المضحية الملتذةالتي تقسم جسدها بين الناس بالقسطاس،ة وإذا كان هذا التقسيم يبدو متباعداً زمنياً، فإنه في السياق اللغوي يبدو متجاوراً تجاوراً حاراً .. وللمرء أن يتساءل عن عظمة هذه (التضحية!!) التي يتحدث عنها الروائي حين تقسم تلك الفلسطينية جسدها، كما يقسم المسيح أشياءه بين الناس.. وللمرء أن يتساءل أيضاً عن هذا الدال الذي لم يجد نبيل سليمان أفضل منه لإبلاغ المدلول !!
" فؤاد يوشك أن يقع في أمداء البطن كأنه السرة الضائعة، فاتن تأمره أن يهوي إلى القرار، فؤاد يتمطق: هذه قسمة ضيزى: فاتن تفح: أنا أقسم لك ولغسان وهبة، وأنيس أسعد وغيره: انزل، السواد يقدح شرراً" ص91.
والسواد لون حاضر دائماً: حاضر في أسفل بطن فاتن طروف، وفي قلوب الناس الذين باعوا الوطن على مذبح الثراء السريع، وعلى مذبح السلام الذي يحاول الأعداء أن يفرضوه،وهو حاضر أيضاً في شكل الموت الذي يتحول إلى نشيد يواجه الراوي:
"لقد تسلل البلى إلى أطرافي
وسكنت المنيّة حجرة نومي
وحيثما قلبت وجهي أجد الموت" ص114.
وحتى يرسخ الكاتب الإحساس بظلمة الموت وبشاعته يقدم لنا الفصل اللاحق بعنوان (حياة )،ببراعة تجسد عظمة الإحساس بالحياة في حضور هذا التضاد الأزلي.
* هذه الرواية المحشودة بالجنس .. بالحياة في مواجهة الموت ، محشودة أيضاً برموز الحياة الفاعلة فيها:
زمناً ومكاناً وشخصيات ، وإذا كان الروائي يريد أن يرسخ رؤيته للتجديد والتجدد حتى من خلال الفضاء النصي ، وعلامات الترقيم بشكل خاص ، فإنه يرسخها أيضاً من خلال براعته في تقديم الشخصيات التي يحشدها في المستويات كافة : فاعلة ومساندة ومعيقة. لذلك نجد أنفسنا أمام عدد كبير من الشخصيات الحاضرة من الحاضر أو من التاريخ أو من بطون الكتب ، وواضح أن فؤاد وصبا من جهة ، وشهاب الوزير من جهة أخرى هم أكثر الشخصيات حضوراً ،إضافة إلى فاتن طروف التي تحاول أن تجد لنفسها طريقاً خاصاً.
والكاتب مشغول أساساً بتقديم فؤاد إلى القارئ ، وهو يحيط بكل ما حوله من حدثوزمن ومكان وشخصيات ليضيء هذه الشخصية داخلاً وخارجاً ، فالروائي في عدة مواضع يقدم هذه الشخصية وظلالها حتى من خلال الحياة اليومية لفؤاد التي يقدمها الروائي دون تعثر : " سأسرع إلى الحمام فإذاعة الشرق ، فالبراد ،فجريدة الحياة ، فدفتر المذكرات المغلق دوماً مثل النافذة : ثم أسرع إلى الهافانا أو كافيتريا الشام أو مكتبة عبد الفتاح أو وزارة الثقافة أو الهاتف " ـ ص 28 ـ .
وفي الحقيقة فإن طريقة التقديم هذه تذكر على نحو ما بكل من بودلير وبشار بن برد ، اللذين اعتمدا كثيراً على تراسل الحواس ، وكأن الفعل ( سأسرع ) قادر على اجتراح المعجزات ، فهو حين يسرع إلى الحمّام يفترض اللمس وحين يسرع إلى إذاعة الشرق يفترض السمع وإلى جريدة الحياة يفترض الرؤية … وهو بهذه الرشاقة يعرفنا جانباً كبيراً من اهتمامات الشخصية التي يبنيها كذلك من خلال كلام الآخرين عنها .. إذ يبدو فؤاد من خلال صبا على النحو التالي :
" أنا كنت مغمضة العينين أم أنت كنت الماكر ؟ أين كانت الشيبة المبكرة والجلح المبكر ؟هذه الشعرات النابقة من فتحة القميص : اللسان الذرب : الخطى الواسعة : الأصابع السمينة الصغيرة: الجد المفاجئ والمزاح المفاجئ والخوف و الجرأة و التهذيب والسفاهة ". من هنا يبدو فؤاد ذا صفات شهريارية تجتمع النساء حوله تباعاً وقد تجتمع لديه امرأتان في وقت واحد ( كما حدث مع صبا وفاتن ) ، ويعزز حضوره القوي لدى الشخصيات هذا الإحساس به من قبل نساء مجتمع الرواية .
وتبدو صبا كاشفة للشخصيات الأخرى أيضاً ، فشهاب الوزير الذي لم يكن يعرف فؤاد منه إلا كونه بلا أسلوب محدد ، يبرز عارياً تماماً أمام وثائق صبا التي تبين مدى تورطه في الممنوع ..لهذا فالروائي يفرد فصلاً كاملاً بعنوان (خطر ) : ص ص 157 ـ 162 ، تبسط فيه صبا شخصية (صديقه) الذي لايعرفه : فهو متنفذ، يفك عن حبل المشنقة ، تاجر يتاجر بكل شيء دون أن يخشى العواقب ، فهو يدخل إلى البلد باخرة رز فاسدة ، ويشارك في محطة وقود يهرب مخصصاتها إلى لبنان، وهو يصدّر طناً من البصل بشكل غير مشروع ، وهو بعد هذا كله يرسل في نهاية الرواية من يقلب مكتب صبا رأساً على عقب ويأخذ ما فيه من وثائق وأوراق .
لقد قدمت صبا بوضوح كبير شخصية شهاب الذي لم يكن يعني لدى فؤاد أكثر من رجل غامض لا يستطيع المرء القبض على ملامحه فهو كالزمن الذي نعيشه بلا ملامح :
" رجل بلا أسلوب محدد : رجل جديد في كل لحظة " ص 77.
إنه رجل التسعينات كما يقول فؤاد ، وفاتن هي امرأة التسعينات التي تنعي ذلك الشيء الذي طالما عشنا له وأسميناه حباً وشغفاً وولهاً وهياماً ،لترسخ علاقة بديلة ما نزال نعتقد أنها غير صالحة للقياس عليها والاقتداء بها ، هي امرأة التسعينات التي تقدمها الرواية ببهائها وجبروتها وجديتها وشوقها المستمر للماضي / فلسطين فالزمن لديها مرتبط بالمكان ، والماضي يحمل في ذهنها صورة وطن عادت إليه بعد اتفاقيات الحم الذاتي لتجده مليئاً بالعساكر والحراس والمستوطنات .
· تقدّم فاتن طروف المكان بحميمية لافتة للنظر، إذ يبدو عشق المكان صفة من صفاتها وجزءاً مكمّلاً لشخصيتها،ها هي ذي تحدثنا عن فلسطين في رحلة الذهاب ولاإياب:
"ويمان يسأل عن فلسطين، ورائحة فلسطين تشيل قلب فاتن من على الأرض وتشبحه في الفضاء الغامض، وفاتن مثل يمان تتقرى السيارات وعربات الخضرة والكوفيات وبنطلونات الجينز والحواجز الإسرائيلية والحواجز الفلسطينية والمستوطنة الداخلة في هذه الحارة، والحارة المتربة الوسخة …..إلخ"
ولا تتخلى فاتن طروف عن عشقها للمكان على مدى الرواية فهي في أي مكان تقيم فيه أو ترحل إليه ، سواء أكان مفتوحاً أم مغلقاً ، محدوداً أو ممتداً ،تقدّم هذا المكان بجزئياته ومؤثِّثاته، لذلك يقدّم لنا الكاتب ،بأسلوب استباقي ،نزهة تقوم بها مع فؤاد ،مع المحافظة على رائحة المكان / دمشق التي تعني لها الأصالة والمعاصرة :
"سوف تتدافر فاتن بشهوتها وتنتظر دعوة فؤاد إلى مطعم يلطو خلف الجامع الأموي : الكراسي الخفيضة والطاولة المستديرة ترخي الأوصال المشدودة وتغسل الرهق :لغط السواح يسري مع الغناء الشجي في الفضاء الدمشقي المرقش والعابق " ص 37.
ولعل هندسة المكان على أساس زمني ، لتقسيم شخصية فاتن طروف أنجح ما تكون في الصفحات (64،65،66) في خلال رحلتها البحرية إلى قبرص ، إذ ترقب البحر وتغزوها الذكرى ، وحين يُطلب إليها أن تدخل إلى القمرة تفجّر هذه الكلمة دلالات زمانية ومكانية متنوعة في داخلها :
· فالقمرة غرفة تائهة في الدقي ،كما تاهت القاهرة من فاتن (…) روحة بلا رجعة .
· والقمرة غرفة صغيرة في بيت صغير في الفاكهاني .
· والقمرة بيت صغير أيضاً ، مرتب ونظيف ، خلاف مخيم اليرموك كله .
· والقمرة فضاء يتقاذف فاتن :يضرب الأزمنة والأمكنة ببعضها .
· والقمرة شقة صغيرة في هذا المكان ،يعلو بفاتن ويهوي : البحر يتقيأ فاتن.
إنها فضاء لا محدود في زمن لا تحده إلا رحلة شقاء فاتن المستمرة من غزة إلى بيروت إلى القاهرة إلى دمشق إلى ( فلسطين الجديدة ) ثم إلى خارجها .. إنها أمواج الماضي التي تلطم ذاكرة فاتن بشراسة، وتضيء شخصيتها بنجاح كبير يتجلى في تلخيص محطات حياتها المتدفقة كتدفق موج البحر:
" كيف دفعت الباخرة فاتن بغلظة إذن، وجعلتها تكتم شهقتها وتكبّ على:أمواج تلاطم الباخرة بشراسة:طفلة تنشب من سريرها الخشبي الصغير الهزاز وتغافل أمها وتركض إلى الشاطئ :تقف الطفلة وتلتفت إلى غزة التي تمنى إسحاق رابين أن يبتلعها البحر (…) تتكسر فاتن أو تكون غرقت أو أوشكت ، تعابث ذاكرة كليلة وأخيلة تنشر الخوف فحسب : عصاة الأب الأعمى: خوذة العسكري الإسرائيلي :قبة جامعة القاهرة : المعدية:قناة السويس: مركب الصيد :سمكة تُبلعط: مظاهرة: نتيجة امتحان ..أنفاس أنيس أسعد " ص 64.
إن تجاور هذه الأمكنة والأزمنة / الذكريات يفتح الباب واسعاً أمام التفاصيل التي يبتدعها خيال المتلقي فيشترك اشتراكاً مثيراً في بناء الرواية، ويمكن أن نجد مثل هذا أيضاً في شخصية صبا التي تستسلم لذكرياتها ،كما يمكن أن نجده عند فاتن، مما يجعل الماضي أساً من أسس بناء الشخصيات:
"صبا تحتضن وحدتها في البيت الذي يشبه مكتباً موحشاً في الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش: امرأة سلئبة على حل شعرها: العشيرة التي صارت حارة قديمة في الرقة تشق حناجر أب وأم وشقيقين: تزوجي يا صبا (…) خذي واحداً من إخوتك إلى بيتك يؤنسك ويقطع ألسنة الناس: صبا تفتح عينيها، الملفات متكومة في المكتب الموحش" ص104.
ويلاحظ في "مجاز العشق "أيضاً اعتماد الروائي على الحدث في بناء الشخصية، وفغعلية المكان في ذلك ووصف الشخصية من وجهة نظر الآخر. وها هي ذي صبا العارف "تتلامح في السرير العريض مسجاة: قطرة ماء مطروحة ونائمة: خصلة غاوية تتراجع عن الجبين الوضاء، الشامة التي بقدر حبة العدس تتوسط الحاجبين: الوجنتان الدقيقتان تسترخيان مثل الذقن الدقيقة والأنف الدقيق" ص99.
وتسعى هذه الرواية إلى تظهيرالأيديولوجيات السائدة اجتماعياً بأسلوب لا تنقصه الجرأة ،ولا يعوزه الذكاء ، فالرمز الشفيف تنسرب من خلاله دلالات متعددة ، فالدكتور ناجي " أشهَر من يرتق عشاء البكارة : شغله ذهب هذه الأيام" والأستاذ الجامعي يعطي درسه بما يعادل دولاراً أو علبة سجائر.. والأسئلة التي تتوالد في النفوس الهلع الإنساني الذي يدل على شفافية الروائي، وروعة التقاطه للجزئي الدال:
"كم يهيل معمل إسمنت طرطوس كل سنة على كروم الزيتون المحيطة به، وعلى صدر حيدر حيدر، وقبر سعدالله ونوس" ص181.
لذلك يغدو الوضع الثقافي مؤرقاً مستمراً للروائي، فثمة سهام موجهة إلى الوضع الثقافي العربي عامة:
" بودي أن أعلن عن فرحتي بالعقد الذي وقعته أمس مع دار الألفية : طبعة جديدة من روايتي الأولى (…) ألف نسخة لربع مليار عربي " ص 53.
وثمة مواجهة أيضاً مع الوضع الفكري السائد ، الذي يجعل فيه نبيل سليمان التحرر الجنسي أحد أشكال التحرر ، ويرفض التبعية للقيم الاجتماعية و السياسية السائدة ، ولا ينسى الروائي أن يخوض المواجهة السياسية مع العدو الصهيوني ، ومع الأنظمة العربية التي سقطت في فخ التطبيع ، ومع الإسرائيلين الذين لايهاودهم أيضا ،فهو يكشف تقسيم تركة المقاومة الفلسطينية التي يراد تصفيتها من خلال الحديث التالي عن فاتن طروف:
"هي أيضا تتلقف حصتها من الإرث العظيم : باع أبو يمان الجبهة أو الحزب لياسر عرفات ، وفرق الحصص : عشرون ألف دولار حصة فاتن طروف ، و عشرون ألف دولار حصة يمان أنيس أسعد ، ولولا شكوك أنيس بما بين فاتن وغسان لصارت العشرون ألفا أربعين . فليقم إذن الصالون الفلسطيني في مخيم اليرموك للعطور والمكياج والاكسسوارات والساعات ، وعما قليل : بوتيك فاتن طروف في ساحة عرنوس"ص41.
والسياسة لدى الروائي بنت حرام لأنها جمعت العرب و الاسرائيليين ولم تستطع جمع العرب والعرب _ص65_ وهو يلاحق ندوة عمان التي يجلس فيها الاسرائيلييون على الرحب والسعة ، ويكشف رأي الشارع الأردني حيث يتحدث عن مكتبة "تصدرت واجهتها الزجاجية لوحة مخططة بعناية بالعبرية والعربية : نعتذر عن استقبال الاسرائيليين " وحين ينتزع رجال الأمن تلك اللوحة يقول صاحب المكتبة : "ياعمي أنا مع السلام ، بس وادي عربة وأوسلو مثل كامب ديفيد: لا سلام ولا زفت "_ص 190_.
وتوضح صبا العارف خلال وجودها في عمان الفرق بين الاسرائيلي واليهودي ،فالمشكلة هي في "اليهودي عندما يصير اسرائيلياً "ص 193.
وهو على الرغم من الصورة القاتمة لا يفقد الأمل ، فالشخصيات التي ترفض هذا الوضع حاضرة دائماً / صبا العارف مثلاً / وكذلك الانتفاضة الفلسطينية التي تلح التي تظهر في صورة فريدة ، يفيد الكاتب ببراعة من التيلفزيون لعرض بعض فعالياتها الدالة ، التي ترصد النضال الوطني الفلسطيني ومعوقاته ، والقمع الإسرائيلي بتجلياته كافة، دون أن ينسى تعرية صدر صبا خلال تلك المراقبة:
"جمهرة من الأطفال والشباب :علم إسرائيلي وعلم أميركي يتعانقان ويحترقان : نعش ملفوف بالعلم الفلسطيني : جمهرة من النساء المولولات : عسكري إسرائيلي يشحط رجلاً على الأرض :عسكري آخر يلبط قفا شاب يحمل كاميرا تيلفزيونية "ص177_ وكأن صورة المقاومة الفلسطينيية والقمع الاسرائلي لا تكتملان إلا بالسياق السردي التالي :
"وحين يصحوان على عري صدريهما ستباغتهما الشاشة بفلسطينيٍ بمثل سن فؤاد يندس في كيس خيش "_ص178_.
* رؤى إنسانية متنوعة مثيرة للجدل ترقّش الورق الممتد أمام القارئ ، كما يرقّش الثلج نافذة الغرفة التي يقيم فيها فؤاد ، تستند إلى لغة شفيفة تقيم بين الكلمات تجاورات مفاجئة بين ما هو سمعي وبصري ،و يبدو الروائي مغرماً بالضديات بما يخدم دلالتها المزدوجة ، وكثيراً ما يفيد من النسق اللغوي المحفوظ ، ليقيم نسقاً لغوياً جديداً يحاوره ويتجاوزه ، بما يخدم الدلالة التي تؤكد في هذا النسق إرادة فرض السلام على العرب "لا إكراه في السلام .. قد تبين الرشد من الغي " ص196.والروائي خلال ذلك يحقق إيقاعاً روائياً يعمل على ترسيخه في ذهن المتلقي .
إن نبيل سليمان يقدم في هذه الرواية نسقاً روائياً متميزاً ، لأنه يخاف من الرواية ، والتجديد يؤرقه كما يؤرق فؤاد الذي يقول: " أنا خائف من الرواية يا صبا ..خوفي اليوم أكبر منه حين كتبت أول رواية " ص 95.
فإلى مزيد من الخوف أيها الروائي الجميل .. إلى مزيد من الخوف المبدع الذي يلوّن ما تكتبه بإيقاعات مبتكرة ، ولكن رفقاً بالقوارير .
د.يوسف حطيني



* مجاز العشق : نبيل سليمان ،دار الحوار ، اللاذقية ،ط1 ،1998