لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: قبل الرحيل: إيقاع الوجع والذاكرة

قبل الرحيل :إيقاع الوجع والذاكرة
د . يوسف حطيني


لماذا يفترق الناس ؟ لماذا هم مجبرون على أن يفعلوا ذلك ؟نفقد الأعزاء دوماً .. بالسفر .. بالموت .. من نحب هم الذين يرحلون " ص 134 .
يحاول يوسف جاد الحق من خلال روايته ( قبل الرحيل ) أن يجيب على هذه الأسئلة وأن يطرح أسئلة خطيرة على العقل العربي ، في مواجهة كارثة فلسطين التي جاءت تتويجاً لسلسلة من المؤامرات والظروف الدولية التي كرّست الوجود الصهيوني فوق أرض السلام .
لقد تناولت هذه الرواية تطورات القضية الفلسطينية بتفصيلاتها العديدة ، بدءاً من وقوع فلسطين بين براثن الانتداب، وانتهاءً بخروج مئات الآلاف من الفلسطينيين خارج أرضهم ، مروراً بكل ما قام به المستعمرون والمستوطنون اليهود من مجازر، وما أطلقوه من وعود زائفة للعرب، وما قدّم العرب من تضحيات على المستويين الوطني والقومي ، كل ذلك جاء بلغة روائية دالة ، قادرة على أن تحمل أفكارها ، وتصوِّر بكثير من الدقة والشفافية أزيز الرصاص ، وصرخات المقهورين ، ونجوى القلوب التي مازالت صغيرة على العشق .
* * * *
"لماذا يفترق الناس ؟ لماذا هم مجبرون على أن يفعلوا ذلك ؟نفقد الأعزاء دوماً .. بالسفر .. بالموت .. من نحب هم الذين يرحلون ".
إن هذه الأسئلة هي أسئلة الرواية برمتها ، أسئلة ( أمين ) ذلك الراوي /البطل الذي حمل عبء تقديم الرواية ، وكيف لا تكون كذلك و( أمين ) هو الذي منح الرواية إيقاعها الأكثر بروزاً : إيقاع الفقد الذي يجلّي وجهاً مهماً من أوجه المأساة الفلسطينية ، وهو الذي كان وفق منطق الرواية الأفدح خسارةً ، لقد فَقَدَ ( أمين ) أباه إثر إطلاق النار على الناس عشوائياً من قبل جنود الانتداب ، وفقد، بالتالي ، الحذاء الجديد الذي وعده به إذا كان ترتيبه في الصف جيداً ، كما فقد ، جزئياً،أمه التي استسلمت للزواج أخيراً ،كما فقد الأستاذ عبد الخالق والأستاذ شاكر ،وعلى مستوى الأصدقاء فقد صبحي السيلاوي الذي قضى غرقاً وأحمد المصري الذي سقط شهيداً خلال الدفاع عن ( يبنا ) التي احتضنت معظم أحداث الرواية . وقد جاءت تجارب أمين مع الأنثى لترسّخ الإحساس بوطأة الفَقْد ، حين ضاعت مريم الحب الأول من بين يديه ، بسبب ضغط العلاقات الاجتماعية السائدة التي تستنكر لقاءهما ،لأنهما أصبحا كبيرين بعد أن كانا طفلين ينعمان بما تتيحه الطفولة من الحرية ، وحين ضاعت مي التي زاملته في المدرسة وهجرته إذ هجرت يبنا بعد أن نقِل مدير المدرسة /أبوها بسبب مواقفه الوطنية . أما سارة اليهودية التي حاولت أن تقنع أمين بطيبة اليهود وحسن نواياهم (!!!)فإن فقدانها جاء خياراً " قسرياً " لأمين الذي اكتشف بعد فوات الأوان زيف ادعاءاتها ، واكتشف أن وجود المهاجرين اليهود في أرضه ، مهما كانت الأيديولوجيات التي يحملونها أو يدعونها، هو اعتداء صارخ على الفلسطينيين والعرب والمسلمين في كل مكان .ونلاحظ هنا أن وصول أمين إلى فتحية : الأنثى الوحيدة التي وصل إليها ، أو كاد ، كان متأخراً لأن هذا الوصول جاء متزامناً مع فقدان الوطن .
مثل هذا الفقد نلمحه أيضاً في حياة كثير من الشخصيات ، فالجميع فقد الأحبة ، نلمحه عند مي وفتحية ، وأم سعيد / أم أمين ، في صوت أم عدنان التي فقدت ولدها ، إذ تقول خلال العزاء الذي أقيم بعد استشهاد أبو سعيد : "كما ترين نربي أبناءنا الأيام والسنين .. نفني أعمارنا في تنشئتهم نبني عليهم آمالنا العريضة ثم نفقدهم في طرفة عين .. يد غريبة تجيء من أقصى الأرض ، تضغــط على الزناد ، وينتهي كل ما بيننا "..ص13 .
لقد ظهر هذا الفقد أيضاً من خلال تصوير جزئيات الأحداث ، وارتبط بإيقاع الحزن الذي تنتقل عدواه إلى القارئ الذي يختزنه غيظاً وألماً كسيراً وغضباً مهيض الجناح ، وفي المقطع التالي نلمس واحداً من أبرز إيقاعات الحزن في الرواية ، وهو لا يحتاج إلى تقديم من أي نوع ، لأنه قادر أن يقول الكثير ، وأن يستثير ما في الأعماق دفعة واحدة :
"قيل أن امرأة غادرت الرملة تحمل وليدها على صدرها .. خطفته من فوق سريره عندما سقطت قنبلة في ساحة دارها ، وأشعلت النيران في أرجائها . وبعد أن خلّفت المدينة وراءها ، تبين لها أنها تحمل وسادة ..! ظل الطفل هناك .. فقدت على الفور المرأة عقلها .. وهي تجوب الآن شوارع رام الله محتضنة وسادة إلى صدرها .. تهدهدها وتناغيها " .ص 283.
وتبلغ هذه المأساة ذروتها حين يقف الحزن في مواجهة سيف الانتداب الذي يمنعه ، ونحن هنا لسنا أمام تراجيديا إغريقية تمجد الحزن ، فالانتداب الذي منع الفرح في الديار الفلسطينية يمنع الحزن أيضاً: فبعد استشهاد أحد المناضلين ينقل إلينا الروائي حـزن النسـاء الذي يسوِّره الخوف : "انخرطن في البكاء ، ولكن في حذر واضح ،خشية أن ترتفع أصواتهن فتبلغ الشارع (…) كيلا ينكشف أمر الشهيد وانتماؤه إلى هذه الأسرة، من قبل الدوريات الإنكليزية" .ص 21 .
ثمة أيضاً إيقاعات كثيرة تقرّع الآذان ، إذ يبرز إيقاع الرحيل وإيقاع القمع ، ومظاهر القتل العشوائي والإبادة الجماعية ،وهدم المنازل ،، وهاهي قوات الانتداب تقدم إحدى وسائل القمع التي استوعبها الصهاينة فيما بعد :
" وضعوا علامات على بعض المنازل والدكاكين والمقاهي لكي يقوموا بنسفها بعد أيام ".ص23 .
* * * *
وعلى الرغم من أن القمع كان فوق الاحتمال في معظم الحالات ، فقد حاول الفلسطينيون وأخوتهم العرب أن يوقفوا المأساة ، ويسقِطوا المؤامرة ، على الرغم من قلة السلاح وقلة الأموال وافتقاد القيادة القادرة على الإفادة من أشكال النضال الشعبي واستثمارها ، فكثيراً ما كانت الجنازات تتحول إلى مظاهرات تندد بالانتداب وتطالب بالاستقلال وسقوط وعد بلفور ، وقد تعرّضت الرواية إلى فعاليات النضال اليومي ضد المستعمرين : ( الثوار يهاجمون محطة رخبوت القريبة من المستعمَرة /تدمير عدد من الأكواخ في مستعمرة "غان يبنا" بعيد البدء ببنائها في محاولة لمنع إتمام هذا البناء /منع التعامل التجاري مع اليهود ومهاجمة القوافل التجارية التي تتعامل معهم /قتل العملاء الذين يشترون الأرض من الفلسطينيين ويبيعونها لليهود /كثيرون من الناس عمدوا إلى بيع حلي نسائهم ، حين عجزوا عن توفير المال من سبيل آخر ،من أجل شراء بندقية وذخيرة / الناس يحفرون الخنادق ، ويقيمون المتاريس ونقاط المراقبة ، ويقومون بنوبات الحراسة / المعلمون يثقفون طلابهم ثقافة وطنية (الأستاذ عبد الخالق يثقف طلابه عن فلسطين وبلفور مما يدل على وعي مبكّر عند الأطفال الذين يسألونه:" نريد أن نفهم لماذا يقتل الإنكليز أهلنا ؟ لماذا يعتدون علينا ؟ هؤلاء الذين استشهدوا بالأمس وهذه المباني التي نسفوها ..لماذا يفعلون هذا بنا ؟" ص44 .
وفي هذه الرواية يسعى يوسف جاد الحق إلى تصوير الوعي القومي عند الفلسطينيين العرب الذين بدوا على الرغم من خطورة قضيتهم وتعقيدها ، منشغلين بالهم العربي، فقد وقفوا على سبيل المثال إلى جانب الشعب العربي في مصر، ونددوا بتدخل الإنكليز في شؤون مصر الداخلية ، وناصروا نضال الشعب العربي السوري ضد وحشية المحتل الفرنسي .
ولم يكن الروائي في هذه الرواية كاتباً تنقصه الجرأة فقد أدان التأخر العربي الرسمي في نصرة شعب فلسطين ، وأشار إلى أخطاء الثورة التي عمدت إلى تصفية مناوئيها " مما أدى في حالات غير نادرة إلى وقوع ضحايا بريئة " ص ص 60 _ 61 .
من هنا فقد رصدت هذه الرواية باقتدار تفاصيل القمع ، ورصدت بالمقابل تفاصيل الرد الشعبي ، واستطاعت أن تنتمي بجدارة إلى الأدب الثوري ، كما استطاعت من جهة أخرى أن تنتمي إلى النوع الأدبي الروائي الذي ادعته لنفسها من خلال الوعي بعناصر الرواية والشغل على هذه العناصر بطريقة متميزة ، سواء أكان ذلك في تنوع أشكال تقديم الزمن والمكان الروائيين أم في بناء الشخصيات الروائية ، وذلك عبر لغة تستفيد من الثقافة النقدية والتجربة والذاكرة والوجدان .
* * * *
تطل علينا الرواية منذ البداية بافتتاح مكاني :
" تقع قريتنا فوق رابية تتوسط سهلاً فسيح الأرجاء ، يحيط بها من كل جانب ، يكتظ بالكروم وبيـارات البرتقال ،كما تنتشـر في بعض جنباته حقول القمح وبساتين الفاكهة من كل نوع ولون. " ص 5 .
ومن خلال هذه الافتتاحية يسعى جاد الحق إلى تأكيد ما بات مؤكداً ، وهو أن الرواية الفلسطينية رواية مشغولة بالمكان ، تصف العام والخاص ، وتمنح تفاصيل المكان بعداً إنسانياً دالاً ، وتجعل عدم الاتساق الذي أوجدته الطبيعة آية من آيات الجمال .
إن " جمالية الفوضى " تتبدّى هنا في أبهى مظاهرها ، فالقرية التي ينتمي إليها ( أمين ) بطل الرواية / يبنا تصبح أكثر جمالاً حين تتعرض للخطر ، وانتماء البطل إليها كافٍ ليجعل منها لوحة فنية أخّاذة:
" على الرغم من كل شيء كانت ( يبنا ) تبدو لوحة فنية ، ارتجلتها الطبيعة على غير نسق أو نظام ، فصنعت من ذلك المزيج المتنافر جمالاً أخاذاً ". ص 6 .
وتماماً مثلما يحدث في الروايات الفلسطينية تنشغل الرواية بوصف المدن والقرى ، وكأنها تقوم بإجراء دفاعي يهدف إلى حفظ المدن الفلسطينية في ذاكرة الشعب ، لمواجهة التغييرات التي يفرضها المجتمع الاستيطاني الصهيوني عليها . نقرأ عن القدس ويافا والرملة التي ولدت مع الزمن ، كما نقرأ عن المستوطنات التي تنمو نمواً شيطانياً كما ينمو نبت غريب في أرض غريبة ، ها هي ذي القدس تطل علينا بأزقتها وشوارعها :
" … الشوارع والأزقة المتفرعة عنها ، ذات الأسقف المغطاة والقباب العتيقة كأنها ولدت مع التاريخ". ص 155.
إنها القدس من خلال رموزها الثقافية والدينية التي تجسِّد انتماءها إلى التاريخ العربي والإسلامي، وهذا الأمر الذي يستوجب عملياً هدفاً لا يصرِّح به الكاتب مباشرة ، وهو حشد التأييد العربي والإسلامي لحماية المقدسات ، يقول أمين إن عمه الهندي حدثه عن الصخرة :
" هذه قبة الصخرة التي يحكى أنها ارتفعت من مكانها على الأرض حينئذ ، لكي تلحق بالنبي محمد عليه الصلاة والسلام ، ساعة انطلق مع جبريل عليه السلام يعرج إلى االسماء ، فأشار إليها بيده الكريمة ، فتوقفت حيث هي معلقة هكذا في الفضاء ." ص 156.
وكذلك الرملة فقد جاء وصفها حميمياً ، ذا مقدرة فائقة على حشد التاريخ من خلال تصوير أثره على الأشياء ، ومن خلال إبراز الآثار التي تدلّ على قِدَم الإنسان الفلسطيني في أرضه : الأقواس الشرقية والمآذن والقباب ، والزخارف ، وحتى الألبسة التقليدية التي تتضافر مع مفردات المكان لتقدم فضاءً مأهولاً بجدارة الانتماء الفلسطيني إليه:
" المباني والدكاكين والبيوت بني الكثير منها بالحجارة وبعضها باللبن ، تنتشر الأقواس الشرقية في معظم مبانيها ، والنوافذ الخشبية المزخرفة برسوم جميلة ، مآذن وقباب كثيرة ، الرجال يرتدون (القمباز) والطربوش وشملة عريضة ." ص 143.
ولا يقف الروائي في وصف المكان عند الأماكن العامة المفتوحة ، كالمدن والقرى ولكنه يصور كذلك الأماكن المغلقة ، وهو إذ ذاك يستطيع ببراعة أن يمنح المغلق إمكانية الانفتاح ، فالبيت الذي ينحصر ، وفق التصور العام ، بين جدرانه ، يصبح مع جاد الحق مكاناً مفتوحاً يستفيد من حجارته للإطلال على ما من شأنه أن يمنحه حدوداً أكثر اتساعاً . في وصف البيت يصادف النسق المكانيّ التالي :
"لم يترك لنا [ أبو سعيد] الشييء الكثير ، اللهم إلا هذا المنزل العتيق . لم يكن شيئاً على أية حال : غرفتان تمتد أمامهما شرفة هي في الواقع مصطبة مرتفعة ، وقد بني البيت من الحجر الرملي ، المتوافر في محاجر القرية مجاناً لمن يشاء ." ص 16 .
وحين يصف الروائي مسجد القرية الأثري يغدق علينا التفاصيل الكثيرة ، ويستطيع تماماً _ كما فعل عند وصف البيت _ أن يجعل المغلق مفتوحاً ، من خلال وضع لمسة السحر الواقعية التي تفتح عقولنا على كل ما هو مألوف في ذاكرتنا الشعبية ، حتى لا تصاب هذه الذاكرة بجريمة النسيان :
" وعند القمة يقوم مسجد القرية الأثري ، الذي يرجع تاريخ بنائه إلى أوائل الفتح الإسلامي لهذه الديار ، قبل نيف وثلاثة عشر قرناً ، وتكتنف المسجد ساحة فسيحة يتجمّع فيها ، معظم النهار وشطراً من الليل ، لفيف من الباعة الذين لا يفتؤون يعلنون عن بضاعتهم بأصوات تملأ المكان ضجيجاً : عرقسوس .. فلافل .. ملبّس .. كرابيج حلبية…" ص 5 .
ومن الطبيعي ألا يعجز الروائي أن يفتح مقهى أبو سالم ، المقهى يصبح مفتوحاً إذ يجلس فيه الشباب لكي يمتعوا أبصارهم بالصبايا اللائي يحملن الجرار ، ويصبح مفتوحاً كذلك حين يجعل المذياع صلة وصل بين الداخل والخارج :
" تتعالى النداءات : شاي ثقيل ..قهوة سكّر قليل .. سكّر زيادة فيما يصدح صوت المذياع بأغاني أم كلثوم أو عبد الوهاب الجديدة ." ص 37 .
*وثمة فكرة تبدو شديدة الإلحاح على إحساس جاد الحق نتيجة إحساسه الدافق بالمكان ، وتتلخص هذه الفكرة في العمل علىترسيخ صفات المكان من خلال ربطه بأضداده ، مما أدى إلى نشوء تقاطبات مكانية عديدة . فمقهى أبو سالم على سبيل المثال يناقض المقاهي في مستعمرات اليهود أو في تجمعاتهم ، حيث يمكن للمرء أن يرىالراقصات اللائي يبرزن صدورهن ، ويكشفن عن سيقانهن للرائح والغادي ، ويافا التي تكتظ بالناس من كل صنف ولون ، تختلف عن الرملة التي تبدو نساؤها "محجبات بالملاية السوداء والمنديل على الوجه ". ص 143 .
وحين يعقد جاد الحق مقارنة بين قرانا ومستعمرانهم يحاول أن يكشف التناقض الصارخ بينهما / بين الغني والفقير ، بين المستعمِر والمستعمَر ، بين المضطهِد والمضطهَد ، فالأغراب الذين جاؤوا من أفاصي الأرض ينعمون بكل شييء أما أصحاب البلاد الأصليين فهم ، رغماً عنهم ، على هامش التطور:
" من خلال نوافذ الحافلة بدت أنوار تناثرت على مدى البصر، قيل لنا إنها مستعمرات أضيئت بالكهرباء : رخبوت .. عيون قارة … في الجنوب والشرق حيث قرانا تملأ السهل ، بدت نقاط قليلة من أضواء واهنة ، كاد يخفيها ضوء القمر." ص117 .
وكثيرا ما تمتد التقاطبات على مساحة النص الروائي وتتعدى بناء المكان إلى غيره من الأشياء ، فالتضاد ظاهر في كل شيء ، في المأكل والملبس والعادات .. ففي أعيادهم تجد الخبز الأبيض وشرائح لحم الخنزير وأصابع النقانق والخمر والعهر ، أما في أعيادنا فتجد الكعك والمعمول ورائحة المحلب وشذى الينسون تملأ البيوت .لذلك من الطبيعي أن يستهجن الراوي / أمين أي طعام أو شراب أو تصرف غير مألوف قياساً إلى بيئته :
" في المساء كنا ثلاثتنا في رخبوت (...) الخواجات يتأبطون أذرع النساء جهاراً نهاراً ، بل يقبلونهن أيضاً في الطريق العام . " ص 196 .
إن هذا الإصرار على إبراز التناقض الكبير بين الجلاد والضحية هو ، في حقيقته ، تعبير صريح عن رؤية جاد الحق لمستقبل الصراع ، فالتطبيع مع الكيان الصهيوني لا يمكن أن يتم ، ولا يمكن أن يؤتي ثماره إلا في خيالات المطبِّعين والمطبلين .
* * * *
وتطرح هذه الرواية أنواعاً مختلفة من الشخصيات تختلف في تمايزها وتراتبها وكيفية بنائها ، إذ ثمة شخصيات نموذجية كشخصية البطل والعدو والأنثى المشتهاة ، وثمة أيضاً شخصيات تفرضها طبيعة الفن الروائي ، وهي الشخصيات الرئيسة والثانوية التي اختلفت طرق بنائها وفق مقتضى منطق الرواية .
نماذج الشخصيات :
آ _ الشخصيات العربية :
تلجأ الرواية ، حين تريد تكريس قيمة من القيم أو رفضها، عبر أقصر الطرق ، إلى تقديم شخصية معروفة ، لها تاريخها ووقعها في الذاكرة الثقافية والشعبية ، أو تلجأ إلى تقديم نموذج اصطلح الناس على صفاته ، وقد لجأ جاد الحق إلى الطريقتين معاً ، حين ربط النضال بصورة الشهيد عز الدين القسام ، وحين قدّم شخصيات من خلال صفاتها العامة المشتركة . فشخصية البطل الثوري _ وهي شخصية طاغية الحضور في الأدب الفلسطيني ـ تظهر من خلال صفاتها المألوفة : انتصاب القامة ، والطول ، واللون الأسمر ، والعيون الحادة :
" تذكرت محمد المغاري (…) كان طويل القامة ، مهيباً ، أسمر الوجه ،له شاربان دقيقان ، وقد عقفا إلى أعلى ، كذيل العقرب ، عند طرفيهما ، عيناه حادتان كعيني صقر ، يرتدي كوفية بيضاء يطوقها عقال أسود ، يمشي منتصب القامة شامخ الرأس ، وهو يضم أطراف عباءته السوداء ، فيبدو كأمير شرقي في حكايا ألف ليلة وليلة . " ص 21 .
ولا بدّ هنا من الإشارة إلى شخصية الأب الذي قتل على يد قوات الانتداب البريطاني ، وهي شخصية طيفية تستمد شرعية حضورها الطاغي من طريقة موتها / استشهادها ، فالأب الشهيد جاهز دائماً للمجيء ، وصورة مقتله لا تغيب عن ذاكرة أمين :
" وعلى حين غرة أخذوا يطلقون الرصاص (….) وفي ذات اللحظة رأيته يضع يده على صدره ، تجـحظ عينـاه .. يرتجـف .. الدمـاء تنبثق من صدره ..تفلت يدي من قبضته ..يترنّح .. يتهاوى . " ص11 .
ويمارس طيف الأب دوراً شبيهاً بالدور الذي مارسه هاملت ، إذ يبقى هذا الطيف ملاذاً لأمين ، يؤنس وحشته ويعضده ، وحين يبدأ الرحيل الكبير يحثّ الأب ، من خلال أمين ، المهاجرين على البقاء ، ولكن الهاربين من جحيم الموت لا يلقون إليه بالاً .
وثمة أيضاً شخصية الفلاح النموذج الذي تضمه إلى غيره صفات أبرزها الفقر والوطنية والاستعداد للانخراط في النضال ، والطيبة التي تبلغ في بعض الأحيان حدّ السذاجة ، إذ إن بعض الفلاحين كان يعتقد أن المذياع ، الذي لم يكن معروفاً بعد على نطاق واسع ، يضم بداخله رجلاً قادراً على الغناء وقراءة الأخبار وتلاوة القرآن :
" لم يكن الراديو شيئاً مألوفاً بعد في تلك الأيام (….) حسب بعضهم أن ذلك الجهاز يحتوي رجلاً داخله يصدح بالغناء ، وهو نفسه يتلو القرآن ، ويأتيهم بأنباء المشرق والمغرب (….) وهو قاعد في مكانه ." ص 7 .
وقد برزت لدى الروائي شخصية طريفة غاية الطرافة ، وهي شخصية الأنثى المشتهاة وتعود طرافتها إلى كون هذه الأنثى لم تجتز عتبة النضج الجنسي الحقيقي ، وكان سعيها إلى الجنس الطفولي طريقة من طرق تأكيد الهوية الأنثوية ، ولكن هذه الطرافة تصبح مألوفة حين يكرر الروائي هذا النموذج ، إذ يلاحظ القارئ عدم وجود فارق جوهري بين عزيزة وأمينة . فعزيزة تدعو أمين إلى ذلك الشيء الغامض السحري حين تخبّئ المنديل في صدرها وتدعوه إلى أخذه :
" أمسكت بيدي لتدفع بها إلى حيث خبأت المنديل ، أحسست بقشعريرة غريبة ، إذ وجدتها _ يدي _ تلامس لحماً طرياً ساخناً ." ص162.
وكذلك فإن أمينة التي تلكّأَ حين دعته إلى الدنو منها ، تطرح الموقف ذاته :
"اقتربت هي ، فأصبحت أمامي تماماً ، صدرها الناهض يرتفع ويهبط بتسارع غريب .. أوشك صدرها أن يلامس صدري(…) بعفوية مباغتة وجدتني أدنو منها .. أحتضنها ..أضمها إليَّ بحنان."ص211.
ب _ الشخصيات المعادية :
1 _ نموذج الإنكليزي :
تبدو الشخصيات الإنكليزية الذكرية _ إذ لا توجد شخصيات أنثوية مهمة في الرواية _ مشترِكة في أربع صفات أساسية ، فالإنكليز كما تقدمهم الرواية مجرمون ، وعديمو الرجولة ، ومتآمرون مع الصهاينة وخاضعون لابتزازهم . إن مظهر الإنكليز "لا يوحي بالبطولة ولا بالشجاعة أو حتى بالرجولة ، الخوف بادٍ على وجوههم بجلاء ، على الرغم من البنادق التي في أيديهم ." ص 22 .
ولكن هؤلاء يستمدون قوتهم وبطشهم من السلاح الذي يحملونه مما ينتج عسكرياً إنكليزياً سفاحاً يمارس هواية قتل الفلسطينيين كما يمارس الآخرون أي هواية أخرى ، والكولونيل وينجت هو أحد هؤلاء :
" لقد دأب هذا على التفنن في أسأليب اقترافه لجرائمه ، لكأنه يقوم بعمل يحبه ويعشقه ." ص 86 .
وقد بلغ القمع الإنكليزي للعرب حداً جعل هؤلاء يشنقون رجلاً عثروا بحوزته على عدة رصاصات فارغة وبالمقابل فإن يهودياً واحداً " لم يشنَق رغم أكداس السلاح التي بحوزتهم ." ص 52.
وتؤكد الرواية مدى تورط الإنكليز الذين ساعدوا اليهود في إخفاء الأسلحة في أماكن يدّعي اليهود أنها مزارع / مثل مزرعة نيتر اليهودية التي يقوم بداخلها معمل للسلاح .
2 _ نموذج اليهودي :
أما الشخصية اليهودية فقد بدت في الرواية شخصية مخادعة ، ومن أنصع الأمثلة على ذلك شخصية محمد الشريف الذي ادّعى أنه انتقل من المسيحية إلى الإسلام ، وضحك على ذقن العرب ، مستغلاً عطفهم وطيبتهم وسذاجتهم ، وغادر يبنا قبل سقوطها ، بعد أن وضع للأهالي رسالة "يشكرهم!!" فيها على حسن استضافتهم له ، ويخبرهم أنه يهودي وأن اسمه شلومو مزراحي .
كما قدمت الرواية صورة واضحة لغدر اليهود بحلفائهم الإنكليز فقد قام مناحيم بيغن بتفجير باخرة باتريا التي كانت تحمل عدداً من المهاجرين اليهود ، حتى يتهم الإنكليز بذلك ويلصق بهم تهمة إعاقة الهجرة ، مما يدفع الإنكليز لمحاولة تبرئة أنفسهم أمام اليهود ، وفتح أبوب الهجرة على مصراعيها وقد بلغ اليهود _ حين قويت شوكتهم _ حدّاً من الصفاقة جعلهم يقتلون وزيراً بريطانياً في القاهرة ، وينفذون أعمالاً ضدّ الإنكليز بالقرب من القرى والمدن العربية حتى يوحوا للإنكليز بأن العرب هم الذين ينفذون هذه الأعمال .
كما أبرزت هذه الرواية صورة اللص اليهودي الذي يسرق الأراضي والأسماء والقلوب الضعيفة ، فقد كان اليهود يشترون الأراضي عن طريق الوسطاء ، ويستولون غصباً على بعضها ، ويسوّرون القرى العربية بالمستوطنات من كل جانب ، وحين يبدؤون بإنشاء مستوطنة غان يبنا يتساءل الناس مستنكرين :
" .. ألم تكفهم رخبوت وريشون في الشمال .. ؟ إنهم يطوقوننا من كل جانب ..
.. حتى الاسم .. يبنا . تصوروا حتى أسماءنا يسرقونها ". ص 125 .
ولا تهمل الرواية الصوررة الأكثر بشاعة لليهودي الصهيوني وهي صورة السفاح الذي يمارس قتل العرب بمختلف الأشكال ،أحياناً بالقرعة وأحياناً بالخداع من أجل تكثيف حملة الإبادة الجماعية:
" ..دير ياسين.. ذبح اليهود أهلها .. النساء قبل الرجال .. الأطفال قبل الشيوخ .. نسفوا البيوت فوق أصحابها .. بقروا بطون الحوامل .. ذبحوا الأجنة والأطفال في جحور أمهاتهم .. ألقوا بالجرحى أحياء في آبار القرية .. عرضوا النساء عرايا في الطرقات قبل أن يجهزوا عليهن .. ربطوا الشبان بمصفحاتهم يجرونهم على الأرض جرّاً حتى تتحطم أجسادهم ويلقوا نحبهم "ص 279.
إن مجزرة دير ياسين البشعة التي لن تغادر صورتها الذاكرة العربية تبدو هنا بتفاصيلها المرعبة ، والروائي الذي يدين المجزرة علناً ، لا يفوته أن يدين ضمنياً وسائل الإعلام _ حتى العربية منها _ إذ أسهمت إسهاماً كبيراً في بثّ الرعب ، وبالتالي ، في المشاركة الساذجة وربما غير المقصودة في تهجير الفلسطينيين من أرضهم .
"لم يصدقوا أول الأمر لكن الإذاعات من مصر والقدس والشرق الأدنى مضت في وصف ما حدث على نحو مفزع" . ص279.
أما مجزرة الرملة فيشير الروائي إلى ممارسة خدعة بشعة لتنفيذها ، فهو يروي أن القوات الصهيونية دخلت المدينة بالدبابات الأردنية ، وهي ترفع الأعلام العربية ، وترتدي خوذات الجيش الأردني ، دون أن يشير صراحة إلى الطريقة التي وصلت بها تلك الأشياء إلى الصهاينة ، وهكذا عزفت الرشاشات والبنادق لحن القتل المفاجئ :
"الجيش الأردني جاء لنصرتنا ( … ) وفيما الناس كذلك في هرجهم ومرجهم وذروة حماسهم وبهجتهم ، بغتة : عصفت الرشاشات والبنادق ، تحصد الجموع المحتشدة حصداً ، تساقط العشرات والمئات في لحظات " .ص 282.
وفيما يتعلق بالشخصية اليهودية الأنثوية ، فقد كانت نموذجية تماماً واستفادت من صورة اليهودية في الأدبيات العربية عامةً ، إذ استخدمت هذه المرأة رأس مالها / أنوثتها وجسدها من أجل خداع الشخصية العربية ، حتى إن سارة التي تغري أمين بالجنس _ ولكنه يتراجع بعد قبلتين _ تحاول تبرير الهجرة اليهودية لفلسطين ، فتقول :
" لا تكرههم يا أمين لأي سبب ، لأنهم بؤساء مساكين ، هتلر يعمِل فيهم القتل ، وهم يأتون إلى هذه البلاد للنجاة بأرواحهم ، هم عائدون إلى أرضهم الموعودة ..! " . ص 169.
ويروي أمين لنا قصة صديقه نعيم مع البولونية الشقراء فيقول:
" حدثني نعيم مساء ذلك النهار عن بولونية صغيرة شقراء زعم لي بأنها أحبته ، وأنها غدت تسعى لرؤيته كل يوم ، وهي تحدثه عن بلادها التي دمرها الألمان أوّل اجتياحهم لأوروبا". ص174.
ولكن الذي يجب أن يقال هنا هو أن هذه الشخصيات النموذجية جميعها ، على الرغم من ألفتها ، تبقى ضرورة فنية لا غنى عنها لإقناع القارئ ،الذي ليس من الشرط أن يكون عربياً ، بمقولة الرواية التي تؤسس للحق الفلسطيني الذي أجهض على يد الباطل الصهيوني .
* * * *
ويؤسس يوسف جاد الحق شخصياته مستفيداً من تراثه في القراءة الروائية والنقدية ، ويبني شخصياته الرئيسة والثانوية من خلال الوصف الجسدي والنفسي ، ومن خلال أثرها في الأحداث، أو أثر الأحداث فيها ، وكشفها من خلال حواراتها مع الشخصيات الأخرى ، وتحتل شخصية أمين / الراوي البطل دوراً مركزياً أهّله أن يكون صلة الوصل بين الرواية والقارئ ، وقد بدا هذا الطفل / الفتى الذي كبر على مدى الرواية نحو سبع سنوات ( من ثماني سنوات حتى خمس عشرة ) يافعاً يحب العلم الذي حرمه الفقر والاستعمار من متابعة تحصيله ، حساساً تجاه فقره ، عزيز النفس، لا يرضى، بحكم تربية الوالدة أن يأخذ من أصدقاء المدرسة الأغنياء شيئاً :
" أولاد الهمص ،إسماعيل العطار ، أولاد الجمل ، أهلهم أغنياء يلبون لهم حاجاتهم ، يرتدون ملابس جديدة في المناسبات ، ولديهم أحذية جديدة أيضاً ، وثياب مختلفة في ألوانها وأنواعها ، كما أنهم لا يفتؤون يشترون الشوكلاته والملبس من الدكاكين ، أو يحضرونها معهم ، يعرضون علي شيئاً منها فأمتنع حين أتذكر وصايا أمي . " ص 31.
ولأنه كان حساساً تجاه فقره ، فقدكان يعمل في كل شيء ، في دكان الحلاقة ، وفي قطف البرتقال، وفي معسكرات الإننكليز ، وإن كان لا يخفي حلمه الكبير بأن يكون حلاقاً :
" طموحي أخذ يمتد إلى أبعد من ذلك : أن أغدو قادراً ،في وقت ليس ببعيد ، على القيام بتلك الحركات العديدة ، التي أجمـل ما فيها أنها لا لـزوم لها البتة ،فأطقطق بالمقـص حول الرأس والعنق … " .ص29 .
إضافة إلى ذلك تجسّد هذه الرواية تبلور الوعي الوطني عند أمين ، هذا الفتى الذي تربى في أحضان أم ترى أن وجود الإنكليز في فلسطين هو الظلم بعينه ، ولا تنسى عند سقوط الشهداء أن تلعن الإنكليز:
" انطلقت أمي مسرعة إلى الغرفة المجاورة تبحث عن شالها وجواربها ، فيما هي تصب اللعنات على الإنكليز ويوم الإنكليز . " ص21 .
هذه الأم التي تعدّ الزوج هو الربّ الأصغر الذي يجب أن يطاع في كل شيء ، و"تحمل عبئاً تنوء بحمله خمس نساء" . ص65 من زراعة وكناسة وعجين وخبيز ، تجسّد في أفعالها مجموعة من المواقف الوطنية ، فهي على الرغم من فقرها ، لا تفكّر في أن تبيع الأرض لليهود :
:" حتى لو فرشها هؤلاء ذهباً، حتى لو متنا جوعاً ، وصية المرحوم : الأرض يا عائشة .. الأرض هي العرض …" ص 98 .
وكثيراً ما تروي هذه الشخصية بعض الأحداث بلغة تتناسب مع بساطتها ، وطيبتها ومنطقها اللغوي الذي ينطلق من مستوى ثقافتها مما يقنع القارئ بأنها شخصية تكاد تكون من لحم ودم . وها هي ذي تروي حكايات الأولياء نقلاً عن الأب :
" _ ومن أنتَ ؟
_ أنا ولي من أولياء الله .. سوف أتوضّأ لصلاة الفجر من هذه الجرة ، جزاكم الله خيراً وبارك لكم في جرتكم وفي نسلكم
( …) أكدت وا لدتي ذلك : والله سمعته بأذني يا خضرة كما أسمعك الآن ". ص 133 .
غير أن هذا الأمر قد يفوته في أحيان قليلة إذ تتحدث هذه الشخصية بمنطق يفوق ثقافتها ، فالأم تعارض ، أول الأمر ، ساخطةً ، مشروع الزواج الذي يعرضه عليها الجد والخال ، مستخدمة مفردات خارجة عن حدود ثقافتها :
" هل مصلحتي هي أن أدع أولادي يعيشون يتماً مزدوجاً ؟ " . ص 34.
غير أن هؤلاء الأولاد : سعيد ، وأمين ، وعلياء عاشوا يتماً ثلاثي الأبعاد حين فقدوا الأب والأم، بشكل ما ، وفقدوا أخيراً : الوطن .
وقد تنبه جاد الحق حتى في بناء شخصياته الثانوية إلى تصوير انعكاس الأثر الفسي للحدث على صفاتها ، فالجدّ النموذجي الذي يحدب على أحفاده تختفي صورته حين يهدد مستقبل الأسرة ، وحين يعرض على الأم الأرملة فكرة تزويجها يتحول في نظر أمين إلى شيء آخر :
" بدت لي تقاطيع وجه جدي بغيضة وغير متناسقة ..! أنفه الكبير هذا حبذا لو قص قليلاً من جانبيه، عيناه الضيقتان تجلبان المقت ، أنيابه التي اصفرّ لونها كأنياب نمر …" . ص 105 .
أما أثر كارثة فلسطين فقد بدا في نشيد البكاء الجماعي ، في وجوه الشخصيات المكفهرّة التي فقدت نضارتها ، يتساءل أمين :
" أهذه فتحية ؟ نضارة الوجه وإشراقة المحيّا ..والبسمة الآسرة في عينيك ..كأنك لم تعرفي الابتسام في يوم من الأيام . " ص 293.
إنها النكبة القاسية التي تفقِد الناس وضعهم الاجتماعي وثقافتهم ووجودهم ، بل تفقدهم كل ما يمتلكون من صفات ، بسبب توترهم ، إن عامر البهنساوي الذي يغمد خنجراً في صدر صديقه كامل دعسان بعد شجارهم بسبب أغنية (!!) يجسّد إلى حدّ كبير أثر النكبة في الناس ، فعامر لم يولد مجرماً، ولا خائناً للصداقة ،ولكن ضياع الوطن أفقده كل تلك الأشياء الجميلة التي يحتفظ بها في قلبه.
إذاً لقد غيرت الكارثة الناس ، جعلت أبو صابر الذي أنفق عمره في الثورات على الإنكليز واليهود ، خجولاً من ابنه الذي ذهب " ليتطوع مع الإنكليز ، أولاد الكلب ، ليحارب الألمان جنباً إلى جنب مع المتطوعين اليهود " . ص 78.
كما غيرتْ شَخصيةَ أحمد المصري الذي جسّد باستشهاده قومية المعركة على المستوى الشعبي إذ كان يلاحق سارة / الأنثى ، فصار يهاجم اليهود بالكلام أولاً ، ثم سقط شهيداً وهو يدافع عن يبنا .
* * * *
لقد استطاع يوسف جاد الحق أن يرصد كل تللك التطورات العاصفة التي امتدت ، كما نقَدِّر ، بين عامي ( 1941 و1948 ) من خلال لغة رشيقة ، محمولة في الأغلب على كاهل السارد الأساسي / أمين مستفيدة من كل ما يتاح لها في تقديم عناصر النص الروائي ، فخروج الشخصية من البيت فجراً لا يعوّقه حضور الزمن لأن الزمن إذ ذاك يغدو جزءاً من نسيج السرد :
" الديكة تبدأ صياحها .. وحيَّ على الصلاح .. حيّ على الفلاح تحملها الريح من الأعالي .. وأمضي إلى حيث لا أدري .. بعيداً .. بعيداً.." ص274.
وهو يعتمد في تقديم الأحداث على وسائل ، ليست على قدر كبير من الألفة في الرواية العربية ، فيعتمد أحياناً على المذياع ، وهو هنا يعرض من خلال المذياع لنموذج من الخداع الذي كان يمارسه الإنكليز ضد العرب:
".. وإن حكومة صاحب الجلالة تعد شعب فلسطين بمنحه الاستقلال في أقرب فرصة ممكنة بعد انتهاء الحرب مع المحور . وما على هذا الشعب الكريم سوى أن يخلد إلى الهدوء مطمئناً إلى هذا الوعد" . ص 58 .
كما يقدم الروائي الحدث من خلال الصحف والمنشورات ، وهو يعرض هنا منشوراً من المنشورات التي وزّعها الإنكليز على الأهالي ولم يلتفت إليها إلا الصغار الذين وجدوا فيها شيئاً جديداً :
" إن قادة عصاباتكم ، أمثال القاوقجي وعبد القادر الحسيني ، وأبو درة ، وحسن سلامة ، وعبد الرحيم لم يجلبوا لكم سوى الخراب .. فتخلوا عنهم .." . ص 55 .
* * * *
وتمتلك لغة الرواية عند جاد الحق بعداً اجتماعياً بالغ الحضور على أكثر من مستوى ، إذ إن العادات العربية الفلسطينية موجودة في تضاعيف معظم الصفحات ، فالخال والجد يلحّون في تزويج أم سعيد من أبي صفية ، وآل المغاري يريدون أن يرثوا فاطمة بعد استشهاد خطيبها ، ومريم التي كبرت يجب ألا ترى أولاد الحي ومنهم أمين طبعاً ، والطعام على روح الميت حاضر ، وكذلك طعام الأفراح ، ولكل مناسبة عاداتها وتقاليدها ، ففي فرح غازي الجمل على فاطمة التي استشهد خطيبها نقرأ السياق السردي التالي :
" الساحة تغصّ بالصبية والأطفال ، الأنوار الساطعة تغمر المكان حتى كاد أن يتحول إلى نهار ، مدت الحصر والبسط المزركشة تحت سرادق علِّقت على جوانبه سجاجيد فاخرة ، وتدلت من سقفه مصابيح باهرة الضوء." ص 80 .
ويعكس مجتمع الرواية سذاجة الناس التي تحكم في كثير من الأحيان بدلاً من المنطق العقلي، فحين ينقلب مقلى الفلافل بمحتوياته جميعاً على يد أمين وثيابه تنهال النصائح على أمه لمعالجة حروقه من استخدام البيض وزيت الكاز إلى ماء الملح وزهرة الغسيل.. ص 64 . وكذلك حين دلقت أم عيشة الماء المغلي على رأس ابنتها في الحمام تلبسها عفريت (!!) فأخذوها للشيخ عبد الجبار الذي كسّر على جسدها حزمة من عصي الخيزران دون أن يتمكن من إخراج العفريت الذي تلبّسها إثر تلك الحادثة .ص 148.
ويحاول الروائي من خلال كل تلك الوسائل أن يقنعنا بالواقعية ، حتى إنه يستخدم الأغنية الشعبية في المناسبات المختلفة ، فحين توفي الأستاذ شفيق موسى راح أحد الرجال يصدح بموال حزين :
" أوف..أوف..أوف
يا حسرتي على مين راح ومضى
وعلى اللي ودع احبابه ومضى
أوف..أوف
شفيق زين الشباب راح ومضى
بس يا ريت ما يطول الغياب " .ص237.
كما لجأ الروائي إلى استثمار المحفوظات الشعبية ورصد الأزياء الفلسطينية لتحقيق الغاية ذاتها فالأم تقول بعد استشهاد الأب : " وكّلت أمري إليك يا رب .. على رأي الحاجة : العبد في التفكير والربّ في التدبير."ص 19 .
وخالة أمين تبدي إعجابها بالأزياء الفلسطينية التلحميّة، وهنا يحقق جاد الحق هدفاً مزدوجاً ، فهو يحيل أولاً على الواقعي ، ويدافع ، ثانياً ، عن الأصالة العربية الفلسطينية من خلال رموزها الشعبية :
" مرت بنا نساء تلحميّات أبدت خالتي إعجابها بأزيائهن . الثياب الطويلة حتى القدمين ، بيضاء أو سوداء مطرزة على الصدر والجانبين .." ص 145.
ولا يفوت الرواية أن تفيد من الثقافي في تكريس الهم الوطني الجماعي الاجتماعي ، فهي تعرض لقصيدة الثلاثاء الحمراء الشهيرة التي نظمها الشاعر إبراهيم طوقان تخليداً للثوار الذين شنقوا عام1930 على يد الإنكليز: وهم محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي ، يقول طوقان :
قسماً بروحكَ يا فؤاد صعدتْ جوانحها زكيّه
عاشت نفوس في سبيـــــ‏ل بلادها ذهبت ضحيّه ." ص 51.
وقد استطاع الروائي أن يوظف الحوار ، وأن يمنحه بعده الاجتماعي ، ومقدرته الفائقة على التعبير عن الشخصيات ، والمجتمع الذي يحكمها بآفاقه الفكرية ، وفي حوار بين الصغيرة مريم والصغير أمين، يحاول أمين أن يتجاهل غدر الزمن الذي حكَمَ عليهما بالكِبَر ، وجعلهما في غفلة منهما يخسران طفولتهما التي كانت تبيح لهما غير المباح قي الأعراف والعادات ، فحين يعطي أمين باقة من الزهر لمريم يخلق الموقف الحوارَ العفوي التالي:
_ هل نسيتَ أني ذاهبة إلى البيت .. ؟
_ وماذا في ذلك يا مريم .. ؟
_ لا شيء ..!
_ إذن تأخذينها ..
_ وماذا أقول لهم يا شاطر .. ؟
_ ولكن هذه ليست أول مرّة .
_ كان زمان .. عندما كنا صغاراً ..!
_ وهل أصبحنا الآن كباراً .. ؟ ومنذ متى ؟
_ هم يقولون ذلك ..كبّرونا رغماً عنّا ..! ص 95 .
* * * *

إن هذه الرواية ، باختصار ،‏‏ تحاول أن تقدم شيئاً للرواية الفلسطينية وللهوية الفلسطينية ، وإذا كان الأعداء قد نجحوا حتى الآن في سرقة الأرض ، فإنهم فشلوا فشلاً ذريعاً في سرقة الذاكرة الشعبية ، وهم ـ بالتأكيد – غير قادرين على ذلك ما دام هناك أدب ثوري ، قادر أن يحقق شرط الوطنية ، وشرط الانتماء إلى الإبداع .

د . يوسف حطيني
دمشق ‏31‏ ‏آب‏1999