لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: "شمة زعوط" مونودراما الوطن والإنسان

شمة زعوط: مونودراما الوطن والإنسان!!


د. يوسف حطيني


مما لا شك فيه أن مسرحية "شمة زعوط" التي عرضت في عدد من المسارح السورية تنتمي إلى ما يمكن تصنيفه من حيث الموضوع بالمسرح السياسي، ولكنها تجتاز المأزق الذي تقع فيه كثير من المسرحيات التي تشاركها هذا الانتماء، إذ إنها تنجح في الخروج من ربقة الشعارات والطرح المباشر للأفكار، فهي تذكر من أسماء الشهداء فارس ومحمد وحنّا في سياق واحد دون أن تكون مضطرة أن تعطينا محاضرة ذهنية عن التآخي الديني الإسلامي المسيحي في فلسطين.
وتسرّب هذه المسرحية دلالاتها الوطنية والقومية والإنسانية من خلال أحاديث الشخصية الرئيسة المتداعية المتدفقة كشلال من الوجد والذاكرة، ومن خلال التفصيلات الصغيرة التي تنفتح على معان بعيدة تمجد الفعل الانتفاضي المقاوم والتمسك بالأرض، والدفاع عن الهوية الوطنية.
لذلك من الطبيعي أن يحظى هذا العمل المسرحي الوطني بدعم اللجنة الشعبية العربية السورية لدعم الانتفاضة ومقاومة المشروع الصهيوني، وأن يحظى بمباركة الأمانة العامة للاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين، مما يمنحه هوية وانتماء يعززهما نص متميز وتمثيل بارع وإخراج جيد.
تقدم المسرحية التي تعتمد المونودراما شكلاً لها عدداً من الدلالات غير المستعصية على المتلقي، إذ تبني أساسها على المقارنة بين الـ (هنا) والـ ( هناك)، الـ (هنا) الذي يمثل المكان الطارئ الذي طرد إليه الحاج أبو هيكل بطل المسرحية، عندما أخرج من حارة الشرف ليستقر في بيته الجديد (صندوق الباص المهترئ)، والـ (هناك) الذي يعني المكان المسروق الذي يستوطنه الصهاينة، لذلك كان أبو هيكل يشير بعكازه إلى المكان المستلب قائلاً (هناك بيتكو) مما يرسخ في المتلقي رفض حالة الـ (هنا) التي تعني الذل والتشرد.
دلالة أخرى تعمل المسرحية على ترسيخها هي التركيز على مسألة الهوية، لذلك يحدثنا أبو هيكل، الممثل الوحيد، عن شجر الزيتون وعلاقته بالأرض، كما يصور الصهاينة الذين يكرهون الزيتون ويقتلعونه لأنه يمثل إحدى هويات المجتمع الفلسطيني، وكنوع من التحدي يغرس أبو هيكل شتلة زيتون صغيرة على (أرض) المسرح، لا كفعل استثنائي منفصل عن الشخصية بل كفعل اعتيادي ينبع من صميمها.
يقوم خط سير الحكاية في المسرحية على حالة انتظار: رجل ثمانيني ينتظر ابنه الذي ذهب لأداء الصلاة في المسجد الأقصى، ومثل هذا الانتظار يتيح فنياً مجموعة من الاسترجاعات التي تحيل على الماضي القريب والبعيد.. وفي النهاية يأتي رفاق يوسف وهم يحملونه ويزفونه شهيداً جديداً، وتأتي هذه النهاية من خلال الحركة المسرحية الذكية، لا من خلال الكلام، إذ يعبر عن استشهاد ابنه برفع ظهره، متجاوزاً سنواته الثمانين ليغدو شاباً قوياً، وقد جاءت هذه النهاية الحركية مؤسسة تأسيساً دقيقاً على حكاية سابقة يسردها أبو هيكل نفسه عن مرزوق الشراونة الذي يرفع ظهره عندما يستشهد ابنه محمد، وعلى الرغم من أن النهاية تأتي واضحة شبه مغلقة بحدث نهائي، إلا أن الجملة الأخيرة التي يطلقها أبو هيكل تفتح لها بداية جديدة تخاطب الضمير العربي: "يا ترى يا يوسف إيمتى رح ييجوا إخواتك البعاد؟!".
ولابد لنا من الإشارة إلى أن هذه المسرحية التي كتبها عدنان كنفاني، وأخرجها زهير البقاعي، ذات مستند واقعي، إذ استفاد عدنان من شخصية فلسطينية حقيقية تمثل العنفوان الوطني في مواجهة الاستيطان الصهيوني، غير أن الكاتب تجاوز الواقعي ليضفي على النص دلالات جديدة، فقد تجاوز كون عدد أبناء الشخصية الحقيقية (الواقعية) أربعة ليجعلهم أحد عشر أخاً/ كوكباً حتى يفيد من إمكانية المقارنة التي تجعل من الشعب العربي إخوة يوسف، وتجعل من أبي هيكل يعقوب جديداً يشم القميص ويحلم بعودة يوسف وإخوته جميعاً.
وتبدو شخصية أبو هيكل التي يلعبها باقتدار الممثل تاج الدين ضيف الله مشغولة بالزمن بجميع أشكاله وتقلباته، فالماضي جزء من اهتمامه، والماضي هنا ليس ماضياً شخصياً فحسب، ليس حديثاً عن أبيه وزوجته وأولاده الذين رحلوا، ولكنه ماض عام تراثي فهو يستحضر عمر بن الخطاب، وصلاح الدين، والقسام، وأمين الحسيني والشهداء، ويستنفرهم ويستنفرونه، من أجل أن يؤسس الحاضر والمستقبل، حين يعرض عليه السمسار مئتي ألف دينار أردني ثمناً لبيته، وحين يزيد المستوطن على الثمن مئتي ألف أيضاً، ثم حين يعطيه "شيكاً" مفتوحاً، إذ ذاك يخرج أبو هيكل علبة من جيبه، ويفتحها ليشم الزعوط (العطوس، العطّيس) وليعلن بعد أن استنتجد بكل هؤلاء، واستنجدوا به أن كل أموال العالم لا تساوي لديه (شمة زعوط) لأن هذه الـ (شمّة) تحيله على التاريخ والشهداء والحبق الذي كان يشمه عن يدي فاطمة/ زوجته، تلك المرأة النموذج التي تزغرد حين يرفض أن يقايض المنزل والحبق والتاريخ بحفنة من الدنانير.
وهنا يقوم الشعبي الذي هي جزء من الماضي المتجدد بدوره حين يتذكر البطل أغاني فاطمة، ومعروف ما للأغنية من تأثير في تجديد إيقاع المسرحية، وفي تجديد حيوية الشخصية، إضافة إلى كونها عتبة جيدة للانتقال من موقف إلى آخر.. والشعبي في ذهن (أبو هيكل) ليس الأغنية فقط بل التراث بأشكاله كافة حتى ثياب النساء التي تختلف من قرية لأخرى لذلك فهي عنده وعند أبيه (شغلة زي الهوية).
وعلى الرغم من أن (أبو هيكل) هو البطل الوحيد على حلبة المسرح، فإنه أتاح من خلال التلوينات الشخصية التي يلعبها تاج الدين ضيف الله ببراعة، المجال لظهور شخصيات أخرى تراوحت في أهميتها بين أن تكون شخصية رئيسة مثل فاطمة ويوسف أو ثانوية مثل السمسار، أو عابرة مثل أبو مرزوق الشراونة.
أما فيما يتعلق بديكور المسرحية فلا شك أن ظروف الإنتاج، والحالة المادية للمنتجين قد لعبت دوراً كبيراً في بساطته، وكان من الممكن أن يكون أكثر تعبيراً عن العمل فيما لو أتيحت له فرصة إنتاج أخرى. غير أنه على الرغم من بساطته فقد كان مناسباً إلى حد كبير.
بطاقة العمل:
مونودراما: شمّة زعوط.
تأليف: عدنان كنفاني.
تمثيل: تاج الدين ضيف الله.
إخراج: زهير البقاعي.