لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: مواجهات

مواجهات

د.يوسف حطيني



حين وطأت قدماي هذه الأرض الغريبة غمرتني السعادة، هذا هو الشعور الذي يرافقني كلما وطئت أرضاً جديدة.. وأنا من المحظوظين القلائل الذين تتاح لهم فرصة السفر المستمر للمشاركة في المؤتمرات والندوات وغير ذلك من الفعاليات التي أشارك فيها دائماً.
غير أن ما يزعجني في السفر هو المرايا التي تملأ الأمكنة التي أزورها: المطارات والمحلات، والحمامات حتى الحمامات يضعون فيها المرايا.
هذا الحمّام لا يناسبني أبداً، على الرغم من أن البورسلان الأزرق يعطي انطباعاً هادئاً، والنظافة والترتيب يمكن أن يثيرا الحبور في نفسي.. هذا الحمّام الفخم لا ينقصه شيء غير أن ما يزعجني فيه هو مرآته اللعينة.
كان من الممكن أن أحتال على المرآة، أن أستغني عن الاستحمام لو كانت الزيارة أقصر بقليل، ولكن أعمال المؤتمر ستستمر أسبوعاً كاملاً، لذلك سيكون لزاماً علي أن أقابل عدداً من السياسيين والمثفقين والمتسلقين على هامش أنشطة الندوة التي حملت عنوان "مواجهة الذات والآخر"، وسيكون لزاماً علي أيضاً أن أستحم، حتى أفيد من إنجازات العصر، وأبدل رائحتي إذ ليس من المستحسن أن أقابل الآخرين، وربما الأخريات، برائحة حليب النوق التي حملتها منذ أكثر من خمسة عشر قرناً.
آه.. لو يكسرون هذه المرآة، أنا من جهتي لن أعتب عليهم، ولن أنتقد في صحيفتي هذا الفندق ذا النجوم الخمسة، ولن أشير، إذا كسروها، إلى أن حمامه دون مرآة.
لماذا أهرب من مواجهة الواقع، إن علي أن أستحم الآن، وهذه المرآة تحدق فيّ بوقاحة منذ بدأت بخلع أول قطعة من ملابسي.
لدي خطة جيدة.. سأفرد المنشفة فوق المرآة، إن المنشفة كبيرة جداً ولن تسمح للمرآة أن تكشف أي شيء، سأغطيها وعندها سأتخلص من مواجهة عريي، وسأبقى في مأمن من مشهد حاولت ألا أراه منذ أيام زواجي الأولى قبل أحد عشر عاماً.
لا أزال أذكر كيف أضاءت زوجتي اللعينة الأنوار فجأة حين سمعنا حركة في أرجاء المنزل، ورأيتها مثلي عارية تماماً، على الرغم من أنني حاولت أن أحتفظ بنكهة جسدينا الغامضة، خرجتُ من غرفة النوم بعد أن وضعت شيئاً ما يستر جسدي، فيما أقفلت هي الباب بالمفتاح، وحين عدت إليها لاعناً أبا القطط التي ترعب الناس في عزّ الظلمة فتحت الباب وواجهتني بعريها مرة ثانية.
ليلتذاك حاولتْ ليلى أن تغير نظام حياتي، أن تنبهني إلى جمال الجسد الذي يغمره، كما قالت، شلال الضوء، حاولت أن تشدني إلى ذلك الجسد الفاتن. قالت: لماذا لا تستمتع يا حبيبي بجميع حواسك؟ ثم راحت تقوم بحركات مشينة، ولكنني، أطفأت الضوء وكنت حازماً: استحي يا امرأة، فلن يحدث هذا مرة ثانية ولو تآمرت علينا فيالق اللصوص والقطط.
في هذا الحمام، ذي المنشفة الملقاة على المرآة، يغريني الشامبو الأجنبي الذي يعطي رائحة عذبة، ورغوة وفيرة، ولولا الحياء لكنت تابعت تدفق تلك الرغوة على جسدي، بعد أن أنهكتني رغوة الصابون الرديء في حمام منزلي الذي لا مرآة فيه.
سحبت المنشفة بسرعة، فحانت مني التفاتة نحو جسدي العاري، هي لحظة فقط، خطأ غير مقصود، ثم أسرعت إلى الغرفة أفتش حقائبي بحثاً عن المحاضرة التي سألقيها في المؤتمر.
فكرت، وأنا أحلق ـ دون مرآة طبعاً ـ الشعيرات التي نبتت فوق ذقني بغير انتظام، أن محاضرتي ستكون متميزة، فهي تتحدث عن مواجهة الآخر، سأوضح للمستمعين أن المواجهة قد لا تكون عسكرية، وأن الاندماج في هذا العالم الجديد كلياً، وفق المعايير العولمية هو ذوبان وانكفاء وهزيمة.
قطعت تسلسل أفكاري طرقات منتظمة على الباب، أنظر من عينيه المثبتة في وسطه إلى الخارج، فأرى امرأة، أقول: انتظري لحظة لو سمحت، وألبس ثيابي الرسمية على عجل، ثم أفتح دون أن أستطيع في هذه العجالة إخفاء جرح استقر في أسفل ذقني:
_ هل تسمح لي بالدخول؟
تخلع السيدة معطفها الكحلي، ثم تناولني إياه، كي أعلقه، وترميني بابتسامة متقنة، بينما يكشف ما تبقى من ثيابها عن فخذين يذكران بعرائش الياسمين :
ـ أنا من إذاعة الـ إم إن إس ، أرجو ألا أكون قد سببت لك إزعاجاً.
_ "في الحقيقة نعم لقد سببت لي إزعاجاً كبيراً، خاصة أنك تأتين في وقت استراحة الوفود المشاركة".
أشكر الله تعالى أن هذا الرد الذي نطق به قلبي لم يتسرب إلى لساني، لذلك سمعته يقول:
_ على العكس، فقد كنت أنتظر أحداً أتكلم معه.
تخرج آلة التسجيل الصغيرة من حقيبتها الأنيقة، ثم توجه لي سيلاً من الأسئلة التي أجيب عنها، بينما ألقي في وجهها ابتسامات مغتصبة، تسحب طرف فستانها الأزرق عما تبقى من بياض الرخام، ثم تقول بخبرة عاهرة:
_ أرجو أن تؤمن لي لقاء مع رئيس الوفد، وستكون مكافأتك كبيرة.
_ أنا لست قواداً.
مرة أخرى ارتدت العبارة إلى صدري، ولم يسمعها أحد سواي، أما هي فقد أنهت لقاءنا بضحكة فاجرة، وأخذت معطفها الكحلي، سعيدة بصيدها الثمين، وتركتني أفكر:
لماذا لم أواجهها بتعبي ومللي؟
لماذا لم أقل لها أنني لست قواداً؟
أَلْفُ لماذا أشعلت أعماقي بشتى الأسئلة، وأنا أتوجه نحو المنصة الرئيسة لإلقاء كلمتي أمام المؤتمر، ولكنني، لسبب لا أعلمه، شعرت أن حريقاً اندلع في داخلي.. نسيت كل ما أعددته، أحسست أنني غير قادر على القراءة من الأوراق التافهة المتناثرة أمامي، بدأت أشرح للمؤتمرين بحماس أن المواجهة تبدأ من غرفة النوم، حكيت لهم عن ليلى التي تبحث عن جمال جسدٍ يغمره شلال الضوء، بينما كانوا يضحكون ساخرين.
كان العرق يتصبب غزيراً مني حين أخبرتني الإدارة أن علي مغادرة الفندق خلال ساعة بناء على طلب رئيس وفدنا المحترم، وبسرعة اتخذت قراراً خطيراً ونفذته، فقد انطلقت إلى الحمام لأتخلص من عرقي وخوفي واستلابي دون أن أكون هذه المرة مضطراً إلى وضع المنشفة على المرآة.