لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الخميس، 29 أكتوبر 2009

دراسة: القصة القصيرة عند إياد محفوظ

القصة القصيرة عند إياد محفوظ
سعي دائب لتحقيق الفكري والجمالي


د.يوسف حطيني



ثمة في الإمارات العربية المتحدة عدد من المثقين السوريين، قاصون وروائيين وشعراء ونقاد، بعضهم له تجربة طويلة في الكتابة، مثل الدكتور سمر روحي الفيصل، والشاعر حسان عزت، وبعضهم ما زال في بداية طريق الأدب مثل القاص الشاب حمدي البصيري والروائي الشاب فرحان ريدان. ولعل القاص إياد محفوظ واحد من هؤلاء الذين يستحقون الدراسة، لا سيما أنه أنجز ثلاث مجموعات قصصية في السنوات الأخيرة..
وإذا كانت المعاني والموضوعات والمقولات مطروحة على قارعة الطريق فإنه يسجّل للقاص إياد محفوظ الذي جاء إلى حلبة الأدب متأخراً من عالم الرياضة والهندسة قدرتُه على التقاط الأهم والأنقى والأكثر تعبيراً عن الهم الإنساني الفردي والجماعي، فهو يسبر خوف الإنسان العربي من مواجهة ظروفه ومن سماع مفردات تصيبه بالرعب مثل (جمعية حقوق الإنسان) ويبحث في غربة الجسد والروح، وفي الفقر ومفارقاته العجيبة التي تجعل الأستاذ الجامعي غير قادر على الزواج، وفي الحنين إلى الوطن ومفرداته المكانية والشخصية.
وعلى الرغم من نُبل المقولة التي يقدمها القاص فإن السؤال الأهم في الفن لا يحتفل بالمقولة احتفاله بكيفية تقديمها، لذلك كان لا بدّ من تتبع نسيج البناء الفني في المجموعات الثلاث التي نشرها الكاتب حتى ساعة كتابة هذه السطور وهي:
- أحلام الهجرة العكسية (2004).
- بين فراغين (2005).
- سياحة شرقية (2006).
* * * *
ثمة في قصص إياد محفوظ ملاحظة يستطيع كل قارئ التقاطها والإحساس بطغيانها، تلك هي الحنين الجارف في نفسه إلى الماضي الذي تقدمه القصص بديلاً عن الحاضر المؤلم البائس الذي لا تسدّ ماديته المفرطة تعطّشها إلى الخير والفن والجمال..
لذلك ليس غريباً أن يجد المرء عند القاص نصاً سردياً مليئاً بالاسترجاعات، على نحو ما نجد في قصة "الجدار" (1/33-39) التي تتراوح استرجاعاتها بين استرجاع داخلي قريب ينتمي إلى زمن الحكاية نفسها واسترجاع خارجي بعيد يعود إلى ما قبل زمن الحكي. وكذلك الأمر في قصة "الأيام المزهرة" (1/41-49) التي يحيل عنوانها على الماضي، وفيها يعتمد القاص على الموقف القصصي لبدء استرجاعه، إذ يبدأ انثيال الماضي في الطائرة:
"وكأنه وحيد في الطائرة..
كان أبواه يتعمدان أن يختارا لهما الثياب نفسها، ويشتريان لهما ألعاباً متماثلة حتى باللون" 1/44، ويستمر الاسترجاع اثني عشر سطراً، ثم يتم كسره عبر العودة إلى الزمن الحاضر وربط الحدث السابق [شعور البطل بالوحدة في الطائرة] بالحدث اللاحق، وهو بدء حديثه مع أحد الركاب:
"- يا أخ.. يا سيد.. من فضلك كم تبقى من الوقت للوصول إلى دبي؟
قالها الشخص الذي يجلس عن يساره" 1/44.
ويحتل الزمن الماضي الاسترجاعي بعد ذلك كثيراً من سطور هذه القصة، إلى أن يتم كسره هذه المرة عن طريق المضيفة التي تعلن انتهاء الرحلتين: رحلة دبي ورحلة الذكريات في نفس فارس..
وحتى لا نبقى في إطار قصص المجموعة الأولى فإننا يمكن أن نمثل لطغيان الماضي في قصص المجموعة الثانية بقصة "صورة وطيف"(2/29-37) التي لا نشك في محفزها الواقعي، وهو الإهداء الذي يبعث البطل على الاسترجاع ويجسد مدى تعلق القاص بالماضي:
"أعاد قراءة الإهداء.. أحس بطيف والده يملأ فضاء الغرفة" 2/33.
ويغلب على السرد الذي يتناول الماضي عند إياد إضاءته لأحداث سابقة تبين مواقف شخصيات كانت وظهرت وظلت رمزاً حياً من رموز الذين ينتمون للحاضر، على نحو ما نجد في قصة "أحلام صماء" (3/79-90) وفي قصة "زمن لن يعود" (2/133-152) التي يكون بطلها الحقيقي موجوداً في خلفية الأحداث، إذ إن "زورو" الذي يبقى مرتبطاً في ذهن بِشْر بالأصدقاء الذين ينتمون لزمن جميل يمارس حضوره السردي الباهي بوصفه رمزاً من رموز الماضي النابض بالحياة.
ولعل المرء يتساءل عن سبب طغيان صورة الماضي في قصص إياد، وفي السرد العربي عموماً: أهو استنكار لحاضر لا تكفي سماؤه لتحليق الروح، أم خوف من المستقبل الذي يحاصر أحلام الهجرة العكسية نحو البراءة الأولى، أم ثمة سبب لا ندركه يشد حبال السرد نحو مشيمة العربي الذي كان.
* * * *
وتنعكس صورة الارتباط بالماضي على المؤثثات المكانية التي تملأ فضاء القصص، فنجد عند إياد التمثال والقلعة والبيت القديم والساعة والطاسة، وفي كل مرة يدين القاص ذلك الإقصاء الممارَس ، عن قصد أو عن غير قصد، ضد رموز الماضي التي حملت ثقافة الوطن وحضارته في زمن مضى وانقضى؛ ففي قصة "القناع" (1/95-108) نقرأ النسقين اللغويين التاليين:
- "بالقرب من النصب التذكاري الكبير الذي يتوسط ساحة عبد الله الجابري في مدينة حلب، وفي التاسعة مساء يتكرر اللقاء اليومي بين الصديقين" 1/97.
- "وضع وحيد يده على تمثال نصفي صغير لسعد الله الجابري وأخذ نفساً عميقاً وراح يخاطبه:
- لماذا أنت مختبئ بين الأشجار؟؟"1/104.
وإذ ينجح القاص في إعطاء هذا الاختباء بعداً رمزياً له دلالته الوارفة، فإنه يقع في قصة "أنا وابنتي" (1/95-104) في شرك الغواية الذي يقوده إلى تكرار هذا الرمز الجميل، دون أن ينتبه إلى أن تكرار الإبداع ليس إبداعاً:
"وصلنا إلى حيث يغفو تمثال عبد الله الجابري على منصة تكاد تختفي وسط زحام الأشجار المتكاثفة" 2/99.
وكثيراً ما يأخذنا القاص معه في رحلاته المكانية عبر الغرف والبيوت والأزقة والساحات، ولكنه يلجأ في بعض الأحيان إلى تعميم المكان بدلاً من تخصيصه، فهو يغفل اسم دولة أو مطعم أو حي دون مسوغ فني، مما يفقد أحداث القصة ألفتها المكانية، ويفقد القاص فرصة وصف المكان بشكل دقيق، وهذه بعض الأمثلة:
- "يشتغل في مجال الأعمال الحرة في إحدى الدول الأوروبية" 1/117.
- "يدعوها لتناول الغداء معه بعد يومين في أحد أشهر مطاعم المدينة" 1/117.
- "كانت العادة في تلك المدينة تغليف المشتريات بالورق"3/21.
- "يتجدد لقاؤه الأسبوعي مع أصدقائه في أحد مقاهي المدينة" 3/27.
وثمة بعض الملاحظات التي يمكن أن يبديها المرء حول ما يسمى "الفضاء الطباعي" الذي يتناول الحيز الذي يشغله الكتاب، والغلاف والإخراج والإهداء.... إلخ وذلك لأن ثمة ما يلفت النظر في هذا الجانب:
· فإخراج المجموعات الثلاث يثير جماله الإعجاب، وهو متشابه في الشكل العام ومختلف في التفاصيل، ويوحي بأن القاص يريد أن يختط لنفسه شكلاً معيناً من حجم الكتاب إلى شكله ولونه ورمزه (كرة السلة).
· والقاص يلجأ في المجموعات الثلاث إلى التقديم، إذ يقدم له الدكتور عبد الرحمن دركزلّي مجموعة "أحلام الهجرة العكسية"، ويقدم له الدكتور رياض نعسان آغا مجموعة "بين فراغين"، بينما يقدم الأستاذ وليد إخلاصي مجموعة "سياحة شرقية". وبغض النظر عما كُتب من قبل الأساتذة الأفاضل حول قصص إياد محفوظ فإن الرأي عندي أن مثل هذه الكتابات قد تمارس استلاباً على القارئ، وتفرض عليه رأياً معيناً إذا لم يكن ذا دربة ومراس.. وربما كان من الأفضل أن يتم تقديم هذه القصص للقارئ مباشرة.
* * * *
ويبدو لي أننا مضطرون عند دراسة الحكاية والحدث إلى تقسيم ما أنتجه القاص إلى قسمين: حيث بدت الحكاية مرتبكة بشكل عام في المجموعتين الأوليين، في حين تخلص الكاتب من معظم المعوقات التي تعرقل سير الحكاية في المجموعة الثالثة، وهذا مؤشر إيجابي يفيد بأن القاص يعمل على تطوير تجربته..
· فالقاص في بعض قصص المجموعتين الأوليين لا يدرك بشكل عام الفروق العامة للحكاية بين مختلف أنواع السرد الأساسية (الرواية والقصة والقصة القصيرة) وما يتبع ذلك من اختلافات تظهر في طريقة تقديم الحدث والشخصية والعناصر القصصية الأخرى، وتمكن الإشارة على سبيل الخصوص إلى قصة "أحلام الهجرة العكسية" وهي حكاية جميلة تداعب ذاكرة جميع المغتربين بتداعيات الألم المستمر، ولكن المشكلة فيها أنها لا تقتصر على شخصية الرجل العجوز ومتعلَّقاتها، ولكنها تفصّل كثيراً مما يشي بتفاصيل روائية..
· القاص يحتفل كثيراً بنقل الوقائع، ويتوهم في معظم قصص المجموعتين الأوليين أن الأدب الواقعي تصوير فوتوغرافي للواقع، وهذا غير صحيح لأنّ في الواقع كثيراً من التفصيلات والتكرارات التي تشوّه العمل الأدبي.. والظنّ عندي أن العمل الأدبي لا يعمل على نقل الواقع بل على تكثيفه أو موازاته أو إعادة صياغته أو البناء عليه..
ومثل هذا الإخلاص لحَرْفية الواقع قاد القاص إلى تقديم كثير من التفاصيل والشخصيات غير الضرورية في قصصه، فالتفاصيل الكثيرة التي لا داعي لها تملأ قصة "اجتماع عمل" (1/15-30) فمعظم الشخصيات غير فاعلة، وهي تقوم بأدوار يمكن الاستغناء عنها (كالطبيب الجراح جاسم عبد الكريم، وطبيب الأسنان شادي الحايك، والمهندس سعيد الآغا).
على أنه ينبغي التأكيد هنا أن التفاصيل التي تقوم بدور مهما كان صغيراً هي تفاصيل مطلوبة، ولعلنا نشير هنا إلى الدور المهم الذي أسند إلى التفاصيل في قصة "كواليس" (2/15-28) فالوصف يأتي تفصيلياً، ويعوّق حركة السرد نظرياً، إلا أنه من الناحية الدرامية يخدم حكاية يوسف المستعجل أصلاً ويسهم في تأخيره:
"كان ثمة شرطيان آخران في الغرفة ذاتها.. أحدهما يجلس متربعاً على مقعد جلدي قديم والآخر مستلقٍ على سرير معدني متهالك (...) الهدوء والسكينة كانا يخيمان على المكان ويبعثان فيه الاطمئنان غير أن بعض الأصوات كانت تتهادى من الزاوية البعيدة التي يقبع فيها جهاز تلفاز أبيض وأسود" 2/21.
· ويبدو القاص في معظم قصص المجموعتين الأوليين مولعاً بتقديم السيناريو بدلاً من القصة.. ومعروف أن كاتب السيناريو يؤثث المكان ويقدم وصف الشخصيات ولباسها في بداية المشهد أما القاص فإنه يؤخر ذلك أو يقدمه حسب الضرورة الحكائية.
· القاص يحتفل في بعض قصص المجموعتين الأوليين بالمقولة الجاهزة، ويمكن أن نشير إلى قصة "واجب مدرسي" (2/45-53) التي تحكي حكاية الولد خالد الذي يجد وظيفته مشطوباً عليها فيغيب عن المدرسة ليجد أن مشكلته تتعقد يوماً بعد يوم، ومشكلة هذه القصة أن حكايتها مفصلة على قدر مقولة يقدمها الأب في شكل نصيحة لخالد:
"إن مشكلة المرء يا بني مهما كانت صعبة أشبه بكلب.. إذا هربتَ منه نبحكَ.. وإذا وقفتَ في وجهه هرب" 2/53.
وقد تكون المقولة في بعض الأحيان طرفة ممجوجة، يسمعها المرء هنا أو هناك، لتتحول بعد ذلك إلى قصة عنوانها "الحفرة" (1/109-113) وهي حكاية عمال المجاري التي تُختصر في مقولة الأستاذ عبد الحميد في نهايتها:
"عندما كانت خيراتنا كثيرة وفضلاتنا كبيرة كانت قساطلكم ضيقة وصغيرة، والآن بعدما شحّت أرزاقنا وقلّت فضلاتنا تقومون بتوسيع المجاري" 1/108-109.
غير أن ما تقدم لا ينفي وجود عدد من القصص التي نجحت حكايتها نجاحاً باهراً؛ من مثل قصة "الحاسة السابعة" (1/115-122)، ولعل قصة "بطاقة سفر" (2/71-81) أن تكون أجمل القصص في المجموعتين الأوليين، فهي تقوم على حكاية رومانسية تتحدث عن فتاة أحبت رجلاً ولم تقوَ على مصارحته، إلى أن جاء السفر البغيض وأبعده عنها، وحين تحاول اللحاق به، وتقطع تذكرة سفر تقف الذكريات حائلاً بينهما، إذ تنثال الذكريات على قلبها وصدرها، وتستمرّ إلى ما بعد انطلاق القطار.. إنها حكاية الحرمان المتجدد من اللقاء، حكاية الأمل المتجدد، والتفاصيل الموحية ابتداءً بالمنديل الربيعي الملون وانتهاءً باليد الصغيرة التي تلوح من نافذة القطار.
ويبدو لي أن ثمة تناسباً عكسياً بين طول القصة عند إياد وبين نجاحها، فكلما كانت القصة أقصر عنده اقتربت من النجاح، ومن القصص التي نجحت في تقديم حكايتها ومقولتها دون عوائق وتفاصيل غير ضرورية قصة "ليرة ذهب" (2/83-87) وقصة "الدنيا مقامات" (89-94) وقصة "أبو عبدو النشمي" (2/39-43).
غير أن المرء حين يقرأ المجموعة الثالثة "سياحة شرقية" يطالع تجربة أنضج وأكثر إدراكاً لطبيعة الفن، إذ تغدو الحكاية مركزة والتفاصيل مشدودة نحو محورها بخيط سردي متين، إذ ينجح في قصة "الدنيا حكايا" (3/35-41) التي يعيد فيها إنتاج قصة "أبو عبدو النشمي" دون أن يكررها، وينوع في طرائق تقديم الزمن الذي يظهر ملخصاً في بعض الأنساق السردية، ومفصلاً في بعضها الآخر. إذ يمكن أن نقرأ أحداثاً تحتاج إلى مرور عديد السنوات في سطور قليلة، على نحو ما نجد في قصة "أحلام صماء" (3/77-90):
"في ذلك المكان البعيد النائي (...) شعرتُ بأنّ كل شيء قد تغيّر، تمنيتُ حينها أن تكون تلك الزيارة هي الأخيرة..
استجابت الأقدار لرغباتي بطريقة لم أتوقعها.. سنوات قليلة ورحل والدي تاركاً وراءه أفواهاً جائعة وأجساداً عارية.. فيما أقعد المرض الشديد والدتي المسكينة" 3/86.
بينما نقرأ في قصة أخرى "ورود حمراء وبيضاء" (3/137-153) سطوراً كثيرة عن لحظة عامرة بالمشاعر هي لحظة الشهادة، إذ يجعل القاص منها محرقاً زمنياً يوجه حوله إبداعه السردي دون أن يفقد البوصلة الحكائية.
ويميز الحكاية في المجموعة الثالثة تمكن القاص من الإفادة من تأثيث المكان في توجيه الحكاية، مستفيداً من إدراكه الفني لدور المفتوح والمغلق ورمزيته في بناء تاثيث دلالي، إذ يستطيع القارئ أن يجد في قصة "أحلام صماء" (3/77-90) علبة حمراء فاخرة يفتحها السرد الحكائي، وأن يجد في قصة "النظرة الأخيرة" (3/97-107) قلماً تستمد الشخصية حياتها منه في الفضاء المفتوح، في برهة تحوله إلى قلم عديم الفائدة ينتهي بفضاء مغلق حين يضعه الأستاذ فؤاد في علبته إشارة إلى تقاعده من الوظيفة..
أما بدايات القصص التي تعدّ جوازات مرور للقصة نحو القارئ فإنها تمتاز في أغلب الأحيان بالطول وكثرة التفاصيل والمواقف في المجموعتين الأولى والثانية فيما تصبح أكثر تركيزاً ومناسبة للدخول في الحدث في المجموعة الثالثة؛ ففي قصة "الحفرة" (1/109-113) يبدأ القاص حكاية القصة من موقف البطل وزوجه، دون أن يكون لزوجه صلة فاعلة بالحدث من قريب أو بعيد، والبداية في قصة "غبار الزمن" (1/57-65) طويلة جداً، وهناك صفحة على الأقل يمكن حذفها دون أن تؤثر على القصة، أو يمكن على الأقل دمجها في أحداث القصة حتى لا بتدو جزءاً ناشزاً. وكذلك فإن تمهيد قصة "آسف حبيبتي" (2/121-132) طويل جداً يمتد إلى نحو صفحتين ونصف ليبدأ قصة ينهيها ثم يعلّق بعد ذلك عليها بصفحة ليجعل الحكاية الأصلية جزءاً من قصة طويلة مرتبكة.
ويبدو الأمر مختلفاً في المجموعة الثالثة للقاص، إذ إن مقدمات القصص تتنوع، فثمة مقدمة تنطلق من الحدث، وثانية من الزمان، وثالثة من المكان، إلخ... ومثل هذا التنويع يدلل على إمكانات السرد التي استوعبها القاص على الرغم من تجربته القصيرة، ويضمن للقاص فرصاً أقلّ للتكرار، أي يضمن له فرصاً أكبر لنجاح القصة..
ففي قصتي "النظارة" (3/25-33) و"النقطة الفاصلة" 3/43-49) لا يضيع الكاتب السطور سعياً وراء وصف غير وظيفي، بل يبدأ من الحدث مباشرة:
"استيقظ أبو هشام باكراً.. أحس بالنشاط والحيوية يسريان في عروقه" 3/27.
"ودعته.. وخرجت مبتسمة من شقته المسترخية فوق سطح بناية عامرة" 3/45.
وفي قصة "أحلام صماء" (3/77-90) يبدأ القاص بسرد وصفي مكاني، يبدو ضرورياً لفهم الشخصية الرئيسة التي للمكان هيمنة عليها، تلك الشخصية التي تعيش في بيت يتسرب الهواء النظيف من نوافذه، وتموت فيه وهي تضم يدها إلى الذكريات.
أما فيما يتعلق بنهايات القصص لدى إياد محفوظ، فإن تلك النهايات تبدو ناجحة في معظم قصص المجموعات الثلاث؛ فهو يدرك أن النهاية هي النسق السردي الذي لا يمكن للقاص أن يقول بعده شيئاً، وأن القاص إذا أخفق في تحديد الكلمة التي يجب أن يقف عليها فإنه سيقلل من فرص نجاح قصته..
ويمكن أن نشير إلى بعض الأنساق النهائية الناجحة في قصص إياد محفوظ، ففي قصة "اجتماع عمل" (1/15-30) يفقد (كمال أبو العزم) عزمه نهائياً في النسق الختامي، ويفضل أن يغيب تحت سطح الأرض في مدينة النور والحرية:
"اتجه نحو أقرب مدخل "مترو"
دفع بنفسه إلى الأسفل ليغيب تحت سطح الأرض في مدينة النور والحرية" 1/30.
وينجح القاص كذلك في قصة "صورة وطيف" (2/29-37) إذ يقدم نهاية لغوية حدثية لا تحتمل مزيداً من الشرح والتفصيل:
"غادر منزله مبتسماً.. فرحاً.. فيما كانت يده اليمنى تحمل كتاباً" 2/37.
وفي قصة "أحلام صماء" 3/(77-90) يقدم القاص نسقاً ختامياً بديعاً تتضافر فيه عناصر القص جميعاً، إذ يتحقق المكان من خلال اختراقه من قبل الشخصية التي تعيش زمانها المديد، فيما تموت الشخصية الرئيسة سهيلة عبر جملة مواربة تحسمها الكلمة الأخيرة في القصة:
"الهواء النظيف ما زال ينساب خلال نافذتها ليلامس وجهها المسترخي على مساحات واسعة من سنوات عمرها المديدة في حين كانت مديرة الدار تقف قبالتها محدقة في العقد الماسي يغفو للمرة الأخيرة بين أصابعها الباردة" 3/90.
* * * *
فإذا انتقلنا إلى بناء الشخصيات قي قصص المجموعات الثلاث أمكننا تسجيل الملاحظات التالية:
· القاص يقدم شخصيته مستفيداً في الغالب من اللغة المباشرة في توصيفها نفسياً وجسدياً، وقل أن يستفيد من الموقف القصصي في إضاءة الشخصية، ومن استثمار قدرة الاسم على إضاءة جانب من جوانب الشخصية.
ولعل من نافل القول أن التسمية ذات علاقة وثيقة بالشخصية، فالقاص لا يشبه الأب الذي يسمي ابنه أميناً فيكون جباناً، لأن الأب هنا لا يعرف مصير ابنه، أما القاص فهو الذي يتحكم بالمصائر..
في قصص إياد محفوظ ليس ثمة اهتمام بالتسمية، بشكل عام، فهناك نادين وسهيلة وسهير ووسيم وفارس وفادي وجميل وبشر وعبد الرحمن، وهي مجموعة أسماء لا علاقة لها بالحكايات التي تقدمها. غير أن ثمة استثناءات في قصتين تنتميان لمجموعة (أحلام الهجرة العكسية) فكمال أبو العزم في قصة "اجتماع عمل" (1/15-30) يفقد عزمه في اختبار الخوف الذي يضعه فيه كريم الشاطر، ووحيد في قصة "القناع" (1/95-101) يعبر عن وحدة البطل الذي يعاني غربة شخصية وغربة مكانية في آن.
إضافة إلى عدم وجود مسوغ حكائي لتسمية الشخصية، فإن هناك ظاهرة تكرار الأسماء التي لا نجد لها مبرراً، اللهم إلا محاولة إقامة علاقة بين الشخصية ومحيط القاص الاجتماعي الصغير، فهناك فارس في "الأيام المزهرة" (1/41-49) و"غبار الزمن" (1/57-56) و"سياحة شرقية" (3/17-23) و"الدنيا حكايا" (3/25-34) وجميل في "أحلام الهجرة العكسية" (1/123-142) و"صورة وطيف" (2/29-37) و"الدنيا حكايا" (3/25-34)، وهناك بشر وعماد وغيرهما..
· وعلى الرغم من أن القاص يلجأ إلى إضاءة شخصياته بشكل عام من خلال السرد المباشر، فإن ثمة شخصية في قصة "زمن لن يعود" (2/133-152) هي شخصية (زورو) تعد واحدة من أغنى الشخصيات في قصصه جميعاً، إذ إنها تقدم وظيفتها الحكائية في حضورها وغيابها، في حلة لغوية قشيبة تهتم ببنائها الجسدي والفني على حدّ سواء.
* * * *
أما لغة القص التي يمكن وصفها بالفصيحة السهلة المفهومة بشكل عام، فقد كانت في بعض الأحيان ذات دلالة نفسية كثيفة تكشف مخبوء شخصياتها، غير أن لغة القصص المبكرة لم تنج من تدخّل القاص ، فهو لا يترك مسافة كافية بينه وبين قصته؛ ففي قصة "الجدار" (1/33-35) يمتزج السارد بالقاص ليقول:
"وكانت هذه الذكريات تسبب لها ألماً شديداً.. وحزناً عميقاً" 1/35.
وفي قصة "أنا وابنتي" 2/(95-104) يحفل القاص بالمقولة على حساب الفن إذ يقدم مداخلة يمكن أن يقولها محاضر في ندوة:
"رجال عظماء صنعوا تاريخنا بالعزم والتصميم والتضحية ولم يبق منهم إلا حجارة قابعة في زوايا العتمة والصمت.. بينما أمثالهم في الغرب يقدَّرون ويكرَّمون في حياتهم وبعد رحيلهم يحافظ الناس على ممتلكاتهم وتراثهم" 2/103.
وقد بدأت لغة القص في مجموعته الأخيرة تتخلص من عوائق الذهنية والتقريرية، في الأغلب الأعم ولم يبق من القصة إلا اللغة التي تسند إليها وظيفة سردية، مما يعني أن القاص يتجه نحو فهم أعمق لتحقيق غاية الأدب التي تزيد من وعي القارئ الفكري والجمالي..

23/3/2006

هوامش:
المجموعات القصصية التي صدرت لإياد محفوظ حتى الآن هي:
1- أحلام الهجرة العكسية، دار البارودي للطباعة والنشر، أبو ظبي، ط1، 2004
2- بين فراغين، دار البارودي للطباعة والنشر، أبو ظبي، ط1، 2005
3- سياحة شرقية، دار القلم العربي، حلب، ط1، 2006.