لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: قراءة في رواية بدو

كنفاني في رواية "بدّو"
فلسطين موجودة إذاً أنا موجود!!

د. يوسف حطيني

"إحساس امتلأ به صدري أنني أقترب شيئاً فشيئاً مع انطواءات الطريق تحت عجلات السيارة الخضراء الداكنة.. من فلسطين.. من القدس.. إنها موجودة إذن.. أنا موجود إذن.. "ص40.
عبر هذا السياق اللغوي، وعبر تضافر سطور رواية "بدّو" لعدنان كنفاني يربط البطل وجوده بوجود فلسطين، ويستمد من إحداثيات المكان المنطوي في ذاكرة الزمان قوة جديدة تجعله يقبض على جمر الحاضر، يقول الراوي:
"كأنني وأنا أعود إلى تلك الأيام، ألمس تفاصيل المكان الذي أمسَكَ على بوّابته طفولتي، وأعطاني أول خيط أنسجُ منه مرحلة جديدة من العمر تتهادى، بطيئة، غامضة، لكنّها تنقلني شئت أم أبيت إلى مرحلة أخرى.." ص7.
لذلك يرسم لنا عدنان من ذاكرته الثرة الطريق إلى "بدّو"، وهي ـ كما يشير الغلاف الأخيرـ قرية فلسطينية تقع شمال غرب مدينة القدس، فيستحضر المكان بتفاصيله الحميمية، من الشارع العريض إلى التليّن القاحلين المقابلين،إلى الأفق المفرود إلى أقصاه، ص12 إلى القرية ذاتها التي تنكشف أماهم في لحظة من لحظات العمر التي لا تنسى:
"وفي اللحظة التالية نطلّ على بدّو..!
تستقبلنا بيوتها المتناثرة هنا وهناك، متباعدة عن بعضها منتشرة بين مرتفعين وسفح واحد ممتّد حتى حدود الأكمة الأخيرة...." ص13.
وفي واحد من أجمل تداعيات المكان الذي ينفتح على الزمان يسأل الراوي صديقه سليمان عن الأفق الممدود أمامه وهما في رام الله، فيكون جوابه مدعاة لانطلاق الراوي، وعدنان كنفاني معاً، نحو الماضي، نحو الفردوس المفقود الذي تمثله يافا، وتغدو هذه الكلمة السحرية "يافا" خنجراً يذبح ولكنه لا يقتل، بل يستجلب الذكريات الأليمة والجميلة في آن :
"سألته مشيراً إلى آخر الأفق الممدود:
- هناك.. ماذا.. هناك..؟
أجابني، وعيناه تلاحقان خطوات صبية تتعلق ذراع شاب..
- هناك.. آه هناك. البحر.. يافا..
كأن وجهي صار ورقة تين جافة.. انتفض عرق غليظ في جبهتي، ورحت “كما كانت تفعل أمي” أقلص حدقات عيني، أحاول تجزئة المنظر المفرود أمامي على كامل مساحة الرؤيا لأتبينه قطعة قطعة ثم أبنيها “فيما بعد” لأشكل منها صورة ما لشيء في الذاكرة.."ص29
وعبر هذه الكلمة المفتاحية يقاد الراوي إلى استذكار طويل، يقوم على ثنائية ضدية معروفة في الأدب الفلسطيني عموماً، وهي المقارنة هنا في الآن/ وهناك في الآنذاك. وبينهما يافا وبيارة الحمّضيات وسمير بيدس وصبحة ومعمل بلاط أبو شندي، والبحر من جهة، وبدو ورام الله وشجرة هدى وشجرة إنعام من جهة أخرى، مما ينتج سياقاً سردياً، ربما كان الأعذب في الرواية برمتها:
"رأيت بدّو على نهاية الأفق تكاد تنطوي هي الأخرى تحت ضربات المحرّك الثقيلة، شجرة هدى، سوق اسكندر عوض، شجرة إنعام، معمل بلاط أبو شندي. جسد “سمير بيدس” العاري.. صبحة.. صور كثيرة مختلطة تداخلت بسباق مجنون، وأغلقت أمام مخيلتي الصغيرة سبل الرؤيا..ص46.
غير أن ما يؤخذ على الروائي هنا أنه يستطرد كثيراً حتى يكاد القارئ ينسى أن الراوي وصديقه في رام الله، لأن أوصاف هذه المدينة لا تكاد تبين على الرغم من أنهما تجولا فيها، وعلى الرغم من أن المكان هو لعبة الرواية الأولى، بدءاً من العنوان، وليس انتهاءً بالوصف الحميمي لقرية بدو التي تكون انتماءً لصديق الراوي سليمان، ثم تغدو فيما بعد انتماءً له:
"لأتمنى من كل قلبي لو أنني أخ لسليمان، أشاطره البيت والأرض والأسرة، وأقول بفخر، بل بأكثر من فخر، أقول بانتماء:
أنا من بدّو..
بدّو التي غرزت بكل ما فيها في مسام جلدي فتنفسّتها، خلقتها في عروقي فسارت مع دمي تمسّكت بها بكل قوتي في خيالي ويقظتي، فوجدتها على الدوام مترفة وبرّاقة..
بدّو هي أنا.. تصوّرتها في ذلك العمر أنها أنا، بل هي أنا.. " ص16ـ17.
حتى إن كاثي الفتاة الإنكليزية لا تحتل مساحة من وجود البطل، إلا عبر المكان، وعلى الرغم من أن علاقته بها هي علاقة مرتبكة فإنها لا تعيش ولا تنتعش في خياله إلى عبر ربط لقائها المتخيل بالقدس والمسجد الأقصى وكنيسة القيامة:
"حشوت رأسي بآلاف الخطوات التي سأحفرها مع كاثي عبر طرقات القدس وحواريها، يدها في يدي.. أطوف معها على معالم أبواب القدس المنيعة العملاقة.. نزور المسجد الأقصى.. نجلس قليلاً في ظل الجدار الذي يحمل الساعة الشمسية العجيبة. اشتري لها صليباً مصّدفاً من دكان “أبو داوود الصّداف”.
ندخل كنيسة القيامة عبر بوابتها الضخمة المدعّمة بالأعمدة الخشبية الجبارة.. أضواء الشموع الخافتة في الداخل ستفرض حالةً من الخشوع.."ص52.
وتبدو الشجرة رمزاً من رموز الأرض والبقاء، وتثري المكان، وتمنحه دلالة وارفة، لأنها تعني فيما تعنيه تاريخ الأسرة الفلسطينية الشخصي والوطني:
"- هذه شجرة هدى، زرعها أبي يوم ولدت أختي هدى.. في هذا المكان قتلت أفعى قبل ثلاث سنوات.. وهذه الشجرة زرعتها وعمري سبع سنوات.. وهذه.. وهذه.
يدور حول الأشجار بفرح، كأنه طفل وجد لعبته المفقودة، يضرب كتل التراب بمقدمة نعله، ثم يستلقي بظل سور الحجارة المدببة:
- هنا جلست [إنعام] إلى جانبي..ص20.
أما على صعيد التعامل مع الزمن الروائي فإن عدنان يبدو مولعاً بالقفز الزمني والتلخيص ولعه بالاسترجاعات التي تجعل الماضي حاضراً، فهو يلجأ إلى تلخيص الفترة بين عامي 56 و67، ثم بين 76 و87 وهو تاريخ اشتعال الانتفاضة الأولى. وكأن الروائي يريد من خلال هذه التقنيات الزمنية أن ينشط خيال القارئ، إذ يطلب منه ملء الفراغات، ولكن خطورة الاعتماد كثيراً على هذه التقنية يتجلى في كونها تشعر القارئ العادي بخلل في الرواية، ومن السياقات التي تجسد ولعه بالقفز والتلخيص السياقان التاليان:
"تسعة عشرة سنة.. مضت مثل طرفة عين، تمّر أمامي اللحظة مرور السهم.! ص107.
"- أنت تعرف ما جرى في حرب 1967.. جيوش وبيانات واستعدادات رأيناها تجري أمام أعيننا، في الشوارع، وعلى الشاشات الصغيرة والكبيرة.. ثم بعد ساعات كنّا خارج حدود فلسطين كلّها هذه المرّة، صمتت الجيوش، وسكتت الإذاعات، واعتلت الوجوه صفرة صبغها الحدث المفاجئ..
أيّة مفاجأة ونحن دائماً تحت حراب الاحتلالات، وقمع الحكومات.. يومها يا صديقي احترق البيت وسيارة النقل، وضاعت إنعام، وضاعت بدّو..ص121_122.
وكما في كل نثر حكائي تقوم الرواية على صراع أساسي، ثم تنطلق بين مجموعة من الصراعات، واللافت في هذه الرواية أن صراعها الأساسي لا يكون بين الشخصيات الفلسطينية والمحتل، بل بين هذه الشخصيات لتحديد كيفية مواجهته، وهو صراع إيجابي فكري محض، ينتصر في نهاية الأمر لصالح الكفاح. وهنا تبرز شخصية سليمان، إلى جانب الشخصيات المناضلة التي تدعم وجهة نظره في الصراع المشار إليه، إذ يظهر شخصية تؤمن بالفعل الثوري والإنساني، فهو يرى مثلاً أن ما يقوم به يونس الذي يثأر لزوجته عبر قتل القتلة أكثر جدوى من الاجتماعات والبيانات. لقد كان يونس يحفر بسكينه الحادة خطاً على قبر زوجته كلما قتل صهيونياً، لذلك يقول سليمان:
"- خط واحد من سكين يونس على قبر زوجته، أجدى ألف مرة من اجتماعات، وبيانات ليس فيها إلا كلام وكلام.. 103
غير أن هذا السياق اللغوي لا يكشف إلا جانباً من شخصية سليمان لأنه مصر على البناء إصراره على التحرير، لذلك يغدو أحياناً رجلاً قاسياً حتى على أصدقائه، ويبدو في أحيان أخرى طفلاً كبيراً تؤرقه أحلام لها دلالاتها الممتدة والمتعددة:
"سألني وكأنه يخرج من تحت سقف ثقيل.؟
- هل تعرف كيف تزرع شجرة..؟" ص20.
وبين الطفولة الهاربة والرجولة القاسية يترجح سليمان، ولكنه لا يفقد الرؤية الواضحة، لذلك يرفض أن يسمي أياً من شجراته باسم كاثي الإنكليزية:
"قال وهو ينفض التراب من يديه:
- نسمي هذه الشجرة إنعام.!
قلت بعفوية:
- وهذه "كاثي"..!
أجاب وهو يرمقني بنظرة جافة:
- هدى.. إنعام.. كاثي... أعتقد أنها نغمة شاذة.." ص24.
وتبقى كاثي في هذه الرواية مجرد شخصية طيفية، لا تحيا إلا في خيال الراوي وصديقه، فهي عند الراوي الفتاة المشتهاة، وعند سليمان الفتاة البغيضة، وربما كان من المفيد أن يفصل لنا في وجهة نظر سليمان بكاثي أو في تعلق الراوي بها، أو يفرد فصلاً تتحدث فيه كاثي عن رؤيتها لما حولها،حتى لا تبقى هذه الشخصية المهمة من الدرجة الثانية.
كما أن عدنان كنفاني لا يفصل لنا في الشخصية المعادية التي تبدو عنده غائبة الملامح تقريباً، إذ تظهر فقط من خلال أفعالها، ورؤية الراوي وأصدقائه لهذه الأفعال، ولعلنا نشير هنا إلى أن هذا الأمر، أقصد غياب ملامح صورة العدو لا يؤخذ كنفاني وحده، بل على معظم الأدبيات العربية، وربما يعود هذا إلى صعوبة الدخول إلى سيكولوجية الشخصية المعادية.
ويقدم لنا عدنان في رواية "بدّو" مجموعة من الشخصيات الجاذبة، ويبدو النضال الوطني صفة جاذبة للجميع، حتى إن إنعام حبيبة سليمان تبدو في الرواية شيئاً يشبه الوطن، في حين يظهر يونس وسركيس حكايتين منفصلتين متصلتين، لأن يونس قام بفعل ثوري، وكذلك سركيس الذي رفض الحدود والقيود، ولم يعترف بالأسلاك التي وضعها الأعداء على حدود الوطن، لذلك يركض وهو يضحك نحو الحاجز الذي وضعه الأعداء، لا ليطلق الرصاص، أو يفجر قنبلة، بل ليقول من خلال موته أنه يرفض أن يضع الأعداء حدود الوطن وتفاصيله، لذلك يكون موته مدوياً:
"ركض بفرح مجنون لحظة.. انفرج الباب الصغير.. ركض إلى الموت المحتوم.! قال.. أحسست أنه قال شيئاً، بينما أطبقت كفّه على أول حفنة تراب داكنة تكشّفت أمامه..
لماذا يموت سركيس.؟ ص75_76.
غير أن هناك بعض الإرباكات التي تعاني منها الشخصيات خاصة في الفصل السابع المسمى عبد الرحيم.م فهي خارج شخصيات تبرز خارج السياق الحدثي التعاقبي: (شخصيتا عبد الرحيم .م وزوجته السيدة زهيرة. ص93،94، 95.)
كما يعاني الحدث، في هذا الفصل، وطأة التفاصيل اليومية المتتابعة التي لا تفصل بينها بأنساق سردية أخرى مما يجعل السرد في بعض الأحيان سلسلة متصلة من التفاصيل المربكة.
وثمة ملاحظة تبدو جلية لكل من يقرأ عدنان كنفاني، وهي أن لغته تختزن طاقة شعرية كبيرة، تدخل السياق الحكائي، وتعمق الإحساس بحيوات الشخصيات ورؤاهم، وتضفي على المكان الأليف ألفة، وتزيد المكان المعادي وحشة، ولعلنا نتذكر السياقات الكثيرة التي مرت معنا في الدراسة، غير أننا يمكن أن نلاحظ في أحيان قليلة لغة ذهنية تقيد دلالة الجملة، وتجعلها بلا أجنحة، ومن ذلك قوله:
"المعرفة المطلقة بالشيء ضرب من المستحيل وتبقى نسبية، ترتبط بالرغبة في نوع المعرفة وشكلها ومدى حاجة وحدود وإمكانات تحقيق هذه الرغبة.." ص28.
ولعل الفصلين السابع والثامن أن يكونا أضعف الفصول من حيث اللغة، إذ يكثر فيها الإخبار على حساب الجمال، وهذا مجرد مثال:
"تكررت اللقاءات بيننا.. في رام الله وفي البيرة أو في أحياء القدس المختلفة أو في القرى القريبة منها.. وكانت على مستوى كبير من السريّة والتكتّم الشديد، بدأت أحصل وأقرأ كتب ونشرات كانت توزع علينا بحرص شديد، فقد كانت ممنوعة من التداول.. رغم أنها تتحدث عن مبادئ مستقّرة في ضمير الناس. الوحدة والمساواة والحريّة الاشتراكية.." ص103
غير أن ما يرفع من شأن لغة هذه الرواية هو الإيقاع الذي يجهد عدنان نفسه في ترسيخه، وفي هذا المجال يصر على ترسيخ إيقاع بعض التراكيب التي يعد "العِرق الغليظ النافر" في جبهة سليمان أبرزها، إذ يذكره في الصفحات:15 و19 و22 و29 و46 و115، و116و121 و124 ويبدو هذا العرق مثل البارومتر الذي يقيس الحالة الانفعالية لسليمان والراوي والروائي، فهو يتصلب حين تتعرض الأرض لخطر البيت، وهو الذي يدل الراوي على سليمان بعد تسعة عشر عاماًمن الفراق:
أعرف هذا العرق النافر في جبهته، وأعرف هذه النظرة المتحفّزة التي ما فارقت خيالي منذ زمن سحيق.. تسعة عشرة سنة..
- سليمان..
- الشامي.." ص115.
وحين يغضب سليمان أو يتوتر يكون العرق النافر جزءاً من الحالة:
"كان العرق النافر في جبهته أشدّ توهّجاً، قال وكأنه يعود بي إلى زمننا السحيق:
- ماذا فعلت لنا بياناتكم وتنظيراتكم، مرّة تقولون ماركسية، ومائة تنظيم، كلّ يفسرّها على هواه، ومرّة تقولون سياسة عالمية ومجلس أمن وهيئة أمم، ومرة أخرى ضغوط دولية، ومرّات خلل في موازين القوى.. " ص121.
ويمضي الكاتب وراء هذا الإيقاع التركيبي شوطاً أبعد، ليجسد حالة التساوق بين سليمان والراوي، فحين يسأل الراوي سليمان عن الأفق المفرود أمامه، يخبره أنه يرى يافا من بعيد، وهنا ينشأ سرد في غاية الروعة والإدهاش، لأنه سرد يشير، إضافة إلى وظيفته الحكائية، إلى الاندماج بين غريبين يعيشان غربتيهما على أرض الوطن المحاصر بالأسلاك: "هناك.. آه هناك. البحر.. يافا..
كأن وجهي صار ورقة تين جافة.. انتفض عرق غليظ في جبهتي.." ص29.
وثمة إضافة إلى إيقاع التركيب يبرز إيقاع الفقد والخيبة وانكسار الأحلام من ضياع إنعام إلى ضياع الكرم إلى ضياع الأرض، إلى ضياع الحلم بكاثي:
"سمعنا همساً، ووشوشة محمومة.. أمسكت يد سليمان بقوة، أحسست بها ساخنة معروقة هي الأخرى .
رفعت رأسي قليلاً، رأيت بوضوح “كاثي” بين يدي “إدوار”.. فصعقت.." ص34.
وهناك إيقاع القمع البريطاني والصهيوني الذي يركز عليه الروائي من خلال ذكرياته في يافا، ومن خلال وجوده في بدّو، فهو بشير إلى قناص يهودي قتل سمير بيدس بتهمة السباحة في مياه البحر:
"في اليوم التالي مشينا مع المئات وراء جنازة “سمير بيدس” الشاب الذي قتل برصاصة في رأسه، أطلقها عيه قنّاص يهودي دون سبب وهو يسبح في مياه البحر..ص33.
باختصار تبدو لنا رواية "بدّو" واحدة من الروايات التي تبنى على المكان أساساً، وتسعى عبر لغة شعرية إلى تعميق الإحساس بفقد الوطن، بغية البحث عنه، لذلك تنجح في تحريض الذاكرة الوطنية، حتى تبقى فلسطين، مثلما هي، عصية على النسيان.
عدنان كنفاني: بدو، رواية، ، مطبعة اليازجي، دمشق، 2001.