لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

مسرحية: الحفار والغربة (بالعامية)



الحفّار والغربة
مونودراما في فصل واحد


د. يوسف حطيني


(الستارة تبقى مغلقة، بينما ينبعث صوت مؤذن الفجر)
"الله أكبر الله أكبر.. أشهد أن لا إله إلا الله.. أشهد أن محمداً رسول الله.. حيّ على الصلاة.. حيّ على الفلاح.. الصلاة خير من النوم.. الله أكبر الله أكبر.. لا إله إلا الله".
لا إله إلا الله.. دائماً لا إله إلا الله.. ترحموا على المرحومة أم علي العايش يرحمنا ويرحمكم الله.
(تفتح الستارة على مقبرة، تظهر فيها أربعة قبور موزعة على أنحاء المسرح، وعلى أحد هذه القبور إبريق ماء وترمس شاي وكأسان ومذياع قديم، وفي المقدمة حفرتان لقبرين إحداهما منتهية، والثانية قيد الإنجاز، والتراب حولهما، فيما تبدو صور لقبور على طرفه، مما يوحي بأن هناك قبوراً أخرى ممتدة، بعض القبور يبدو عليها الآس وبعض من الرزم الخضر، مما يشعر أن هناك اهتماماً من قبل الحفار بدنياه الخاصة، وهناك رجل ستيني، ذو ثياب رثة ولحية طويلة وشعر أشعث طويل، يحمل بيده منكاشاً، ينكش نكشتين، ثم يجلس على تلة تراب قرب أحد القبور بغير اكتراث)
الرجل:
الله يخزيك يا شيطان.. ماكانش لازم أخليه يعصب.. ابني وبعرفه.. (مستدركاً) بس أنا ما سويت لوش إشي.. هو صار يضرب راسه بالحيط.. كان اليوم الصبح لازم أستنّاه ليفيق منشان أتطمن عليه، بس أنا شو بقدر أساوي.. الشغل ناداني.. (يجلس أمام القبر المنجز) إيه.. أصبحنا وأصبح الملك لله، الله يرحمك يا أم علي العايش، يعني ما مُتّي حتى طلعتي روحي.. صار لك مرضانة خمس طاشر سنة وأنا بقول (يضحك) الله يوخدك يا أم علي، وإنتي ما بدكيش تموتي، (يضحك) ما بدكيش نوكل حلاوة وجبنة وزتون،على حسابك.. بس والله فيكي الخير.. عرفتي إنو الولد مرضان، قلتي لحالك لازم أبو أيوب يوخد ابنه ع الدكتور، منشان هيك قلتي .. بكفي.. لازم أستحي ع حالي وأموت.. خلي هالمسكين يوخد له قرشين من تحت الفرشة.. (يضحك) كلنا منعرف إنك مخبية مصاري، لكان وين بدها تروح مصاري المرحوم.. (متسائلاً) صرفتيها؟ وَلِك وين بدك تصرفيها؟ إذا الأكل كان ييجيكي من ولاد الحلال.. والأواعي يلي لابستيها من خمس طاشر سنة ما غيرتيهاش..
(ينهض) يا الله.. خلينا نكمل.. بلكي منخلص ع البكير ومنوخد المعلوم ... (يضحك) من تحت الفرشة.
اليوم يومِك .. لازم أخلّص حفر القبرين قبل ما تحمى الشمس، (يبدأ بالنكش في الأرض متحمساً مع صوت يصدره) آه.. آه (وبعد قليل يبدأ باللهاث، فيجلس) أَيْ شو صاير لك يا أبو أيوب، والله إنك ختيرت، أربع خمس نكشات بالأرض وصرت تنافخ.. (يحدث نفسه) أعوذ بالله يا زلمة ، والله إنك متل زمان زْكُرْتْ.. بس الأرض ماني عارف شو قصتها.. (يخرج علبة التنباك من جيبه ويلف سيجارة).. يا الله ها الأرض قديش قاسية.
الله يرحمك يابا... لهلأ بتذكر لما أخدتني معك لتحفر أول قبر بعد ما طلعنا من البلاد.. إيديك تهبّرت وإنت تحفر، قلت لّي (يختلف صوته طبعاً): الأرض برّة يابا متل الصوان.. (يعود صوته كما كان) كنت تحكي لي حكايات عن الأرض يلي هناك.. كنت تحكي لي عن الأرض كإنك عم تحكي عن مرة بتحبها.. إي والله.. كنت تقول لي إنه إمي كانت تغار منها..
(مقلداً صوت الأب):
أرض طبرية يابا متل المرة الحنونة ، بتحب أهلها.. أرض طبريا بتحضن الأموات.. وبتكنكن عليهن.. كنت أنكش خمس ست نكشات يخلص القبر.. بس برّة زي ما إنت شايف.. الأرض ما إلهاش قلب.. تعلَّم يابا تشد إيدك بالحفر لبين ما الله يفرجها.
(ينكش نكشتين..يعود إلى صوته..)
هاي الصنعة لعينة.. منشان هيك مش رح أورتها لإبني.. حتى ما يسرق بسمة ولاده من دموع الناس، (بعصبية) الله يلعنك من صنعة.. (بهدوء) بس شو بدي أسوّي.. المهم مصطفى مش رح يطلع حفّار قبور.. عشرين مرة طلب مني إنه ييجي معي يساعدني، (هازئاً) قال يساعدني قال.. أنا جعت وبردت وعريت عشان ما يطلعش متلي.. تحملت برد الشتا وحر الصيف عشان يصير مهندس.. إيه.. إيه.... (كأنه يتذكر شيئاً) الله يريح بالك يا مصطفى.. من فترة وأنا مش عارف شو يلي صاير له.. من يوم ما ولّعَت بفَلَسطين، وهوه عم يضعف.. بلاقيه ما بيهدا كإنه قاعد على بيضة:
(الحوار هنا بصوت الأب وصوت الابن)
- إهدا يا ابني الله يرضى عليك.
- كيف بدي أهدا يابا؟؟ الناس هناك عم بموتوا.. بيوتهم عم تتهدم، الجرافات عم بتقيم الشجر، والدبابات عم تحرق الأخضر واليابس، وإحنا شو عم بنسوّي، عم نتفرج، عم نبكي؟..
- طول بالك.. برضاي عليك.
- يابا الدموع ما بترجع البلاد.. ولاّ ناوي تضلك تحفر بهالأرض..
- أنا يابا؟؟ الله يسامحك.. (بحزن)، الله يسامحك.
(موجهاً حديثه على الجمهور) ابني ما شافش البلاد، وعم بحكي هالحكي، كيف أنا؟؟ أنا يلي شربت من ميّتها، وتنفست من هواها.. الله يسامحك يا مصطفى (يبكي) الله يسامحك.. إن شا الله بتفكرني مكيف ع هالشغلة.. الأرض هون أعطتني وِجِهْهَا، صار وجهي قاسي متلها، الولاد الزغار بس يشوفوني بهربوا ..
(يشرب من إبريق الماء فيستعيد صوته حيويته).
الولاد الزغار بس يشوفوني بيهربوا.. يمكن بخافوا من لحيتي البيضة (يمسد لحيته الكثة غير االمشذبة) يمكن بخافوا من شعري المنكوش (وهو يحاول تشذيب شعره بيده) يلا شو بدنا نساوي، أصلاً ما بتضبط.. حفار قبور وشعره سِبِل وناعم .. (يضحك).. بكفي إنه مصطفى بيمشط شعره، وكل بنات المخيم بتمنوا يهدّوا عليه (يؤشر بيديه) مثل النحل ما بهدي ع العسل، بكرة بجوّزه بنت المختار: والله عرف ينقي.. بنت متل القمر، صحيح إنه أبوها مو تمام، بس هِيّه متل ما فهمني أبو اصطيف، غير أبوها بالمرة، راح أجوّزه إياها وأغني بعرسه.
(يغني)
جفرا وهي يا الربع وطلعت ع المهلل وأربع جدايل شقر ع كتاف المدلل
وعدتيني بوصـالك والنـاس بتتعلل وقضّيت ليلة سهر واقف على جريّا
بس هوه مش مطول باله.. مبارح بالليل كان معصب، دمه فاير:
(الحوار بصوت الأب وصوت الابن)
- بكرة بتصير مهندس، وبخطب لك بنت المختار.
- يابا أنا في براسي دويخة، حاسس إنو الدنيا صايرة بعيني قد خرم الإبرة.. مش معقول يابا: عيلة من أولها لآخرها تروح بقذيفة مدفع.. مرة وولادها يموتوا لإنهم ماشيين بالشارع، بنت عمرها أربع تشهر تموت قبل ما تتعود على طعمة حليب إمها، سبعين بيت بتهدموا بليلة وحدة، مخيم صغير تهاجمه ألفين دبابة..وآخر شي منطلع إحنا إرهابيين، مش عجيبة يابا؟؟
- الله يكون بعونهم..
قال لي وهوه معصب والدم رح يطلع من عيونه (مقلداً صوت الابن):
- هادا يلي طلع معك.. الله يكون بعونهم؟؟..
بهدل وسب وكسّر.. وآخر شي قال لي، وهو عم بتمسخر، (مقلداً صوت الابن) خليك بحفر القبور أحسن لك.. صار يضرب راسه بالحيط، بعدين سكّر ع حاله الباب، ، آخر شي كسرت الباب.. كانوا عيونه حمر حمر.. بس ما كانش عم يبكي.. كان إشي متل البِِكا، إشي أخرس مدفون بصدره.. بس مش بِِكا..
(بحزن) الله يسامحك يابا.. بتفكر إنه أنا مش فهمان عليك؟؟ (متحسراً) بس العين بصيرة، والإيد قصيرة.. (يتجه إلى المذياع ويفتحه):
[تفيد آخر التقارير الواردة من الأرض المحتلة أن المقاتلين الفلسطينيين في جنين قد نفدت ذخيرتهم، وهم الآن يواجهون مجزرة إسرائيلية، فيما تقوم الجرافات الإسرائيلية بهدم البيوت هناك ودفن شهداء حقدها في مقابر جماعية لإخفاء هذه المجزرة الرهيبة].
(تتبع ذلك الخبر أغنية)
[أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا]
(يغلق المذياع)
هوّه إنت لحالك يلي بدّك تطق.. ما كلنا بدّنا نطق.. الشهدا بالميات.. والجرحى بالآلاف.. كلنا بدّنا نطق.. مش إنت لحالك يلي بدك تطرق راسك بالحيط.. شو الفايدة.. صدقني إني مشغول عليهم.. متل ما أنا مشغول عليك.. يا ترى كيف صرت يابا.. كنت اليوم الصبح لازم أتطمن عليك، بس ما حبيت أزعجك..طليت ع غرفتك.. شفت وجهك، كان وجهك تعبان، شفتك ومشيت.. الشغل ما بيرحم يابا.. إن شا الله بس أرجع الضهر منحكي، والله لأجوزك بنت المختار.. بلكي بتهدي سرّك.. بس إنت طوّل بالك.
( وكأنه يحدث نفسه) يا ترى المختار راح يتذكر إنك مهندس، وينسى إنه أبوك حفّار قبور، راح يرضى أبو حمدي يحط إيدو بإيدي، ولاّ راح يهرب مني متل الولاد الزّغار.. الله بعلم إنو إيدي أنضف من إيدو وأطهر.. بس الكلب كل ما طليت من راس الحارة بيسكر دكان المخترة.. ما بكفي إنه الولاد الزّغار بيهربوا.. حتى الولاد يابا..كم مرة اشتريت حلاوة لأطعميهم بس هنّي ما بيستنّونيش.. ما بعرفش ليش بيفعطوا.. (بحزن) والله أنا بني آدم مش كلب أجرب..
نفسي أعرف أنا بإيش أذيتهم، صار لي خمسين سنة بالمخيم ما أذيتش نملة.. ما أذيتش حدا بكلمة، عايش بحالي، شو بدّي أعمل إذا كان شغلي مع الأموات، (متسائلاً) يعني لو تركتهم يعفنوا كان أحسن؟
يمكن الولاد بيفعطوا لإنو وجهي بذكرهم بالموت.. بصيروا يرجفوا بس يشوفوني، مع إنهم لما أغسّل ميّت بِتْنَطْوَطُوا بين الكبار متل القرود.. ( بحسرة).. بسيطة.. لكان أنا بخوّف.. يالله خلينا نخوّف أحسن ما نخاف.. (يضحك بمرارة) صيت غنى ولا صيت فقر.. (بعصبية) أبو صبحي الكلب يوم عرسه سرق صورتي، الله أعلم كيف أخدها، وقال لحاله بدال ما أجيب بِِسّة لأخوّف المرة بفرجيها صورة أبو أيوب، قال البِسّة يمكن تعضني بس أبو أيوب ما بعضّش.. ومن يوميتها ما استرجت إم صبحي ترفع عينها فيه، ولما رجَّع لي الصورة كان مبسوط، قال الحمد لله إنت أأمن من البس..، بيني وبينك أنا كنت خايف من شغلة البسة أكتر ما بتخاف إم صبحي مني.. قال لي خود صورتك ما عاد بدي إياها، خانقته وبهدلته وقلت له: إنت حرامي وابن حرام..
(موجهاً حديثه إلى الجمهور) أبو صبحي بيفكرني بلا قلب.. وأكيد إنتو كمان.. أنا متلي مِتِلْكو.. بحب وبَكره، باكُل اللقمة الحلال، كنت بحلم أشتغل شغلة تانية.. بس أبوي الله يرحمه ما خلانيش أدوّر على شغل.. قال لي بتورث صنعة جدادك أحسن لك وأهون لك، قال لي هاي صنعة ما بتعطلش.. دايماً في موت.. ودايماً في حفر، (مبتسماً) ودايماً في مصاري.
دايماً دايماً
(مستدركاً) لا والله مش دايماً.. يابا.
(موجهاً حديثه إلى الجمهور).
مرة، من أكثر من عشر سنين، كنت طفران ما في بالجيبة ولا نكلة.. ضلّيت أستنى ست تُشهر وماحداش راضي يموت، إم علي العايش كانت مرضانة أيامها، ومَرَتي إم أيوب قاعدة عم بتنق وتلعن أبو الساعة يلي تجوزتني فيها، ومصطفى الله يرضى عليه كان يبكي بدو موز.. (ساخراً) وبتعرفوا إنه حفر تلات قبور ما بيجيبش نص كيلو موز بهديك الأيام.. ست تُشهر وما حداس راضي يموت.. المهم إني مرضت وما عادِش فيي حيل، فجأة ماتوا تلات رجال ومرة بيوم واحد، (هنا يعطي صوته بحة حزينة) تلات رجال ومرة ماتوا ، وكنت مرضان، ما فكروش بمرضي، ما رحمونيش، قمت وأنا عايف حالي ع الحفر، والأرض قاسية. من شان هيك أنا اليوم صرت آخد احتياطاتي.. كل ما طلعت صرت أحفر قبر.. وأخلي قبر ثاني ستٍبْنة، بس يموت حدا بلاقيه جاهز، (وهو يضحك) وبيني وبينكم أبو محمود عم بودّع.. يمكن اليوم يعملها.... لازم اليوم الضهر يكون في قبرين جاهزين..
الله عليك يا أبو محمود إذا بتعملها اليوم.. بضرب عصفورين بحجر واحد.. بشتري لمصطفى دفاتر وقلام، لإنه الجامعة قرّبت تفتح.. وباخده ع الدكتور بلكي بلاقي له حل.. ما تآخِذْنيش.. يا ابني اليوم راح أتأخر عليك.. القبر الثاني لازم يكون جاهز، بكفي إني ما قدرتش آخر مرة أحفر قبرين.. مسكين يا مصطفى كانوا خدودك متل الورد.. وصاروا متل الزعفران.. (مستدركاً) بس المشكلة إذا ما مات أبو محمود.. ولا يهمّك يابا، الدكتور أبدى.. لاحقين ع الدفاتر، بعد للجامعة أسبوعين تلاتة .. بكون ألله أخد له شي واحد مهرهر..
(يتجه نحو أحد القبور، ينظف سطح القبر وحوله، ويرفع يده مسلّماً) مرحبا أبو عدنان، أي كيف صحتك يا زلمة.. إنتَ الوحيد يلي كنت تفهمني، طمني عمي أبو عدنان، إن شا الله هالأرض بطّلت تعصرك؟ شو بتقول: عضامك رح تطقطق، روحك رح تطلع؟ (يضحك) أي ما هيي طالعة يا زلمة، إيه .. الله يرحمك يا أبو عدنان.. كنت تقول لي: ألله يعينك على هالشغلة، نصحتني أتركها، لإنه كل الناس راح يكرهوني.. لو تشوف قديش بكون مبسوط بس الناس يعطوني مصاري، المشكلة إنه أنا بنبسط، وهني بيزعلوا.. بصراحة ما في أحلى من الجيبة العمرانة، ومعلومك الرسول عليه السلام قال، (مندهشاً) ليش ما صليت ع النبي يا أبو عدنان؟ النبي عليه السلام وصّانا نصرف على ولادنا، عن إذنك.. لازم أنكش لي نكشتين، وأطل على غيرك.
(ينكش قليلاً ثم يوجه كلامه إلى الجمهور).
الناس بيفكروا إنو ما إليش قلب.. صحيح أنا بفرح لما يموتوا المهرهرين، بس مرات بحزن.. خاصة بس يكون الميت شب متل الوردة.. بتذكر مرة جابوا شهيد.. صدقوني عبيت القبر دموع.. ليلتها قالت لي إم جابر (يشير إلى أحد القبور) هاي يلي قاعدة هون: ليش كنت تبكي يا أبو أيوب.. ما بكفي صار لنا مِيْتْ سنة عم نبكي.. لازم تزغرت.. (هناك صوتان مختلفان، يغير صوته حسب المتحدث: أبو أيوب وأم جابر)
- بس أنا ما بعرفش أزغرت.
- لكان بس بتعرف تبكي.
- إسمع يا أبو أيوب.. لازم تصبر.. حملناك معنا من هناك.. سميناك أبو أيوب لتصبر.. مش لتبكي..
- معك حق يا إم جابر..
بهداك اليوم إجا لعندي زلمة شايب، مع جماعته، حاطط على كتفه شال مرسوم عليه علم فلسطين، بيني وبينكو كان خايف إذا قام الشال عن كتفه ما أعرف إنه فلسطيني، المهم مد إيده ع جيبته وطال مصاري.. قال تفضل يا عمي أبو أيوب. (صوتان مختلفان في الحوار)
- شو هدول؟
- مصاري.
- مصاري شو؟
- أجارك.
- أجار شو؟
- مش إنت حفرت قبر للشهيد؟
- عيب يا رجل هادا شهيد.
رمى علي المصاري كأنه بيرميهن على رقاصة:
- خود.. هلأ جاي تبيعني وطنيات.
يا جماعة.. حسيت كإنه حية قرصتني.. هجمت عليه (مع تحريك يديه وجسمه على هيئة مهاجم).. قلت له مش عيب ع شيبتك يا إبن الكلب.. هاي المصاري ردها على جوعك.. هجموا علي جماعته.. ضربوني.. على راسي وعلى بطني (يتحرك وكأنه يتلقى الضربات لتوه) ..ولما شفى غله قال لهم: اتركوا هادا مجنون.
(بحزن) يا ترى لو كنا هناك.. كان صار أبو الجماجم زلمة؟؟..
(يبكي)
آخ يا وطن آخ.. كنت جوعان.. وما كانش عندي أكل.. بس هادا شهيد.. شهيد يا جماعة الخير.. الواطي يلي جايب جماعته رمى علي المصاري، واحد منهم بزَق علي وقال لي: شوف وَلا.. هادا أبو الجماجم بحب فَلسطين أكثر منك ومن يلي خلفوك.
(صوته يرتفع شيئاً فشيئاً ويبلغ ذروة العصبيى في نهاية المقطع، بعد أربعة أسطر): فَشَرْ يكون بحب فَلسطين أكتر مني.. أنا ما سكتّلّوش.. بهدلته وقلت له حب فلسطين مش شال تعلقوا برقبتك.. حب فَلسطين مش بدلة تلبسها الصبح وتشلحها المسا.. حب فَلسطين جوّا (مشيراً إلى قلبه) حب فلسطين هون.. هون.. يا ابن الكلب.
(يعود إلى هدوئه ويخاطب الجمهور) مزعت المصاري ورميتهم بوجه..
(يتابع بصوت رومانسي حالم) لكان معقول أبو أيوب الطبراني يوخد أجار حفر قبر لشهيد.. هادا الشهيد ويلي متله هني يلي راح يرجعوا لنا البلاد.. من شان بس نموت.. نلاقي قبور محترمة، منشان نلاقي أرض تحضُنّا، مش أرض تطحن عضامنا.. إيه.. الله يفرجها علينا عاد.. الله يفرجها.. هاي صار لهم سنين وسنين.. كل يوم في شُهدا وجرحى ومعتقلين، في زغار بعدهن ماحفظوش طعمة الحليب راحوا.. وآخرتها قال شو: شارون النجس بدو يحتل المخيمات.. مفكّر الدنيا فلتانة.. (مستدركاً ساخراً) صحيح ما هي الدنيا فلتانة فعلاً.. هادا الثور الهايج ما حدا واقف بوجهه.. كله بيتفرّج.. بس والله الشباب فيهم الخير.. بجنين وقفوا.. معاهم كم بارودة وكم فشكة.. وصمدوا 8 أيام، جيوش بحالها ما صمدت 8 أيام.. لا أكل.. لا مي.. لا نوم.. مبارح قتلوا 14 جندي إسرائيلي بنُصّ المخيم، (بفخر) لكان يا عمي هدول فلسطينية.. الجرافات جرفت البيوت والشجر، بس ما قدرتش تجرف حبنا للبلاد.. والمخيم يلي عم بيقولوا عنه سقط.. ما استتسلمش.. المخيم استشهد.. المخيم استشهد.. الناس والشجر والبيوت.. وإحنا شو عملنا.. ما عملناش إشي.. (بألم يردد) .. ما عملناش إشي.. ما عملناش إشي.. ما عملناش إشي (مستدركاً ساخراً) لا والله صحيح.. قرينا الفاتحة..
هنيا لهم الشهدا.. ماتوا هناك.. واندفنوا هناك.. الموت بالبلاد إلو طعمة..
(يتذكر مردداً الكلمة بحسرة) البلاد.. إيه.. إيه..
(يعود للحفر ويتذكر كلام والده عن طبريا)
أبوي كان يقول لي: (مقلداً صوت الأب) بطبريا.. كان الموت إلو طعمة.. أبو العبد شاهين لما مات كان مبسوط.. كان عارف إنو رايح يندفن بترابه.. كان عارف إنو الحج محمد راح يقرا عليه قرآن.. مش متل هلأ.. أيام زمان كان الواحد يموت مبسوط.. أبوي حلف إنّه أبو العبد شاهين كانت ضحكته معبّية وجهه.. لما حمّموه قال هادا مش وجه ميت، تعالوا تفرجوا يا جماعة، صارت الناس تتفرج على أبو العبد وتصلي ع النبي.. ليش لأ.. يلي صَحّ لُّه ما صحّش لغيره.. آخر شي أَخَدوا ع جامع عمر.. وهناك صلّى عليه الشيخ محمد..
(يضحك).. إيه.. إيه.. كان عمري وقتها سبع سنين.. ما كنتش أعرف شو يعني موت.. بس كنت أركض ورا الشيخ محمد مع الولاد.. وأنادي له: يا شيخ بطاطا.. كان يلحقنا، ويلي بيمسكه يا ويله من العكازة.. (موجهاً كلامه إلى الجمهور) لا تسألوني ليش كنّا نسمّيه بطاطا.. لإنه ما بعرفش، بس بعرف إنه مات قبل ما نطلع من البلاد.. أبوي كان حاسس.. وكل شعبنا كان حاسس.. أبوي قال هنيا لك يا شيخ محمد، أنا استغربت.. قلت له: هنيا له لإنه مات. قال لأ.. لإنو نفد.. الله يرحمك يابا شو كنت فهمان.. إنت أفهم حفّار قبور شفته بحياتي.
(يتجه إلى قبر آخر، يسقيه، ويرتب ظهر القبر، ثم يوجه كلامه إلى صاحب القبر).
مرحبا عمي أبو علي.. بعدك زعلان مني لإني زتيتك بالقبر زَتْ.. حاول تفهمني عمي أبو علي.. أرض الغربة ملعونة.. ما بتحبناش.. وبصراحة أنا أول ما اشتغلت بها الشغلة كنت أحط الميت في القبر شوي شوي.. بس يوم بعد يوم صارت الأرض تتمسخر علي.. تقول لي أنا مش ناقصني أموات.. روح دوّر ع بلادك.. منشان هيك صرت أرمي الميت بدون ما أطّلع فيها، قال شو يلي جبرك ع المر.. قال يلي أمرّ منه.. الناس مش قادرين يفهموا علي.. أنا ما فيني أنزّل الأموات شوي شوي وأصبر ع المسخرة يلي بسمعها..
دَوَشْتَك.. مو هيك؟.. انبسط يا عم أنا اليوم جايب لك بشارة: إم علي بدها تْشَرِّف اليوم ع المقبرة. شو شايفك تنشّطت.. يلا روح أحلق لحيتك ورتّب حالك، (ثم يضيف بهمس) ولا تنس تتحمّم، (ضاحكاً) مش معقول هِية تيجيك متحمّمة وإنت ريحتك طالعة، ساعتين زمان، وبتكون صارت هون، ما تآخذنيش عمي أبو علي، ما سألتك شو صار معك إنت وهالأرض .. (يُنصت قليلاً ثم يقول) كمان عم تعصرك.. الله يفرجها علينا وعليك، لو كنت اندفنت بالبلاد كان هلأ مكيف. أكل ومرعى وقلة صنعة، لا تآخذنيش عمي أبو علي، لازم أتركك لإنه عندي شغل، عن إذنك.
(يترك القبر، ويتجه إلى عمله، يمسك المنكاش، وقبل أن يتابع الحفر يقول)
يا ترى شو صار معك يا مصطفى، هلأّ إمك إن شا الله بتعملك كاسة نعنع وبترجع متل ما كنت.. يا مسكين صاير وجهك متل وجوه أهالي المخيم..
بس والله أهالي المخيم معهم حق.. كانوا عايشين بحلم، وفجأة فاقوا من النوم لاقوا حالهم مرميين متل الكلاب: لا وطن.. ولا بيت.. ولا حتى قبر حنون.. ما عادوش يقدروا يتعلموا من الحب يلي كان يربط الطير بالشجرة، والسمك بالبحرة، ما عادوش يقدروا يتمشوا بحارة الشيوخ...ولا الحارة الشمالية.. ولا يقدروا يشوفوا وادي النسناس، وجبل الكرمل، ولا عادوا يقدروا يصلّوا بالحرم، حياتهم كلها حرمان بحرمان.
( يلف سيجارة.. يشعلها ويغني حزيناً)
أوف.. أوف.. أوف.. لف لي سيجارة حزن ما هِيْ سيجارة كيف.... مسرى النبي المصطفى بإيد النذل يا حيف.. يا حيف ..
أبوي الله يرحمه..كان يحكي لي عن جامع عمر، عن الشيخ محمد يلي كان يصلي ع الميتين فيه ويطلع معهم بالجنازة، كان أبوي يحطه بالقبر ويقرا على روحه بعد ما يلقنه..
الله يرحم أيام البلاد.. كانت الأرض طرية.
(يترك الرفش ويتجه إلى قبر ثالث رافعاً صوته) مش متل قبرك يا إم جابر، يا مرة النصاب، والله ما عاد أنكش نكشة إلا بس آخد أجاري.. لإنو جوزك الآدمي أعطاني درس ما بنساهوش بحياتي.. (يضع أذنه على القبر) شو ساوى؟؟ أنا راح أقول لِك شو ساوى.. هاي لما مُتّي أجا يركض، قلنا له تكرم عينك، وبس خلصنا من الدفن ما رضيش يدفع، قال ما معهوش.. قلنا بسيطة الإنسان من عسر ويسر، تركته شهرين..ورجعت لّه.. قلَّعني من الباب.. بهون عليكي يا إم جابر يقلعني من الباب..
- (بصوت أبو جابر) معي وما بدي أعطيك.
- (بصوت أبو أيوب) ليش؟
- عم بجمع مصاري بدي أتجوز
- وإم جابر؟
- الله يرحمها.. بس أنا زلمة.. وبدي أتجوز..
(يلتفت إلى الجمهور):
أَيْ الزلمة هو يلّي بتجوز؟.. ما كلاب الشارع عم تتجوز.. وما شا الله عنه.. لو كان زلمة عن صحيح كان عمل له شي شغلة من شان ينقل عضام مرته لهناك (يؤشر بحرقة) هناك.. أم جابر تعبانة.. والأرض كسرت عضامها.. وهو بدو يتجوز.. أم جابر وأبو عدنان وأبو علي وكل يلي بالمقبرة طلبوا مني أعمل إشي حتى أنقل عضامهم لهناك.. قال جحا أولى بلحم تُورُهْ.. وأرضنا أولى بعضام أهلها.. (يصمت كأنه يسمع صوتاً.. يصيخ السمع) شو يا إم جابر.. عم تبكي.. ولا يهمك بكرة الشباب برجعوا البلاد.. بكرة بترجعي.. ليش ما سمعتيش إنه الناس هناك رفعوا الحجر بوجه الدبابة والطيارة.. ما سمعتيش شو عملوا الشباب بغزة ورفح ورام الله ونابلس والجليل.
(يتجه إلى المذياع ويفتحه)
[في خبر عاجل أشارت الأنباء أن انفجاراً كبيراً هزّ مدينة حيفا.. إذ تمكن استشهادي فلسطيني من تفجير نفسه داخل باص نقل عسكري إسرائيلي مما أدى حسب الإحصاءات الأولية إلى سقوط عشرة قتلى وعشرات الجرحى بين الجنود الإسرائيليين]
(يرقص على خشبة المسرح.. ثم بغني )
حيوا انتفاضة شعب حيوا ثرى الأوطان حيوا السما والأرض حيوا روابيها
هب انتفض والزحف كالسيل كالبركان يرمي العدا بالشظى والنار يصليها
حيوا عناتا ورفـح مع غـزة الشطآن حيوا بلاطة، القدس حيوا سواقيها
غني يا شعبي لرفـض الذل والخـذلان غني لمجد الشـهادة الرب يوفيها
(متوجهاً نحو قبر إم جابر)
سامعة يا إم جابر.. سامعة.. افرحي ولا تبكي، لا تبكي .. خدي إشربي.. (يصب بعض الماء على القبر).. طولي بالك.. إنت غربتك غربتين.. غريبة عن الطنطورة لإنها بعيدة، وغريبة عن أبو جابر لإنه ندل.. لتكوني عم تبكي لإنه أبو جابر طلع ندل.. كنتي مفكرة إنه بني آدم.. طلع حمار حاشاكي.
(ينظر إلى الجمهور)
أبو جابر علمني أكون داير بالي، ما أروحش من المقبرة إلا وأنا قابض، صرت أختار وقت بسميه "ساعة الصفر" مثل ما بيعملوا بالجيش، آه.. ما هي الحياة معركة، (مؤكداً) المهم لما يصفّ أهل الميت حتى يتقبلوا العزا.. بروح قدام الناس لعند الراس، وبقول له ناولني: بيستحي وبناولني.. أنا بعرف إنو في كتير ناس طيبين.. وبيدفعوا.. بس بعد يلي عمله أبو جابر ما عاد في أمان.. باخد هالمصاري.. بشتري لي شوية حلويات للعيال.. الناس مستغربين، بيقولوا ما بصيرش الواحد يرجع من المقبرة ع البيت وهوّه حامل حلويات، (مستغرباً) طيب أنا يا جماعة الخير بقبض وبشتري أكل وحلويات للولاد، متل ما إم فايز بتشتري حلويات لولادها بعد ما تشطف دراج البنايات وتقبض.. هاي أبو عاصي البنّا نفس الشي، ليش الناس مستكثرين علي أشتري حلو بعد ما أقبض، مع إني ع الطريق بحاول أطعمي ولاد المخيم، بس هني بيهربو.. بيقرفوا.. ألله أعلم.. (محدثاً نفسه كأنه رجل آخر) كل هالحكي ما بفيد قوم يا أبو أيوب كمل.. صحيح إنه الأرض متل الصوان بس شو بدّك تساوي.. لازم تلحق تخلص ع البكير وتوخد الولد ع الدكتور.
- الله يرحمك يابا.
(يعزل التراب من أسفل القبر الثاني) ويتكلم.. كان بس يموت واحد من أهل طبرية يروح ع المقبرة يحفر، وبعد الدفن كان يرجع.. يعزي، (متخيلاً كأنه في الجنة) هناك كلهم بجتمعوا من بيت الولي وبيت سعدية وبيت السيد، بيجو الناس من حارة الشيوخ.. والحارة الشمالية.. كلنا عيلة وحدة، كان أبوي مرات كتير يسامح الناس بالآجار، بس ما كنش يتعب .. الله يلعن أبو الغربة: (يغني بحزن يتحول في الشطر الثاني إلى بكاء)

على دلعونة.. على دلعونة بي بي الغربة الوطن حنونا
بالله إن مُتِـتْ يمّا اقبروني بِأَرْض بْلادي بفي الزيتونا
أيام البلاد كل يلي يموتوا كانوا يموتوا مبسوطين، بس بعد ما صرنا لاجئين ونازحين ومبعدين ومهجرين.. صار الواحد منا بس يموت تلاقي بوزه رطلين.. إلا الشهدا.. معاهم حق.. ما هني بموتوا من شان إحنا برجع نموت مبسوطين.. ما هي شغلة مبينة.. يلي بقدر يعيش مبسوط.. بقدر يموت مبسوط.. آه .. يا وطن.. أنا بحب الموت.. (مستدركاً) لأ أنا ما بحبوّش.. مش عارف.. لو كنت دخلت مدارس متل ابني مصطفى.. كان عرفت كيف أحكي.. بس المهم إني أعيش هناك.. منشان أموت وأندفن هناك.. هناك أنا حر.. بدي أعيش بدي أموت.. ما حداش إلو عندي إشي..
إيه.. إن شا الله مصطفى بيكبر وبكمّل تعليمه..وإن شا الله بقدر يعمل إشي.. لكان ما هو هادا آخر العنقود، وإخواته البنات كلهن تجوزو.. ما شا الله عنك يا أبو اصطيف.. دايماً الأول، وهاي صرت سنة ثالثة جامعة.. وبعد كم يوم راح ترجع تداوم، وكلها سنتين بتصير مهندس قدّ المخيم، الناس بيقولوا مهندس قد الدنيا، وإحنا منقول قدّ المخيم، الحق علينا، إحنا يلي خلينا الدنيا تبعنا زغيرة.. بعد أسبوعين تلاتة.. راح تلبس البدلة وترجع ع الجامعة، وتصير أحسن من ابن المختار.. بس ألله يشفيك ويهدّي بالك.. أنا أبوي ما علمنيش.. الله يسامحه ما بديش أظلمه.. عاش أيام كتير صعبة بعد ما طلعنا من البلاد.. يكتر خيره إنو قدر يربّينا ويكبرنا.. يكتر خيره إنه قدر يفهمنا إنه هاي القبور مش إلنا، وإنه قبورنا هناك (يشير بيده) هناك..
(يحي للجمهور) هاي أول ما طلعنا من البلاد ماتت إم أحمد رباح.. طقت من القهر وماتت.. كان أبوي بعدو ما حفر ولا قبر برّيت البلاد.. يومها حمل المنكوش من الصبح وطلع.. أخدني معه وقال عِدّوا لي.. قال ما بطولش.. نص ساعة زمان وبكون راجع.. غبت أنا ويّاه أكتر من تلات أربع ساعات.. ولما رجعنا كان هلكان، اضطروا يأجلوا الدفن من الضهر للعصر، كانت إيده حمرة حمرة، مهبّرة تهبير، قالت له إمي: شو يا أبو أيوب باينتك ختيرت.. قال لها والدموع معبية وجه: الأرض قاسية.. قاسية.. بتجاكرني مجاكرة.. تصوري إنه انكسر المنكوش..
بهداك اليوم شفت أبوي عم ببكي.. لأول مرة بشوف أبوي عم ببكي.. يا ألله ما أصعب الدمعة بعين الزلمة.. كان زعلان وخايف.. مش بس من شان موتة إم رباح.. كان خايف لإنو المنكوش انكسر، وبس ينكسر المنكوش بموت حدا من العيلة، فعلاً كان أبوي معه حق، بعد جمعة ماتت أختي مريم.. كانت حلوة متل القمر، بس الموت ما بميز بين حلو وبشع.. الله يرحمك يا مريم.. وألله يرحمك يابا.. متت والحسرة بقلبك..
(بحزن يتحول تدريجياً إلى بكاء)
أمانة يا مصطفى.. أمانة برقبتك يا ابني.. إذا أنا متت قبل ما نرجع، ودفنتوني برّة ..حاول تعمل إشي حتى توخدني لهناك أنا وعمتك وجدك.. هناك يابا.. ألله يشفيك ويرضى عليك.. يابا.
(يمسح دموعه)، ما بسواش أبكي بصوت عالي.. مش حلوة من شان أبو علي.. ما بديش أنزع له فرحته..
(يحاول أن يتناسى حزنه، ثم يتجه إلى قبر أبي علي)
تحممت عمي أبو علي ولا بعدك.. ألله يجعله نعيماًً.. (يخرج علبة التنباك من جيبه ويلف سيجارة).. شو رأيك ألف لك سيجارة .. (يصمت قليلاً) ما بدك تصطفل.. يا ملعون ما في بالعادة، ولّا سمعت إنو إم علي جاي، وما بدك تصير ريحة تمك دخان.
(يعب السيجارة بشراهة، ويتابع) بتعرف عمي أبو علي.. هديك المرة إجا أبو مسعود من شان نحل مشكلة الشاهدة تبع ابنه.. لاقاني عم بدخن.. زعل وبهدلني، قال لي عيب الواحد يدخن بالمقبرة، قال شو من شان حرمة الأموات، بس أنا أفحمته:
(صوت أبي أيوب وصوت أبي مسعود)
- ليش مزعوج أبو مسعود.
- لإنه المقبرة إلها حرمة.
- ما أنت بتدخن باكيتين باليوم..
- بس أنا ما بدخنش بالمقبرة.
- لكان وين بتدخن؟
- أنا بدخن بشغلي.
- وأنا بدخن بشغلي يا أبو مسعود.
لما قلت لو أنا متلك بدخن بشغلي حسيته ما عجبوش.. بس ما عرفش شو بدو يحكي..
(يعب نفساً آخر).
شو أبو علي.. شايفك مش معي.. طيب عن إذنك.. راح أقوم أشتغل لي شوي.. بعدين بَطُلّ على عمي أبو عدنان يمكن يكون ناقصه شي.
(وهو يعمل)
الله يلعن أبوكي ياغربة.. ذليتينا وبهدلتينا، خليتي يلي بيسوى ويلي ما بيسواش يشمت فينا، أي شو بدك تسوّي يا أبو أيوب.. اللقمة ذل.. اللقمة بتخلي النشمي ندل.. والندل سبع السباع.. (يترك الحفر ويواجه الجمهور) هادا المختار الكلب كان شحاد ابن شحاد.. بس لما باع طحين الأعاشة والسردين، لما باع كرامتنا وأكل حقنا صار مختار، أنا سمعت عن واحد ببيع كرامته، أما واحد ببيع كرامته وكرامة غيره.. هاي لسه ما صارتش غير عند المختار.. كنا نرفض سمنة الذل وطحين العار.. بس هوه كان يوخده.. يوخد طحينا وطحينه.. سردينا وسردينه، ولما يبيعوا كان يبيع شرفنا وشرفه.. قبل ما يصير مختار.. كان اسمو حماد أبو مخطة.. الله يلعنك يا غربة.. خليتي السكرجي يصير أبو الجماجم، وأبو مخطة يصير مختار..
(يشرب بعض الماء من إبريقه)
بس ابني الله يرضى عليه قال بحب بنت المختار، أنا أول إشي كنت رافض، بس بعدين وافقت:
(صوت أبو أيوب، وابنه مصطفى).
- هادا حرامي يا ولد.
- بس بنته آدمية..
- الشوكة ما بتخلف وردة.
- بالعكس يابا.. بتول ما في منها.. ياما بالجامعة طلعت معنا مظاهرات.. ياما كانت تواجه الناس يلي بيقولوا: أمر الله.. بتول يابا بنت فلسطين.. بس أبوها ابن الذل والتشريد.. يابا حاول تفهمني.. بتول من توبنا وإحنا من توبها.. وإذا كان أبوها نسي مين هوه، هيي ما بتنساش.
- حاضر يابا..
قلت له حاضر يابا.. قلت له.. راح أجوزك إياها غصبٍ عن هالكلب، وإذا ما عجبوش.. يطرق راسه بستين حيط.. (برجاء) الله يشفيك يابا..
(موجهاً حديثه إلى الجمهور)
الله بعلم شو صار معه.. مش عارف شو ماله.. لو كان عم بسعل.. عم بعطس، كان عرفنا شو قصته وارتاح بالنا، لو كان في برودة.. سخونة.. بس المشكلة إنه مرضه غريب..
(صوت أبو أيوب وابنه مصطفى)
- وين الوجع يابا.
- هون (يشير إلى قلبه)
- سلامة قلبك.
- مش قلبي يابا...
- شو يلي بوجعك يا عيون أبوك.
- ضميري يابا، الناس بموتوا وإحنا منتفرّج، الناس بحاربوا بالحجار، وإحنا ولا معنا خبر.
خفت عليه، قامت إم أيوب الله يرضى عليها عملت له كاسة زهورات.. ما شربهاش، اليوم الصبح بس إجا خبر إم علي العايش اضطريت أتركه.. شو بدي أعمَل.. بس الحمد إلك يا ربي.. الصبح كان أحسن.. تركته نايم ووجهه عم يضحك.. يمكن يكون عم بحلم بالجامعة.. ويمكن يكون شايف حبيبة قلبه..
(متجهاً نحو قبر أبي عدنان)
شو بدي أعمل يا أبو عدنان، قلت لّه: ولا يهمك يابا.. راح أعمل لك فرح ما صار متله بالمخيم.. بتفكر إنه حرام نفرح.. غلطان يا أبو عدنان.. إحنا لازم نفرح.. لازم نعيش.. أو لازم نموت على كيفنا.. الفرح مش غلط .. ليلة العيد الزغير سمعت خبر خلاني أستوعب شغلات ما كنتش قادر أستوعبها: الناس بغزة.. عايشين متل ما بتعرف على حد السيف.. قتل وتشريد وهدم بيوت وانتفاضة والدنيا قايمة قاعدة.. الخبر كان بسيط، قال الناس رايحين يشتروا غراض من شان يساووا كعك العيد.. وقتها حسيت قديش شعبنا جبار.. بتعرف شو يعني الناس يساوو كعك العيد يا أبو عدنان، ها؟؟ .. يعني إنو شعبنا بدو يعيّد.. بدو يعيش غصبٍ عن ولاد الميتة..
(يقرب أذنه من القبر)
شو عم بتقول يا أبو عدنان، كيف واحد متلي مقضّي حياته مع الأموات بحكي عن العيد..
(يقرب أذنه مرة أخرى)
أنا ساعة بقول بدي أعيش، ساعة بقول بدي أموت.. شو شايفني خرّفت.. صحيح إنو أنا قلت بحب أموت هناك، بس ما حداش سمعني عم بقول إني ما بحب أعيش.. أنا لازم أعيش هناك.. عشان أموت هناك.. إسمع من هالختيار كلمتين: الموت هو يلي بحدد قيمة حياة البني آدم.. يلي بموت غريب.. حياته متل قلّتها.
(يعود إلى الحفر)
والله يكتر خيرك يا إم علي.. طلعتي مزوقة أكثر من أبو محمود.. أي صار لو عشرين يوم ما حداش مات.. العمى.. ما حداش بدو يموت.. الولاد جاعوا.. عشرين يوم بدون شغل.. واليوم عملتيها.. يالله شد حيلك يا أبو محمود قبرك قرّب يخلص.. والبيت بدو مونة: مكدوس وزتون ومخلل وغيرو وغيرو وغيرو..
(موجهاً حديثه إلى الجمهور)
بصراحة أنا محتاج مصاري.. وحاولت أدبر حالي من هون ومن هون.. رحت لعند أبو تامر أتدين منو مصاري..
صوت أبي أيوب وأبي تامر).
- صباح الخير أبو تامر.
- صباح الزفت.. خير.
- بصراحة أنا محتاج قرشين.. الولد مرضان..
- وأنا شو دخلني.
- ولو يا أبو تامر.. الناس لبعضها.
- وإيمتى إن شا الله بدك تسدني.
- بس ألله يفرجها..
قام ومسك بخوانيقي.. وقال لي إيمتى الله بدو يفرجها.. بس ألله يوخد له شي واحد.. ولا لا تكون ناوي تسدني المصاري شي قبر تحفر لي إياه.. قوم انقلع من هون.. قوم)
عجبك يا أبو محمود.. عجبك.. طلبات العيلة ما بتخلصش، وإنت قاعد مطنش، كل ما عزريين قال مرحبا بتقول له بخاطرك.. بكفيك سبع سنين مرض.. عمي أبو محمود.. الله يقصف عمرك..
مش لحالك بتكره عزريين، كل الناس بيكرهوه: إنت والمختار، وأبو تامر، بيكرهوه لإنهم بدهم يهربوا من الموت، وبيكرهوني لإني بذكرهم فيه. كلهم بكرهوه إلا أبو علي.. طبعاً معه حق ، لإنه الموت هو يلي جاب لو حبيبة قلبه لعنده.
(متوجهاً إلى قبر أبي علي):
الله ريته نعيماً عمي أبو علي .. شو هالريحة الطيبة.. من وين لك هادا العطر.. حتى هون في تهريب.. شو رأيك اليوم نجتمع مع بعضنا المسا.. خلينا نرفع صوتنا شوية.. خلينا نقول للناس إنه إحنا ما بدنا نقول كلمات كبيرة..ليش عم بتقاطعني.. الليلة مش فاضي.. (يضحك) ما تآخذنيش يا عم.. (يضحك مرة ثانية) ما تآخذنيش يا عم.. الجمعة الجاي منيح.. الجمعة الجاي منجتمع ومنقول للناس إحنا ما بدنا نحكي كلام كبير.. إحنا ما منفهم كلمات كبيرة: دولة.. وحرية.. واستقلال.. منقول لهم إحنا بدنا بيت إلو سقف وحيطان وباب . وبدنا شجرة وقبر.. وبدنا الجرافات ما تشيل البيت والشجرة، لإنه الشجرة بتحمي القبر من الشمس، ليش عم تضحك عمي أبو علي..
(يصيخ السمع.. ثم يوجه كلامه إلى الجمهور)
بتعرفوا شو عم بيقول لي: قال حط بالخرج، خمسين سنة وما حداش عم بسمع من الطيبين.. خمسين سنة، وصوتهم طلع من السهول والتلال والبحر والجبل ما حداش سمع.. هلأ بدك يسمعوا صوتنا يلي طالع من المقبرة..
- والحل عمي أبو علي.
أبو علي معه حق.. دايماً بيقول: ما بحكش جلدك غير ضفرك.. بس أنا زعلان منه.. دايماً بيحسدني، بيقول لي هنيالك، بيقول إنو أنا ما بعرف شو يعني موت.. قلت له ولو يا أبو علي أنا يلي بعرف أكثر من غيري.. كان يضحك ويقول لي غلطان، وبيوم من الأيام، طلع من القبر وقعد جنبي.. إي والله قعد جنبي.. هون (يشير إلى مكان ما) قال لي هلأ أنا ميت صح.
قلت له: صح.
(صوت أبي أيوب وأبي علي)
- وإنت عم تحكي معي، صح؟
- كمان صح.
- يعني إنت ما خسرتنيش بالموت.
- صح.
- يعني يا سيد أبو أيوب .. إنت كسبانها ع الجهتين.. كسبتني عايش وكسبتني ميت.
(يتحدث مع االجمهور) ضحكت.. عجبتني الفكرة.. مضبوط.. أنا عايش مع العايشين، وعايش مع الميتين.. (مستدركاً) بس لأ أنا مش عايش مع العايشين، (يشير إلى نفسه) هلأ هاي عيشة.. العيشة يلي اسمها عيشة بتكون هناك.. هناك.. يا ريت كنت عايش هناك.. ونازل أحفر بها القبور.. هناك راح أراعي الناس كتير.. لإنه الأرض متل العروس، والعروس لما تحب بتحضن، الله يعينا على كمالة هالقبر الثاني.. (يخرج من وراء أحد القبور ترمس شاي ويجلس على قبر أبي عدنان) وهاي قعدة، (يصب كأساً من الشاي لنفسه) شو رأيك بكاسة شاي أبو عدنان، هاه، تكرم.. تكرم، يصب كأساً أخرى من الشاي ثم يسفحها فوق القبر).. أهلا وسهلا.. شرفت يا أكابر.. يا محترم..
شو لوين رايح.. عندكم استقبال.. آه.. صحيح.. بدكم تستقبلوا إم علي.. يلا إنتو غنوا.. وأنا برد عليكم:
أهلا وسهلا بِلّي جاي
وأهلا وسهلا بِلّي جاي
هاي ما عاد إلا ييجوا.. لازم أأسرع وأخلص القبر الثاني، (ينزل إلى القبر بسرعة، يحاول أن يعمل بنشاط، وفجأة يدوي صوت هائل، يخرج أبو أيوب من القبر، فيظهر الفزع على وجهه، ثم يظهر سبب فزعه، حين يرفع المنكاش المكسور).
الله يستر.. الله يستر.. (ثم مواسياً نفسه) صلي ع النبي يا رجل.. المنكوش انكسر لإنه الأرض قاسية، وهادا القبر التاني لأبو محمود.. مش لحدا تاني.. (يقفز كالملسوع) حدا تاني متل مين..
(ينظر نحو الأفق) مين هديك المرة يلي جاي عم تركض من بعيد.. مين هيي.. وليش عم تركض هيك، يا ويل حالي.. هاي إم أيوب، شو يلي جابها.... مش معقول.. مصطفى.. عزريين.. مصطفى.. مش معقول (يبكي بكاء مرّاً).. ليش يابا.. ليش ما استنيتنيش.. اليوم كنت بدي آخدك ع الدكتور.. ليش ما ستنيتنيش لأجيب لك الدفاتر والكتب.. طيب مش اتفقنا إنك تندفن هناك، ليش بدك تندفن هون.. ومين بدو يوخدني لهناك.. مش أنا.. مش أنا.. هني يلي قتلوك.. أنا لأ.. لأ.. أنا مش.. هون ولاّ هناك.. حيرتني يابا.. الله يرضى عليك ليش عملت هيك.. ليش تموت قبل ما تفهم.. ليش تموت قبل ما تعرف إني ما نسيتش، كنت حابب أقولك إنه يلي بينسى مش فلسطيني.. بس أنتَ ما طولتش بالك.. متت وتركتني.. تركتني أسأل: طيب مين بدو يرجعني لهناك.. مين بدو يرجعني لهناك.. مين.. مين.. مين (يسقط فوق القبر باكياً).
(يغلق الستار، بينما يصدر صوت.. صوت فقط.. يقول)
أنا أبو خليل الحيفاوي..خبرني أبو أيوب الطبراني يلي مات فوق قبر إبنه إنه الأرض عم تطحن عضامه.. من شان هيك وصاني إني أقول إلكو إنه تعملوا كل يلي بتقدروا عليه.. من شان تنقلوا عضامو وعضام أبوه وولاده للبلاد.. وكمان طلب مني إني أنصحكو تبدو تدوروا ع قبور مريحة إلكو.. وأكيد عضامكو ما رح ترتاح إلا هناك.
(النهاية)
* * * *
د. يوسف حطيني
16/3/2002