لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: هواجس في السرد

هواجس في السرد

د. يوسف حطيني

قال الروائي المسكين لصديقه الناقد، وهو يهيل هواءً فوق صدره الثقيل:
لماذا لم أستطع أن أكون قاصاً روائياً متميزاً على الرغم من أنني نشرت عدة روايات في أهم دور النشر، على شبكة الأنترنت، ولي في كل عرس أدبي قرص أو أكثر؟؟
سأله صديقه: ماذا تمتلك من عدة الكتابة الروائية؟
قال الروائي: كل شيء..
قال صديقه الناقد: أوضح وأوجز
* * *
قال الروائي: فكرة رئيسية واحدة واضحة لا تناقض فيها، وأفكار صغيرة تعضدها، ولا مساس لمعتقدات سياسية واجتماعية وفكرية، حكاية مشوقة، وزمن تجري فيه أحداث القص بشكل متعاقب منطقياً، يمتد أجيالاً، وعلاقات روائية متداخلة بين شخصيات كثيرة، ومكان مؤثث بشكل جيد، سمعياً وبصرياً، وشخصيات متنوعة غير متناقضة تعبر عن مستواها الفكري ولا تخترق منطقها الأيديولوجي والأخلاقي والاجتماعي، ولغة فصيحة تراوح بين التقرير والتصوير
كتابة القصة ليست كيمياءً
* * *
قال صديقه الناقد:
هل فكّرت أن تلقي جانباً بالحكمة التي تقول "المعاني مطروحة في الطرقات"؟ فقد اهترأت من كثرة تكرارها؟
هل فكّرت مرة أن تكتب قصة عن فكرة خارقة؟ عن فكرة لم تخطر في بال أحد؟
هل خطر في بالك أن أن تصور شعور ثور وهم يقودونه إلى مصارعة لم يخترها بنفسه؟
وهل جرّبت أن تكتب قصة بلسان عصفور حبيس أو سلحفاة تتعرض لسخرية الأرانب والبشر؟
هل جازفت مرة بكتابة قصة على لسان رجل ميت؟ رجل يمشي في جنازته؟ رجل يقابل ذاته في الطريق؟
هل كنت جريئاً فكتبت مثل رواية "حالة شغف" لنهاد سيريس؟
هل قرأت رواية "المسخ" لكافكا؟ أو رواية "الغريب" لكامو؟
لا يكفي يا صديقي القاص أن تلتقط الفكرة من الطريق.. يجب أن تبذل جهداً.. أن تخرق الفكرة المألوفة.. حتى لا ينسى القارئ قصتك قبل أن يتم كأس الشاي..
* * *
الحكاية:
هل كسرت النظام التعاقبي للحكاية؟
هل أثرت دهشة القارئ وراوغته وأخلته في متاهة السرد ولذته وفتنته؟ هل قرأت رواية "الغرف الأخرى" لجبرا، و مجاز العشق" لنبيل سليمان" و"الونّاس عطية" لحسن حميد؟
هل نوّعت في وصف شخصياتك: نفسياً وجسدياً، وكشفت مخبوءها من خلال النجوى والحوار والموقف القصصي والرسائل والاعترافات والمذكرات وغيرها؟
وهل أطلقت على شخصياتك أسماء لا تنسى مثلما سمى نجيب محفوظ صانع العاهات "زيطة" في زقاق المدق؟
* * *
هل غطيت الزمن الروائي؟
هل انتبهت إلى أنّ السرد السائد هو سرد يحتفل بالماضي؟ وبشكل أقل بالحاضر؟ وهل فكرت أن تخترق المألوف فتكتب سرداً مستقبلياً؟
أما فكّرت مرة أن تعبث بالنظام التعاقبي للسرد: استذكاراً واستشرافاً؟
هل سعيت وأنت تكتب روايتك إلى تنويع سرعة السرد، كي لا يشعر قارئك بالتـ الذي يؤدي إلى الإملال؟
هل فكّرت أن تعبث بما قاله النقاد عن مدة الرواية التي تمتد أجيالاً؟
هل قرأت "مسز دالوي" لفرجينيا وولف، وقد قصرت الزمن الروائي على اربع وعشرين ساعة؟
هل قرأت "صراخ في ليل طويل" لجبرا الذي قدم روايته بليلة واحدة؟
وهل قرأت رواية الشهيد غسان كنفاني "ما تبقى لكم" التي اقتصر زمنها الفيزيائي على أربع عشرة ساعة فقط؟
هل وقفت أمام لحظة في الرواية ومددتها، وحبرت حولها صفحات عديدة، وهل ثبتّ محرق كتابتك حول تخليد لحظة موت أو عشق أو ولادة: (موسم الهجرة إلى الشمال، في الدارة أعلى التل لسومرست موم"
* * *
هل فكّرت مرة بالأماكن التي تجري فيها روايتك؟
وهل نوّعت تلك الأماكن بين واقعية وتخيلية؟
وهل تناولت الأماكن الإجبارية (كالسجون وخيام اللجوء) مثلما تناولت الأماكن الاختيارية (كالبيوت والفنادق)؟
وهل خرجت في أماكنك الروائية من الغرف الضيقة إلى الحدائق وشواطئ البحار والمحيطات؟
وهل تخلصت من وصف الأمكنة وصفاً خارجياً؟؟
وهل أثثت المكان بما يليق به، فجعلت علة وجود الأشياء فيه .... مثلما فعل غسان في رواية "عائد إلى حيفا"؟؟
هل وصفت رائحة المكان مثلما فعل غالب هلسا؟
هل وففت أمام عنوان روايتك؟ وهل فكّرت أن تسمع كلام النقاد في أن يكون قصيراً ومثيراً ومعبّراً عن المحتوى؟
هل فكرت بإميل حبيبي الذي ألقى بكلام النقاد خلف ظهره عندما سمى روايته "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل؟
هل فكرت أن تجعل من عنوان روايتك نصاً موازياً لروايتك ذاتها؟
* * *
هل فكرت أن تجعل لروايتك إيقاعاً سائداً؟
هل فكرت في أن تجعل عناصر السرد شخصيات زمنية أو مكانية؟
هل فكرت أن تكتب رواية زمان؟ رواية مكان؟ رواية شخصية؟
* * *
هل يجب أن أخترق كل شيء؟
قلت يا صديقي الروائي: إن الرواية ليست كيمياء.. وأنا أختلف معك في ذلك..
الرواية لها عناصر صحيح.. ولكن العناصر التي تدخل في التفاعل غير العناصر الناتجة عنه.
والرواية أكبر من مجموع عناصرها.
قال الروائي لصديقه الناقد:
وهل أصبح روائياً ممتازاً إذا تقيدت بهده القواعد.
قال الناقد: أنت روائي انضباطي..
المهم أن تعرف العناصر والقواعد لاختراقها لا للتقيد بها
* * *
قال صديقي:
ما دمت تعرف كل هذه الأشياء؟ وتؤمن بكل تلك الاختراقات؟
فلماذا لا تكتب رواية ناجحة..
قلت له: التنظير للإبداع شيء.. والإبداع شيء آخر..