لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: عبد القادر الحصني ينام في الأيقونة

عبد القادر الحصني ينام في الأيقونة


د. يوسف حطيني


" حين يرين الليل على جنبات الديرِ،
وينحلّ الصمت الغامق في قلب الصلواتْ
يحدث أن تتنهد راهبة قرب الشمعةِ
حتى تعرف أن النور هو الطارئ
والأصل الظُلُماتْ
يحدث أن يتقرّى طفل جدران الدير
بكفيه الراعشتين إلى أن يتعب
فينام بإحدى الأيقوناتْ"ص 76 .
هذه المقطوعة الشعرية التي تنتمي إلى ديوان عبد القادر الحصني "ينام في الأيقونة" (*) وهي مقطوعة لا عنوان لها، ولكنها في الوقت ذاته حملت عنوان المجموعة كلها، وحملت هموم الشاعر الذي لم يكن أقل براءة ونقاءً من ذلك الطفل.
يطل الشاعر عبد القادر الحصني بديوانه الجديد بعد ثلاث دواوين نابضة بالشعر(**) ليؤكد، من خلال الرؤية والصورة والموسيقى أنه يستطيع الانتماء إلى عالم القصيدة الذي يجسد أرق المبدع ويترجح بين خوفه من المستقبل، وتعلقه به. ويتنقل بين التجربة الإنسانية العامة، والتجربة الفردية الخاصة، في إطارها العام، ويفتح شعره على الوطني والقومي مجابهاً متمرداً، باحثاً باستمرارعن سر الكلمة التي يحملها المغني، ويدعو إلى إفساح الطريق أمامه ليغني، وكأن المغني هنا هو سارق المعرفة المستحيلة التي يريد أن يجعلها مشاعاً، لذلك كان من الطبيعي أن يدعو إلى ما يجسد تربّعه على سلطة الأغنية:
"فلا تغلقوا دون صوت المغني النوافذَ
لا تهرقوا الخمر في عتبات البيوت من الحزنِ
لا تقنطوا من عيون المها" ، ص19.
إن الشاعر هنا يبحث عن استقرار الحاضر، وحلم المستقبل، ولكنه ، إصراراً منه على هذا البحث، يستند إلى الماضي و يشهره، بوصفه سلاحاً محشوداً بنكهة الذكريات ، على نحو ما نرى في قصيدة "على باب بيت صديقي"، وهي واحدة من أجمل القصائد القصيرة التي كتبها الحصني، لما فيها من تفاصيل الماضي الذي يتخلق على هيئة جمل شعرية متلاحقة تحيل على زمن مضى وانقضى:
"وما بيننا عن فناجين قهوته في الصباح
بضع وعشر سنين:
أخوه الصغير انتهى من كتابة درس القراءةِ
جارتهم: ربما لم تطل في الزيارةِ
من بعدما فرغت أخته (ميّ) من
لبس فستانها، واستدارت
لرفع الستارةِ" ص71.
ويرسم الشاعر الحصني صورة شفيفة للمرأة، ويرصدها في تحولاتها المختلفة، في لحظات عشقها واستلابها وسيطرتها على الرجل الذي يجعلها فردوساً، ويعيد حكايتها منذ بدء الخليقة:
"طوبى للآلهة تعنّت حتى وجدت أسماء للأشياء
طوبى للرجل ارتبك وأربك حتى طرد وحيداً
من جنته فاخترع لها اسماً آخر
ودعاها حواء" ص 62 .
ويمضي الحصني وراء تحولات المرأة، باحثاً عن قدرتها الدائمة الدائبة على قلب الوظائف، ويبرع في تقنية استخدام اللقطة، وفي قصيدة "صلاة"، الغنية بتلويناتها الموسيقية، يتحدث عن الحورية التي تمسكت بالشاعر خوفاً من الغرق، وحالما يبادر لإنقاذها تنعكس الصورة، ويصبح هو الغريق في بحر جمالها:
على كتف المسبح الضيقِ
استعانت من الماء حورية بذراعي،
ونهدين شبّا على مفرقي
(…) ووسط ذهول نساء الرجالِ
رسمت لوجهك أيقونةً
يلون أخضرها أزرقي
وصليت.. صليت .. حتى ولا شيء
لا شيءَ .. لم يغرقِ" ص75 .
إن الشاعر الذي ينتمي إلى زمنه: ماضياَ وحاضراً ومستقبلاَ، وينتمي إلى تفاصيل إنسانيته العاشقة، قادر أيضاً على الانتماء أيضاً إلى أرق تحقيق الذات: الفردية والوطنية والقومية ، في ظل عالم تتحكم فيه الإيديولوجية بالثقافة وتجعلها ظلاً لها أو بوقاً، وفي الحقيقة فإني لم أقرأ بياناً أبلغ عن طغيان الثقافي على السياسي من قول الحصني، وهو يسترجع نقطة مضيئة من تراثنا الخالد:
وأراهنُ،
حين تدور شمول العزة أن يشرب نخبي
لن يربط نخل (البصرة) خيل الأعداء
وها أنا ذا منفردٌ كالسيف
ألا أبلغ (سيف الدولة) حزني
ومرارة أن ألقاه
ولا ألقى (حلبَ) ولا (المتنبي).ص 97.
وفي قصيدة "الضجيج" التي يكتبها الشاعر بعد مرور خمسين عاماً على نكبة فلسطين ما يجسد ذلك الانتماء النظيف له، إذ ينتمي إلى الذين يرفضون أن يقولوا، وأن يضاف قولهم إلى "الأقوال" التي لا تسمن ولا تغني:
ثقيلاً يمرّ الضجيجُ
ثقيلاً يمر، وملتبساً
ويغلّف خمسين عاماً
ويقصف أعمارنا، ويطولُ
وأشعر أني كثيرٌ عليَّ الكلامُ القليلُ. ص83 .
إنها قصيدة وطنية خالصة تكشف عورة الكلام، وتنتقد الشعارات التي تلوّث الأفواه، لذلك يصرّ أن يستمر بالمعركة إلى نهايتها، وأن يدق جدران الخزان الذي دقه غسان كنفاني منذ عقود، يقول الشاعر:
ولكن على الرغم من فوت ما لا يعودُ
إذا ما دعيت لقول الشهادةِ،
سوف أدقّ بملء يديّ وصوتي جدرانَ خزانِ هذا الكلامِ، وأصرخُ:
أن أمام اليهود يهوداً،
وخلف اليهود يهودُ " ص 84 .
وتمجد هذه القصيدة الفعل الاستشهادي المقاوم،وتدل على الطريق الذي يدعو لها الشاعر، وترى المستقبل في عيون الشهداء الذين لا يراوغون، لذلك قهم يدخلون القصيدة التي تتشرف بهم، إذ يحيي الشاعر الشهيد ويمجد انتماءه ورؤاه:
سلامٌ عليه
سلامٌ على الزعفران المندّى على شفتيه.
على (القدس) تهرق نور الألوهة في مقلتيه.
على (قبة الصخرة) المستريحة في راحتيه".ص88.
* * * *
حين نقرأ التص الشعري لعبد القادر الحصني فإننا نجد أنفسنا إزاء شاعر مثقف يحيل على مختلف الثقافات التراثية والدينية والأسطورية، وإذ يشتبك النص الشعري بالمحال عليه اشتباكاً ملتبساً يدرك المرء مدى حرفية الشاعر، ومدى تمكنه من أدواته الشعرية التي تظهر على شكل نص جديد منجز يحاور دلالة النص السابق، ولا يستسلم لسطوتها، ولعل أثر القرآن الكريم في قصائد ديوانه الأخير ( ينام في الأيقونة ) واضحة تماماً، وفي "مقدمة للصمت" ثمة إحالات على نصوص قرآنية عديدة لعل أكثرها تقاطعاً مع القرآن النص التالي:
" إن نوحاً كان في هم
وأزواجاً من الحيوان في ملل
وغيض الماء
واستوت السفينة فوق جرف"، ص28.
وهو واضح الإحالة على سورة هود :44 ، إذ يقول الله تعالى:
"وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين"
وعلى الرغم من أن الشاعر ينحو في تشكيل نسقه اللغوي التركيبي نحواً توليدياً إلا أنه يعتمد خلال ذلك ، أحياناً، على اللغة الموروثة، ، فقد يقرأ المرء، عند الحصني، تعبيراً من مثل "بان الخليط" ، غير أن الشاعر يمنح هذا التعبير قدرة على تجاوز المألوف، من خلال نسقه الجديد الذي يقترحه على الشكل التالي:
في الأمر متَّسَعٌ،
ولكن في اتساع الأمر منقطَعٌ كبيرٌ
لا يفسره الرحيلُ
ولا البقاءُ
بان الخليط، فهذه الصفحات
أشبه ما تكون بأطلسٍ للغيمِ
قل أين السماءُ" ص42.
وفي قصيدة المغني، يحضر المتنبي، الذي افترع لغة جديدة، ليفترع الحصني بدوره إيقاعاً جديداً للغة ذاتها، وكأني بالشاعر غير مغرم بالتنصيص والنقل الحرفي وغير مستعد للخضوع لوطأة القديم تعبيراً ورؤية، فهو دائم البحث عن اختراق ما للنص الذي يتقاطع معه، سواء أكان هذا الاختراق لغوياً تركيبياً أم إيقاعياً أم رؤيوياً، يقول الحصني:
كأنّ الذي لم يُقل بعد،
قد قيل من قبلُ،
حتى تجيء السوابقُ من كل قولٍ
وخيلٍ
وليلٍ
فتلقى سواها من الخيل والليل
قد وصلت قبلها"، ص13.
ويلاحظ القارئ أن في قصائد ( ينام في الأيقونة ) شغفاً دائباً بالصورة المتراكبة التي تريد أن تقنع القارئ بجمالية القصيدة، وتريد أن تقنعه أيضاً أن النص الشعري يتفكك أمام القارئ، من خلال القراءات المتعددة، وإذ ذاك تمارس الكلمات والتراكيب والصور والموسيقى نوعاً من الـ " ستربتيز " أمام القارئ، فهي تخلع دلالة ما، أو رؤية ما عند كل قراءة، شأنها في ذلك شأن الأغنية التي يقولها المغني:
يسرّح أنفاسه في هوى الكلمات، ويغمض عينيه،
كي تتعرى صبايا الحروف على شفتيه"، ص14.
* * * *
أما فيما يتعلق بموسيقى النص فإن دراستها تفترض التنبيه أولاً على أن أي اجتزاء من النص لا يعبر حقيقة عن إيقاعه، لأن النص الشعري يشكل وحدة إيقاعية متكاملة.
وأول ما يلفت النظر في ديوان عبد القادر الحصني الجديد هو ذلك التنويع الإيقاعي الثر، إذ يستخدم إيقاع الشعر التقليدي مرة (نظام البحر والروي) كما في رثائه للدكتور فهد عكام رحمه الله)، ويخرج عن هذا النظام لصالح روي وقافية أكثر تنوعاً وغنى، كما في قصيدة "تعب البنفسج" التي يرثي فيها الشاعر محمد عمران، بينما يلجأ في بقية الديوان إلى التفعيلة، ولا يخرج عنها، ويلعب على إمكانات تنوعها، ليعطي كل قصيدة إيقاعاً يختلف،بشكل عام، عن إيقاع القصائد الأخرى. يقول في رثاء الدكتور فهد عكام:
يا صديقي يا أخا الحرف الذي
هزه الإبداع صــرفاً فانبرى
يجدل النـور ذؤابــات على
قمم الشـعر ذرى فوق الذرى
نم قرير العين ، لا نامت رؤى
منعت عينيك مـن طعم الكرى
إضافة إلى التفعيلة، يعتمد الشاعر على القافية الداخلية التي يصر عليها إصراراً عجيباً يمنح شعره سمة الغنائية العذبة، وعلى الرغم من أن الشاعر يلجأ في التقفية إلى تغيير في النظام الصرفي والنحوي والتركيبي ، فإن ذلك لا يقلل من اطمئنان القافية، ويمكن هنا أن نشير إلى هذه القافية التي تزاوج بين الصياغة الاسمية والفعلية:
" وكل الذي قال كان مجرد أغنية مثلها
كأن الكلام انتهى" ، ص14.
ويعتمد الشاعر في بناء إيقاعه على اللازمة الموسيقية، ويكرر هذه اللازمة بطرق مختلفة، حتى لا يقع في الإملال، فقد يكون التكرار جزئياً، لا يتطابق فيما بينه تطابقاً تاماً، على نحو ما نجد في "مقدمة للصمت" إذ تتكرر الأنساق الشعرية التالية:
لا بدّ من شجر كثيف في الظلامِ ص 23، و ص25.
لا بدّ من شجرٍ كثيفٍ غامقٍ ص 23.
وقد يكون التكرار حرفياً، كما في قصيدة "طائر الفينيق" التي يكرر فيها عبارة "أطوي درج الليل وأصعد" عدة مرات: ص91 و92 و94 و96 "(مرتين) و98 و 99 ،وفي "الضجيج" إذ يكرر عبارة "ثقيلاً يمر الضجيج" ص79 (مرتين)و80 و 83 و 85 و88، ولا يكون هذا التكرار عديم الجدوى الدلالية، إذ إنه يرسخ طغيان الضجيج على المشهد العربي، ليؤكد بعد ذلك بشكل باهر أن الشهيد هو الذي يعيد للعروبة عروبتها، مؤملاً ، مثلما نحن مؤملون، أن يعلو صوت الشهادة الطاهر النقي على كل الأصوات الأخرى:
هدوءاً
ألا أيها السادة الوالغون بهذا الضجيج
هدوءاً قليلاً..
تنحَّوْا لكي يتقدم هذا المهيب القريب البعيدُ
تنحَّوْا…
فليس يليق بهذا البهيِّ النقيِّ الحييِّ القويِّ العصيِّ
المزاحم للمقعد النبويِّ
إذا مرّ موكبه أن يثرثر دودُ" ص87 .
ولا يخفى على القارئ ما لتدفق الياء المشددة المكسورة في نهاية خمس كلمات متتابعة في السياق السابق من أثر موسيقي بديع يعززه تكرار الحرف نفسه في نهاية الجملة اللاحقة.
ويلجأ الحصني في بناء إيقاع القصيدة إلى ما يمكن أن نسميه تتويجاً لازمياً إيقاعياً، ففي قصيدة "مقدمة للصمت" يتوج اللوازم الإيقاعية المختلفة ليصوغ منها النهاية ويستفيد من اللازمة ذاتها ( لا بد من شجر كثيف في الظلام ) لبناء موسيقاه الشعرية، يقول عبد القادر في نهاية القصيدة:
"اغتمّ نوح بينما كانت شقوق الأرض ريّى،
والسماء تفلّج الشفتين
عن طيف ابتسامِ
والله حتى الله غطت وجهه ظُلَلُ الغمامِ
ورأى بأن لا بدّ من شجر كثيف في الظلامِ، ص30.
ويرسخ الشاعر إيقاع القافية والروي، اتكاءً على طريقة مشابهة إلى حد كبير للطريقة السابقة، وذلك في قصيدة "طعم الليل" التي تيدأ بالتوقيع التالي:
" يلهو بغرتها النسيمُ
وتنتهي القصيدة بتوقيع مشابه عبر الاستناد إلى شخصية المغني التي تبدو أثيرة لدى الشاعر، إذ يطلب الشاعر منه أن يعيد تفاصيل الحكاية في نسق شعري، يسعى – موسيقياً – إلى شد نهاية القصيدة نحو بدايتها:
" هلاّ تعيد على مسامعنا الحكاية
مرة أخرى
وتذكر أن أولها التماع
بثّه ملك كريمُ
فأضاء وجه صبية،
يلهو بغرتها النسيمُ
وإذا كنا نحب ألا يكرر الشاعر الطريقة ذاتها في ترسيخ إيقاع القافية والروي، فإننا ندرك صعوبة هذا الأمر الذي يبقى محصوراً بالتفعيلة وبصمة الشاعر الخاصة، ويشفع للحصني أنه يجري نوعاً من الاختراق لهذا النظام الذي أوجده في قصيدته عبر التأكيد على بعض البنى الإيقاعية المعتمدة على روي نادر الاستخدام في الشعر لتأسيس قافية داخلية متميزة على نحو ما نرى في السياق الشعري التالي:
" نحن ابتكرنا شرفةً للبيت..
زهراً للأصيص
وسيداتٍ، كي يكون لزهرنا معنى
وكي نتبادل القبلاتِ والأطفالَ
والأدواحَ
من روض الأحاديث الجميلة
والسكوتا
نحن احتملنا أن نعيش وأن نموتا" ص40.
ويضاف إلى ما سبق أن الشاعر يبني إيقاع قصيدته بتضافر مجموعة من البنى الإيقاعية، فهو مثلاً يستخدم الميم المكسورة، المسبوقة بألف التأسيس، أساساً لبناء القافية، ويعيدنا إلى هذه الميم كلما أحسّ بالحاجة إلى ذلك، وهو يلجأ أحياناً إلى تظهير هذا الإيقاع عبر تصغير المساحات والمسافات بين القوافي المتشابهة، كما نرى في المقطع التالي الذي يعتمد لغةً على الجمع بين المتقاطبات، كالصمت والكلام إذ يقول:
" لا بد من شجر كثيف في الظلامِ
ليظل شيء من بهاء الصمت مبهوتاً
على طرف الكلامِ" " ص25.
ويشار هنا إلى أن ثمة ظواهر إيقاعية، يبدعها الشاعر لنفسه، وهي لا تخضع إلا لقانونه الخاص، من مثل الإفادة من تواتر الكلمات والمفردات المتلاحقة السريعة، للوصول إلى القافية التي تشد شرود المعنى إلى موسيقى النص:
" فمن ينقذ الآن هذا المغني؟
(…) ومن سيصب قليلاً من الزيت في مقلتيه؟
عصاً للتوكؤ بين يديه؟
ليرجع من رحلة في الظلام المخيم بين الضلوع
إذا شامَ أن خزانة أشواقه
الغرفةَ الأربعين بأرجاء هيكله الرحب
إجّاصةَ المستحيلاتِ
نافورةَ الأمنياتِ
المسماة بالقلبِ
أغلى الكنوز التي بين جنبيه ليست لديه.." ص16.
ومن مثل هذه الاجتهادات الإيقاعية يعتمد الشاعر على إحساسه بموسيقى التركيب، فيرسخ نوعاً من التناغم اعتماداً على اسمية التركيب أو فعليته، ويستطيع المرء بيسر وسهولة أن يلمس الدور الموسيقي الذي قام به تتابع النمط الفعلي للعبارة الشعرية في المقطع التالي :
"أخذ الحبور حمامة هدلت،
وثوراً خار،
نقّت ضفدع نهقت أتان،
صاح ديكٌ،
واستفاض الآخرون. "ص28.
إن تضافر كل الإمكانات الإيقاعية السابقة، الموروثة منها والمولدة، والتي اجتهد فيها الشاعر نفسه، تريد الكشف ،في تقديري، عن شاعر أراد أن يشعر فغنى، ولعلي هنا أؤكد أن الغنائية في الشعر هي أخص سماته، وهي من الضرورات الأساسية التي تضمن عبوراً للقارئ نحو النص، ولعلنا نستطيع هنا أن نقرأ ، أو نتغنى بهذا المقطع الشعري للحصني الذي يقول فيه:
"من يعيد إلى العروس البكر أول خاتمٍ؟
ويعيد جدل ضفيرتيها؟
من سوف يعقد ليلةَ الحناء جفنيها على قمرٍ،
ينام براحتيها؟
ستذوب من خجل
وينشف ريقها خوفاً
وتهرب من عيون الماشطات
إلى المرايا
وتدوس حافية على أجزاء صورتها
وقد صارت شظايا" ص ص 44 – 45 .
همسة صغيرة نلقي بها على استحياء في حضرة شاعر كبير، وهي أن الأمر الوحيد الذي يتهدد شعرية اللغة عند الحصني، هو طغيان النزعة العقلية في بعض الأنساق، والحق أن هذه الظاهرة قليلة في ديوانه، وهي – فيما أقدر- واضحة حتى للشاعر نفسه، ففي قصيدة "طعم الليل" تجهد القصيدة نفسها، لتقول مزيجاً من الحكمة والتصوف والفلسفة…، ولأنه حساس تجاه هذا الطغيان للعقل فإنه يحاول الانتصار بالغنائية التي تنفرد وحدها في المقطع التالي بحمل أعباء التعبير الشعري:
ودعوا مجازاً للحقيقةِ
كي تطلّ على الخيالِ
دلّوا الحبال من الأعالي
فهي السلالم بين (أسباب النزول)
وبين (تأويل المقالِ)
وخذوا الغموض إلى الوضوح
ولو بدائرة احتمالِ " ص41.
باختصار، فإن الطفل الذي (ينام في الأيقونة) كان قادراً على أن يوقظ ذلك الإحساس الغافي في أعماقنا، بكل ما هو جميل وإنساني في الحياة، وأن يشعرنا أننا أمام حياة أكثر جمالاً وبهاءً وبراءة.


د.يوسف حطيني ـ دمشق


الهوامش:
(*) عبد القادر الحصني: ينام في الأيقونة، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ط1، 2000.
(**) – بالنار على جسد غيمة، مطبعة خالد بن الوليد، دمشق، 1976.
_ الشجرة وعشق آخر: اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1980.
_ ماء الياقوت: الأمانة العامة للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، عمان 1994.