لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: قراءة في تجربة عبد الكريم عبد الرحيم

الشعر بين الأصالة و المعاصرة
قراءة في تجربة عبد الكريم عبد الرحيم

د. يوسف حطيني

حالما يبدأ المرء بقراءة شعر عبد الكريم عبد الرحيم يدرك أنه يقف إزاء شاعر ملتزم وقصائد ملتزمة بالوطن وتمجيدالحب والإنسان و إرادة الحياة ، و الالتزام الذي يطرحه الشاعر يتوكّأ في البداية على الاقتسار ولكنه سرعان مايتطور مع تطور مسيرته الشعرية متخلصاً من ضغط الفكرة لصالح قصيدة تفيد من إمكانات اللغة المختلفة . ويستطيع القارئ أن يطالع هذا التطور ويرصده بعد أن يقرأ دواوين الشاعر الثلاثة الصادرة حتى الآن حسب تواريخ صدورها وهي :
1 _ بين موتين وعرس _ 1985.
2 _ آخر اعترافات الندى _ 1996.
3 _ صاعداً إلى الطوفان _ 1997.
ومنذ القصيدة الأولى ، بل منذ السطر الأول يبعث لنا الشاعر رسالة واضحة عن رؤيتة لوظيفة الشعر الذي يجب ، وفقاً لشعراء الالتزام ، أن يحمل مصباحاً ينير درب الفقراء الباحثين عن مكان لهم ، عن المشردين الذين يبحثون عن بقايا الخبز وبقايا الأحلام ، لذلك فهو يتساءل :
أيا شعراء هذا .. الّسيف
يا شعراء هذا .. الزّيف
أين عباءة الفقراء ؟ 1/ 7
بحثاً عن المكان المفقود
من هنا فقد كان الشاعر يرفض الانتماء إلى أولئك الشعراء الذين لا يبحثون عن تلك البقايا ، وهو حين يبحث عنها إنما يجول بين ذكريات الوطن ، و يستجلب ماتبقى من أجزاء الصورة التي حاول الاستعمار محوها بكل ما يملك من وسائل القهر و الاستلاب ، و إذ ذاك يدهشنا عبد الكريم بكثافة هذه الذكريات و كثرة تفاصيلها ، وإذ ذاك أيضاً تنسرب الذكريات على شكل وطن ، وينسرب الوطن على شكل مدينة لا تشبه المدن : عكا التي تختصر الوطن ولا تمحوه ، عكا التي حملها الشاعر في قلبه قصيدة خالدة :
آه يا عكا
تعلمتكِ شعراً 1/18
تحضر عكا حضوراً طاغياً في شعره ، وهي في حضورها هذا لا تعني غياب المدن الفلسطينية الأسيرة ، فنحن نطالع يافا وبحرها ، وحيفا وكرملها ، والقدس وأقصاها ، دون أن نجد الحروف التي تشكلها ، لأن هذا الحضور يتشكل من خلال صور وإيقاعات تنطلق من عكا و تهتم بما هو مشترك بينها وبين رفيقاتها في الأسر ، فهي _ مثلهنّ _ تمثّل الماء والبحر والحياة :
آه عكا
كنتِ في الماء وسامي
و انبلاج البحر في حدقة قلب 1/19
و يبدو أنّ إصرار الشاعر على هذا الانتماء يعود إلى قناعته أنه يتمترس خلف كتلة صلبة من الماضي في مواجهة حاضر لا يستطيع لباحث عن حلم الوطن أن يركن إليه باطمئنان . و هنا يساوى سارق عكا من الأحلام بمن يسرق الماضي والحاضر و المستقبل ولابد للشاعر المقتلع من أرضه في هذه الحالة أن يرفض حاضره ، وأن يتخلّص من حلّه وترحاله ، حتى يحافظ على كبريائه الأصيل :
أحرقت وهم حقائبي
ليظل جلدي لون عكا 1/86
إنه يذكرها .. يذكر همومها .. أحزانها الصغيرة والكبيرة ، مستعد أن يحملها بقلبه على الرغم مما قد يسببه هـذا الحب من ألم .. على الرغم من لفح العشق الكسير ، إذ مهما حاول أن يتخلص من عذابه ، فإن نداوة العذاب وحلاوة الإحساس بحلم الوصول إلى الوجه العربي يبددان الإحساس بالهموم مهما كانت كبيرة :
_ هل فقدتَ هموم عكا ؟
_ بل فقدت نعاسهم ، ورجعت يخفق في ضلوعي
في دمائي وجهها العربي 1/86
ثمة أيضاً أمر مهم يدفع هذا الشاعر إلى الانتماء ذاته ، فعكا ضمانة النصر الأكيدة لأنها تحمل في وجهها العربي وعداً بالنصر ، و وعداًبالحياة ، و تحدياً للموت يملؤه انتشاءً ويعطيه زخماً جديداً و روحاً تستمدّ قوتها من هذا الانتماء :
لا أنتمي لسواك عكا
"فاقتليهم في الطريق إلى جنازتك الأخيرة " 2/65
و لأنّ الشاعر يبحث عن المكان في المكان فقد وقف حاملاً ظمأ الروح ،مادّاً يديه في كل الجهات ، سعياً وراء مكان يألفه ، ولن تطول الرحلة إذ سرعان ما سيصل إلى دمشق ، وهنا يبحث الكاتب عن التفاصيل ، في مواجهة ذاكرة تموج بالتفاصيل والذكرى لأول منزل يألفه ، معيداً علينا سيرة أبي تمام التي تداهمنا من بين السطور :
ألّفت وجهك يا دمشق
وما قرأت على ملامحك المواويل التي أهوى
وما هرّبت عكا
" حارة الأكراد " واقفة معي
في جرحها اليومي أفتتح الكتاب 1/24
وعلى الرغم من أن الشاعر يحمل عشقه الأبدي/ عكا/ فلسطين في قلبه فإنه يحمل ملء ناظريه صورة دمشق التي صار لقاء الشاعر بها شرطاً من شروط استمرار الحياة ، لأن دمشق لديه الشاعر المبتدأ والمنتهى ، ولأنها بقايا القلب في العيون :
من يدري .. لماذا صار لحمي وجه عكا ؟
وانتهيت إلى دمشق
ليس في عكا تلال
كيف يمكن أن تكون الأرض سالمةً
وما ألقى دمشق 1/35_ 36
وكثرما تطالع القارئ صورة دمشق فهو يعشق فيها الأمكنة التي رآها ، والتي انسربت من بين كفيه ، يعشق فيها الماضي العريق ، والمجد الغابر ، وألق الحاضر ، فهي تعني له انتظار المكان في المكان ، وربما تعني أيضاً حلم الانتصار :
دمشق تعانق الأبدا
رفعْت الغرة البيضاء
فوق جبين هذا المجد
فاتحدا 3/8
ويظهر الشاعر من خلال قصائده ولعاً دائماً بالمزاوجة المكانية فهو يزاوج بين عكا ودشق ويزاوج بين عكا و صيدا ، وبين عكا وبيروت ، ويجتهد دائماً أن تكون عكاه أحد طرفي المقارنة ، وكأن الشاعر يريد أن يمنح الحرية لعكا / لفلسطين من خلال تجاورها النصيّ مع المدن التي صنعت حرّيتها ، وكررت انتصاراتها على الغزاة ، ملمّحاً إلى الانتصارات التاريخية التي صاغها الشعب الفلسطيني ، بما يحمله هذا التلميح من قدرة على نسج مستقبل يعد بالكثير :
و أحبّ عكا
كلما مرّت إلى صيدا السفائن و الغزاةْ 2/24
وحين تتعرض بيروت لعسف القصف الوحشي الاسرائيلي يجد الشاعر فيها تكراراً ممضّاً لمأساته ، تكراراً لدم يراق .. ويتوحّد الدم ، وتتوحّد الذكريات ، و يصبح الخندق واحداً مرةً أخرى ، وهنا ترتبك روح الشاعر المذعورة ، ليس خوفاً على بيروت فحسب ، ولكن على الأعراف والتقاليد التي يحاول الآخرون طمسها في داخل فلسطين وخارجها .. إن صورة بيروت هنا هي صورة ما استلب منّا : الوطن والفرح والحرية والطمأنينة:
لم تكن بيروت شمساً
أو سماءً
ساعةً للفرح الشعبي كانت
ساعةً خارج كرم "الجند"
ما كنا رجال الشمس
أو بعض صغار الأنبياءْ
ساعة خارج أسلاك الرقابة
ونشيداً دموياً للمساءْ 1/21
تشخيص الميت ـ الحي
فإذا انطلقنا من تلمس صفات المكان نحو التشخيص الذي مارسه الشاعر على عناصر متعددة ،فإننا سنلمس اهتماماً واسعاً ببناء الشخصية ، ويلاحظ أن الشخصية الأكثر وروداً في مخيّلة الشاعر وعلى أوراقه هي شخصية الشهيد التي يسعى عبد الكريم إلى تخليدها و إلى تخليد شعره من خلالها ، فالشهداء حاضرون دائماً وعلى رأسهم شهداء النضال الوطني فوق التراب الوطني:
كان
"جمجوم "
ينادينا
" الحجازي "
من حبال المشنقة2/34
وها هو ذا شهيد آخر يضيء كوكبة الشهداء ، يرصد الشاعر بكفاءة فنية عالية تفاصيل الحياة الغنية لطفل في السابعة من عمره ، يختلط دمه بالتراب والزيتون والكتب المدرسية ، إن الشاعر يدرك هنا أن قصيدة التفاصيل هي التي تقنع القارئ وتقنعه و تدخله عنوة إلى روح القصيدة ، خالقة الانطباع الذي يسعى الشاعر إلى إحداثه ، و الخرق الفظ الذي يريد أن ينبه عليه : إنهم يقتلون الأطفال :
إنه أصغر أنهار بلادي
أطول الأيام في العمر الحزين
_ أخرِجوا من قاعة الموت البكاء
واتركوا الزيتون والدفتر واللحم الطري المدرسي
_ أين عيناه ؟ و " لوح " حجري
_ أين كفاه ؟ ولوز الأرض مرمي على جيب الرداء 1/41
ويحلّق قلم الشاعر بعيداً وراء الشهداء ليعانق كل من سقط دفاعاً عن الانتفاضة ، ووقفة العز العربي التي تمثلها و ها هو ذا يخلّد الشهيدة سمية مزابي التي استشهدت قرب جامعة فاس وهي تهتف للانتفاضة ، ويهتف إلى جانبها لحناً شعرياً حزيناً :
من بيت ساحور
ومن أعلى جبال الأطلسيّ
تأتي معلقة الحجارة
أيها الطفل النبيّ 2/27
و يبدو عبد الكريم غير مستعدّ للتنازل عن هذا اللحن ، لذلك فهو يطرب إليه ويكرره ( ص ص 30 _ 31 ) و أنّى له أن يتنازل و هذا اللحن هو لحن الأرض ، والأرض كلمة صغيرة ولكنها كافية لكي يلقي الشاعر بأحمال ذاكرته في حضرة القصيدة :
أنكون أم لا ؟
تقرأ الأمواجَ ذاكرة
و يشتعل الجليل :
آذار مرّ على قرانا
تنهض الأرض البشارة 2/ 67_ 68
إن شعر عبد الكريم عبد الرخيم ثوري بامتياز فهو _ بالإضافة إلى كونه شعراً مكانياً يمجّد الشهداء والأرض _ يستعين بالتفاؤل الذي تفيض به روح الشاعر وقصائده رغم الدماء التي تراق ،و الأعراض التي تستباح والمجازر التي ترتكَب :
من كل مقبرة سيأتينا الجليل
من كل مجزرة سيأتينا الجليل
من ظل أعلام الحفاة القادمين
ستطير قبّرة الجليلْ
وتفرّخ الأفراحَ في عكا
وإني أنتمي :
هذا دمي 2/69
من المباشرة إلى شعرية القصيدة
غير أن انشغال الشاعر بالفكرة الوطنية ، و إلحاحه عليها في بداية مسيرته الشعرية ، قاده دون إرادة منه إلى المباشرة ، و هو الأمر الذي سيجتازه فيما بعد ، إذ كنّا نقرأ له عبارات مرهقة بالفكر والأيديولوجيا من مثل قوله :
يسار أيها الأمراء..
يسار أيها الشعراء..
يسار واعبروا الميناء 1/ 11
إن إصرار الشاعر على كلمة (( يسار )) في السياق السابق يقود النص الشعري إلى نوع من الذهنية القسرية و يحرم القارئ من لذة الكشف و تحريض المخيلة المتلقية ، و ربما يكون المقطع التالي أكثر مباشرة ، و أظهر صوتاً إذ يستعين الشاعر بمفردات مثقفي البروليتاريا بدلاً من رمزية الصورة وإيحاء الموسيقا وغنى التناص :
لماذا تولد الثورة
تلمس جرح فلاح من "الكنغو"
و عمال زراعيين في "سايغون" 1/57
غير أن الشاعر الذي عني بتثقيف نفسه تراثا و حداثة وفناً استطاع خلال فترة قصيرة نسبياً أن ينتقل إلى لغة أكثر طواعية ، و عبارات أسرع دخولاً إلى قلب القارئ ، معتمداً على عدّةٍ جديدة : مفرداتٍ تحمل الكثير من الدلالات ، علاقاتٍ جديدة بين الكلمات والتراكيب ، و إحساس مفعم بالإيقاع ، وفي المقطع التالي دلالة واضحة على ذلك :
مرّ المساء
وكان يشبعه الرصاص
وغيمتان تعرتا قلقا
يلجلج فيهما صوتان
من صوب القبائل قادمان 2/5
و هنا صار بإمكان القارئ أن يحس بما يختلف منذ بداية القصيدة ،وأن يرتاح للمطلع الذي يحمل إحساساً بقدرة الكاتب على نقل إحساسه من خلال الاعتماد على الحال بما يحمله من قدرة على نقل المراد وبخاصة حين تلحقه الجملة الفعلية :
متلبساً بالشوق
أوثقني المكان
وغادرتني القبرة 3/49
و قد استمرت إفادة الشاعر من الحال في هذه القصيدة حين أدرك نجاح هذا النمط اللغوي فاستعان به مرة أخرى، و رسّخ في النصّ نوعاً من التدفق الذي يستند كذلك إلى العطف والبدلية ، والمعرفة التي ازدادت اتساعاً بأسرار انسياب النغم :
متلبساً بدم الحكاية
أيها الرجل المتعتع بالحكاياتِ
الشقاوةِ
و المغلّس بالنداوةِ
و البداوةِ
و المشجّر بالأسى والذكريات….. 2/54 _55
وقد استطاع الشاعر شيئاً فشيئاً أن يعطي جمله وتركيباته الشعرية دفعاً إيقاعياً يعتمد على التفعيلة والتدفق الناجم عن امتلاء نفس الشاعر بما يكتب ، والتكرار المدروس لبعض المفردات مما جعل كثيراً من نصوصه وحدات مرتبط موضوعياً واستعارياً و إيقاعياً وباختصار : مرتبطة عضوياً :
يا أيها الوطن المرابط
في مجازر أهله الفقراء
لا تشرب دمي
فأنا النخيل
أنا العويل
أنا السقوط
أنا السماء
و أنا الأناشيد الصغيرة في الحكايا 1/16
وفي المقطع التالي يبرهن عبد الكريم عبد الرحيم مرة أخرى أن العطف و تكرار النمط اللغوي يؤكّدان قدرتهما على أن يكونا رافِعَيْن مهمين من روافع الموسيقا الشعرية ، و هما قادران على أن يحملا عبء الإيقاع عن القوافي الداخلية التي أهملها الشاعر حيناً ،ثم أفاد منها فيما بعد ، يقول الشاعر :
أيها المتراس .. من عكا
إلى لحم الطفولة في "الدهيشة "
كيف تعرفنا المحطات ؟
المكاتب ؟ مجلس الوزراء ؟
هيئات الدفاع عن الحقوق ؟ 2/28

إيقاع القصيدة .. إيقاع الحياة
أمّا فيما يتعلّق باللغة المجازية فقد نجح الشاعر تماماً ، وبمرور الوقت في تجاوز طغيان اللغة الأيديولوجية التي وسمت عموم الأدب الفلسطيني في مرحلة سابقة ، واستطاع الانتقال من ( شدو الرصاصة ) 1/15 إلى ( مقلتاك الرايتان يداك / عرش الشوق ) 2/41 دون أن يفقد البوصلة ، و دون أن يهادن الراقصين على جراح النكبة ، ودون أن يصفق للذين يصوغون من جراحه كلاماً يستجدي أكفّ المصفقين ، كما شهد تطور حسه الإيقاعي تطوراً ملموساً ، إذ اكتفى في بداية مشواره الشعري ، بشكل غالب ، بالتفعيلة التي أتقن تطويعها ، دون أن يَجهد في الإفادة مما تتيحه لغتنا وثقافتنا الموسيقية لرفع مستوى شعرية النص ، ويكثر ذلك في ديوانه الأول ، و من هذا الكثير قوله :
كلّما عاد الصغار من الحقول
تجمّعوا حولي
وكنت أعيد مرثاتي وأضحك
في المقابر
ثم أرقص في الجنوب
لعين صيدا يرسَم العلم البهي
و لساعة الحشر الصفاء 1/16
كما كان عبد الكريم عبد الرحيم يسعى إلى ترسيخ موسيقا النص عن طريق تكرار بعض التراكيب ، و لا يخفى على أحد الدور الذي يمكن أن يضطلع به التكرار على الصعيدين الإيقاعي والدلالي ، ولكن الشاعر ، في بداياته طبعاً ، جعل من العبارت المتكررة كماً مهملا ومربِكاً للقصيدة على الصعيدتن المشار إليهما:
وقفت على بيت مهدمْ
وقفت على شمس المخيمْ
وقفت تقاتلْ
وقفت تقاتلْ
وقفت تقاتلْ 2/36
وقد تكرر هذا في شعره عدة مرات دون أن يفيد إفادة حقيقية ( هل وحدها النار الدليل ؟ /هل وحدها النار الدليل ؟ ) 2/62 ، و كذلك ( واغمريني / واغمريني /واغمريني ) 2/101. و مع تطور الشاعر الفني والذوقي والجمالي أصبحت الغنائية ركناً أساسياً ورافعاً من روافع القصيدة:
أخرجيني .. لا المدائن
لا العذارى
سيلوّحن لركبي
عربات الليل يعبرن سكارى
و أنا أحرس قلبي 2/97
و يستطيع القارئ في المقطع السابق أن يلاحظ مدى التوفيق الذي أصابه الشاعر في ترسيخ موسيقا النص عن طريق تضافر المفـردات ذات الجرس المناسب ، و التفعيلة المطمئنة و تزاوج القوافي الداخلية ( آرى = آرى / بي =بي ) مما يمنح النص غنائية تجعل منه أنشودة بالغة العذوبة . ولم يقف الشاعر عند هذا الحد بل صار يستعين بالصورة وعمق الفكرةلي}دي النص غايته بكل براعة :
و مريم تحمل حزن المدائنْ
و تسقي القوافل بعض السلامْ
و تسقي الكلامْ
خلاصة آيتها الساحرهْ
و تسأل أطفالها القاعدين
بباب القصائد
نبياُ يعود إلى الناصرهْ 3/20 _21
وهنا يبدو أنالشاعر قد فهم لعبة الشعروغدا غير مستعد للتنازل عن فهمه هذا في ممارستها الفذّة :
مطر ونيران
وخوف في الطريقْ
شجر وأحجار
تفتّح غابة أسرارها
و الماء يعلو والحريقْ 3/67
النص القديم ..النص الجديد
و ثمة ملاحظة لا تخطئها العين في شعر عبد الكريم وهي شغفه الدائب بالتراث والإحالة عليه ، وهو الأمر الذي يجعل نصه فسيفساءً تناصياً ، فهناك حضور كثيف للتناص الديني و الأدبي و الأسطوري ، وهناك توظيف فعّال للنص الديني ، وها هو ذا الشاعر يطرح دعوته لنا أن نتمسّك بدرس الموت ، حتى نقطف الحياة التي نشتهي ،مستفيداً من نص قرآني يحفظه العامة والخاصة :
فاعتصموا بحبل الموت في صبرا وشاتيلا
ولا تنسوا الولادة 2/67
و الشاعر في المقطع التالي يفيد من القرآن الكريم إفادة مزدوجة ، إذ يحيل على النص القرآني أولاً ، و يحيل ثانياً على اسم مريم ، بما يحمله هذا الاسم من رصيد تاريخي رمزي ، ليعطي ليلى /الوطن صفات الطهر و القداسة ، وهنا يحمل الشعر رسالته التي تجعل فلسطين مريمَ جديدة تدافع عن طهرانيتها .. عن شرف استبد به الغزاة :
ليلى .. أيا ليلى
أيا حطب الشتاء
وغلة القمح المعبّأ
و السلالْ :
هزي إليك بجذع قلبي
يرتمِ الموال
والزمن المحاصر في التلالْ 2/83
وهناك الكثير من الإحالات التي لا تخفى على القارئ إلى امرئ القيس و طرفة والمجنون و الفارعة بنت طريف و جلجامش … ، من مثل (عائد فرسي إلى "سقط اللوى" 1/34 /لولا ثلاث ما سكت ولست أسأل : " أيهذا الزاجري " 2/6 وكاد يخرج عوّدي 2/9 ) ولا يجعل الشاعر إحالته تكراراً لما قاله الأسبقون ،بل يحاول في كثير من الأحيان أن يقوم باختراق المفهوم السائد ،فهو لا يقبل الموت الذي أقره امرؤ القيس بل يرفضه رفضاً قاطعاً:
إنا نحاول أن نعيش
و أن نعيش
ولا نموت فنعذرا 2/45
ولعل قصيدة ( أيا شجر الخابور ما لك) أن تكون أكثر القصائد إفادة من التراث العربي الخالد ، إذ يكرّر حزن الفارعة بنت طريف ، ولكنه يطرح سبباً مختلفاً ، فإذا كان حزن الفارعة يعود إلى موت أخيها ، فإن حزن الشاعر يعود إلى فقدان ما هو أثر من ذلك بكثير ،إذ غاب الفرح و الحبيب و الوطن ( غاب طفلاً عن الدار 3/34 ) لذلك يعاتب الشاعر شجر الخابور بما يحمله من حزن الأيام و بكاء القرون الطويلة:
أتورق من دمنا المستباح
أيا شجراً ليس ينسى البكاء 3/ 36
وإذا كانت الفارعة قد فقدت أخاها إلى الأبد فإن الجدبد في ترميز الشاعر أنه يشير إلى حزنين يحمل أحدهما ، على الأقل ، إمكانية التحول إلى فرح ، حين يسترد مفقوداته : أحبته وبيته ووطنه ، عكا التي تنتظره وتنتظرنا جميعاً .
د. يوسف حطيني
دمشق 18/8/99