لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: غنائية الوجد في القصيدة الصوفية

غنائية الوجد في القصيدة الصوفية

د . يوسف حطيني

للمرء أن يتساءل ما الذي يريده طلعت سقيرق من قصيدته الصوفية (1) وله أن يتساءل بم اختلفت تجربته الشعرية هذه عن نحو عشر تجارب شعرية سابقة و عن نحو خمس و عشرين تجربة في مختلف فنون الأدب النثري والشعري .
لقد عودنا طلعت في كل مرة أن يقدم شيئاً مختلفاً عن سابقه ، وفي حضرة الشعر نلاحظ منذ البداية اكتواء الشاعر بعذاب الوطن / عذاب الانتماء الذي دفعه إلى تأكيد فلسطينيته عبر ( هذا الفلسطيني فاشهد ) و( أنت الفلسطيني أنت ) و قد برز هذا الاكتواء حتى في رواياته ودراساته .
غير أن الذي يميز شعر سقيرق شغفه بالتجديد وخوض مغامرة الشكل ، وهنا نلفت النظر إلى تجربته الجريئة المتميزة التي أطلقها منذ عام 1996 إذ دأب على إصدار ديوانه المفتوح ( ومضات ) وهو يحوي بطاقات شعرية مفتوحة زمنياً . فماذا أبقى لنفسه في القصيدة الصوفية ؟
* * *
منذ قرأت القصيدة الصوفية للمرة الأولى قبل حوالي ثلاثة أشهر حرّضني الشيئ المختلف فيها على الكتابة عنها ، وحدةً موضوعية إيقاعية تحاول أن تشد القارئ إليها ، وتفرض عليه أسرها اللذيذ دون أم يستطيع منها فكاكاً .
حاولت الكتابة فاصطدمت بعائق انتزاع الشواهد من القصيدة ، فقد كان انتزاع الشاهد من مكانه أمراً شاقاً للغاية ،إذ إن كل جملة مبنية بإحكام على ما قبلها ، تستند إليه و تمد خيوطا متينة إلى ما بعدها ..
هذه اللحمة التي قلما نجدها في قصيدة طويلة إلى هذا الحد تركت لدي شعوراً بأن الكتابة عن القصيدةيجب ان يتم دون الإحالة إلى شواهد معينة ، ولكن خوفي من الفارئ الكسول جعلني أقدم ، بعد تردد ، على فصل الشواهد التي أريد توظيفها فصلا قسرياً ، ولكنه اضطراري ، حتى أتمكن من تقديم قراءتي لهذه القصيدة .
* * *
القصيدة الصوفية قصيدة محشودة بالعواطف و الرؤى و الأخيلة و الموسيقا ، تحمل أفكارها عبر تعبيرات مجازية مدهشة كثيراً ما تعتمد على التركيب الإضافي ، لذا يستطيع المرء أن يقرأ ( جرح الشواطئ ) و ( فنجان قافية ) و ( موال داليتي ) - ص 20 – و ( كستناء الروح ) – ص 24 – و( مشط باب الريح ) – ص 53- ، كماا يستعين أحياناً بتراكيب شبه إضافية على صورة تفرضها مخيلة الشاعر التي تأبى التكرار الذي يفقد القصيدة دهشتها :
( و اشتعلي
على تفاحة للسحر ) – ص 24 –
و الجدير بالذكر أن هذه الصورة لا تأتي خارج سياقها ، ولكنها تجيء مكملة لجوّ نفسي عام حاول الشاعر فرضه بتضافر الفكرة والصورة والنغمة ، حتى إن الصورة الشعرية كثيراً ما تغويه فيطاردها إلى منتهاها ،فإذا حملت الذكرى نحلتها بحث هو عن اللسع والعسل :
لماذا نحلة االذكرى تؤرقني ؟
و يدخل لسعها عسلاً إلى بدني ؟ - ص 45 –
وإذا أخذه حبه و إحساسه الشعري نحو سكّر الساعات قادته غوايته إلى الفناجين ، فهو ينسج بداية قصيدته ، ولكن قصيدته سرعان ما تقول نفسها بعد ذلك وفقاً لمنطق الشعر الذي استوعب الشاعر إمكاناته المختلفة :
أذوّب سكّر الساعات
في فنجان أحلامي
فيطلع وجهك السحريّ
يأخذني إلى فنجان قهوته – ص 25 –
و ربما تقوده الصورة إلى الأسطورة ، حين يرى أن العالم الواقعي المحسوس أضيق من أن يتسع لعذاباته و وجده ، فيلجأ إلى التراث الإنساني مستعيناً بشاعريته القادرة على إعادة خلق ما أنتجه الإنسان العبقري القديم ، فيدخل إلى قلب ( يولسييز ) الضائع في البحار ، لك يعبّر عن ضياعه هو في بحار العشق و النجوى ، حيث لا أشرعة و لا شطآن :
و أصرخ يا معذبتي
ويا نجواي .. يا شكواي ..
يا رئتي .. وأوردتي ..
إلامَ أظلّ كالبحار بين الموج
لا الشطآن تنقذني
و لا الدوران يتركني
تَحار .. تضيع أشرعتي - ص 8 / 9 –
* * *
و لا يبدو الشاعر على استعداد ، في هذه القصيدة الطويلة ، للتنازل عن فهمه لإيقاع القصيدة الحديثة التي يراها تتولّد من تضافر موسيقا التفعيلة والمفردة و التركيب والقافية.. فهو يبني قصيدته بمجملها على نغمة ( متَفاعلن ) التي لا يستفيد كثيراً من التنويعات الإيقاعية التي تتيحها مثل تداخلها أو انقسامها بين سطرين ، إلا في أضيق الحدود (متَفاعلن / متْفاعلن ) .. غير أنه يعوّض عن فقدان هذا التنوع بتنوع القافية ، التي يصرّ عليها حتى يؤكد على غنائية قصيدته ، فهو كما يبدو من شعره ،يعدّ
الغنائية ركناً من أركان القصيدة ، وكثيراً ما تشكّل القصيدة متّكَأً لهذه الغنائية كما يبدو ذلك في المقطع التالي :
أحبك .. أرتدي وقتي
و أدخل دفق أوتاري
و أشعل فيك ذاكرتي
و أرسل فيض أشعاري
أنا وهواك .. أحلام
و موسيقا و أشجار
على رقصات أشجارِ
نسيت جميع ما في الحب .. من حبٍّ
و رحت أدور في نارين ..
من ناري – ص 43 –
و إ ذا كان الشاعر يعتمد هاهنا على تدفق الغنائية السريع ، فهو يلجأ في أحيان كثيرة إلى الإتيان بقافية تكون تتويجاً لجملٍ شعريةٍ طويلة ، كما يمكن أن يظهر من المقطع التالي :
أحبك .. خمرتي سكرتْ وتاهت .. أشعلت درباً من الفيضان وابتعدتْ .. فردَّتها إلى كأسي
أحبك .. تنتشي روحي .. تفيض دقائقي عطراً وفيروزاً .. وأحضن في حدود الوجد من وجدٍ ترانيمي .. وأنسى في الهوى نفسي
أميل .. تميل أشرعتي ..تذوب الروح .. تشتعل الكؤوس و أرتدي صمتاً من الفيضان في ذاتي وأوراقي على حبرٍ تسيل فتشهق الرعشات غائبة
تلمّ فواصل الذوبان في شمسين من شمسي – ص 15-
* * *
و لا يكتفي الشاعر بالوزن والقافية لترسيخ وحدة نصه الإيقاعية ، ولكنه يلجأ إلى موسيقا التركيب والمفردة ، إذ كثيراً ما يكرر التركيب اللغوي ( ما في القلب من بلحٍ = 3مرات ص 7/8 ) وربما يلجأ إلى تكرار نمط الجملة من الناحية النحوية والتركيبية ، ليشعِر القارئَ بين حين وآخر أنه يعيش حالة من الانسجام الإيقاعي ، و مثل ذلك كثير ، و منه :
أحبك .. فوق ما في العشق .. من عشقٍ – ص 19 -
أعيدي شكل ما في القب من شكلٍ – ص 24 –
فكوني فوق ما في العشق من عشقٍ
وكوني فوق ما في الحب من حبٍّ
وكوني فوق ما في الوجد من وجدٍ – ص 33 -
فحبك فوق ما في الوصف من وصفٍ - ص 61 -
كما يستطيع القارئ أن يلحظ إصرار الشعر على ترسخ إيقاع قصيدته أيضاً منخلال تكرار نمط النداء الذي ينسحب على مقاطع القصيدة جميعاً ،مما يرسخ انطباعاً بتفرّد الحبيبة بالصفات التي يلحِقها بأداة ندائه الوحيدة / يا / فهو يقول لها :
يا وجدي و يا قبلي و يا بعدي ويا سمعي ويا بصري ويا طلقات فردوس النبوات – ص 7 –
يا حبي و يا قلبي - ص 7 -
يا دنياي .. يا وجدي – ص 8 -
يا أحلام أحلامي – ص 10 -
يا بعدي ويا وجدي ويا أيام أيامي – ص 11 -….إلخ
و يأتي تكرار المفردة ليعضد الإيقاعات السابقة ، و كأني بالشاعر يحاول استثمار إمكانات الإيقاع كافةً ليجعل بوح عشقه غناءً عذباً . ولعل مفردة / أحبك / أم تكون الأكثر تكراراً في قصيدته الصوفية إذ إنها تحتلّ مطالع معظم افتتاحيات المطالع ،إضافة إلى تكرارها في أثنائها ، و تأتي مفردة /أنتِ/ لتكرَّر عدّة مرات في مقطع صغير نستطيع أن نقرأه فيما يلي :
و أنتِ ربيع ما في الوقت من شجرٍ
و أنتِ الورد .. بستان اشتعالاتي
و أنتِ الروح .. فصل الفصل .. آياتي – ص 55 –
وثمة مثال آخر نسوقه هنا على تكرار المفردة ، إذ نلحظ تكراراً لافتاً لكلمة / سكرى / ، تكراراً لا نستطيع أن نتجاوز دلالته :
سكرت
وكرمتي سكرى
وعنقودي و كأسي و الشفاه
دمي وطاولتي وأقلامي
وسحبة حبريَ المجنون سكرى
كل أوراقي ..حروف الجرّ.. فاصلتي .. عقارب ساعتي سكرى
و سكرى آهتي – ص 13 –
فإذا جمعنا الكلمات الثلاث المكررة : ( أحبك / أنتِ / سكرى ) إلى بعضها أدركنا أن الشاعر يحقق الحب ، و وحدانية الحبيبة ، منتشياً بخمرة العشق ، و هو بهذا يؤكد على أهم أركان الوجد الصوفي ، وعندما يدرك القارئ هذا الأمر يعرف أن عنوان ( القصيدة الصوفية ) يستند إلى افتتانه بالشاعرة حبيبة الصوفي أولاً ، وإلى هيامه بتراث عربي عريق ، أفاد منه الشاعر أيّما إفادة .
د. يوسف حطيني
دمشق 19/8/1999


( 1 ) طلعت سقيرق : القصيدة الصوفية ، ط 1 ، 1999

















"احتمالات" طلعت سقيرق
هل كان عبد الموجود موجوداً ؟
د. يوسف حطيني

بقايا إنسان يندف دمه ومعاناته وانكساراته مثلما تندف السماء ثلجاً قريباً من الحلم، خمس عشرة قصة تلتحم تحت عنوان واحد هو " احتمالات " تلخص رؤية طلعت سقيرق لإنسان يقدم عصارة روحه على مذبح الاغتراب عن الذات والآخرين ، لإنسان عربي يريد أن ينتصر على راهنه ويؤسس مستقبله في مجتمع يعده مجنوناً أو بطلاً دونكشوتياً يحارب فرسان الهواء : إنه بطل المجتمع المرتهن للسلبية والمحسوبية رؤية ، والمرتهن فناً للقصة القصيرة التي ارتضاها طلعت أن تكون معبرة عن أحلامه واحتمالاتها.وهو يستنفد لذلك ما يملك من الثقافة النقدية والإبداعية التي حصّلها من أجل بناء قصة ناجحة : إطاراً وشخصية ولغة ورؤية.
* * * * *
يحس القاص بأهمية الزمن والمكان في قصة ما ويدرك الحاجة إلى ذلك، ففي قصة تحمل الزمن في لغة عنوانها مثل " زهرة حب لنهار جديد " يؤسس طلعت للزمن منذ البداية:
"البحر يمتد بزرقة لا نهاية لها..الشمس تسعى نحو الغروب.."ص5.
ولأن القصة تقوم على على الانتقال من وهم الخوف على السعادة إلى نقيضه ـ أعني إلى السعادة ذاتها ـ فقد جاء الإصرار على تجسيد الزمن في النهاية ناتجاً من نواتج الرؤية ، ولكنه كان زمناً يقوم في مواجهة الغروب الذي بدأ به :
"كانت الزهور (…) تحاول بكل ما لديها من فرح أن تضحك لنهار جديد "ص13.
وثمة في لغة البطل المتعدد حنين للماضي ، وثمة براعة في توليد الاسترجاع القريب والبعيد على حد سواء، ففي قصة "رجل بلا ملامح" يجعل طلعت اللغة القصصية محفّزاً من محفزات الاسترجاع إذ يحمل البطل لنا السياق السردي التالي الذي يجعل الاسترجاع وظيفة فنية وحكائية في وقت واحد :
"هذه الملامح التي أحملها لمن تكون ؟؟ هل أعيد القصة من البداية .. لابأس يا سيدتي اسمعي…"ص57.
وفي قصة "أمام الباب" ـ وهي لقطة إنسانية شفيفة تحكي عن ابن عاد إلى والدته ليجد "نعوتها" على الباب ـ يجد القاص متسعاً من السرد حتى يعود الابن إلى ذكرياته وتداعياته،وتكون هذه التداعيات ، فنياً ، نتيجة شبه حتمية لقصر الزمن الواقعي الذي لايساوي هنا إلا الزمن الفارق بين وصوله إلى الباب وقراءته نعيّ أمه.وها هي ذي إحدى تداعياته أمام الباب:
"آه أيها الباب .. ستكون في الداخل.. أو ستكون عند واحد من إخوتي.. لن أتحمل البيت ورائحته دون وجودها..اشتقت لحركاتها وحنانها.. لرائحة الياسمين الذي تضعه دائماً في صدرها"ص104.
وقد يلجأ القاص إلى التلخيص الزمني حين تأخذ الأمور مجرى الاعتياد والاستمرار الممل، وفي قصة "غزل من نوع خاص" يستخدم طلعت تقنية التلخيص ليجسد ملل الشخصية الرئيسة/العجوز ذي السبعة والخمسين عاماً من تكرار الحياة نفسها ،قبل الصباح الذي رأى فيه تلك الصبية:
"قبل أن يراها كان كل شيء يسير كما كان من قبل: يخرج من البيت .. يودّع الزوجة بقبلة صارت مع مرور الزمن باردة لا تمثل أي معنى (…) وبعد أن تغلق الباب وراءه تذهب ـ كما يعرف تمام المعرفة ـ إلى المطبخ لتبدأ دورة يوم جديد (…)يضع خطواته على الرصيف .. يلتقي الوجوه التي أصبح يعرفها حق المعرفة ، يتخيل أحياناً أنها وجوه آلية، ذات ملامح جامدة .. يلقي التحية .. يهز رأسه وكأن رقبته متصلة بنابض كهربائي ….إلخ"ص72.
ومثل هذا التلخيص الذي يجسد الألفة والاعتياد يبدو صالحاً تماماً للاختراق من قبل الشخصية ذاتها حين تدخل في الزمن الجديد الذي يعد مِفْصلا واضحاً بين زمنين: زمن الألفة وزمن الدهشة:زمن الزوجة التي يطبع القبلة على خدها كيفما اتفق وزمن الربيع القادم فجأة ـ والمنسحب فجأة أيضاً ـ مما يجعل الحياة قائمة على التضاد بين ما قبل وما بعد. ومثل هذا التمفصل الزمني قائم في وهم الشخصية التي يفترض التعبير عنها هذا التضاد ، ونستطيع أن نجد له مثيلاً ـ من حيث كونه وهماً في ضمير الشخصية ـ في قصة "أبو الريش.. وحالة ضياع" إذ يعتقد أبو الريش أن الساعة "أزفت"و يكرر طلعت هذه المفردة عدة مرات ، ويجعل منها إيقاعاً تركيبياً للقصة ليؤكد أن هذه الـ"أزفت" ليست أكثر من "حالة طارئة" في مجتمع لا يرى في حمد حمدان الطاوي أبو الريش أكثر من مجنون.
ويشكل المكان أرقاً مستمراً للقاص: الجغرافي منه والطباعي على حد سواء ، إذ كثيراً ما يؤثث الكاتب مفردات مكانه القصصي ليؤمّن دخولاً مقنعاً في الحدث، ومن ذلك ما نلحظه في قصة "القبو" إذ إن الدخول في الحدث من خلال السياق: "وحده العجوز كان يضحك" ص15ـ يسبقه تأثيث لبيئة القصة يرسم السماء والزجاج وأغصان الأشجار وأضواء الشوارع:
"السماء تمطر.. الزجاج الأمامي يغطيه الغبش.. ترسم المسّاحة وهي تتحرك جزءاً كبيراً من دائرة (…) أضواء الشوارع تحاول أن تزيح عتمة المساء.. أغصان الأشجار العارية تحدق في الفراغ …"ص15 أيضاً.
ويجهد القاص أن يفيد من الفضاء الطباعي ـ الذي يجسد تشكيل القصة على الورق ـ فلا يجد إلا علامات الترقيم ، فيستخدم النقاط المتلاحقة "…." استخداماً سرعان ما يبدو مألوفاً ، ولكنه يستخدم بشكل أكثر نجاحاً الخط المائل "/" ليقدم أحداثاً متدفقة تتنازعها الشخصيات المتحاورة:
(( صاح رشدان: "اسمع إنني أحذرك"/كانت الجراح تزحف بأوجاعها/، "عليك أن تحدد الجهة والأسماء"../ هل يذكر أولاده/؟؟..، لابد من ذكر العناوين بالتفصيل"/ وأسماء أولاد الحارة/.."وإلا سلخت جلدك/وأسماء كل الأولاد في المدينة/؟؟ "لن تفيدك المراوغة،/واسم الحاضرالغريب الكئيب/؟؟ )) ص51.
* * * * *
فيما يتعلق ببناء الشخصيات يبدو اسم الشخصية ـ والتسميةُ شكل من أشكال التشخيص ـ عادياً ليس له رصيد دلالي في بعض الأحيان:مثل سلمى بنت سطام التيناوي، في حين يحتل في بعض القصص أهمية بالغة كما نجد في قصة "غزل من نوع خاص" التي تسمي الشخصيتين الرئيستين من منطلقين مختلفين ، فالرجل العجوز"سعيد" تقوم علاقته مع اسمه على التضاد، لأنه لا يمكن أن يشعر بالسعادة في ظل الملل الذي يعيش فيه. أما الفتاة الشابة "أمل" فإن علاقتها تقوم مع اسمها على التوافق إذ أن وجودها هو الذي كسر اعتيادية الحياة وضجرها.
كما يجتهد القاص في تقديم الشخصية منطلقاً من أوصافها الجسدية أو عالمها الداخلي كما تقتضي الحبكة والحكاية، وقد يجعل الوصف الجسدي مدخلاً للعمل القصصي كما نجد في قصة "أبو الريش.. وحالة ضياع" التي تُظهِر افتتاحيتها أن طلعت لا يستسلم للافتتاح الزمني والمكاني فحسب، بل يحاول التنويع حتى يخلّص القارئ من إملال مفترض، إذ يبدأ على النحو التالي:
"حمد حمدان الراوي أبو الريش.. في الثلاثين من العمر كان… كان طويل القامة إلى حد يلفت الأنظار.. أصلع الرأس.. محمر الوجه دائماً يمشي فتظن أنه يسحب نفسه سحباً. كثيرون استمعوا إلى كلماته اللاهبة عن الاستعمار والفقر وطبقة الأزون.. وكثيرون ضحكوا أو تضاحكوا..وكان على الدوام ينسحب لاعناً شاتماً هذا الزمن الرديء"ص35.
واللافت للنظر حقاً أن الشخصية القصصية الرئيسة في هذه المجموعة القصصية، تتمتع بكثافة سيكولوجية كبيرة،مثل شخصية يوسف يقظان الراوي في قصة "الجراد"، وهي قصة تذكّر، إلى مدىً بعيد، بقصة "قرار موجز" لغسان كنفاني، والذي خان القاص في هذه القصة اعتماده اعتماداً كبيراً على سياق لغوي محدد/ الجراد الآدمي/ وتكراره بشكل يحرمه من حصد ثمرة الدلالة الإيقاعية وتفضي به إلى ما يشبه الإملال.
وخلال تقديم الشخصية نفسياً قد يلجأ طلعت إلى إحداث نوع من التوازي الممتع بين شخصيتين، وتمكن الإشادة هنا بقصة "زهرة حب لنهار جديد" إذ يتجسد هذا التوازي النفسي على شكل أحداث صغيرة، ولكنها كبيرة، إذ تحول اللقاء بين الرجل وزوجته إلى لقاء حدثي ونفسي ولغوي في آن:
"صعد أول درجة.. تركَت الكرسي.. الثانية.. خطتْ خطوتين.. الثالثة.. الرابعة.. الخامسة.. السادسة..كان باب البيت أمامها.. أخرج المفتاح من جيب بنطاله…وضعت يدها على مقبض الباب.. وضع المفتاح.. أداره… أدارته.. انفتح الباب.. وارتسمت على الوجهين ابتسامتان بحجم العالم"ص13.
* * * * *
ويمكن الانطلاق من هذه القصة للحديث عن طرق البناء القصصي التي تتنوع تنوعاً مثيراً، فمن طريقة التوازي التي لمسناها سابقاً، إلىطريقة تناسل الحكاية من رحم حكاية أخرى، إلى الطريقة التقليدية التي تعرض الحكاية في الوضع الطبيعي، ثم يتم اختراق هذا الوضع وصولاً إلى تأزيم الحدث ، دون أن يفقد القاص القدرة على إثارة التشويق الذي يأتي بأشكال مختلفة، فقد يعتمد على تعزيز الشعور بألفة الظروف المحيطة، من أجل أن يمهد السبيل للاندهاش واختراق المألوف، كما نرىفي قصة "غزل من نوع خاص" التي تجسد تلك الألفة التي سبقت رؤية أمل:
"لا يدري كم من السنوات مرت وهو يسير في هذه الشوارع والحارات.. كم من السنوات انقضت، وهو يلقي التحيات التي لا تتغير.. المفردات هي هي، بموسيقاها..بنبرة الصوت،بصورة الحروف…"ص73.
وقد يقوم التشويق على التضاد، كما نجد في صورتي الشارعين الأمامي والخلفي، في قصة "انتظار في الشارع الخلفي" ـ ص86 ـ أو على التداخل بين الأنواع الأدبية، إذ إن المقطع الأول من القصة السابقة يمكن أن يشكل قصة قصيرة جداً جديرة بالانتماء إلى هذا النوع الأدبي:
"كنت معلّقاً على الجدار.. بين عقربي الساعة تماماً حشرت.. أمد أصابعي، تمتد.. ينفلت ظلها فتذهب إلى ما لانهاية في المسافات والمساحات.. أقبض على طرف خيط عنكبوت.. أسحبه.. يطول .. حول رقبتي تماماً يلتف.. أصرخ.. أخرج قليلاً من إطار جلدي.. أتجول في الشارع الخلفي.. أحد الجرذان يصطادني بعينين ناريتين.. أختبئ.. لهاثي يطرق سمعي، فأغيب.. أسبح في بركة صغيرة من عرقي..أبحث عن تفاصيل وجهي..أقع على طرف السرير.. وتضيع المرآة في الزحام"ص83.
وإذا كنا قد لمسنا تنوعاً في تقديم بدايات قصصه، فإننا نستطيع أن نلمس في نهاياتها الأمر نفسه، إذ تأتي بارعة لا حشو فيها ، وتترجّح بين التشاؤم والتفاؤل، ومثال النهايات المتشائمة يمكن أن نجده في قصة "الجراد" التي تنتهي بالسياق اللغوي التالي:
"عندها كان الوالد الذي أخذ يبتعد يبكي.. والمساء الحزين يبكي.. والنداءات التي حملها الصدى نحو كل المسافات والمساحات تبكي.. والمدينة تغط في نوم طويل.. طويل!!"ص102.
ويمكن أن نمثل للنهايات المتفائلة بعدة قصص منها قصة "غزل من نوع خاص" التي تجسد نهايتها ذلك التطور المثير في شخصية العجوز الذي حوّلت أمل حياته إلى حديقة مزهرة وجعلت ابتسامته وردة لا تعرف الذبول:
"عندها سار في الشوارع والحارات وهو يغني ويصفر ويضحك.. وكانت ابتسامته ترتسم على الشفتين وردة لا تعرف الانطفاء…"ص81.
* * * * *
ويبدو سقيرق في لغته القصصية مولعاًبالاعتراض (ص45 وص76) والرمز (الغراب ـ العنكبوت ـ الجراد ـ الجرذان) كما أنه يسعى إلى تطعيم قصصه بأنواع مختلفة من الإيقاع القصصي على مستوى المفردة "الجراد" والتركيب "انتظار في الشارع الخلفي" والموضوع (مثل إيقاع الجنون الذي نراه في أكثر من قصة:ص37و39و64و100…)، ولعل أظهر إيقاع في المجموعة القصصية كلها هوإيقاع شخصية عبد الموجود الذي تطور من الوجود المطلق، إلى الوجود المقيد إيجابياً ثم سلبياً، إلى عدم ااوجود في رحلة إيقاعية ممتعة تضع القارئ أمام سؤال وجوده الحقيقي(ص83و85و86و88و89) إذ تتم رحلة عبد الموجود بين السياقين التاليين:
"كنت وقتها أنا عبد الموجود موجوداً"ص83.
"وقتها لم يعد عبد الموجود موجوداً"ص89.
وبين السياقين ينهض سؤال عن جدوى الوجود المقيد، الوجود الناقص الذي يرفضه طلعت سقيرق ،ويدعو من خلال "احتمالاته" الإنسان العربي إلى وجود جديد.
د.يوسف حطيني
30/12/1999