لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2009

دراسة: غالب خلايلي: من تفاصيل السرد إلى تفاصيل الحياة

غالب خلايلي
من تفاصيل السرد إلى تفاصيل الحياة
د. يوسف حطيني



ليس من المطلوب هنا أن نصنّف كاتباً مثل الدكتور غالب خلايلي، فقد قدّم غالب للقراء العرب آلاف المقالات الاجتماعية الانتقادية، وعشرات البحوث في المجلات الطبية المتخصصة، كما قدّم للمكتبة العربية – وهذا هو جوهر اهتمامنا- أربع مجموعات قصصية، هي على التوالي:
1- عقد اللؤلؤ.
2- الرحيل.
3- اغتراب.
4- في وجه العاصفة.
وعلى الرغم من أن كل المجموعات القصصية المشار إليها تدور في فلك السخرية المريرة، وتفضح الممارسات الاجتماعية السلبية، فإن غالب يسعى في معظم الأحيان إلى الانتصار للمنظومة الأخلاقية، ليؤسس أو ليدعم التوجهات الإيجابية، والميول الفطرية لدى الشخصيات القصصية، دون تدخّل في منطق السرد الفنّي، على نحو ما نجد في قصة "عقد اللؤلؤ" 1/12 إذ يركض مسعود باتجاه أقرب مركز للشرطة لتسليم العقد الثمين الذي وجده على الرغم من أنّ هذا العقد كان كفيلاً بتحقيق الكثير من أحلامه.
وفي مقابل ذلك، يعمل القاص على الانتصار من أبطال قصصه الذين يرسخون القيم الاجتماعية السلبية، كالمجون والاستهتار والعلاقات المشبوهة، فيجعلهم يدفعون ثمن أخطائهم، ففي قصة "الرقصة الأخيرة" يدفع حامد الشاب الثري المستهتر بأسرته ثمناً باهظاً مقابل سهره وعلاقاته المشبوهة إذ يموت في نهاية القصة في حادث مؤلم، بعد أن يشدّ على مكابح سيارته دون جدوى، غير أنّ القاص لا ينسى، في أثناء هذه الإدانة لسلوك حامد، أن يشير إلى يتم الأطفال الذين لا ذنب لهم:
"لا تبكوا يا أحبائي.. لا تبكوا.. بعد قليل سيأتي أبوكم ليأخذنا في نزهة.. ألا تحبون النزهات؟ غير أن الأطفال- الذين أصبحوا لتوهم أيتاماً دون أن يعرفوا- استمرّوا في البكاء". 2/22.
من هنا فإن الكاتب لا يملّ تكرار التأكيد على القيم الإيجابية، والحث على التمسك بها، وكشف القيم السلبية، والحض على تركها، عبر لغة سردية شفيفة، تكشف القصد بعيداً عن الوعظ والإرشاد.
ولعلّ مقولة الوفاء واحدة من أهم المقولات التي يجسدها نص غالب القصصي، وقد يكون الوفاء عنده لإنسان أو لحيوان أو لفكرة أو لوطن، ويجسد القاص هذه القيمة من خلال إبراز أضدادها، ففي قصة "الصهيل الأخير" يطرح القاص في نسق انتقادي حكاية الجحود الذي يتعرض لها الحصان العجوز عندما يكبر، إذ تنطلق "رصاصة قوية من بندقية حديثة كاتمة للصوت لتستقر في رأس الأدهم العجوز" 4/50، وفي قصة "اغتراب" يشير القاص في نسق تصويري إلى حكاية جحود أخرى يتعرض لها عبد الفتاح المغترب الذي يدفع عمره وشبابه اللذين تطحنهما الغربة دون أن يجد تقديراً من أولئك الذين تغرّب لأجلهم، إذ لا يجد لدى عودته إلى مطار بلاده في استقباله غير زوجته:
"صعقتها المفاجأة.. لقد أحست لقد أحست وكأنها تعانق شخصاً غريباً لا تعرفه.. ثم ما لبثت أن عاودت ضمه، فبدت كالوردة اليانعة تضم عوداً يابساً" 3/17.
أما في البيت فلا يسأله أولاده إلا عن الهدايا، فيشعر أنهم ليسوا أولاده الذين تركهم قبل ثلاثة أعوام، لذلك يقرر هذا العائد المشتاق أن يمدد عقد غربته حتى الموت.
وثمة جحود من نوع آخر يسعى القاص إلى فضحه وتعريته، وهو جحود الوطن من قبل أولئك الذين يسافرون إلى بلاد المدنيّة، فيأخذهم بريقها، ويخطف أبصارهم، فيعودون وقد أغشاهم ما رأوه وأنساهم أهلهم وديارهم. في قصة "تقرير الناطور المثير" يطلب رئيس قسم الأطفال من جميع الحاضرين "أن يعملوا بمثل إخلاص الأطباء الأميركان" 3/23. أما في قصة "رحلة المستقبل" فإن ثابت العائد من أوروبة يستخدم أنساقاً لغوية تدلّ على أنه يقصد الفصل بينه وبين أهله وذويه، إذ يبدو دائماً واضح القرف والاشمئزاز مما يراه في بلده، سائلاً بإلحاح مقصود: "منذ متى وأنتم على هذه الحالة؟" 4/70.
ويلحّ القاص على تعرية الفكرة نفسها في قصة "عيادة خمسة نجوم" إذ يقول طبيب أسنان الذي تخرّج في أمريكا للمريض الخائف: "هذا العلم الذي جنيته لم أجنه في بلد عربي.. لقد جنيته في أميركا حيث التقدم والفهم". 3/42. وإذ يقع المريض المسكين في الفخ، يدفع ثمناً باهظاً لحشوة بورسلانية يضعها الطبيب في فمه، مؤكداً له أن حرباً نووية لن تؤثر فيها:
"يعني لو قامت حرب نووية فإنك ستختفي ويبقى سنك" 3/44.
ولا ينسى القاص في نهاية هذه القصة أن يسخر من هذا الطبيب ومن علمه الذي جناه في أمريكا، ليؤكد أنّ الطبيب الناجح هو الذي يعمل على تخفيف آلام المريض سواء أتخرج في أمريكا أم في أي بلد آخر:
"في صبيحة اليوم التالي حدث ما لم يكن في الحسبان. لم تقع حرب نووية والعوذ بالله.. بل وقع ما هو أشد وأدهى.. لقد كسرت (البورسلانة) مع أول قضمة من سندويشة الفلافل" 3/45.
ويبدو الموضوع الطبي أثيراً لدى غالب الطبيب، الذي عاين عن كثب المرضى والأطباء، وشرح هموم هؤلاء وأولئك، متعاطفاً مع جوهر الإنسان سواء أكان طبيباً أم مريضاً، فهو يتحدث عن هموم الأطباء، ابتداءً من عجز بعضهم عن تأمين حاجات عيشه إلى عدم قدرته بسبب انشغاله عن معالجة أبنائه، ويسخر من جهل بعضهم ومن صراعاته السخيفة على فتات المراكز والمصالح، ولعل من أبرع السياقات اللفظية التي تحكي هموم الطبيب ما يرد على لسان الزوجة في قصة "ولادة جديدة""
"..فما أكثر المكالمات التي تخطف زوجها منها في أحلى اللحظات، في أي وقت من الليل أو النهار، لا يهمّ الذين طلبوه (لأيّ سبب تافه) إن كان قد بدأ الغداء أو العشاء، ولا يهمهم إن كان بدأ النوم أو استغرق فيه، أو إن كان يستقبل ضيفاً عزيزاً لم يره منذ وقت طويل" 3/102.
ويبدو موضوع التدخين مؤرقاً للقاص، من خلال حضوره بأشكال مختلفة وفي سياقات متعددة، في نصوصه القصصية، والقاص لا يفوّت فرصة لكي يوضّح آثار التدخين الضارة على الإنسان، سواءٌ أكان السياق القصصي يصف حدثاً رئيسياً أم فرعياً، ويمكن هنا أن نشير إلى نسقين لفظيين يستثمرهما القاص للحديث عن أضرار التدخين على الرغم من أنهما يحكيان موقفين قصصيين ثانويين:
- "أشعل حمدي لفافة تبغ رخيص قاتل وسحب نفساً عميقاً" 1/15.
- "لم يعجب هذا الكلام الابن (...) وبدأ ينفث الدخان المسموم في المكان" 4/70.
ويوجه القاص سهام نقد الاجتماعي في كلّ اتجاه، فينتقد ذلك الذي "باع ضميره وصار غنياً". 1/13. ويفضح الجوائز التي ينالها من لا يستحقها، بينما لا ينال أصحاب العقول المفكرة أية جوائز 1/29-32، وينتقد أشكال التبذير المختلفة متسائلاً عن جدواها: "لماذا يغيرون النوافذ والأبواب وهي لا زالت[1] جديدة؟!" 3/87. ويتخذ النقد الاجتماعي عنده شكل السخرية المؤلمة التي يمكن أن نشير إلى بعض أنساقها فيما يلي:
- "افتتح عريف الجلسة المؤتمر بحماس خطابي ملتهب، كلّله بالتنويه إلى حفل الغداء في مكان رومانسي عامر، فدوّت القاعة بالتصفيق" 2/24.
- ها قد جاء الدكتور مصباح بعد ساعة من بدء الدوام" 3/8.
- "همست الوالدة في أذن الأب قائلة: لا تصرخ، سوف تجرح مشاعر الولد وتخيفه، إن الصراخ يتنافى من أصول التربية الحديثة" 4/58.
وتأخذ السخرية مداها الأرحب في قصة "الصرصور وبيضة الديناصور" التي تتناول قضية من أهم القضايا التي تسهم بشكل أو بآخر في الإساءة إلى المشهد الثقافي العربي، إذ تتحدث عن المجاملات الأدبية التي يتبادلها الكتاب والنقاد، إذ تستحي عين الناقد حين يأكل فمه، فلا يرى في قصة صاحب مائدة الشواء إلا إبداعاً لا يشق له غبار، ومن تلك المجالات ما يقول الناقد عنتر أبو كلام، بعد أن يسحب نفس أرجيلة طويلاً يحبسه داخل صدره ويسعل سعالاً حاداً قوياً:
"سأحدثكم عن انطباعي الرائع عن قصة (الذبابة)، بصراحة وبلا مواربة هذا هو القصّ، هذا هو الفنّ، وهذا هو عصر ما بعد الحداثة" 4/26.
وتنتهي القصة حين يتفق الجميع على اللقاء بعد أسبوع مع قصة جديدة، ومائدة جديدة أيضاً.
في أثناء التعاطي مع الزمن القصصي يدرك القارئ المتدرّب أن الاستذكار والالتفات نحو الماضي من أبجديات الهوى السردي العربي، إذ كثيراً ما يجد في القصة والرواية وغيرها من فنون السرد انجراراً خفياً أو ظاهراً نحو ما كان، غير أنه سرعان ما يدرك في أثناء ملاحظة الزمن في قصص غالب خلايلي أن القاص قلّما يعتمد على الاستذكار، وعلى الماضي، وإذا كانت ثمة استرجاعات قليلة تكتسب في قصصه مشروعيتها الفنية، فإن المرء لا يجد تعليلاً لقلتها إلا أن يكون القاص مشغولاً بالحاضر السردي، وهو استنتاج تعززه الموضوعات الجديدة التي يطرحها ويعالجها في قصصه، ويبدو اهتمامه بالحاضر في معظم الأحيان على شكل تحديد زمني يمكن أن نجد له أمثلة في الأنساق اللفظية التالية:
- "دقت الساعة الرابعة عصراً وأزفت ساعة الرحيل" /49.
- "الساعة الآن هي العاشرة ليلاً". 2/63.
- "كانت التاسعة ليلاً حينما وجد غلبان أن الجناح مزدحم بشتى أنواع المشاكل". 2/89.
وكان من الممكن للقاص أن يجتهد أكثر في تصوير ماضي الشخصيات، وفي إيجاد إرهاص لمستقبلها، كما كان يمكن له أن يجد تعبيرات غير محدودة عن الزمن القصصي، لينوّع في أساليب القص، ويبدو لي أن الواقعية الانتقادية التي تسيطر على معظم ما يكتبه غالب خلايلي هي التي تدعوه إلى الانحياز للخيار الفني الذي يقلل من شأن الماضي والمستقبل، ولعل تغيير هذا الخيار الفني أو تنويع الخيارات يحتاج إلى موضوعات جديدة، أو إلى شكل تعامل جديد مع الموضوعات القديمة.
ويظهر القاص ميلاً ظاهراً إلى الاهتمام بالمكان من خلال إعطائه قيمة كبرى، ومن خلال الاهتمام بتأثيثه إلى حدّ يلفت النظر، حتى إنه يعقد قصة كاملة بعنوان "اليوم الأخير للعجوز" للمكان القصصي، إذ يبدو المكان/ المبنى بطلاً لا يقل أهمية عن أبي أحمد الذي يستقيل بعد خمس وعشرين سنة، وهي مدة كافية لكي يشعر أنه جزءٌ من المكان "مثله مثل تلك الشجرة الفارعة الضخمة التي زرعت شتلة صغيرة في حديقة المبنى قبل ربع قرن" 1/95.
لذلك يحتلّ المكان جزءاً مهماً من السرد، وينسحب ظله على بداية القصة ووسطها ونهايتها، حتى إن أبا أحمد يستدير قبل أن يغادر المكان "ليلقي النظرة الأخيرة على المبنى الذي استهلك عمره" 1/100.
ويستطيع القارئ أن يلمس احتفالاً كبيراً بالتأثيث عبر عدد من الوسائل التي يتيحها نظام السرد، ففي افتتاح قصة "ولادة جديدة" يفيد القاص من السكون والعتمة والبرد والشمس في تأثيث الكوخ والبيوت التي تملأ المكان 3/101، وفي قصة "الكواسر" يعتمد القاص على تفاصيل صغيرة مثل بقايا القهوة والطعام والبطيخ في تأثيث الغرفة التي دخلتها عائشة 4/38، بينما يفيد من الصوت والرائحة في قصة "الرقصة الأخيرة" إذ نقرأ السياق التالي:
"إن هي إلا لحظات حتى غطّ في نوم عميق، فبدا وهو يشخر مثل خنزير ينفث روائح منفّرة اختلطت برائحة تبغ كريهة وبرائحة فاكهة متعطنة". 2/18.
ويطور القاص مفهوم التأثيث بوساطة الرائحة في نهاية قصة "زيت الياسمين"، إذ يموت الطفل عبير، وتختلط رائحة الياسمين برائحة الموت في سياق تضاديّ يعمّق الإحساس بالفاجعة، غير أن القاص يجعل رائحة الموت تتغلب على رائحة الياسمين بدليل أنّ العصافير تعتذر "عن الغناء في ذلك الصباح.. حزناً وأسى على صديقها الصغير". 3/73.
أما قصة "بانتظار المدير" فإن القاص يشعر خلالها بحاجة النص المتحرك إلى الرائحة واللون والصوت، من أجل تقيم شخصية رغداء التي تنجح في إضفاء حضورها الآسر على الشخصيات التي تحيط بها:
"أطلت الحورية الهيفاء رغداء مبرمجة الحاسب الآلي ومنسّقة أعمال الطباعة ببلوزتها البيضاء الشفافة وتنورتها الحمراء القصيرة، تسبقها رائحة الزخم، وصوت طرقات (صندلها) الإيطالي الأحمر الذي يكشف عن قدمين بيضاوين معتنى بهما عناية فائقة" 4/31.
وعلى الرغم من أن الكاتب ينوّع في طرق تقديم شخصيته إلا أن ما يلفت النظر في هذا التقديم هو استثمار طاقة التسمية إلى أقصى حدّ ممكن، فالكاتب يقدّم وصف الشخصية من الناحيتين الجسدية والنفسية، وقد يصف الشخصية من الخارج ليضيئها من الداخل، على نحو ما نجد في قصة "كيس الخبز"، إذ إنّ "إسماعيل أفندي يمشي ببطء، ويلف رأسه ووجهه بغطاء صوفي مهترئ قديم يقيه من البرد، ومن نظرات الذين قد يعرفونه فيروا فيه الذلّ بعد العزّ، والانكسار بعد النصر" 2/11.
وقد يلجأ القاص إلى الاعتماد أحياناً على ملامح الشخصية لبناء الحدث، على نحو ما نجد في قصة "الكواسر" إذ يأتي الافتتاح ليصف إحدى المريضات التي تقوم صفاتها بدور المحفّز الذي يدعو الطبيب إلى استقبالها بحفاوة غير معهودة في قسم الإسعاف:
"رآها دسمة. امتلاء جسمها الأبيض الطويل الممشوق محبب إلى القلب في هذا الليل الطويل، ونعومة ملابسها، ورائحة عطرها تدلّ على نعيم. استقبلها ببشاشة غير معهودة في آخر الليل في قسم الإسعاف المزدحم" 4/37.
ويمتاز وصف الشخصية لدى خلايلي بأنه، في الغالب، وصف حركي، يقدّم في أثناء تقديم الحدث، مما يسرّع الحكاية، ويقودها نحو عقدتها دون معوّقات، ويساعد حس السخرية العالي الذي يمتاز به في إيجاد انطباع لدى القارئ بأنه يقرأ عن شخصية من لحم ودم، في حين أن الشخصية ليست أكثر من أحرف وكلمات، ففي قصة" صور بدون رتوش" نقرأ عن (أبو علي الريان) ما يلي:
"المريض الذي أحضره الدكتور فتال هذا اليوم شاب صغير في الستين من العمر (واسمه أبو علي الريان)، يشكو من ضعف وفتور في قواه الجنسية، إذ لم يعد قادراً على مجاراة ثلاث زوجات تتراوح أعمارهنّ بين العشرين والأربعين". 3/8.
وقد سبقت الإشارة إلى أنّ غالب يستثمر طاقة التسمية إلى أقصى مدى ممكن، ويتجلى ذلك من خلال إطلاق تسميات ذات دلالة واضحة على الشخصيات، ومن خلال الربط بين معنى الاسم ومبنى القصة، إلا أنه يبالغ في ذلك أحياناً مما يربك السرد القصصي، ويمكن أن نشير إلى تجربة ناجحة في التسمية من خلال قصة "ترويض الشرس" إذ يرمز اسم (أبو علي) إلى الرجولة والفحولة، ويتعمق الإحساس بنجاح التسمية حين تبنى العلاقة على التضاد بين التسمية ومدلولها الحكائي، إذ يفقد (أبو علي) رجولته وفحولته أمام سطوة السيد، وخبيرة المجون هيفاء، وتتخذ القصة، من ثم، بعداً آخر حين يصبح (رمزاً للإنسان العربي الذي يحاربه الجميع باسم العولمة والحضارة:
"غير أنه (أبو علي) لا يعرف أبداً أن هيفاء حامل من سيدها منذ شهر.. ولن يعرف ما يجب أن يعرفه.. فحسبه أنه ترك قذف الحجارة وصار حضارياً يكره الحقد والعنف، ليقبر الفقر وتاريخ الأسرة إلى غير رجعة". 3/37.
ويمكن أن نشير إلى الأنساق اللفظية التالية لندلل على مدى نجاح القاص في إقامة العلاقة بين بعض الأسماء ودورها في الحكاية:
- "غير أن الدكتور سريع لم يصل" 1/26.
- "تابع يقظان نومه". 2/63.
- "طوال عمرك يا مسعود وأنت متعوس منحوس، ولا تدري لماذا سمّاك والدك بهذا الاسم" 1/8.
- "قعدت الدكتورة نورة المستورة الطبيبة الجديدة، البريئة المبتدئة، قعدت ولفّت رجلاً على رجل" 4/61.
- "ردّ لامع: أبداً يا سيدي، أنا لامع الاسم، أما سعادتك فلامع الشخصية والفعال". 4/15.
غير أن ثمة عدة مظاهر تحدّ من قدرة هذه التسميات على أن تحمل رصيدها الحكائي بخفة ورشاقة، ومن أهم هذه المظاهر ازدحام الأسماء في عدد من القصص، إلى درجة تجعل التسمية غاية لا وسيلة من وسائل تقديم الشخصية، ويمكن أن نشير إلى قصة "القيصرية، إذ يرد في السياق التالي عدد من الأسماء: "عندئذ نادت (فهيمة) قائلة: صابونة.. اطلبي الدكتورة الاستشاري فهمانة تررلي في بيتها، وعجلي بطلب الدكتور سريع طبيب التخدير والدكتور عجيب طبيب الأطفال..." 1/25.
وفي قصة "استقالة في محلها" 4/60-67، نقرأ عن صابغ أبو شعر ولامع أبو فخر وغضبان أبو جمر، وخليل أبو الكرشين، وكميل أبو العينين، ووليد أبو الوجهين، وصياح أبو الأنفين. ومثل هذا التوازن الذي يسيء إلى عفوية السرد وتدفقه يصبح غاية أيضاً في قصة "صور بدون رتوش" 3/7-14 فهناك الدكتور فتّال الحافي، والدكتور متلو ما في والدكتور أمين عبر الفيافي، والدكتور فطين الغافي، والدكتور مصباح الطافي. ومثل هذا التجمع للأسماء يرهق القارئ والسرد حين يكون في قصة واحدة.
نضيف إلى ذلك أن القاص يكرر بعض الأسماء مثل (منحوس، وغضب، ولامع، واحمد، وأبو علي) في أكثر من قصة، وأن كثيراً من الأسماء التي يستخدمها غير معروفة في اللغة كأسماء أعلام مثل "صابونة" و"متلو ما في" و "ساخطة" و "تكشيرة" و "سلفة" و "نقمة" و "لادغ" و "واخز"، ونحن هنا لا ننكر الإفادة من معنى الاسم، غير أن الأفضل للقاص فيما نرى أن يفيد من المزاوجة القائمة بين الاسم المعروف واستخدامه في السياق، ذلك لأن الاسم حين يكون غير مستخدم فإن القارئ يخسر أحد طرفي هذه المزاوجة.
ويبدو القاص مشغولاً بتقديم الحكاية عبر أقصر الطرق، مما يجعل قصصه تنجو في معظم نماذجها من التزيدات اللغوية، فهو يستعجل الدخول في الفعل السردي، ويقدم افتتاحيات ذات قدرة على تحريك الحدث بدلاً من التصوير المجاني الذي يعرقل القص ويغلّ حركة الحدث، ولعلنا نشير هنا إلى قصة "الشروط" 1/73-78 التي تمتاز بحبكة مدروسة، إذ يجهز (درويش الفقير) الأوراق المطلوبة ليحصد الخيبة في اليوم السابع، وتفيد الحكاية من قصة خلق الكون في سبعة أيام، وهي من القصص القليلة التي تستثمر طاقات الأداء الزمني المختلفة، وتبدأ من الوسط، ثم تعود إلى البداية، إضافة إلى أنها تقدّم الشخصيات في تراتبية موظفة ببراعة، من خلال لغة ترشحها لتكون قصة نموذجية بنائياً.
ويوظف القاص الحلم في قصصه، ويجعله جزءاً من نسيج الحدث، ويبني عليه تطوراً حدثياً، على نحو ما نجد في قصة "عقد اللؤلؤ" 1/7-12، كما يوظف الرسالة في قصة "الصورة" 1/13-16، وفي افتتاحية قصة "رد السيد الوزير" 1/91.
والسمة الغالبة التي تسم معظم الإنتاج القصصي لغالب خلايلي هي الواقعية التي تعدّ الحدث الواقعي أغزر مصادر كتابته، وإن كان المرء لا يعدم وجود قصص رمزية، مثل قصة "الحب القاتل" 1/17-22 التي تعدّ قصة رمزية ناجحة، ولكن الذي يحدّ من نجاحها كونها مكشوفة النهاية بسبب اعتمادها على حقيقة موت ذكر النحل الذي يلقح الملكة. ومثل قصة "طلاق بالثلاثة" 3/107-114، وهي تقوم على علاقة تنتهي (بالطلاق!!) بين الكلمة والفعل، ومشكلة هذه العلاقة من الناحية الصناعية النحوية أن الفعل كلمة، وأن الكلمة اسم وفعل وحرف.
وقد أساء البناء الذهني للحكاية إلى بعض القصص، إذ بدت مفصلة على قد الفكرة، على نحو ما نجد في قصة "الشجرة اليابسة" التي قيدتها اللغة التقريرية في بعض سياقاتها، وأنتجت سرداً يصلح للتنظير من مثل السياق التالي:
"كان من الممكن أن تصبح الشجرة عظيمة لولا هذا الاهتمام الزائد عن الحدّ بها، فقد أفسدتها كثرة العناية والدلال.. إلخ" 3/81.
بقي أن نشير أخيراً إلى أن غالب خلايلي يستخدم لغة صحيحة فصيحة سهلة تعتمد على التصوير الموظف في معظم الأحيان، على نحو ما نجد في وصف قرية الكفر في قصة الثور العجيب 1/33، وتقدم في مرات متعددة دلالات مزدوجة، كما في قصة "التربية الحديثة" حيث تقول الأم للأب لأنه صرخ على الطفل: "أرجوك لا تصرخ. التزم سياسة ضبط النفس" 4/59.
ويلفت النظر أن القاص لا يستخدم العبارات ذات الرصيد الشعبي، إلا ابتداءً من مجموعته الرابعة، وهو استخدام يفتح المجال واسعاً أمام إعطاء النص القصصي بعداً جمالياً إضافة فيما إذا أحسن استثماره.
مصادر الدراسة:
1- غالب خلايلي: عقد اللؤلؤ، دار عواد، دمشق/ 1996.
2- غالب خلايلي: الرحيل، دار عواد، دمشق، 1997.
3- غالب خلايلي: اغتراب، دار يعرب، دمشق/ 2001.
4- غالب خلايلي: في وجه العاصفة، مطبعة اليازجي، دمشق، 2007.
[1] هكذا في الأصل، والصواب: ما زالت.