لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

دراسة: سميرة عزام: الحدث والحبكة

سميرة عزام:الحدث والحبكة

د. يوسف حطيني



يمـارس الحـدث أثـره بشكـل رئيسـي فـي تـحقيـق وحـدة الانطبـاع الـتي يسعـى كـاتب القصـة القصيرة إلـى تحقيقها ، ويتوسل المؤلف من خلال إسناد أحداثه إلى شخصياته القصصية إحداث وحدة الانطباع هذه ، بوصفها هدف القصة القصيرة الذي يحدد تحقيقُه أو عدمه مدى نجاحها .
من هنا لا يمكن تجاوز الحدث في الدراسة القصصية ، ذلك أنه يشد الحكاية، ضمن حبكة القصة ، من بدايتها إلى نهايتها . حتى في حال عدم حضور الحدث بشكل قوي ، فإنه يحضر على شكل غلالة شفيفة مختفياً وراء عناصر القص الأخرى ، إذ يغدو تطور المشهد وتطور الزمن ظلاً لازماً لتطور الأحداث .
الواقعي والمتخيّل : ينبني أفق الواقعي والمتخيل في القص على أرضية التحفيز الكتابي وعلى مستوى الوعي والثقافة أيضاً . وإذا كانت الكاتبة الراحلة سميرة عـزام لم تترجم سوى الأدبيات التقليدية وبعض المجموعات القصصية الأجنبية فـإن ذلك يوحي إلى حد بعيد بأن اختفاء المتخيل في أدبها يعود إلى عدم اطلاعها ، فيما نظن على كتب النقد الحديث البنيوي والمثيولوجي ، نضيف إلى ذلك نوعية الحوافز التي دعت الكاتبة للكتابة ، وهي التي علمتها أمها أن الناس حكايات ( 1 ) ، فالكاتبة تسعى إلى تصوير حكايات الناس في الواقع لا إلى التهويم في فضاء مطلق .
إن سميرة عزام تنتمي إلى مدرسة “ فتـات الحياة “ ( 2 ) التي تهتم بالواقع من خلال التقاط التفاصيل الإنسانية الصغيرة ، إذ يعود جزء كبير من أسباب النجاح الذي حققته إلى واقعية الحـدث في قصصها ، حيث بدا الواقع مصدراً ثـرّاً لإلهامها بعشرات القصص . ليس فقط عن طريق التجربة الشخصية ، وإنما عن طريق التجربة الشخصية المعايشة والسماع .
إذ “ ليس من الضروري أن تكون التجربة المباشرة المصدر لمعرفة الحياة والخبرة بها ففي الكتب أنواع مختلفة من الخبرة التي يحتاج إليها الكاتب مهما اتسع أفقه ، كما أن في الاتصال بالناس والتحدث إليهم ألواناً من الخبرة التي قد تعجز عن الحصول عليها بالتجربة المباشرة “ ( 3 ) .
إن مثل هذا الافتراض لا يلغي دور الكاتبة في إبداع الواقع الفني الذي تسعى إلى إيهامنا بواقعيته ، مـن خـلال إدخال التجربة الشخصية أو المسموعة أو المتخيلة إلى مخـبرها القصصـي ، وإضفاء بعض القرائن ذات الصبغة الواقعية عليه ، كذكر الأماكن المعروفة ، والأحداث التي يمكن حدوثها في ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية سائدة ، تعاني منها الشخصيات القصصية وكثيرٌ من القراء في الوقت ذاته .
ومثل هذا الإيهام يتم بواسطة الحدث ذاته ، ففي قصة "في الطريق إلى برك سليمان " ( 4 تستفيد الكاتبة من الواقع السياسي المأساوي الذي عانى منها شعبها الفلسطيني .
إذ تحكـي هذه القصة حكاية النزوح الجماعي الذي عانى منه الفلسطينيون نتيجة النكبة . وما من شك أن مكابدة الكاتبة مثل هذا الشعور المرير بالاقتلاع من الجذور عبر الترحيل هي التي دعتها إلى كتابة هذه القصة حيث تكاد تتطابق وحدة الانطباع الذي كابدته الكاتبة جرّاء ذلك مع وحدة الانطباع التي تبغي غرسها في قـارئ هذه القصة .
كما استفادت الكاتبة من الظرف الاقتصادي العام ، ونسجت كثيراً من قصصها عبر حوادث مبنية على معرفة دقيقة بهذا الظرف ، حيث يحس القارئ في كثير من الأحيان ، أنه بطل لقصصها من خلال حوادث مشابهة جرت معه أو كانت ذات صلة حميمة به . وما ذلك إلا لأنه يعاني ، في معظم الحالات ، القهر الاقتصادي الذي يتجسد فقراً وجوعاً وقد تستند الكاتبة إلى مشاهداتها للظروف ذات الطبيعة النفسية والاجتماعية ، حيث تقدم الواقع قريباً من الجو المحيط . فتفاصيل قصة " أطفـال الآخـريـن " ( 5 ) كلها”عميقة الصلة بالمحيط العربي المحلي . . تجري في حياتنا كل يوم ، وإن كـان مثل ذلك لا يكفي لخلق قصة ناجحة فإنه ولا ريب أحد عناصر النجاح . وذلك أن الموضوعات المحلية موضوعات تعاش وتمتلك حيوية الحياة . “ ( 6 )
على أن الإيهام بالواقع فنياً لا يقتصر عند الكاتبة على الإيهام بواقعية الأحداث فقط ، وإنما يتم ذلك أيضاً من خلال واقعية المكان والزمن ، ففي حين يختفي المكان المتخيل ، بالمعنى الفني للكلمة ، من قصة " الفيضان " ( 7 ) يتم الإيهام بالواقعي من خلال أسماء الأمكنة فهناك طرابلس وساحة البرج ، ومحلة الجسر مما يزيد القارئ بواقعية الحدث تذكر الشخصية الرئيسية التفاصيل الإنسانية الصغيرة ، إذ تبلغها أنباء الفيضان الذي أصاب المنطقة التي يسكن فيها أهلها :
“ لعـل بيتها الذي فتحت عينيها عليه في محلة ( الجسر ) قد غدا كتلة طين ، فمسح الأثر الوحيد الذي يذكرها بالصغيرة التي كانت تلهو في ( جورة ) أمام نار الفرن ( .... ) ولا تخرج إلا ووجهها مستدير أحمر كواحد من تلك الأرغفة الشهية السخنة . ولعل أهل الحارة الآن ، أم علي القابلة . . حسين البقال ، الحاج سعدي المقري ، قد باتوا الآن جثثاً تطفو على سطح الماء كسمكات خنقها ( التوربيـد ) “ ( 8 ) .
أمـا الإيهام بالزمن الواقعي فيتم عـبر الإشارة إلى زمن محدد ، من خلال ذكـر آثـاره كما في قصة " في الطـريق إلى برك سليمان " ( 9 ) التي تصف نزوح الفلسطينين عام 1948 ، أو من خلال ذكره مباشرة كما في قصة " في المفكرة " ( 10 ) إذ تقول الكاتبة :
“ غداً تـمد إلى التقويم يداً فتنزعه وتعلق الجديد بدلاً منه . وغداً يتحتم عليها أن ترقم في رسائلها عام اثنين وخمسين بعد الألف والتسعمئة “ ( 11 ) .
علـى ان كل ما تقدم لا يعفي الكاتبة من تقصيرها في صياغة المتخيل الحدثي والزماني والمكاني ، وإن كان الظرف الأدبي السائد يشفع لها إلى حد ما ، ذلك أن عبارات مثل
“ لا تنساق سميرة مـع الخيال “ ( 12 ) لا تبدو مقنعة ، إذا عرفنا الإمتدادات الدلالية التي يمكن أن يقدمها التخيل على المستوى المثيولوجي و الغرائبي ، حيث يسمح مثل هذا التخيل بتقديم مستويات دلالية عدة للنص ولا يقتصر فقط على دلالته المباشرة ( 13 )

طرائق عرض الحدث :
تعرض سميرة عزام حدثها الواقعي ، مستفيدة من طرائق العرض كافةً ، فالحوادث التي تروى إنما تروى من خلال الطريقة المباشرة للسرد أو عبر المونولوجات والتداعيات والرسائل ، إذ يقدم الحدث عبر إحدى هذه الطرائق مما يمنح القصص بعض التنوع الذي يخلص القارئ من إملال مفترض ، ناجم عن تكرار نمط واحد من أنماط عرض الأحداث . ويتضح من خلال طرق عرض الأحداث أن الكاتبة تلجأ في الأغلب الأعم إلى طريقة السرد المباشـر في تقديم الأحداث حيث تبدو راوية خارجية للحدث حيناً ، وراوية ذات وشيجة قوية بما يجري حيناً أخر . في النمط الأول يختفي الراوي خلف الشخصيات ، “ بحيث تتقدم الأحداث كمشهد يجري أمام أعيننا ، وبحيث تنطق الشخصيات بلسانها “ (14) ، ويبدو الراوي في هذا النمط كلي العلم بما يجري ، وما سيجري ، حيث تبدو اللعبة الفنية هي لعبة الراوي لا لعبة الكاتبة ، وفي هذا السياق تغدو المهارات المستخدمـة في تقديم القص ، في قصة " الظـل الكبـير "( 15 ) كالاسترجاع والاستباق ، هي مهارات الراوي . أما الكاتبة فإنها قد اكتفت بتقديم الراوي العارف بالحدث وبتقنيات السرد أيضاً .
في النمط الثاني تقدم الكاتبة راوي القصة جزءاً من اللعبة الفنية ، إذ يستخدم ضـمير المتكلم ، ويعاني الظروف العامة التي تعاني منها الشخصيات ، وهو لا يعرف من الحوادث سوى ما يؤهله لتمثل الحالة الراهنة وسردها ، حيث تغدو المعرفة الكلية من نصيب الكاتبة التي تُخَصُّ بها دون الراوي .
من هنا فإن انتظار بطلة “ على الدرب “ ( 16 ) خطيبها بعد انتهاء العمل في معمل البيرة هو انتظار جاهـل بالعواقب ، ولو كانت البطلة كلية العلم لما بددت الوقت بانتظار حلّ عقدة العمل القصصي :
“ لم تأخر ؟ أتراه غادر المصنع مبكراً على غير عادة فلم أحس به وسط تلك الدوامة من حركة الآلات والآدمين ؟ بدأت أخاف . . . “ ( 17 ) .
وتلجأ الكاتبة إلى استخدام ضمير المتكلم في السرد ، حين تشعر نفسها قريبة من شخصيتها إلى حد كبير ، خاصة فيما يتعلق بالشخصيات الأنثوية . وتبدو طريقة الرسائل، التي هي طريقة معروفة على نطاق واسع ، إحدى الطرق التي تستخدمها سميرة عزام بإتقان .
وهذه الطريقة ، بالطبع ، تقترب من نمط القص الثاني للسرد المباشر في كونها ضمير المتكلم ، ولكنها تختلف عنه في أن كتابتها لا تحمل مفاجآت حدثية لكاتب الرسالة . وتستخدم الكاتبة هذه التقنية بنجاح في قصة " حكايتها " ( 18 ) حيث تقدم قصة البغي كاملة من خلال رسالة تبعثها إلى أخيها الذي جرته فكرة الانتقام إليها .
وإذا كانت رواية كل التفصيلات الصغيرة للأخ في الرسالة مسوغة بسبب صغر سنه حين وقوع الأخت في الرذيلة وجهله بأسباب ذلك فإن هذا لا يسوغ ذكر كل التفاصيل المذكورة في القصة / الرسالة " مـامـا " حيث “ يروي الزوج لزوجته السابقة حكايته ، كلها بتقاصيل الواقعة ، مع أن الزوجة تعرف هذه الحكاية ، ولا حاجة إليها ، وهذا ما يشعر القارئ بالتصنع في تركيب القصة “ ( 19 ) .
كما تعطي الكاتبة التداعيات الشخصية دوراً في عـرض الِأحداث ، وإن كانت هذه التداعيات لا تعـدو كونها حدثاً ماضياً أو محفزاً لحدث لاحق . فالتداعيات تحكي غالباً ، عن زمن مضى تتذكره أم تحلم بعودته .
من هنا فإن هذه التداعيات ، بوصفها إحدى طرق عرض الأحداث تمثل في الغالب توقفاً على صعيد التطور الحدثي ، أما فيما يتعلق بقيام القصة كاملة على التداعيات أو الأحلام فهذا أمر لم نلحظه عند الكاتبة في مجموعاتها الخمس .
وتـأتي التداعيـات عنـد الكاتبـة من خـلال نمط السرد المبـاشر أو الرسـائل ، ففي قصة " في المفكرة " ( 20 ) تقدم الكاتبة / الراوي بطلة القصة في تداعياتها :
“ وهكذا خلت الفكرة من إثارة تخْلّف معها الذكرى ، أو عبارة يقف عندها الفكر لحظات . . وماذا كانت حين خطت هذه الإشارات ؟ إنها نفسها لا تدري ! . . فما عاشت يوماً إلا كما تعيش اليوم ، وستعيش إلى الأبد .
إلـى الأبد ... وأفزعتها هذه الكلمة . . فهي ذات مطاطية لا تحتمل . . إلى الأبد .. هذه تعني بالنسبة إليها مكتباً عتيقاً .. ومحبرة ملوثة وطابعة تبدو حروفها وكأنها أسنان عالقة في جمجمة “ ( 21 ) .
كما تقدم الكاتبة التداعي من خلال نمط السرد بضمير الأنا ، وهو النمط الأقرب إلى الإيهامم بالواقعي ويمكن للتمـثيل أن نشــير إلى السياق التالي في قصة " نافخ الدواليب" ( 22 ) .
“ هنا وضح الأمر لدي ، إذ لم تكن هذه المرة الأولى التي تعبث فيها بدراجتي ، وتذكرت ما كنت أسمعه من بعض أصدقائي كيف كانوا يقبلون على دراجاتهم التي يتركونها بقرب النادي أو السينما أو منازلهم فيجدون العجلات وقد أفرغ هواؤها “ ( 23 ) .
إن هذه الطريقة في استخدام التداعيات ، أو التذكر ، توهمنا بالواقعي ، وتساعد أيضاً على ترسيخ الفني ، بوصف هذه التقنية – التي هي الاسترجاع – إحدى طرق تقديم الزمن كما سنرى في فصل لاحق .
الحبكـــة :
يقصد بحبكة القصة “ سلسلة الحوادث التي تجري فيها ، مرتبطة عادة برابط السببية ، وهي لا تفصل عن الشخصيات إلا فصلاً صناعياً مؤقتاً . وذلك لتسهيل الدراسة ، فالقاص يعرض علينا شخصياته دائماً ، وهي متفاعلة مع الحوادث ، متأثرة بها ، لا يفصلها عنه بوجهه من الوجوه “ ( 24 ) .
من هنا فإن فعل الشخصيات في الحوادث من خلال الحبكة يكون مسوغاً تماماً ، أو هكذا يفترض أن يكون ، إذ تنطلق الشخصيات بالحوادث من بدايتها وصولاً إلى عقدتها فنهايتها .
وأما العقدة فمحكومة أيضاً برابط السببية وهي تتضمن صراعاً “ وهو إما أن يكون صـراعاً ضد الأقدار أو الظـروف الاجتماعية ، أو صراعاً بين الشخصيات أو صراعاً نفسياً داخل الشخصية نفسها “ ( 25 ) .
ويمكن أن نمثل للنوعين الأولين من الصراع ( ضد الأقدار و الظروف الاجتماعية ) ببطلات القصص ذات الطابع الأنثوي الذي ينظمها ، حيث تحاول هذه الشخصيات تحقيق أنوثتها ولا يكـون ذلك إلا بتحدي الظلم الاجتماعي الممارس ضدها ، بوصفه قدراً لها . وللصراع بين الشخصيات يمكن أن نضرب قصة " الأعداء " ( 26 ) مثالاً فيما تبدو قصة " الأشياء الصغيرة " ( 27 ) مثالاً واضحاً على الصراع داخل الشخصية نفسها .
ويتوخى الكاتب عـادة من خلال تقديم عناصر الحبكة ، التي هي البداية والعقدة والحل ، إحداث أكبر الأثر في نفس القارئ . من هنا فإن هذا الأمر يكتسب أهمية قصوى في القصة القصيرة حيث وحدة الانطباع هي أقصى غاياتها .
لقد استطاعت سميرة عزام أن تنوع فـي تقديم عناصر حبكتها ، وإن كان الشكل الطاغي في هذا التقديم هو الشكل التقليدي الذي يبدو ذا سطوة واضحة على بناء الحبكة القصصية عندها ، غير أننا يمكن أن نجد كل طرائق بناء الحبكة مستخدمة خلال قصصها المختلفة .
سطوة البناء التقليدي :
لقد آثرت قصص المشرق العربي في المرحلة التي كتبت فيها عزام ، وهي مرحلة الخمسينات والستينيات ، السلامة فيما بتعلق بترتيب بناء الحبكة فقدمت معظمها ، باستثناءات قليلة جداً منها ، الأحداث بشكل يخلو من والتفرد والإبداع ، حيث كان الشكـل التقليدي طاغياً ، ولم تكن ثمة رغبة أو شجاعة لتخطي هذا الشكل ، لأن مثل هذا التخطي كان يحتاج ، بالإضافة إلى الجرأة ، عدة النقد التي لم يمتلكها كثير من القصاصين الذي اكتفوا بموهبتهم ولم يبحثوا عن روافع أخرى تمكنهم من التطور في هذا المجال .
ولم تستطع سميرة عزام التي عاشت ظروف الأدب العربي ، وعانت من عقابيله ، أن تتجاوز هذا الشكل التقليدي إلا قليلاً ، حيث لم تتجاوز محاولات تخطي هذا البناء أصابع اليد الواحدة .
إن كثيراً من القصص التي قدمتها الكاتبة مبدوءة بمقدمة تمهيدية تجعل الحدث متوقعاً ، الأمر الذي يخلصه في بعض الأحيان من الدهشة الفنية حيث تبدو كل الأحداث متوقعة . وإن كانت إثارة مثل هذا التوقع في نفس المتلقي تحتاج في الواقع إلى كثير من الإقناع المستند إلى معرفة جيدة باللعبة الفنية القصصية .
في قصة " المسافر " ( 28 ) ، وهي واحدة من عشرات القصص التي تبنى فيها الحبكة بناء تقليدياً ، تبدأ الكاتبة من وجود بطلة القصة في المطار ، ثم رؤيتها الناس الذين يودعون ، وانفعالها مع أسرة فرحات ، وبلوغ هذا الانفعال ذروته حين تتحد إنسانياً مع أسرة المسافر ، وتنسى أنها قادمة لتستقبل لا لتودع . ولا تحتوي القصة أية مفاجأة حدثية، أي أنها لا تحتوي لاحقاً حدثياً ، تسترجع تسويغه فيما بعد ، وإنما تلجأ إلى التمهيد لأحداثها بكل براعة ، ليكون بناؤها تقليدياً شامخاً لا تنقصه الأصالة ، وإن كان ينقصه التطور .
على أن هذا كله لا يعني أن الشكل التقليدي لا يمكن أن يؤدي ما تريده القصة ، ولكن طغيانه يوقع الإمـلال ، أضف إلى ذلك أن البداية التقليدية عاجزة عن إدخالك في الحدث المباشر لأن مثل هذا الإدخال يحتاج تقليدياً إلى تمهيد .
غير أن الكاتبة قدمت من خلال قصص قليلة أبنية غير تقليدية للحبكة ، فبدأت بالأحداث من منتصفها حيناً ، ومن آخرها حيناً آخر . فأما البداية من المنتصف فتعتمد عندها على وضـع الشخصية الرئيسية في ظرفها المؤدي إلى عقدتها ، ثم تنطلق بعد ذلك إلى تحليل الظروف السابقة التي قادت شخصيتها إلى عقدتها ، ثم تعود لتتابع تصعيد الحدث نحو الحل النهائي .
في قصة " الظل الكبير " ( 29 ) تبدأ الكاتبة من اللحظة التي تختار فيها البطلة أكثر أثوابها أنوثة ، لتذهب إلى بيت أستاذ الفلسفة ، ثم يرتد الحدث بعد ذلك نحو الظروف التي قادت إلى نشوء التعارف بينهما ، حيث اختارته البطلة لأنه يمثل طموحها في ( ثقافته ) . ثم تعود الكاتبة إلى متابعة حدثها نحو النهاية ، لتبرهن أن اختيار البطلة لم يكن موفقاً لأنه تم على أسس غير سليمة . ومثل هذه الطريقة تثير انتباه القارئ إلى حميمية الحدث حيث لم تنجح الكاتبة منذ اللحظة الأولى في جذب انتباهه .
ولعل طريقة البدء من النهاية ، ثم التطرق إلى الأحداث التي قادت إليها ، أن تكون أقل نجاحاً من الطريقة التي سبقتها ، ذلك أنها تثير الاهتمام منذ السطور الأولى بنتيجة تسعى القصة إلى تفسيرها ، في حين أن إثارة الاهتمام في الطريقة السابقة لها يعتمد على تطور الحدث الذي سيقود إلى شيء مجهول بالنسبة للقارئ .
وكانت سميرة عزام أقل نجاحاً في هذا النمـوذج الذي يمكن أن نمثـل له من خلال قصة " خبز الفداء " ( 30 ) التي تبدأ من التفجع على استشهاد سعاد ، من قبل رامز ورفاقه ، ثم تنطلق عن طريق ذكريات رامز ، إلى الأحداث الأولى منذ تعارفا في المستشفى ، إلى حبهما إلى لحظة استشهادها .
وإذا كان تفسير هذه النهاية التي ابتدأت بها القصة يؤمن لها نوعاً من التشويق ، فإنه يلغي في الوقت ذاته لهفة انتظار النهاية حيث يصبح التشويق الحدثي أقل أهمية في هذا النموذج .
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الخروج من مأزق طريقة ( الارتداد خلفاً ) في عرض الأحداث يكون بممارسة غرائبية من طراز ممتاز على مساحة القص ، حيث يثير في القارئ شكوكاً حول النهاية التي قدمت في بداية القصة ، الأمر الذي يكسبها التشويق الحدثي والتشويق التفسيري في آن واحد .
بنــاء الحبكـــة :
سبقت الإشارة إلى أن سميرة عزام لـم تعن بالتخيل ، غير أنها استطاعت كما سنرى من خلال اعتمادها على الحوادث والحبكة والعقدة ، تجاوز هذا النقص . ولعل المثير للغرابة أن يقرر الدكتور نـاصر الدين الأسد أن سميرة لا تعتمد” في قصصها على الحوادث ولا على الحبكة أو العقدة القصصية ، وإنما تستغني عن ذلك بقدرتها الرائعة على التصوير والتحليل “ ( 31 ) فالتحليل جزء من البنية السببية للحبكة ، وأما التصوير فهو أمر واضح الغياب في أدب سميرة وقد أشار إلى هذا الغياب الأستاذ يوسف اليوسف ( 32
إذاً تعنى الكاتبة عناية فائقة بتقديم الأحداث من خلال الحبكة ، وتهتم بتقديم عناصر حبكتها اهتماماً كبيراً ، وإذا كـنا قد أشرنا في الصفحات السابقة إلى اهتمامها ببناء العقدة فتبغي الإشارة هنا إلى عنصري الحبكة الآخرين ، وهما البداية والنهاية .
يقول إدغار آلن بو ، حول أهمية تضافر كل عناصر القص من أجل إحداث التأثير الواحد في القارئ ، فيما يتعلق ببداية القصة :”وإذا لم يستطع أن يعد لهذا التأثير من أول جملة فإنه يكون قد فشل في بداية خطواته “ ( 33 ) .
كيف تعاملت سميرة عزام مع مقدمات قصصها ؟ هل كانت هذه المقدمات ذات أثر بين في سير العمل القصصي أم أنها كانت بدايات تزيينية ، تأطيرية ؟
في الحق كانت الكاتبة تدرك أن الإخفاق في بداية القصة، هو إخفاق للقصة في لحظتها الأولى ، حتـى إن الكاتبة تستخدم عناوين القصص بوصفها جزءاً من البدايات الموحية ، وتمكن الإشارة هنا إلى عدد من القصص ، فيها ذلك الاختيار الواعي الدقيق للعناوين بوصفها جزءاً لا يتجزأ من بنية القص ، يضفي عليه مزيداً من الدلالة .
في قصة " عقب سيجارة " ( 34 ) يقوم العنوان على محورية هذا العقب في القصة ، فالولد الذي أراد أن يهرب من الفقر جمع الأعقاب ليبدل قطع الحلوى بها ، وهذه الأعقاب هي ذاتها التي قادته إلى المخفر ، وهي أيضاً التي أخرجت الأب من ورطته حين أحس أنه بحاجة إلى سيجارة حيث سارع الابن بإعطائه أحد الأعقاب التي يخبئها في جيبه .
وثمة قصة أخرى هي " الأعداء " ( 35 ) يحمل عنوانها دلالة ممتدة بأكثر من اتجاه ، فالعنوان يدل على الأصدقاء الذين جمعتهم لقمة العيش ، والصراع عليها يصبحون أعداء لكنهم يعودون أصدقاء عندما يتساوون في حرمانهم منها .
ومع ذلك فإن الدكتور هاشم ياغي بعد أن يبدي إعجابه برصد الحركات الخارجية للشخصيات ودوافعها الداخلية يقول :
“ ولكن الذي خان القصة وكاتبتها هذا العنوان الغريب العجيب الذي ينافي ما جاء في نهاية القصة نفسها “ ( 36 ) .
ومن أول بدهيات المقدمة عند عزام هي أن تكون تمهيدية لا تأطيرية ، بمعنى أن مقدمـات قصصها تضع الشخصيات ورؤاها في الإطار الزماني والمكاني والاجتماعي ، حيث لا تضيع الكاتبة هذا التمهيد سدى . .
في " قصة ستائر وردية " (37 ) نقرأ في السطور الأولى التمهيد التالي :
“ أبو خليل – تاجر العطارة الذي تفوح من دكانه في زاوية الحي روائح القرفة والقرنفل والحبهان والحنة – ذواقة نساء ولكن في الحلال . .. . فما جمع في ذمته أكثر من اثنتين أو ثلاثاً .
أما عدد النسوة اللاتي كان لهن في يوم من الأيام حظ الانتساب إلى حريمه فقد يتجاوز عشراً . . والوحيدة التي لم يسرحها أبو خليل بطلاق هي أولى زوجاته “ ( 38 ) .
في هذه المقدمة تذكر الكاتبة المكان وتقدم الشخصية الرئيسية وعقدتها النفسية ، الأمر الذي مكنها مـن دفع الأمور إلى نهايتها دون مشقة . ويمكن أن تقدم مثالاً آخر يدلل على أهمية التمهيد في بدايات قصص عزام ، وهو قصة " التباس " ( 39 ) حيث يُقدم الزمان والمكان والشخصيات وعقدة البطل النفسية من خلال السطور الأولى :
“ لم يكن بحاجة إلى من يؤكد له أنه محتاج لزوجته ، وقد نفض عن مفرقيه غبار الثامنة والثلاثين وبـات يضيق بقمصانه ، يحملها للمصبغة ويعيدها مرة كل أسبوع ، ولكنه كان بحاجة إلى مـن يختصر في نفسه التردد ويدل بإصبعه على واحدة بالذات ، ليشعر أنه لا يقف تماماً على أرض رخوة .
كان يتكئ على مجرفته قريباً من شريط الحديقة في أمسية صيفية ، وهو يجاذب جاره الكهل حديثاً من الأحـاديث التي يقذف بها عبر أسيجـة الحدائق ، حين فاتت وعمتها في الشارع “ ( 40 ) .
و تنطلق الكاتبة بعد أن تتأكد من نجاح البداية نحو نسج الخطوط المتشابكة لحوادث قصصها حيث تتوقف عنـاصر القص كـافة ليبـدو تطور الأحداث باتجاهها مقنعاً للقارئ ففي قصة " زواج العمة " ( 41 ) تحشد الكاتبة الشخصيات “ أم يوسف ،ناجية،
مسعود ، أبو شوقي ، أم شوقي ، ثم تحشد الزمن والمكان ورؤية الشخصيات لموت مسعود (كل حسب زاوية نظره المستندة إلى مصلحته ، مما يجعل تطور الحدث أمراً مقنعاً و لا يفاجىء بنية السرد ، ويغدو كل حدث ، بذلك مبنياً على الحوادث السابقة ورؤى الشخصيات مما يجعله مسوغاً تماماً . وعلى الرغم من النجاحات الكثيرة التي حققتها الكاتبة في هذا المجال فإنها أخفقت في أحيان قليلة في إقناعنـا بالتـطورات القصصية ، ففي قصة “ أشياء صغيرة “ ( 42) تقدم الكاتبة المصادفات ، بديلاً من السببية ، لإقناعنـا باللقاءات بين البطلة وحبيبها :
“ وما عساهن قائلات لو عرفن أن عنادها قد تزحزح منذ طالعها الوجه الأسمر للمرة الأولى في السيارة العامة ؟ “ ( 43)
" وكـانت الثانية في إحدى محال بيع المرطبات . . ظمئت مرة فدخلت بكتبها تطلب شيئاً وكان هناك “ ( 44)
“ والمرة الثالثة كانت في دار الكتب،قصدتها لتقرأ فصولاً مقررة من ( العقد الفريد ) فوجدته مكباً على كتاب “ ( 45)
“ وقفت مرة إلى كوة التذاكر في إحدى دور العرض ، ابتاعت تذكرة ، ولما استدارت رأته خلفها ينتظر دوره “ ( 46) إن كل السياقات اللفظية السابقة لا تسوغ تطور الحدث القصصي بحريـة الحركة التي تمارسها الشخصيات خلال هذا الحدث ، وإنما تعتمد علـى المصـادفات غير المقنعة ، إن عزام تكرر هذا الأسلوب في قصص أخرى ، غير أنه علـى الرغم من كل هذه المصادفات فإن الدكتورة نادرة السراج تقول في تعليقها على القصة :
“ وتمضي الكاتبة في قص الأحداث وترتيب اللقاءات بين البطل والبطلة بصورة عفوية وطبيعية لا مبالغة فيها ولا تهويل “ ( 47)
وربما تبدو الكاتبة مقنعة إلى حد كبير في استخـدامها طريقة الحبكة المعقدة المركبة التي تعتمد على إدخال قصص صغيرة داخل القصة الأصلية ، وذلك يبدو جلياً في قصة " لأنه يحبهم"( 48 ) إذ تقدم الكاتبة قصتها من خلال ثلاث قصص جزئية تبدو أنها تسير بخط موازٍ لسير الحـدث ، وهذه القصص القصيرة تكاد تسلبنا لبَّنا بخصوصيتها مما يؤثر سلباً على إمكانية إلحاقها ذهنياً بالخط الأصلي العام للقصة .
أما بالنسبة لنهاية القصص فتبدو الكاتبة معتمدة على عدة طرائق في تقديم نهايات قصصها ، فمنها أنها تجعل نهاية القصة هي نهاية الحدث ، فقصة " من بعيد "( 49 ) تجعل الكاتبة نهايتها حدثية ، حينما يقف الطالب لينقل ( الشرابة ) إلى الجهة اليمنى ليتكرس خريجاً جامعياً فتكون النهاية :
“ وحين وقف ليعدلها طفرت نظرة بلا إرادة منه نحوها ] نحو البغي التي أنفقت عليه [ فلمحها وقد قامت وانسلت من بين الصفوف ، وحيدة تشيعها النظرات ، ولا تبالي أن تنتظر لتهنئ ، أو حتى للتأكد أنه أحس بحضورها ، ولا تأبه أن تداري الرف فتصبر حتى ينفض الحفل والمحتفلون “( 50 ) .
وثمة نهايات موفقة في قصص سميرة عزام لا تعتمد فقط على الحدث ، وإنما تقدم الحدث النهائي تتويجاً لنسيج لغوي سابق ، حيث تبدو النهاية امتداداً لهذا النسيج.
ويمكن للتمثيل لهذا النسيج اللغوي من النهايات أن نشير إلى قصة " إلى حين " (51). التي تقوم في بداية القصة النسيج اللغوي التالي الذي يبين كيف كانت كبرى العمتين تعامل سعاد قبل أن تجعل منها مشروع زواج مدرٍ للأرباح :
“ وإذا مـا حدث ونامت دقائق أكثر من المعتاد ، فهناك صوت العمة الكبيرة يلعلع : ألم تستيقظ بنت الباشا ؟ ما شاء الله تراها ستظل نائمة إلى الظهيرة ؟ ومن يكنس الشرفة ويسقي الزرع ؟ أنا “( 52 ) .
ولكـن المعاملة تختلف معها حين ترى فيها العمتان مشروع زواج ناجح من ابن الجيران الغني ، حيث تمارسان إضافة إلى تدليلها نوعاً من البغاء الاجتماعي لإتمام هذا المشروع ، وحين تتبخر آمال العمتين مع سفر ابن الجيران إلى أمريكا للدراسة ، تأتي النهاية على الشكل التالي : " استيقظت ( سعاد ) على صوت شفيقة القديم يصيح :
- ألم تستيقظ بنت الباشا ؟ تراها ستظل نائمة إلى الظهيرة ؟ ومن يكنس الشرفة ويسقي أصص الزرع .. أنا ؟ "( 53 ) .
وتلجأ سميرة في بعض الأحيان إلى تقديم نهايتين حيث تكون الأولى نهاية الحدث فيما تكون الأخرى تزينية تجميلية تزيد في التأثير الذي يمكن أن تحدثه القصة .
في قصة " بائع الصحف " ( 54 ) تكون النهاية الأولى عندما يموت عبود بائع الصحف النشيط تحت عجلات الحافلة ، فيما تكون النهاية الثانية التي تزيد الإحساس بعمق المأساة حين يتحول عبود من بائع صحف يدلل على أخبارها إلى مجرد خبر في صحيفة . تأتي النهاية الثانية في السياق اللفظي التالي :
“ ولم أسمع صوتاً لبائع صحيفة . إلا واحداً رقيعاً يسعى في المساء منادياً على جرائده بصوت ناشز . وكان أكثر ما غاظني منه أن سمعته يدلل عيها بتفاصيل حادث عبود الذي مات تحت عجلات الحافلة “( 55 ) .
غير أن النهاية الثانية ينبغي ألا تكون شرحاً زائداً لأن نهاية القصة يجب أن تختتم بإحكام “دون أن تترك مجالاً لثغرات جديدة ، أو أية شروح تالية لها “ ( 56 ) ، وقد وقعت سميرة في أحيان قليلة في هذا المنزلق ، حيث قدمت شرحاً زائداً للنهايات يمكن الاستغناء عنها ، ومنها على سبيل المثال ، قصة " مجنون الجرس "( 57 ) إذ تنهي الكاتبة القصة ، بعد أن تنتهي فنياً ، بالعبارة التالية :
“ يومها تكرست في القرية شخصية جديدة باسم جديد ، حتى لكأنها عاشت قبلاً بلا اسم فمن يعرف لأبي مسعود اسماً غير مجنون الجرس “( 58 ) .
وكان يمكن للكاتبة أن تستغني عن هذه العبارة الإضافية ، ولا سيما أن اسم مجنون الجرس الذي أطلقته القرية على أبي مسعود هو عنوان القصة ، الأمر الذي يعني أن هذا الاسم لم يضف جديداً إلى نهاية القصة ، وأن عبارات النهاية المشار إليها لا تفيد في تقديم دلالة إضافية ، ويمكن حذفها دون أن يؤثر ذلك على تماسك النص .
فـي قصـة " الثمن "( 59 ) تعبر الكاتبة عن رؤية زوج البطلة للحياة على أساس أن زوجتـه لا تساوي لديه أكثر من جسد يمكن الحصول عليه حين يشاء ، وحين تتمنع عليـه زوجته في إحدى الليالي ، بسبب سهره المتكرر مع أصحاب الشركات والشقراوات والسمراوات ، يقول بشكل يوحي بأن ما يفعله هو (دعارة زوجية ) :
“ نعمت ، ما هو ثمن المعطف الذي قلت إنه أعجبك . كم … ألا تحبين .. مائتان .. ثلاثة أربعة .. تريدين المزيد .. خذي ، خذي “( 60 ) غير أن الكاتبة ، على الرغم من كل هذا الوضوح ، لا تكتفي بهذه النهاية ، بل تقدم شرحاً لها ، مما يبدو وكأنه استخفاف بعقل القارئ أو تعويد له على الكسل :
“ وشدت نعمت جفنيها أكثر فأكثر .. وغالبت انفعالها حين طوقها بذراعين قويتين كسر بهما أضلاعها ، كان الاشمئزاز يزحف على روحها فيمسح المرارة والضيق والانفعال والحيـاة وكل شيء . ولم تعد مع هذه الأوراق التي تغطي سريرها فتخنق إنسانيتها أكثر من جثة ،كأية جثة يدفع لها ثمن “ ( 61 )
رابعاً – الحدث والعناصر الأخرى :
غير أن الحدث لا ينبني بالضرورة اعتماداً على التصوير اللغوي المباشر لتطوره بين حال وآخر وإنما يمكن بناء الحدث عن طريق عناصر القص الأخرى أو بالتوازي معها
وإذا كانت الصلة الأساسية للحدث تقوم مع الشخصية ، بوصفها الفاعلة الأساسية فيه فإنه يقدم في قصص عزام ، وفي حدود ضيقة ، عن طريق الزمن والمكان . فمن خلال الزمن يمكن للكاتبة أن تقدم للحدث ، كما في السياق التالي :
“ وجـلس في العـراء على حجر خشن ، لذعته الشمس فلم يشـعر ، وعضه الجوع فلم يبال “ ( 62 ) . إذ إن الشمس والجوع هنا هما مؤشران زمنيان ولكن الكاتبة تستخدمها في تقديم الحدث .
ويمكن للمكان أن يقوم بدور مهم في تقديم الحدث ، ففي قصة " خبز الفـداء "( 63 ) يبدو الشاطئ ، جسر الرحيل ، جزءاً مكانياً من مساحة الحدث :
“ ولفظتهم السفن على ساحل عكا .. كتلاً بشرية يئن بعضها من الجروح وبعضها من الجوع وبعضها من الفزع “ ( 64 ) .
إذاً ، لقد كانت سميرة عزام مخلصة لواقعها ،لم يمنعها عزوفها عن التخيل من الإخلاص والإبداع في واقعيتها ، قدمت الواقع عبر السرد والحوار والرسائل والمنولوجات ، واستطاعت أن تحقق ، في بناء العقدة المتوازن والمسوغ ، تشويقاً وإثارة لقصصها ، وذلك من خلال اهتمامها بالبداية والعقدة والنهاية .
وإن كانت ثمة اخفاقات قليلة لديها ، هنا وهناك ، في تقديم الحدث المقنع ، فقد جاء ذلك شاذاً في قصصها ، لا يقاس عليه .
$ $ $

هوامش:
( 1 ) عزام ،سميرة : الظل الكبير ، ص 5 حيث تقدم الكاتبة الإهداء التالي " إلى التي أسمعتني أول حكاية ، فتعلمت أن الناس حكايات . . إلى أمـي ".
( 2 ) وعلى النقيض من مدرسة " فتات الحياة " تقف مدرسة البناء الفني المحكم التي تهتم اهتماما شديداً بالبناء . والحبكة والتشويق والخاتمة المفاجئة غير المتوقعة ، يمكن لمقارنة ميزات المدرستين مراجعة : دوارة ، فؤاد : في القصة القصيرة ، نشر مركز كتب الشرق الأوسط ، القاهرة ، 1966 . سلسلة ( الألف كتاب ) التي تصدر بإشراف الإدارة العامة للثقافة بوزارة التعليم العالي في جمهورية مصر العربية ، بمعاونة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والعلوم الاجتماعية ص9 - 10 .
( 3 ) نجم ، د . محمد يوسف : فن القصة ، دار بيروت للطباعة والنشر ، بيروت ، 1959 ، ص 69 .
( 4 ) عزام ، سميرة ، وقصص أخرى ص ص 23 _ 32 .
( 5 ) المصدر نفسه ، ص ص 115 _ 126 .
( 6 ) الملائكة ،نازك : أطفال آخرين لسميرة عزام / مجلة الآداب ، بيروت ، العدد 12( كانون الأول ) ، 1959 ، ص 4 .
( 7 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 55 – 63 .
( 8 ) المصدر نفسه ، ص ص 61 – 62 .
( 9 ) عزام سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 23 – 32 .
( 10 ) عزام سميرة : أشياء أخرى ، ص ص 67 – 72 .
( 11 ) المصدر نفسه ، ص ص 69 – 70 .
( 12 ) غريب ، روز : أشياء صغيرة للآنسة سميرة عزام ، مرجع سابق ص 65 .
( 13 ) للتدليل على ما يمكن أن تقدمه الغرائبية والمثيولوجية على الصعيد الدلالي ، تمكن مراجعة :
ـ مجموعة من الكتاب : دراسات في القصة العربية ، وقائع ندوة مكناس مؤسسة الأبحاث العربية بيروت ،ط1 ،1986 وفيه مقالة لإدريس الناقوري بعنوان ( الواقعية الرمزية في القصة المغربية ) ص ص 229-247 عام 1991 .
-حليفي ، شعيب :شعرية الرواية الفانتاستيكية – مجلة الكرمل – تونس – العدد 40 –41 عام 1991 ، ص ص 107 – 137
( 14 ) “ ميـّز تودورف نموذجين للراوي :
- الراوي الذي هو مجرد شاهد ، وهو راو ينقل الأحداث ويحكي عن الشخصيات .
- الراوي الذي يختفي خلف الشخصيات بحيث تتقدم الأحداث كمشهد يجري أمام أعيننا ، بحيث تنطق الشخصيات بلسانها “.
- مجموعة من الكتاب : دراسات في القصة العربية ، وقائع ندوة مكناس ، مرجع سابق ، ص 30 في مقالة ليمنى العيد ( حكمت الصباغ ) بعنوان ( القصة القصيرة والأسئلة الأولى : اللغة / الأدب الايديولوحيا ) ص ص 21 – 51 .
( 15 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص ص7 – 17 .
( 16 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 59 – 65 .
( 17 ) المصدر نفسه ، ص 64 .
( 18 ) نفسه ، ص ص 17 – 26 .
( 19 ) إدريس ، سهيل : أشياء صغيرة ، مجموعة قصصية للآنسة سميرة عزام ، مرجع سابق ص 34 .
( 20 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 67 – 72 .
( 21 ) المصدر نفسه ص 70 .
( 22 ) نفسه ، ص ص 99 – 106 .
( 23 ) نفسه ، ص 102 .
( 24 ) نجم ، د . محمد يوسف ، فن القصة ، مرجع سابق ، ص63 .
( 25 ) الشاروني ، يوسف : القصة الصغيرة نظرياً وتطبيقياً ، كتاب الهلال ، العدد 316 ، نيسان 1977 – د . م – د . ن ص ص 67 – 68 .
( 26 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 45 – 54 .
( 27 ) سميرة ، عزام : أشياء صغيرة ، ص ص 5 – 15 .
( 28 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 95 – 102 .
( 29 ) عزام سميرة : الظل الكبير ص ص 7 – 17 .
( 30 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 73 – 93 .
( 31 ) الأسـد ، ناصر الدين : الاتجاهات الأدبية الحديثة في فلسطين والأردن ، جامعة الدول العربية معهد الدراسات العربية العالية [ القاهرة ] ، 1957 ، ص 102 .
( 32 ) اليوسف ، يوسف سامي : الشخصية والقيمة والاسلوب ، دراسة في أدب سميرة عزام ، مرجع سابق ، ص 31 .
( 33 ) عياد ، د . شكري محمد : القصة القصيرة في مصر ( دراسة في تأصيل فن أدبي ) ، مرجع سابق ص 32 .
( 34 ) عزام سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 49 – 58 .
( 35 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ص ص 45 – 54 .
( 36 ) ياغي ، د . هاشم : القصة القصيرة في فلسطين والأردن( 1850 – 1965 ) مرجع سابق ص 193
( 37 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص ص 107 – 116 .
( 38 ) المصدر نفسه ، ص 109 .
( 39 ) عزام ، سميرة : العيد من النافذة الغربية ص ص 31 – 36 .
( 40 ) المصدر نفسه ، ص 33 .
( 41 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 73 – 81 .
( 42) المصدر نفسه : ص ص 5_15
( 43) نفسه ، ص 9.
( 44) نفسه ، ص9 أيضا.
( 45) نفسه ، ص10 .
( 46) نفسه ، ص 11.
( 47) السراج ، د . نادرة : سميرة عزام فـي ذكراها الخامسة ، دراسة في فنها القصصي ، مرجع سابق ، ص 72 .
( 48 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 5 – 25 .
( 49 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 137 – 147 .
( 50 ) المصدر نفسه ، ص 47 .
( 51 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 27 – 39 .
( 52 ) المصدر نفسه ، ص 29 – 30 . ( 53 ) نفسه ، ص 39 .
( 54 ) نفسه ، ص ص 91 – 97 .
( 55 ) نفسه ، ص 97 .
( 56 ) مكي ، د . الطاهر : القصة القصيرة دراسة ومختارات ، دار المعارف ، القاهرة ، ط1 ، 1977 ، ص 65 .
( 57 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 105 – 110 .
( 58 ) المصدر نفسه ، ص 110 .
( 59 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 149 – 157 .
( 60 ) المصدر نفسه ، ص 157 .
(61 ) نفسه ، ص 157 .
(62 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 119 – 120 .
(63 ) عزام ، سميرة :وقصص أخرى ، ص ص 73 – 93 .
( 64 ) المصدر نفسه ، ص 84 .