لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الخميس، 29 أكتوبر 2009

دراسة: حول رواية تعالي نطير أوراق الخريف

تعالي نطير أوراق الخريف
رواية التاريخ والخراب.. رواية الأمل

د. يوسف حطيني

تعالج رواية "تعالي نطير أوراق الخريف" للأستاذ حسن حميد موضوعاً أثيراً في الأدب الفلسطيني، إنه موضوع المخيم الفلسطيني الذي سبق إن تناولته روايات عديدة من زوايا مختلفة[1]، غير أن ميزة رواية حميد أنها تنظر غلى المخيم نظرة مزدوجة، تدين العسف، لتضيء نهار الشخصيات، تصور البؤس لتبني رؤى مجتمع حرّ يتشكل حديثاً.. إنها رواية تحتفي بتاريخ المخيم: ولادته، ونشأته، وعذابات أهله، وتضحياتهم، دون أن تهمل الحراك الاجتماعي والسياسي الذي أفرزه وجود الفلسطينيين فيه، ودون أن تلهث وراء تمجيد "الثورجيّة" التي أفرزت قيادات لا همّ لمعظمها إلا تحقيق الطموحات الشخصية الضيقة.
ومن الطريف أن تقدم هذه الرواية منذ البداية احترازاً مفاده أن التوافق بين أية شخصية روائية وبين أية شخصية حقيقية هو من قبيل المصادفة، ذلك أن هذا الاحتراز الذي قد يبعد التهمة المباشرة عن أشخاص بعينهم يوسّع دائرة المتهمين، ويؤكد في الوقت ذاته أنّ الأمراض السياسية والاجتماعية التي عانت منها الساحة الفلسطينية ليست مجرد حالة فردية.
ولادة مخيم:
تبدأ الرواية بالحديث عن ولادة مخيم جرمانا على مزبلة تقع جنوب دمشق، إذ جاء أبناء قرى سهل الحولة ورفعوا القمامة من مكانها: "في ساعاتهم الأولى، وتحت لهيب الشمس الكاوي، تعاون الأهالي، وحفروا خندقاً عميقاً، ورموا القمامة فيه، وطووه عليها وعلى رائحتها العفنة.
وبدؤوا ببناء الخيام، تساعدوا جميعاً في بنائها، وشد حبالها، ودقّ أوتادها، وتسوية أرضها (...) ويوماً إثر يوم استقرّت الأشياء
[2]" ص11
وحين أقام الدبوسي صاحب البستان المجاور سوراً بين بستانه وأهل المخيم تعلموا بناء الجدران وبنوا بيوتاً طينية.. واطمأن الناس أنّ بيوتهم ستكون في مأمن من المطر، اطمأنوا ذلك الاطمئنان الموجع الذي يعني الاستقرار الاضطراري في مخيم بعيد عن الوطن.. وعلى الرغم من أن المخيم يتغيّر اجتماعياً، وتنتقل النساء فيه من سرقة الخضر وتسولها إلى العمل في بستان الدبوسي، إلى العمل في المصانع، وينتقل الأطفال والرجال فيه من سرد الذكريات إلى التعلم والتعليم والالتحاق بـ (الفدائية)، فإنه بقي على مدى الرواية محافظاً على أصالته، فبقي، بوصفه مكاناً، بيئة حاضنة للتراث الشعبي والثورة، نابذاً لأوراق الخريف اليابسة التي تبرعم على شجرة الثورة.
ويبدو البيت في المخيم وجهاً من أوجه الشقاء الإنساني الذي لا يستسلم، ويظهر شقاؤه من خلال اللباس والطعام الذي يكاد يقتصر على الشوربة والبرغل، ولا يقف حسن حميد عند حدود اقتصار الشقاء على أهل المخيم بل يسحب ذلك، في لقطة إنسانية نادرة على قططه أيضاً، قطط المخيم التي "كادت تتحول من حيوانات رقيقة، عذبة آكلة للحوم.. إلى حيوانات رقيقة عذبة (...) تعيش على بواقي البرغل، والخبز اليابس، وشوربة اللبن المطبوخ، وفضلات الطعام الأخرى".. ص194
وهي لذلك - أي القطط – تختلف عن قطط المدينة التي يأتيها لحمها الخاص يومياً، ص197. والروائي، حين يضع قطط المخيم في صورة مقابلة للقطة البيضاء التي تعيش في كنف ناجي درويش الذي يعيش بدوره في كنف إلهام النوفي، يشكّل أحد وجوه المقارنة الحادة التي يجريها حسن حميد بين الداخل والخارج، فالبيت الذي تحوّل من خيمة إلى جدران طينية يقف في قبالة بيت المدينة الذي يختلف عنه اختلافاً كبيراً، وهذا التغير يجسد بالضرورة التغيّر الذي يطرأ على شخصيات الرواية التي تتحرك في الأمكنة:
"وأبدت إلهام النوفي حرصاً كبيراً على تأمين كل ما يحتاج إليه، ملأت ثلاجة غرفته بأصناف عديدة من الأطعمة، وملأت خزتنة غرفته بالكتب، والأوراق، والأقلام، والثياب، ووفرت له القهوة والشاي، ونسّقت النباتات والزهور التي جلبتها، واقتنت له طيراً صغيراً، لونه أصفر، له صوت جميل، ورافقته إلا الأمسيات الأدبية.." ص189
"في غرفته الصغيرة، كل شيء يذكّر ناجي درويش بلمسات إلهام النوفي الساحرة، المكتب الخشبي الصغير البني اللون، الذي يكتب عليه، وكرسي الخيزران الأصفر، ومقاعد جلوسه، وجلوس ضيوفه، ونباتات الزينة (...) وصحون رماد السكاير النحاسية، والسجادة الزاهية الألوان المرمية في قاع غرفته، وإبريق الماء وكاسات الشراب، والتلفزيون، والفيديو، والمسجل، وأرفف المكتبة البلاستيكية البيض، والكتب، وسريره الواسع، وشراشفه الملونة، ومخداته البيض، وملابسه النظيفة المكوية.." 205
أما مقبرة المخيم التي تشكّل رمزاً خالداً من رموز تضحية أبنائه، فقد حرص الروائي حرصاً شديداً أن يجعلها تتطور من حالة الوحشة التي كانت عليها في البداية، إلى حالة الأنس التي انتهت إليها، ليس فقط بسبب مشاتل الحبق والريحان، وإنما بسبب توافد الشهداء الذين يهبونها روحها، مما يؤكد أنها، على المستوى الرمزي، واهبة للحياة، وهذا هو الأمر الذي قاد عطية/ حارسها إلى التآلف معها ومع سكّانها:
"في بداية الأمر كانت المقبرة أشبه بقطعة من الأرض الجرداء الباهتة، مقبرة موحشة، موجعة.. حالمة بالناس والخضرة والماء والدفء. أما اليوم فهي كذلك تماما! لقد تحقق حلم المقبرة، فبات دفؤها عالياً.
وزعت مشاتل الحبق والريحان والبيلسان والورد والدودحان في جوانبها كافة، وباتت أشجار الكينا وارفة الظلال، وشجيرات الزيزفون المعطرة، وأشجار الصفصاف الحانية المتراخية فوق مياه الساقية.. تسيجها من الناحيتين الجنوبية والشرقية" ص110.
كما اهتمّ الروائي بتكريس الذاكرة الوطنية الفلسطينية، من خلال التاريخ (الحديث عن عوج بن عناق، وذكر المرويات الشعبية) والتراث والذكريات، والتأثيث، وحتى من خلال ألعاب الأطفال، لأنه يدرك أنّ خوض معركة الذاكرة الشعبية لا يقل أهمية عن خوض أية معركة أخرى:
"كان الوقت عند الزوال تقريباً، حيث توازع أولاد المخيم الحارات والأزقة وأطراف المخيم.. لعباً وركضاً وضجة وعراكاً.. قسم منهم يلعب لعبة الـ (عيش)، وآخرون يلعبون بالكرة، أما الأولاد الأكثر قرباً من بيت فضية العطا الله، فكانوا يلعبون لعبة الـ (سبعة أحجار)..." ص77
كما حرص الروائي على إبراز وجوه الشقاء الفلسطيني في المخيمات، ذلك الشقاء القادر على إفراز شخصيات نقية تسعى إلى العيش بشرف، من مثل بديعة التي تبيع الفلافل في الصباح وسندويش (الفشافش) و(الكبدة) المشوية في المساء، ومثل الأولاد الذين كانوا يبيعون (حلاوة السميد) و"عرانيس الذرة"، لذلك حين كان أبو حسن الشلبي مدرساً لمادة التاريخ في إعدادية الكرمل في مخيم اليرموك "كانت لعنات الأمهات له ولأهله تتعالى عند عودة أولادهن من المدرسة، حين يرين أصابعه المتورمة، ذلك الورم الذي سيحول دون بيع "حلاوة السميد" و"عرانيس الذرة" و"غزل البنات" التي أعددنها في أثناء غياب أولادهنّ في المدراس.. لبيعها في المخيم وجمع قروشها لشراء الطعام في اليوم القابل" ص121.
ومن أهم الشخصيات الإيجابية التي لازمت المخيم، وكرسته، شخصية الشهيد التي تم تقديمها من خلال "دحام" الذي يجسد استقبالُ المخيم له صورة إيجابية للمكان وأصحابه من خلال عدة مواقف رصدها الروائي بكل دقة:
· فالشهيد حمله جميع الذين استطاعوا الوصول إليه، ولم يصل إلى بيت فضية العطا الله إلا بعد ساعات، طاف خلالها أبناء المخيم بشهيدهم، وساروا به داخل زقاقات المخيم، مروا وهم يحملونه بالجامع والمدرسة وحاذوا بساتين الجوز والمشمش والزيتون (...) ذكره بالشهداء الذين سبقوه.. ومضوا به إلى بيت أمه" ص83.
· والرجال (...) أبقوا محلاتهم مغلقة، وقد زُينت أبوابها بصور الشهيد.. ص88
· والصبايا في البيوت جمعن زهور النباتات وأوراق الحبق والسجاد والمليسة والنعناع والعطرة، وحملنها إلى بيت فضية العطا الله ونثرنها فوق التابوت. ص89
· والأولاد (...) جمعوا حزماً من أغصان شجر الزيزفون وأوراقه (...) وحملوها إلى بيت فضية العطا الله، ورموها فوق التابوت.. ص89
· وعجائز المخيم أشعلن غناءهن الحزين... ص89
هذا النشيد يجسد مع كل المواقف السابقة صوتاً قوياً ينضم إلى صوت والدة الشهيد (فضية العطا الله) الذي يمتزج فيه الوطني بالإنساني الذ يقطّع نياط القلب:
- ريّحه في نومته يا عطية.. الله يريّحك. ص91
- الله معك يمّة، مع السلامة يا حبيبي! ص91
- افطر يا عين أمك، لا تخرج من دون فطور! ص102
- كيف نمت البارحة يا عيني، إن شا الله ما بردت؟! ص102
مصطفى الشلبي: غياب بحجم الحضور
وتسعى الرواية إلى تقديم عدد من المقولات التي تحاول أن تعيد للفدائي صورته الناصعة، وللمخيم طهارته وعفته ونقاءه، عبر التأكيد على ثوابت الفكر الثوري، فالموت في (الفدائية) غير الموت في الطرقات، كما يقول دحام، وخطب أبو حسن الشلبي وأمثاله وصورهم المضحكة لم تعد تثير الناس، كما يقول ناجي درويش.
لقد بنى حسن حميد رؤى روايته الجريئة على مجموعة من العلاقات المتشابكة بين الداخل والخارج، بين تلك الشخصيات التي بقيت في المخيم وتلك التي غادرته، فيما تمثل شخصية أبو حسن الشلبي التي تقوم الرواية عليها وعلى علاقاتها صلة الوصل، وأحياناً صلة الفَصل، بين العالمَيَن.
من هنا كان من الطبيعي أن تحوم معظم العلاقات الروائية حول شخصية (أبو حسن) الشلبي، ابتداءً من العلاقة الجنسية المثيرة بين شتوة وزوجها مصطفى الشلبي/ الأب في ليلة العرس، وانتهاءً بعودة مصطفى الشلبي ليأخذ بذرته/ ابنه، من أجل الحفاظ على نقاء المخيم وتوهجه ومستقبله.
لذلك ركّزت الرواية، بعد أن تحدثت عن ولادة المخيم، على ولادة (أبو حسن الشلبي)، ففي أحد أحاديثها مع جارتها كمالة العبدو قدمت شتوة/ والدة أبو حسن استذكاراً طويلاً يروي تفاصيل ليلة الدخلة التي جمعتها مع مصطفى الشلبي، وهي ليلة غريبة حاولت فيها شتوة أن تسمع وصية أمها وتساعد زوجها خلالها، ولكنه قام بطقوس غريبة، فقد "نثر شعر رأسها فوق جسده، زرعه وبدأ بسقايته من لعابه، انصرف إلى ذلك ساعة من الزمن أو أكثر، وسرعان ما نبت الشعر، امتدّ وامتدّ. أضحى شجراً قصير القامة، ملتفاً على نفسه على نحو مخيف" ص39
كما أخذ مصطفى نصف جسد شتوة السفلي وزرع بذرته فيه، ثم أعاده وألصقه بنصف جسدها العلوي، فأعاد لذلك النصف حيويته ودهشته وارتعاشه:
"وضع نصفها السفلي تحت نصفها العلوي، لاحم ما بينهما. ارتعش نصفها العلوي، وانتفض. ارتعش رأسها، وانتفض أيضاً. تورّد وجهها وتوهّج" ص41
وبعد هذه الليلة الغريبة يختفي مصطفى الشلبي، إذ تقول شتوة إنه مخبّأ في صدرها، بينما يقول الحارس حسين التلاوي أنه شاهده يخرج فجراً متجلبباً بمعطفه الطويل الأسود، وفي يده عصا.
مصطفى الشلبي الذي تختلط صفاته الواقعية بالأسطورية ذو ماضٍ حافل بما يؤهله للوقوف إلى جانب الناس والمخيم والثورة في نهاية الرواية، فقد احتجر في ليلة من الليالي "معظم أصحاب الطنابر ودوابهم وطنابرهم في الجرف، ثم قام بتوزيع الخضار والألبان والسمن.. على بيوت الزوق.. قبل أن ينتشر الضوء.. وحين استيقظ الناس وجدوا أمام أبوابهم، (سحاحير) البندورة والخيار والكوسا وأكياس الفاصولياء والبامياء والبصل والبطاطا والملفوف والقرنبيط والكرنب وتنكات اللبن والسمن..." ص61
ويبدو حسن حميد من خلال وصف تفاصيل هذه الشخصية، ماضياً وحاضراً، أنه يمهد للنهاية، إذ يقود مصطفى الشلبي ابنه (أبو حسن) إلى ساحة المخيم، ويحتضنه ويعصره حتى يتلاشى:
"ولفّه بين ذراعيه وعصره، وارتاحت النفوس، وانطلقت الزفرات والتنهدات والتمتمات" ص256، ولكن الذي حدث فجأة أن "ذاب أبو حسن الشلبي، وتلاشى أمام جمهرة الواقفين" ص256، ومضى مصطفى بعيداً، ولما ضيّق الناس الطريق عليه نهرهم قائلاً:
_" بذرتي.. وأخذتها"!! ص257
أبو الحسن الشلبي يأكل أخاه في بطن أمه
إن الربط بين بداية ظهور مصطفى الشلبي في الرواية وبين اختفائه يبدو مسوّغاً تماماً من خلال الصفحات التي يسطرّها حسن حميد لإضاءة شخصية الابن/ أبو حسن الذي كان بذرة أتت أكلها نهباً وفساداً وإفساداً في دائرته،بعد أن كان مشروعاً ثورياً.
لدى ولادة أبو حسن التي كانت متعبة جداً ومثيرة، يقدم الروائي إشارة في غاية الذكاء حول شخصية المولود الذي ولدت معه قطعة لحم كبيرة، مولود آخر، فقد الكثير من أجزاء جسده إذ تقول شتوة مشيرة إلى مستقبل ابنها:
"أيها الشقي، ربي يجازيك! أكلت (أخوك)، وأنتَ في بطني، اشبع من دنياك.. لا آخرة لك" ص53.
يعيش الشلبي طفولة عادية، حتى إنه يظهر إخفاقاً شديداً في الصفوف الأولى من المدرسة الابتدائية، ولكنه يصمم على مواصلة الدراسة، ثم يعمل معلماً في إحدى مدارس وكالة الغوث الدولية في مخيم اليرموك، وكان خلال تلك الفترة يقود المظاهرات وحشود الطلاب في مدرسته وفي المدارس الأخرى، وحتى في الجامعة التي كان يدرس فيها مادة التاريخ.
في تلك الفترة كان الشلبي/ الابن يزرع في عقول طلابه أن "(الفدائية) أحسن وأهم من (الأستاذية)!!" ص69، وكان في بداية التحاقه بالثورة دائم الحضور إلى في المخيم محاوراً ومواسياً وناقلاً للأخبار.
ولكن الظروف تتغير، ويركب بعض الثوريون حصان الثورة، ويغدو أبو حسن رجلاً آخر "لا يراه أبناء المخيم إلا صوراً مبثوثة في جرائد الثورة ومجلاتها"... ص93.
هذا الرجل الذي "كان يفهم في مواصفات البنادق. ومدافع الهاون. والآر، بي، جي، وسيارات الزيل والأونميك صار رجلاً يفهم في زراعة الفريز ص226، كما يفهم في الميكانيك واللغة العربية والتاريخ والشاي والقهوة والنساء، والسياسة طبعاً، ذلك الفهم الذي يجعله مؤهلاً ليقضي فترة استجمام في فندق بولوني مع فتاة سلافية، وليبرّر ذلك التأخّر بأنه يهدف إلى بعث الحياة في العلاقات الأخوية التي تجمع فصيله والرفاق في بولندا. ص161.
وحتى يصبح أبو حسن ثورياً كاملاً أو "سوبر نضالي" فقد أراد أن يأخذ شهادة الدكتوراه في التاريخ، ولن يكلفه ذلك إلا أن يكلّف أحد كتّاب دائرته بذلك.. ويكاد يحصل على تلك الشهادة لولا موت (ربعي) المسكين الذي يبحث عن لقمة عياله المغمسة بالذلّ، على الرغم من قناعته أن أبو حسن الشلبي وأمثاله كلاب.. فقد قال لناجي درويش، معبراً عن حجم القهر الذي يشعر به:
- "الجماعة كلاب (وأشار إلى مكتب أبو حسن الشلبي).. يريدون الاستغناء عنك منذ بداية الشهر" ص181.
غير أن (أبو حسن) الذي يبدو في مظهره الخارجي كليّ القدرة، يعّين من يشاء، ويطرد من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، يحمل في داخله خواءً وضعفاً تكشفهما إلهام النوفي إذ تتحدث لناجي عنه (وعن نسيخه عبود) مستغربة أن أبو حسن لم يستطع الوصول إليها مرة واحدة، وأن عبود كان يواري هزيمته بالنوم.. ولا يبدو هذا الرمز الجنسي مجانياً، لأنه يكشف عدم قدرة كل منهما على الفعل الجنسي وعلى الإخصاب، فهما يمثلان القيادة الفلسطينية غير الفاعلة، ويشبهان إلى حد كبير أبا خيزران الذي قاد صهريج الفلسطيننين الثلاثة (أبو قيس، وأسعد، ومروان) نحو الموت في رواية "رجال في الشمس" لغسان كنفاني.
حكاية الشلبي: حكاية الظلال:
ولا يخوض المخيم معركة طهره وعفافه ضد (أبو حسن) الشلبي فقط، بل ضدّ ظلاله في كل مكان، إذ انتشرت ظلاله مثل طفح جلدي على جسد الثورة الفلسطينية، وعلى جسد أهل المخيم.
فعبود ظل آخر لأبو حسن الشلبي، زعيم آخر، في دائرة أخرى، له كثير من مواصفات أبو حسن التي ذكرها الروائي، وكثير من الصفات التي لم يذكرها، فحين يتفقد عبود أحوال دائرته يخرج وسط ضجة يفتعلها أعوانه ومرافقوه، ويفتعل قضية ما في أحد المكاتب، ويملأ المكان صياحاً وسباً، ولا يهدأ إلا بعد أن تقول له إلهام النوفي (السبية التي أهداها له أبو حسن عن طيب خاطر)، ورشيدة التي لا تقل عنها جمالاً:
- "صحتك بالدنيا.. وبالشغل"
- "أوباش لا يفهمون"
- "طوّل بالك"
- "من لا يعجبك اطرده"
- "الله يعكر دمهم.. عكّروا دمك!!" ص237
أما عبد الجواد يوسف، وهو الرجل الثاني في الدئرة التي يعمل بها أبو حسن الشلبي، فقد كان ظلاً باهتاً له، يأمر وينهى في الدائرة، ويقضي معظم وقته في مهمات رسمية حول العالم حتى يتمكن أبو حسن (الحاكم بأمر التنظيم) في دائرته أن يقضي وقتاً ممتعة مع أميرة زوجة عبد الجواد..
تلك المرأة التي كانت مكشوفة الرأس والعنق والصدر والساقين، ومكشوفة الفخذين عندما تجلس، تلك المرأة التي لم تكن تجلس إلا عند الشلبي الذي كان يعشقها، تكشف جانباً آخر من شخصية الشلبي، وشخصيات ظلاله أيضاً، فالمرأة في الرواية لا تقدّم نفسها خادمة للثورة بل خادمة لرجالاتها:
"بسبب حالة العشق تلك بين (أبو حسن) الشلبي وأميرة كانت مهمات عبد الجواد يوسف لا تحصى ولا تعدّ، فهو في طواف مستمرّ في بلاد العالم" ص173.
ويضيف ساخراً:
وثمة امرأة أخرى لا يقل حضورها أهمية عن أي امرأة أخرى في الرواية، هي إلهام النوفي، اللبنانية التي سرقت صندوق المال في المكان الذي عملت فيه في بيروت، ثم جاءت إلى دمشق لتعمل عند تاجر مسيحي، ثم تعرفت إلى عبد الجواد يوسف الذي عرفها إلى أبو حسن الشلبي، فعملت عنده، ثم انتقلت للعمل عند عبود، وهو الأمر الذي تطلب أن تكون في التنظيم، وحين يعرض عليها أبو حسن الشلبي التنظيم يتوقع أن تعترض المخلوقة، أو تتردد، أو تتدلل، أو تسأل عن التنظيم وظروفه وأهميته ولكنها تجيب إجابة تدل على خوائها أو عدم مصداقيتها في التعامل مع الثورة والتنظيم:
- "ما دمت أنت تريد لي ذلك.. فأنا موافقة.
فضمها إلى صدره، وعصرها، وشرب رحيقها وقال:
أهلاً بابنة التنظيم"!! ص213
إن تعيين إلهام النوفي في الدائرة التي يديرها أبو حسن يكشف جانباً آخر من الخراب الذي تمكّن من روحه، فقد أصر على تعيينها قربه "من أجل ضبط سجلات الدائرة!! "وحين قالوا له إن ملاك دائرته محدد، وميزانية الفصيل غير قادرة على استيعاب موظفين جدد، قال لهم:
- أنا شخصياً أستغني عن أحد الكتبة" 179.
وهكذا كان.. فقد عُينت إلهام النوفي، وطُرد ناجي درويش، ولم تنظم إلهام أرشيف الدائرة، و"لم تفعل شيئاً سوى تدخينها للمالبورو، وشربها للقهوة السادة، ودخولها إلى مكتب (أبو حسن) الشلبي وخروجها منه (...) لقد أصبحت لها مهمات غايتها الأولى والأخيرة سعادة الشلبي" ص183 و184
ثم تنتقل بعد ذلك إلى العمل عند عبود، في دائرة أخرى، وتعمل جاسوسة مزدوجة بينهما، وتأخذ الأموال الطائلة من هذا وذاك، ومن غيرهما، ثم تنتهي بها الحال في فرع التنظيم في ألمانية الشرقية..
وجوه من المخيم
غير أن شخصيات أخرى تعيش داخل المخيم، وتحاول من خلال وجودها فيه، على تفاوت في ذلك، أن تخلق نوع من التوازن، مع شخصية أبو حسن الشلبي وظلالها، وتعيش في المخيم، بسلبياتها، وإيجابياتها، وتناقضاتها..
فثمة خنيفس الطلال، ذو البشرة السوداء، والقلب الرهيف، والدمعة الحنون، المتشائل الذي يرى أن "السياسة كالنفخ تماماً (...) لا تعيد البلاد" ص30، ويرفض أن يكون عاطلاً في دكان الثورة، ويرى أن " تحرير البلاد (مو) بتحرير السيقان"! ص155
وثمة الهلالية التي تفعل ما تشاء، وتُدخل إلى غرفتها من تشاء، دون أن يمتلك زوجها سلطة عليها، وتتحسن علاقتها بخنيفس حين يكون مستفيداً من الثورة، وتسوء حين يعود للمخيم، فحين استشارها بالذهاب للفدائية قالت له:
"اذهب واترك قرف العوامة والمشبّك" ص74.
وحين عاد من دورته التدريبية روت روحه من رضابها، وحين ترك الفدائية قالت له:
- "مجنون تظن أنهم أيتام؟
هم يملكون، وأنت لا تملك، هم يعطونك القيمة، لا أنت! أنت بحاجة إليه، لا هم". ص192
وثمة عطية الذي يبدو ظلاً للمقبرة، وتتحسن علاقته بالمقبرة والأموات بمرور الزمن:
"أما حين امتلأت المقبرة بأهلها أو كادت، فقد صفا جو الرجل وراق له، وبات ينام ويساهر الأموات، ويطرد الكلاب الضالة (...) وكان يسيل السباب والشتائم للشبان المراهقين الطائشين الذين كانوا يأتون المقبرة ليلاً بين حين وآخر" ص114
وثمة هاجر بنت يوسف الشامان التي اشتغلت صانعة وعادت إلى المخيم صبية مكتملة الجمال، معطوبة الأنوثة، قادرة على لفت الانتباه، وعلى تعليم "بنات المخيم، كيف يلبسن، ويتجملن، وكيف يزلن شعر أجسادهن بالسكّر وملح الليمون والشمع" ص23.
ولعل ناجي درويش أن يكون واحداً من أكثر تلك الشخصيات تعقيداً، فهو يشبه ربعي في بعض صفاته، ولكنه يحمل في نفسه بذرة الرفض والتمرد، يحاول في كلّ مرة أن يثور على الخطأ، ولكنه يبدو مغلوباً على أمره، فهو حين يتم الاستغناء عنه لتعيين إلهام النوفي يقبل، بعد رفض، أن ينتسب للتنظيم حين يحس بأنه مهدد، ولكن يكتشف أن هذا القرار جاء بعد فوات الأوان؛ وهو يرفض أن يأخذ راتباً تؤمنه له إلهام دون أن يعمل، ثم يوافق على ذلك ويأخذ الراتب وأعطيات إلهام التي لا تنتهي (وهي طبعاً أعطيات يأخذها أبو حسن من بيت مال الثورة، ويعطيها لإلهام)، كما يرفض ناجي أن يترك المخيم لينتقل إلى المدينة ثم يقبل بعد ذلك، ليشق من ثم طريقه في عالم الشعر..
وعلى الرغم من ترجحه بين الرفض والقبول فإنه يتخذ موقفاً إيجابياً في النهاية يلخص مقولة الرواية برمتها، فهو يرد على رسالة إلهام برسالة يقول فيها:
"يعذبني يا إلهامي ذلك الطفح، أبو الحسن الشلبي وأمثاله، وقد اعتلوا صفحة جلدنا.. وباتوا صورتنا، لكن مما يثلج الصدر أنهم باتوا كأوراق الخريف مرميين ـ هنا وهناك ـ على شرفات البيوت وتحت الأشجار والنوافذ، وفي الدروب.. لا تثير الناس خطبهم ولا استقبالاتهم، ولا صورهم الضاحكة.. لذلك أدعوك إلى المجيء.. لتكوني إلى قربي.. لنطيّر معاً، مع الآخرين، أوراق الخريف.. الناشفة!! ص229
صباح جديد:
وإذا كان ناجي قدّ مهّد نظرياً لاقتلاع ذلك الطفح، فإن النهاية تقدم ذلك الرجل الأسطوري النظيف ماضياً وحاضراً، لينزعه ويعطي أهل المخيم فرصة جديدة:
"وطوى الجميع أحاديثهم ليلاً، بعد سهر طويل.. بانتظار صباحهم الجديد، وما سيفعلونه أيضاً" ص259.
لقد حاول حسن حميد من خلال هذه الرواية أن يحرّض على تنظيف المخيم والثورة، وحسبه أنه صرخ صرخة مدويّة، وليس ذنبه أن الكثيرين يصمون آذانهم عن سماعها..
[1] نشير هنا مثلاً إلى رواية "مخيم في الريح" لعارف آغا الصادرة في دمشق عام 1986، وهي رواية تحتفي بتمجيد الحب الذي يولد وسط البؤس والشقاء.
[2] طبعت رواية تعالي نطير أوراق الخريف عام 1994، غير أن الإحالة ستتم في هذه الدراسة إلى أرقام الصفحات اعتماداً على طبعة 2005 من الرواية ذاتها.