لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الخميس، 29 أكتوبر 2009

دراسة: خليل خلايلي: أغنية من أرض كنعان

خليل خلايلي:
أغنية من أرض كنعان

د. يوسف حطيني

يَدْهمك شعور وأنت تقرأ للشاعر الفلسطيني خليل خلايلي أنك أمام شاعر معجون بالغربة والاغتراب، مسكون بقلق الهجرة والموت، منتمٍ إلى ماض يمتد إلى حياته التي بدأت في بلدة جسكالا في الجليل الأعلى عام 1933، ومن ثمّ إلى التاريخ العربي الموغل في الأصالة ومقارعة الأعداء.
وإذا كان الخلايلي قد شهد الثورات الأولى في فلسطين، وعاش النكبة والتشريد والهجرة، فإنه شهد في خاطره عشرات الثورات والمعارك التي خاضتها الأمة العربية على مدى قرون من الزمن، وهذا ما يتجلّى واضحاً في المجموعات الشعرية الثلاث التي أصدرها، وهي على التوالي:
1- أغانٍ من أرض كنعان.
2- أحزان الصمة القشيري.
3- بانتظار الريح الشرقية.
ويترجّح مضمون قصائد الشاعر بين الشعر الوطني، والغزلي، وشعر الحنين، والرثاء، بالإضافة إلى بعض القصائد الإخوانية التي شملت موضوعات عديدة كرثاء الإخوة والتهنئة وتقريظ الأصحاب من أرباب القلم والبيان.
الهوية والانتماء:
إن ما يلفت النظر هو الإجابات المتكررة التي يقدمها الشاعر على سؤال الانتماء الذي يواجهه باستمرار، وهذا أمر مسوّغ تماماً بالنسبة إلى شاعر مهدد بالاقتلاع من الجذور، فهو يحدد انتماءه ابتداءً من الإهداء وحتى الكلمة الأخيرة في دواوينه، إذ يهدي ديوانه الأول إلى "إلى جسكالا الحبيبة"، بينما يقدّم الثاني "إلى أرواح شهدائنا الأبرار الذين لم نثأر لهم بعد"، أما الديوان الثالث فيعمم الإهداء ليشمل "الملايين من أبناء أمتنا العربية الماجدة، الذين ينتظرون هبوب الريح الشرقية العاتية، التي ستقتلع جذور الشر من أرضنا الطيبة".
غير أن التفصيل في سؤال الانتماء والهوية الذي يجيب عنه الشاعر في دواوينه يتطلب الانتباه إلى أنه يطرح انتماءه من خلال الارتباط بمنابع متعددة، في صدارتها وطنه المسلوب فلسطين الذي يفخر بأنه واحد من أبنائه، يقول الشاعر (1/ص31):
ولستُ مفاخراً أحداً بأني من النسب الرفيع على نصيبِ
ولكني كفاني الفخر أني من الوطـن المكلّل بالطيوبِ
وإذ يمتدّ السؤال نحو الجيل الجديد، يزوّد الأب ابنه بعدّة الصمود التي تقوم على تغذية الذاكرة بصورة وطن سليب، يحمله الابن في قلبه، ويورّثه بدوره إلى الأجيال اللاحقة. وها هو الشاعر يخاطب ابنه في إحدى قصائده (1/ص37):
بُـنيَّ نحنُ أناسٌ مـن الديـار السليبهْ
من نجمةٍ تتلظّى فوق السفوح الخصيبهْ
وإذ تقوم الثورة الفلسطينية المعاصرة يتجلّى انتماء الشاعر إليها في لحظة الولادة المزدوجة لأن ولادتها هي ولادة الشاعر أيضاً، فهو يبحث عن حياة جديدة تليق برجل ينتمي لشعب يرفض الذل والاستخذاء ، ويقول في قصيدة (ميلادي الجديد) (1/ص73):
"أنا قد ولدتُ الآن يا أمّي ويخطئ من يقول
إني تجاوزت الثلاثين الطوالْ".
غير أن شكلاً آخر من أشكال الانتماء يتبدّى في قصائد الشاعر الخلايلي، إنه الانتماء المكاني الذي يبدأ بفلسطين ولا ينتهي عندها، يبدأ بقريته الغالية (جسكالا)، ويبدع في حضرتها قصيدة رومانسية تقرأ فيها الغدير والظلال والنجوم (2/ص117):
قريتي ينبوع حبٍّ وغديرٌ في ظلالِ
تسـبح الأنجمُ فيه أبداً طول الليالي
وثمة في فلسطينه (وفلسطيننا) أماكن أخرى تجذّر انتماءه، إذ تظهر حيفا ويافا والجرمق والناصرة، وغزّة التي يسميها (سيدةالثغور: (3/34):
"وغزّة لم تزل
في الساح
سيدة الثغور
عين على البحر الحبيب تذود عنه الغاصبين
ولعينُها الأخرى تحدّق في السهوبْ
وحتى لا يحاصر خليل الخلايلي نفسه في بوتقة العنصرية البغيضة فإنه يبحث عن رفد انتمائه عبر مساحات أخرى تمتدّ في المكان، فيكتب قصيدة بعنوان "سلاماً أيها الجولان"، يتشوّق فيها إلى المناضلين الذين يقارعون العدو ويتحدون طاغوته، ومنها قوله (3/ص56):
لقد تُقنا لمجدل شمـ ـسَ أو فتيانها المُرْدِ
إلى الزيتون والصبّا ر لاح هناك عن بُعْدِ
إلى أشياخها يفتو ن بالعصـيان للجنْدِ
إلى العكّـاز لما ثا ر يَحْطم هامة الوغدِ
ومثلما يمتدّ جذر الشاعر في المكان، فإنه يمتد عميقاً في الزمن العربي الذي يحيل على الفارس العربي الشجاع، ودافع عن العروبة في جميع محطاتها النضالية، ورسّخ نموذج المناضل الذي لا ينتهي دوره إلا بعد أن يسلّم الراية لمن كان جديراً بحملها، يقول الشاعر في قصيدة بعنوان "مهرتي" (3/ص19):
تحمـحم مهرتي في الليـ ـل توقـاً للميـادينِ
يظـلُّ صـهيلها الملتـا عُ يبـحر في شـراييني
كـأني لم أكـن يومـاً مـن الجنـد الميـامينِ
ولم أصحب صلاح الديـ ـن يزحف نحو حطينِ
ويمكن أن نأخذ مثالاً آخر للانتماء التاريخي( وهو كثير في شعر خلايلي) إذ يستعرض في قصيدة (الشهيد) عدداً من شهداء التاريخ العربي الإسلامي، ثم يؤكّد انتماءه لأولئك الصيد، فهو يقول (2/ ص82):
فمَنْ كحمزةَ في بدر وصحبته على القليب وقد فاضت ركاياهُ
ومن كجعفرٍ الطيّار إذ قُطعت يمناه تسـند رايَ الحـقّ يسراهُ
والغـافقيّ أننسى هول وقعته ذلّ الفـرنجُ وما ذلّت مطاياهُ
أولئك الصيد من قومي فعالهمُ هي الفعـال إذا ما دوّت الآهُ
والشاعر إذ ينتمي إلى تجربة الصمة القشيري في قصيدة (أحزان الصمة القشيري) فإنه يقاسمه الحب والحنين والغربة، وإيقاع البحر الطويل، مثلما يقاسمه اسم محبوبته ريّا التي تغدو عنده ظلّاً لوطن مفقود، غير أن الشاعر لا يقاسم القشيري الروي والقافية، وحبذا لو فعل ذلك، لأن البحر والروي والقافية والغربة والحنين كلها تحيل على قصيدة شهيرة لمالك بن الريب يرثي فيها نفسه؛ وبذلك فإن شاعرنا خليل خلايلة يرسّخ انتماء القصيدة لا إلى الصمة فقط بل إلى شعراء آخرين من خلال الصياغات اللفظية والتضمينات التي تجري في شعره مجرى الماء الزلال، على نحو قوله الذي يضمن فيه شعراً لامرئ القيس والصمة (2/ص47):
"بكى صـاحبي لما رأى الشـام دونه وأيقـن أنّا" مزمـعان التنـائيـا
"وحالت بنات الشوق" والبشرُ مُعرِضٌ فضاع على سيف الصحارى ندائيا
ترسيخ المثُل الإيجابية/تباشير النصر:
يحتفل الشاعر الخلايلي احتفالاً ظاهراً بالنماذج التي ترسّج القيم الإيجابية في الظرف السياسي الراهن، إذ ثمة استسلام وارتماء في أحضان الذلّ، وثمة صمود ومقاومة وتحدٍّ، لذلك يفزع الشاعر إلى أبطال التاريخ العربي المجيد، مثلما يفزع إلى أبطال تاريخنا الحاضر الذي يصوغون تمرّده، وها هنا تبرز صورة الشهداء. يقول الشاعر في رثاء المهندس الشهيد يحيى عيّاش (3/ص151)
"عندما غُيِّبَ يحيى ودّعتهُ القبّراتْ
وبكى الحقلُ عليهْ
وبكى الجيرانُ والأهل عليهْ
وسعتْ كلّ فلسطين إليهْ
وكروم التين والزيتون غَلّتْ في يديهْ
والجبالُ الراسياتْ".
وفي قصيدة (أغنية لعروس الفداء سناء محيدلي) يزفّ الشاعر خليل خلايلي الشهيدةَ إلى المجد، ويجعل في ملامحها كلّ ملامح الإباء والعنفوان، وها هو ذا يقول (2/ص132)
"كانت عيناها تحمل إيماءة حبّ
وقضيّهْ
والوطن الغالي في عينيها أغنيةٌ
فيروزيّهْ
وجبالٌ شمٌّ تصمدُ للريح الهمجيّهْ
وترفرف فوق جبين العزّ العالي
زوبعة الحريّهْ
كما يخصص الشاعر للمبعدين أكثر من قصيدة، ويخصّ بالذكر أولئك الأبطال الذين أبعدتهم دولة الكيان الغاصب إلى جنوب لبنان، ثم أُرغمت على إعادتهم، بعد أن وقفوا وقفة عزّ وشموخ تملأ النفس العربية بالحماس، يقول خلايلي في قصيدة بعنوان "وقفة العزّ" (3/ص ص 100-101)
أيّها المبعـدون أنتم لظانا إذ خضدتُم من العدوّ قتادَهْ
و ملأتم نفوسـنا كبرياءً وإبـاءً وعـزّة وجـلادَهْ
كما يتمسك الشاعر بأهداب الفدائي العربي، لأن النصر معقود بنواصي خيله، ولأن التاريخ يشهد له بكريم الفعال في ساحات النضال، لذلك يتوجه بشعره إلى ذلك الفدائي طالباً منه أن يربط القول بالفعل، وأن يستجيب لنداء قلبه العربي، وأن يكون كما ينبغي له، فيقول (1/ص104):
تقدّم نحـو تربتها أبيّـا ولا تترك بساحتها شقيّا
فأنت هواكَ دوماً يعربيٌّ فخلِّ كريمَ فعلك يعربيّا
المرأة ولعبة الظلال:
تحضر الأنثى دائماً في شعر خليل خلايلي، في هيئة أم أو حبيبة، ترافقها ظلالها الأثيرة التي لا ينفكّ الشاعر يحيل إليها، فالأمّ في (أغنية حب إلى جسكالا) مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالحنان والسعود، وذكرى الوطن، وحلم العودة (2/ص124):
أواهُ لـو أن الزمـا ن يعود بالأمس السعيدِ
وأعود أسرح في ربو عك يا حبيبةُ من جديدِ
وأرى هنالك وجهَ أم ّي بالحنان وبالسـعودِ
أما الأنثى التي تحضر على هيئة حبيبة دمشقية فهي تحيل على التاريخ، وتذكّر بقصيدة نزار قباني (غرناطة)، فإذ كان القباني قد رأى في عيني حبيبته مجد الأندلس الغابر، فإن الخلايلي أحبّ حبيبته لأنّ كل ما فيها يجعل دمشق معشوقته الأبدية (1/ص46)
عشـقتُ لأجلكِ صفو السما ءِ ولون الغروبِ وبيضَ الغمامْ
عشقتُ الشـآم وزهـر الشآ مِ وليل الشآمِ وحور الشـآمْ
جبينـك هـذا الأبي النبيـلُ أمن إرث مروان؟ أم من هشامْ
من هنا تبدو المرأة في شعر خليل خلايلي حلماً جغرافيا تمتدّ على مساحة الوطن الكبير، لذلك يبقى الشاعر عاشقاً في محراب عينيها (1/ص49)
عيناك نرجستان قـد نمتا بحضن الجرمقِ
عيناك.. أعبدُ فيهـما نوراً غريبَ الألقِ
من سحر بابل وهجه أو من مفاتن جلّقِ
الصورة الشعرية بين التقليد والتجديد:
يبدو شعر خليل الخلايلي بالإجمال تجربة صورية وعروضية تمتح من معين التراث العربي الخالد، وعلى الرغم من أن الشاعر ينوّع في موسيقى النص الشعري، ابتداءً من تنويع القوافي وانتهاءً بقصيدة التفعيلة فإن نصّه يبقى بشكل عام واضح الارتباط بالجذر العربي القديم حتى من خلال صوره التقليدية وصياغته اللفظية، فإذا ابتسمت محبوبة الشاعر ظنّ أن الفجر قد طلع (1/ص55) أما عيناها فهما "عينان فتكهما أشدّ من الحسام الهندواني" 2/ص67، ويستطيع المرء أن يجد صياغات لفظية جاهلية وأموية وعباسية في ثنايا شعره، فالبغاث يستنسر، والمحبوبة هضيم الكشح، وعذبة اللمى، حتى إنه يحثُّ العرب على الكفاح من خلال صياغات لفظية لا يكاد القارئ يميزها من قصائد الفروسية التي تملأ بطون الكتب العربية التراثية (1/ص93):
فشُدّوا إلى الهيجا على كلّ ضامرٍ وطيروا إلى الجلّى على كلّ قارحِ
وكونوا غداة الثأر جيشاً عرمرماً خميساً عليه كـلّ شـهم مكافحِ
غير أن المرء يجد، خاصة في شعر الغزل، بعض الصور الرومانسية الحالمة التي تعبّر عن تجربة طازجة في العشق واللغة وبناء الصورة، على نحو ما نجد في بعض أبياته التي تذكّر صورها بصور عمر أبي ريشة والأخطل الصغير، ومنها قوله في مقطّعة عنوانها "صحو" (2/ص31)
يقـولون الهـوى عيـبٌ وذامٌ ومـالي لا أرى عيباً وذامـا
فكيفَ؟ وإن مررتِ على دروبي صحا النارنجُ وابتسم الخزامى
ولعلّي أشير على سبيل الخصوص إلى تجربته الصّوَرية في قصيدة "في ذكرى أيّار" إذ يمارس الشاعر ما يسمّى بتفريغ الذروة في المصطلح النقدي، فهو يبني صوراً متراكبة بهية للربيع الذي يسبغ على الطبيعة نعمة الجمال، لا لشيء إلا ليعمّق إحساسنا بمأساة شعبه، حيث كلّ لفظ يشرح القلب، وكل صورة تنعش الفؤاد، ليأتي بعد ذلك بما يقلب المشاعر إلى ضدّها، يقول في هذه القصيدة (1/ص ص 86-87):
ها قـد أطـلّ بسـحره أيّـارُ فترنّمـت بغنـائها الأطيارُ
والزهـر فـاحَ أريجُـهُ وعبيره خلل النسـيم مُـدلّهٌ معطارُ
والشمسُ زايلها القتامُ.. فأشرقتْ فوق السفوح وضجّت الأنوارُ
وصفـا الزمـان لأهلـه لكنّما وطـني تشـبّ بمقلتيـه النارُ
واللاجئون على الدروب مشـرّدٌ هـذا وذاك مضيَّـع مـحتارُ
في موسيقى النص الشعري:
إذا كان الشاعر يعتمد بشكل أساسي على الإيقاع الخليلي، فقد جاء استخدامه لنص التفعيلة حيياً، أما "الشعر المنثور" فلم يقترفه الشاعر في أيٍّ من نصوصه. وسيراً على عادة الشعراء المجيدين حاول أن يرقّص موسيقاه الشعرية التقليدية من خلال الاعتماد على البحور الخفيفة والمجزوءة، ومن خلال تنويع القوافي، وإيقاع المفردة، وغير ذلك مما يتيحه نظام الشعر العربي، فقد اعتمد الشاعر على إيقاع المفردة ليزيد التوتّر الإيقاعي لنصه الشعري، على نحو ما فعل في قصيدة "بلادي"، إذ كرر هذه الكلمة في صدر تسعة أبيات مما يحدث أثراً إيقاعياً لفظياً يزيد من إيقاع الغنائية التي تملأ جوّ النصّ، ومنها (1/ص34):
بلادي شالُ راعية يلفُّ المخملَ الأزرقْ
بلادي جنة الدنيا ورمز جمالها المطلقْ
وفي قصيدة "أموية" لا يكتفي الشاعر بالاعتماد على التفعيلة، بل يستخدم القوافي المتناوبة التي تسهم في تعميق الإحساس بغنائية النص التي يزيدها ألقاً استخدام الياء المشددة في إحدى القافيتين المستخدمتين (1/ص61):
هينماتُ الحبِّ في عينيك أحلامٌ هنيّهْ
وحكايات شهيّهْ
نمّقتها شهرزادْ
صيّرتها
في ليالي الرعب للباطش زادْ
أو مواويل شجيّهْ"
نقول باختصار إن موسيقى النص وصوره تبدو في شعر الخلايلي طوع إشارته، لذلك فهو يعبّر عن سهولة انقيادها له من خلال قوله (3/ص79):
إذا جاش القصيدُ عببتُ منهُ كما عبّ المشوقُ من الدّنانِ
نثرتُ على مباسمه زهوري وجـئتُ بكلّ خالدة المعاني
ألملمُ كلّ قـافيةٍ حـرونٍ فأمـنعها الغـداة من الحرانِ
هوامش:
· خليل خلايلي: أغانٍ من أرض كنعان، دار الأجيال، 1970.
· خليل خلايلي: أحزان الصمّة القشيري، دار الحوار، اللاذقية، ط1، 1992.
· خليل خلايلي: بانتظار الريح الشرقية، مطبعة عكرمة، دمشق، ط1، 1997.