لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الخميس، 29 أكتوبر 2009

درساة: الونّاس عطية: فتنة السرد المراوغ

الونّاس عطية
فتنة السرد المراوغ!!

د. يوسف حطيني

حالما يبدأ المرء في قراءة رواية (الونّاس عطية) للقاص والروائي حسن حميد يدهمه ذلك الحضور الطاغي للغة السحرية التي تقف على حدود الشعر، وترصد أحداثاً عجائبية فاتنة، يقدمها سارد غير محايد، آثر الكاتب أن يكون اسمه "الونّاس" لكي يشعرنا بسعي السارد لتحقيق الوَنَس/ الأنس من خلال الحكاية. وكأنه يعيد سيرة شهرزاد التي تخشى أن تنتهي حكايتها، فيقدم سرداً تتناسل أحداثه وشخصياته من خلال فصول وحواشٍ وتذييلات وتفصيلات، تتجاور في إهاب تنويعات شكلية يسعى إلى تحقيقها.
إيقاع الرواية:
تبدو رواية "الونّاس عطية" غنية بإيقاعات عديدة، يخرج المرء من قراءتها وقد ألحت عليه، كالوحدة، والفقد، والحبّ، وغير ذلك من الثيمات التي تمجّد الخير والإنسان في مواجهة المدنيـّة الزائفة.. غير أن تلك الإيقاعات جميعاً تندغم في إيقاع واحد هو إيقاع البحث الذي يحكم الرواية، حتى ليكاد المرء حين ينتهي من القراءة أن يشارك في البحث عن (أبو الحَو) أو (زينة الدنيا) أو عن (الونّاس عطية) نفسه.
فمنذ الفصل الأول يبدأ الونّاس البحث عن أبو الحَو (وهو رجل من أهل الله كما تقول الرواية)، وفي رحلة البحث تلك تنشأ لدى القارئ قناعة أن الونّاس لن يجده، على الرغم من كونه موجوداً في كل الأمكنة.. كما تبحث زينة الدنيا عن الأستاذ عبد الرشيد مقصوعة الذي وهبته أنوثتها عن طيب خاطر، دون أن تتمكن من لقائه، فيما يبحث الأستاذ مقصوعة نفسه عن زينة الدنيا التي تصبح أيضاً في مرمى بحث الونّاس نفسه.. ويكاد لا يجد أحدٌ أحداً في هذه الرواية؛ لذلك يغيّر الونّاس جهة البحث مرة أخرى، إذ تصبح فلسطين التي أكل من زعترها، واحتفظ بخارطتها الكتانية قرب نافذته، هدفاً لرحلته القادمة.
صياغة المكان:
على الرغم من أن المحددات المكانية والزمانية في الرواية تشير إلى الشام، وإلى العام 1961 تقريباً، (بدليل مجيء حمو من الجزيرة وسكناه بالقصاع ومواجهة الأقطش للمستعمرين الفرنسيين، وانتهاء الوحدة بين سورية ومصر) فإن هذا يبدو غير ذي أهمية لأن الروائي كان يسعى ما وسعه ذلك إلى تمويه المكان الواقعي بظلال أسطورية، يسعفها الخيال حيناً واللغة حيناً آخر.. وإن كان يقدّم في بعض الأحيان تأثيثاً واقعياً للأمكنة التي تقيم فيها شخصيات غير ذات بعد أسطوري خيالي.. على نحو ما نجد في تأثيث براكية أبو شنوان حارس المكان العمومي الذي يزوره الونّاس بحثاً عن حمو:
" فأطلقت بصري في براكيته، فرأيت سلالاً من القصب فيها تبن كثير، ويبدو أن البيض مدفون في التبن. وأرغفة من الخبز في طبق واسع من من القشّ الملوّن..." ص41
المدينة المعادية:
تظهر المدينة في الرواية بيئة نابذة للأحلام، قادرة على استهلاك كل ما هو إنساني، "متاهة حقيقية" ص33، "وأعواد دبق، ليس إلا" ص43، كما يقول الونّاس، وهي "أشبه بالقطة التي تأكل أبناءها وتُنكر" ص 75، كما تقول زينة الدنيا، لذلك ضاع فيها حمو، وعبد الرشيد، وضاعت فيها زينة الدنيا بعد أن تزوجت وتركت أهلها، من هنا كان طبيعياً أن تبكي زينة الدنيا إذ فارقت قريتها كانت تفارق البراءة الأولى:
"لم تبك زينة الدنيا في يوم عرسها وخروجها من بيت أبيها كما تفعل الصبايا عادة، ولكنها بكت كثيراً وهي تغادر القرية إلى جوار المنصوري.. لكأنها كانت تعرف في أعماقها أنها لن تعود إلى القرية مرة أخرى" ص58
ويبدو الموقف من المدينة موقفاً من المدنيـّة إذ سرعان ما يكتشف عبد الرشيد خدعة هذه المدنيـة خلال وجوده في فرنسا:
"طار عقل عبد الرشيد مقصوعة بالناس، والأبنية والحرية والحدائق والنظافة والنساء" ص162، لكنه حين رأى مادية الغرب وخواء روحه وعدم إقباله على تمجيد الإنسان، بل تشييئه، لم يثبت على إعجابه بما يرى، فقد تأفف وتذمّر واكتشف أنه "كان يقف أمام واجهة بللورية.. أعمته أضواؤها فلم ير إلا الجمال" ص164
إن هذا الموقف الحاد من المدينة قاد السارد، وأكاد أقول قاد الروائي، إلى الحديث عن أمكنة غرائبية تنتمي لبراءة الطبيعة الخرافية، وتحتشد لتقدم أجواء غير مألوفة، ففي الطريق إلى (أبو الحَو) يمشي الونّاس ووردة "وسط غابة من أشجار الصبار الخرافية" ص8، وحين تقول له وصلنا يقول:
"كيف وصلنا؟ وما من بيت قريب يظهر لنا لأظنه بيته؟! وما من كوخ أو سرداب أو جسر قد يؤدي إليه" ص13
وإذ يطول المسير في هذا الحشد المكاني الغرائبي يقول الونّاس:
"وفجأة أحسستُ أنني مشيت طويلاً وراء وردة دون أن أصل إلى شجرة البطم التي كانت قريبة جدّاً منّا، فأطلفتُ البصر نحو الشجرة فما رأيتها ولا رأيتُ الطيور الكثيرة جداً التي كانت تحطّ عليها أو تطير منها، بل لم أرَ حولي سوى أشجار الصبار المخيفة التي أحاطت بي رافعة أكفّها العريضة الخُضر وكأنها تهمّ بمهاجمتي أو الإطباق عليّ".
ثمة إذاً حَدَثٌ غرائبي يرفد الطبيعة الغرائبية، ثمة دائماً طريق، وبشائر وصول، ثم ضياع، وبحث من جديد، فحين يقترب الونّاس ووردة من الوصول، وحين يكتشف أن مسيره كان في اللاطريق، يقول:
"لحظتئذ أحسستُ بخوف شديد راح ينهمر في ذاتي كالمطر الغزير، فصرختُ بوردة لكي تنقذني من رؤيتي وهواجسي، لكنً صراخي ارتدّ إليّ كالصفعات، فهنا لا أحد سواي" ص21
وفي لحظة مشابهة، يقترب الونّاس من الحقيقة التي يبحث عنها، ولكن تلك اللحظة تنسرب من بين أصابعه كالماء:
"هنا.. هنا بالضبط دكان الرجل الذي أجلسني على كرسي القش الصغير، وسقاني القهوة الطيبة. ولكن.. أين هو الدكان؟! ومن أين نبت هذا الجدار العالي؟؟ وكيف تغطّى بهذه النباتات المزهرة؟؟ ثم أين هم الأطفال؟؟" ص94
أبو الحَو: معركة الظلال
أبو الحو الذي يبحث عنه الونّاس، وحسن حميد، وشغف القارئ، لا صفات محددة له، "مرة يقولون إنه طويل وضخم ذو شعر أشعث، ولحية كثّة، ومرة يقولون إنه قصير، ضامر الوجه، قليل الشعر، أمرد، ومرة ثالثة يقولون إنه رجل عجوز أعمى تقوده صبية في النهار، هي صفيته، وفي الليل يقوده صبيّ هو ابنه بالتنبي" ص77
لذلك كان خيار الباحث عنه أن يتعلق بأي شيء منه، بأي ظل من ظلاله، بخصلة من شعره، لأنه لا يظهر، ولأنه يطهر دائماً، لذلك قدم لنا الروائي احتمالات عديدة لم تحسمها الرواية ذاتها، لتحافظ على سحرها ومشروعيتها الفنية، ففي بداية الرواية بينما يمشي الونّاس مع وردة، في الطريق إلى (أبو الحَو) يسترعي انتباههما "رجل قصير، رثّ الثياب، أشعث الشعر، شاحب الوجه، خرزيّ العينين، يحمل بيده مرآة صغيرة" ص15
وهذا الرجل بما يقوم به من أفعال خارقة يراها الونّاس عياناً مؤهل لكي يكون أحد ظلال (أبو الحَو)، يقول الونّاس إذ يطلب الرجل من طفل صغير أن ينظر في المرآة:
"كانت المرآة صافية لا صور فيها ولا أشكال، كنتُ أراها بوضوح كامل، فهممتُ أن أقول للرجل: لا شيء في المرآة (...) لكن الطفل الذي اصفرّ لونه تماماً، وغامت عيناه في شرود عميق قال على نحو مفاجئ:
- أرى رجوة" ص15
ويتابع الونّاس الذي لا يرى في المرآة "رجوة ولا عجوة" الموقف الغريب الذي يقود إلى معرفة مكان الفتاة الضائعة، وموقفاً غريباً آخر يلخصه النسق السردي التالي:
"وغمغم الرجل صاحب المرآة، وراح يدوّرها، وقد وضع يده فوق رأس الطفل، ثمّ وعلى عجل وضع المرآة أمام وجه الطفل تماماً وسأله:
- "ماذا ترى؟؟
فقال الطفل بعد صمت طويل:
- أرى أمي.
- ومن معها؟
- خالتي.
- ماذا تفعلان؟
- تفتحان صندوق أمي" ص ص19-20
وفي نسق سردي آخر يسأل الونّاس رجلاً عن (أبو الحو) ويشرب عنده القهوة، فيحدثه الرجل حديثاً في غاية الغرابة، يستسلم بعده الونّاس للنوم، ثم يستيقظ في حال آخر، وبعد ذلك يرى ظلاً آخر لـ (أبو الحّو):
"فجأة أرى رجلاً قبالتي تماماً، إلى يمينه يمشي كلبان يعويان، وإلى يساره تمشي قطتان تموءان، يمشي وهو يهمهم بصوت حزين.. أهمّ أن أصرخ به، ومن قلبي، أبو الحَو! لكنني لا أجرؤ على هذا، لأنني وفي لحظة واحدة تأكدت من أنني أعرف الرجل، وقد حادثته من قبل، وسألته عن أبو الحَو، وشربتُ عنده القهوة" ص95
وثمة تحت المطر الغزير، رجل آخر يمارس لعبة الحضور والغياب، ويراوغ السرد بفتنة لا تقاوم، إذ يبتلّ الونّاس، ولكنه يرى ظلاً آخر.. احتمالاً آخر.. لـ (أبو الحو):
"أراه يرفع العصا إلى أعلى رأسه، ويحرّكها إلى الأمام والوراء ونحو الجانبين، فتنكشف فوقه تماماً مساحة من الضوء داخل الغيوم! مساحة لا مطر فيها ولا ضباب. وحين يقترب مني ويحاذيني.. أرى ثيابه جافة وكأن المطر لا يصيبها! لحظتئذ لمع في ذهني حدس بأن هذا الرجل هو أبو الحَو (...) كنتُ قد تخطيته بخطوة واحدة، وكان هو قد تخطاني أيضاً بخطوة واحدة، فأستدير نحوه.. فلا أراه" ص197
أبو الحَو: احتمال أخير
حين يلحق الونّاس بحمو ووردة ونورا إلى المسرح يقدم لنا حدثاً لم يكن متوقعاً، احتمالاً نهائياً مراوغاً لوجود أبو الحو، على خشبة المسرح نفسها:
"أرى على خشبته.. هذا الرجل العجوز، الضامر الوجه.. الذي يذرع الخشبة على عجل.. وعلى يمينه كلبان يعويان، وإلى يساره قطتان تموءان.. وصوته يتعالى مكرراً:
- سيجيء المطر.. سيجيء المطر" ص199
واضح أن المطر رمز من رموز الخير والأمل، ولكن ماذا أراد حسن حميد أن يقول من خلال هذه النهاية؟ ترى هل نقل الحياة إلى خشبة المسرح، أم أنه نقل خشبة المسرح إلى الحياة؟ وهل أراد حقاً أن نجد أبو الحو، أم أنه ترك الباب مفتوحاً أمام الاحتمالات المختلفة؟؟
الأقطش على حدود الأسطورة:
تقدم الرواية إلى جانب شخصيتيها الرئيسيتين: الونّاس وأبو الحو مجموعة من الشخصيات، التي تدخل في نسيج الرواية ضمن تراتب محدد تفرضه حكايتها، فثمة حمو وعزو الفلسطيني, وعبد الرشيد مقصوعة، والمنصوري، وهناك وردة ونورا, وزينة الدنيا.‏. وثمة شخصيات طيفية كأبو شنوان وأبو سمرة ونجاة وأم عزو، وهناك أيضاً الأقطش، ذو النكهة الأسطورية، المثيرة والغامضة، يعيش على أطراف المدينة مثلما يعيش على حدود الأسطورة:
"يتناقل الناس الأحاديث عنه، وكأنه رجل أسطوري، موجود وغير موجود، واضح وغامض في آن معاً" ص117
إنه متعدد الأوجه، فهو يأتي ليلاً إلى بيت عجوز تربي ثلاثة أحفاد لأحد أبنائها بعدما احترق أبوهم في الفرن! "يدقّ على الباب أو الشباك عليهاويطلب منها أذم ما وضعه أمام الباب" ص129؛ وهو يحتجز النساء الفرنسيات في مغارة ويحكي لهن "عن البلاد والاحتلال، وقسوة العساكر وحرقهم للمحاصيل، واستباحة القرى" ص118، وهو يواجه الانحراف الأخلاقي، مستنجداً بشيخ الجامع حيناً، وبذراعه حيناً آخر، ويستمر في المقاومة حتى يتمكن من إغلاق المحل العمومي..
الشخصيات الأنثوية:
يتحرك الونّاس منذ البداية بين امرأتين، واحدة ضعيفة عاشقة هي نورا، وأخرى قوية، هي وردة الني يأتي وصفها ضمن السرد الحكائي:
"امرأة جميلة طويلة ذات شعر أسود كثيف، لكنها شرسة وحادة النبرة، واضحة مثل النهار" ص12، والفرق بين المرأتين بعيد، إحداهما تتلبس ثوب الأم من خلال الممارسة، والأخرى دور العشيقة. وعلى الرغم من أن السرد المراوغ لا يقول ذلك فإن الونّاس يقوله بطريقة أخرى عندما يستيقظ في أحد الصباحات، من خلال نسقين سرديين متتابعين:
· "رأيت حين استيقظتُ، دلو الحليب مغطى بقطعة قماش بيضاء سميكة. من المؤكد أن وردة جاءت به فوضعته إلى جوار الخزانة، وغطته بقطعة القماش التي لُفّت بها بعض الأرغفة من خبز أمها الصباحي" ص49
· "حين نهضتُ اقتربتُ من النافذة فرأيت نباتات الحبق والنعناع مروية بماء الصباح. هي ذي علامة مجيء نورا!" ص49
لذلك جاء صوت يهتف بالونّاس قبل أن يدخل إل بيته "عليك بنورا" ص95
وتبقى زينة الدنيا رمزاً للعشق الجارف، للبراءة المفقودة، للطفولة الضائعة التي تحاول استعادتها عبر حمو الذي "يبيع الدنيا بكلمة حلوة، يمضي خمس ست ساعات من الليل في تلبية طلبات زينة الدنيا، كلّما جاءها بطلب تعانقه، وتقبّله وتنفخ حول أذنيه، وتطلب ثانيةً، فيعود حمو أدراجه ليشتري لها ملبّياً رغباتها" ص 34.
إن الطلبات التي تطلبها زينة الدنيا من حمو طلبات لا تعدّ ولا تحصى، وهي لا تعبّر عن استغلال بغي للحظة منح اللذة في المحل العمومي، بل تعبر عن حنين جارف للطفولة التي أسدل الزواج الستار عليها بلا رحمة:
"كانت صغيرة، زهرة تتفتح على نحو مدهش لا مثيل له. صغيرة على هجر اللعب مع الصغار في ساحة القرية، وفي الأزقة، وتحت ظلال الأشجار. تقفز وتصرخ وتغني وتوسخ ثيابها وتصنع دمى الطين والرمل معهم" ص59
* * *
وهكذا تقول الرواية ما تريد، دون أن تقول لنا ما نريد أن نسمع، تسبر أغوار النفس، وتصور الشوق للقاء الأحبة المتفرقين، والنهر الضائع، والوطن المفقود، تقدم لنا جرعة من الكلمات، والروح عطشى للوصول إلى المزيد..
وها نحن نقول مثلما قال الونّاس ذاتَ بحثٍ عن أبو الحَو:
"الروح عطشى للوصول، لكننا لا نصل" ص12



18/8/2007


هامش:
صدرت رواية (الوناس عطية) عام 2002 عن دار السوسن في دمشق