لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الخميس، 29 أكتوبر 2009

دراسة: في رحيل البردوني

في رحيل البردوني :
من ينفض الغبار عن أعراس اليمن ؟

د.يوسف حطيني

دعني أغرّدْ فالعروبة روضـتي ورحاب موطنـها الكبير رحابي
فدمشق بستاني ومصر جداولي وشعاب مكة مسرحي و شعابي
و سماء لبنان سمـائي وموردي بردى و دجلة و الفرات شرابي (1)
أبيات جميلة واضحة الانتماء والهوية ، تمتلك القدرة على البدء ، أكثر من أي كلام آخر ، ونحن في حضرة الشاعر عبدالله البردوني الذي رحل عنا منذ أمد قريب ، وكان رمزاً من رموز الشعر العربي المعاصر ، وأؤكد منذ البداية على معاصرته الحقيقية ، علىالرغم من أن شكل القصيدة التي ارتضاها لشعره كان الشكل التقليدي الذي ورثناه ، وما ذاك إلا لأن هذا الشاعر العبقري انتمى إلى الحداثة والمعاصرة من خلال موضوعه ومفرداته وموسيقاه الشعرية .
وعلى الرغم مما يمكن أن يقال حول تأرجح الولاءات السياسية والعقائدية لهذا الشاعر ، وحول ركوبه المركب السهل ، خلال التطورات و التحولات التي شهدها اليمن ، وعلى الرغم مما يقال أيضاً حول مدائحه للسلطة المتنفّذة في العهد الإمامي ، وتأخره في الوقوف إلى جانب الدستوريين ، والجمهوريين فقد حافظ هذا الشاعر في جميع المراحل على نزعة التمرّد التي تجعل من شعره شعراً ثورياً يجابه الاستغلال ويشدو قصائد الحبّ لليمن السعيد الذي لا يبدو سعيداً في القصيدة البردونية الباحثة دائماً عن يمن أكثر سعادة و هناءة .
لقد كان هذا الشاعر عبقرياً يدرك مدى عبقريته الشعرية ويعتز بها اعتزازاً بالغاً . كيف لا ؟ والشاعر يدعو القصائد الخجلى فتلبيه ناسية خفرها وتمنّعها ، وهي التي كثيراً ما تصدّ الآخرين وتتمنّع عليهم، يقول البردوني مصوراً ذلك الخضوع المطلق للعبقرية الشعرية الفذة:
نافراتٌ ينسـين عندي النفارا واعداتٌ لا يسـتطبْنَ اعتذارا
أصبحت وحدها القصائد أهلي صرن لي في الضياع حقلاً ودارا (2)
غير أن القصائد التي أسلست قيادها للشاعر الراحل لم يكن شأنها شأن الزمن الذي حرمه بصره ، وعلى الرغم من ذلك فقد تمرّد الشاعر على عاهته ، عن طريق تجاوزها لا تحدّيها ، فالشاعر لا يرسّخ كونه أعمى ، إلا لماماً ، وهو كثيراً ما يقتدي بالمبصرين ، ويفيد إفادة كبيرة من التراث التمردي الذي يمثله الشعراء الذين رفضوا راهنهم و سعَوْا إلى تغييره ، ويستطيع المرء أن يقرأ في شعر البردوني إعجاباً شديداً بالرموز المتمردّة مثل المتنبي و يزيد بن مفرّغ الحميري وغيرهما .
و قد تجلى هذا التمرّد في شعر البردوني جرأة وسخرية شديدتين ، تفيدان كثيراً ، من ألفاظه المألوفة التي تقترب كثيراً من العامية ، مما يمنح شعره بعداً اجتماعياً جماهيرياً ، يقول البردوني يصف أحد المسؤولين الذين يقتاتون من دماء الشعب اليمني :
قيل مسؤول كبيرٌ قيل مرشوّ و راشي
دخلُهُ في كل يوم فوق أضعاف معاشي (3)
لقد كانت حياة هذا الشاعر الكبير ، باستثناءات قليلة ، سلسلة من التمردات في وجه الداخل والخارج ، والشاعر يخوض حرباً ضروساً ضد العسس الذين يمارسون على الشعب استعماراً من نوع آخر ، استعماراً يتيح لهؤلاء أن يسلبوا الشعب لقمته وحريته و أمنه :
إنهم من بني البلاد .…ولـكنْ يشبهون الغـزاة سلباً وزجّا
يدخلون البيـوت من كل ثقب يسألون التراب من أين عجّا (4)
إنه يدخل إلى التفاصيل الصغيرة في حياة المواطن اليمني ، في همومه اليومية ، في قلقه العادي الذي يجسد ثنائية المواطن / الضحية و السلطة / الجلاد ، ذلك الذي يحصي على المواطن حركاته ودقات قلبه . في قصيدة " سندباد يمني في مقعد التحقيق " يقدّم البردوني صورة لذلك الإنسان الذي أغفل ماضيه ، ولكنه اكتشف أن العيون كانت قد رأت وسجّلت ، فتحداها قائلاً :
كما شئتَ فتِّشْ أين أُخفي حقائبي أتسألني من أنتَ ؟ أعرف واجبي
لدينا ملفٌّ عنكَ ..شكراً لأنكـم تصـونون ما أهملته من تجاربي ! (5)
وحين يتعلّق الأمر بالعملاء الذين يقتاتون لحم الشعب ، لايتهاون الشاعر معهم، ويرفض أن يكون بوقاً يمجّد البطولة المزيفة ، فالبطولة جدارة و استحقاق ، وليست خديعة يمارسها الكُتّاب، ليخدعوا شعوبهم ، و ها هو ذا الشاعر المتمرد يتحدى وَهْم البطولة في نفوس من يدّعونها ، فيقول:
غَيْرَ رأسي أعطني رأس جمـلْ غير قلبي أعطني قلب حَمَلْ
ردّني ما شِئتَ ..ثوراً .. نعجةً كي أسمّيـك يمانيـاً بطلْ (6)
ويرى الشاعر أن الصمت الذي يمارسه الناس الذين يُؤثرون السلامة ، هو صمت غيرمحمود إذا كان الأمر يتعلّق باليمن ، إذ لا يمكن للحياد الذي يعلنه بعضهم أن ينقذ اليمن،إذا مرّت به عاصفة من الاستعمار أو الاستغلال :
الصمت أنجى حَسَـنٌ إنما في نار صمتي يمنٌ مرغمُ
ما زلتُ أدري أنّه موطني لِمْ لا أناديه وعندي فمُ (7)
وحين يضيق صدر الشاعر بما حوله ، إذ يرى استسلاماً في ظل العهد الإمامي البائد ، يقرّع الشعب ويحرضه على القيام بثورته ، طالباً منه ألا ينحني باللائمة على مستغليه لأن عجزه هو الذي دفع هؤلاء للتمادي في هذا الاستغلال :
لا تلـم قادتنـا إن ظَلمـوا ولُمِ الشعب الذي أعطى الزماما
قد يخاف الذئب لو لم يلقَ من نـابه كـل قطيـع يتحـامى
ويَعِـفُّ الظـالمُ الجلادُ لـو لم تقلّـدْه ضحـايـاه حساما (8)
و لا يتوانى هذا الشاعر عن إضاءة الطريق لشعبه حسب رؤيته لهذا الطريق الذي يرسمه الشعب بكفاحه المتواصل و تضحياته المباركة ، حتى يصل إلى فجر اليمن المنتظَر :
هكذا المجد تضحيات .. وغبنٌ عُمْـرُ من لم يخضْ إلى المجد ساحا
إنما المـوت و الحيـاة كفاحٌ يكسب النصـرَ من أجاد الكفاحا (9)
لذلك ليس غريباً أن يمجد الشاعر وقفة الشعب اليمني الخالدة في ثورته ضد السلطة الإمامية ، وكيف لا يكون له ذلك ؟ وقد كان واحداً من أولئك الشعراء الذين آمنوا بدور الشعر في توعية الجماهير وتحريضها ، وفي مباركتها حين تنخرط في الثورة:
رفعْنا الرؤوس كـأنّ النجـو مَ تخـرّ لأهدابـنا سُـجَّدا
فضجّ الذئاب : من الطافرون ؟ وكيف؟ ومن أيقظ الهُجّدا ؟
وكيف اسـتثار علينا القطيع ؟ ومن ذا هداه ؟وكيف اهتدى (10)
إنها الفرحة الكبيرة التي جعلت شمس اليمن تشرق من جديد في ثورة 26أيلول ،إذ توثّبَ روح الوطن، واستطاع اليمنيون أن يقولوا كلمتهم في وجه الماضي . وماذا يمتلك الشاعر في حضرة الثورة المباركة إلا أن يغني لليمن الثائر:
لن يستكين و لن يستسلم الوطنُ توثّب الروح فيه وانتخى البدنُ
ها نحن ثرنا على إذعاننا وعـلى نفوسنا واستثارت أمُّنا اليمنُ (11)
و بعد أن تنتصر الثورة لا يدفن الشاعر رأسه في الرمال ويحاسب الثورة على أخطائها ، ويفضح الغش والرشوة و المحسوبيات والخضوع للنفوذ الأجنبي ، فيلوم أولئك الحكام الذين أمّرهم الشعب فأمّروا الأغراب عليهم وعلى الشعب أيضاً ، فهو هنا يرفض في قصيدة قديمة نسبياً _ ولكنها نبوئية_ سيطرة الولايات المتحدة على مقدرات الشعوب العربية ، وها هو ذا يقول في لهجة ساخرة :
نـحـن أحفـاد عنتـره نـحـن أولاد حــيدره
أمـراءٌ … وفـوقـنـا عـيـن "ريـجن" مؤمَّره
نـحن للمـعـتدي يـدٌ وعـلـى الشـعب مجزره (12)
و هناك ملاحظة واضحة تماماً في شعر البردوني ، وهي حضور البعد القومي في دواوين الشاعر ، يلمح القارئ صورة نضال الشعب العربي الفلسطيني ، وتوق الجماهير العربية للوحدة العربية ، ودعوة الشعب العربي للدفاع عن عروبة أقطارها ، ففي قصيدة عن فلسطين يوجه الشاعر رسالة مفتوحة إلى المواطن العربي في كل مكان ، فيقول:
يا أخي يا بن الفدى فيمَ التمادي؟ و فلسـطينُ تنـادي .. وتنـادي
ضَجّـتِ الـمعركة الحمْرا فقُم نلتهبْ .. فالنور من نار الـجهادِ (13)
ويعبر الشاعر عن قوميته وانتمائه للعروبة ، وذلك من خلال مباركته الوحدةَ المجيدةَ التي قامت بين سورية ومصر ، لتكون نموذجاً يحتذى به للقوى التقدمية العربية على امتداد الوطن العربي ، فيصور هذه الوحدة لقاءَ أحبة وأشقاء ، فيقول:
إنّا توحَّدْنا هـوىً و مصائـراً و تلاقـتِ الأحبابُ بالأحبابِ
لاقى الشقيقُ شقيقَهُ فاسألهمـا كيف التلاقي بعد طول غيابِ (14)
* * * *
من جهة أخرى فإن المرء يجد في شعر هذا الرجل لغة تختلف عما ألفه عند الآخرين، لغة تفيد من التراث إلى أبعد الحدود ، وتفيد من المعاصرة ، يمتلئ شعره بالألفاظ القاموسية ، والألفاظ القريبة من متناول الوجدان الشعبي ، لا يهمه كثيراً أن تنتمي هذه المفردة إلى حقل اللغة الفصحى ، أو اللهجة العامية ما دامت قادرة على أن تحمل دلالاتها المرجوة ، وقد جعلت هذه اللغة شعر البردوني إشكالية حار فيها الكثيرون ، وهذا مثال على استخدام اللهجة العامية ، بل والكلمات الأجنبية أحياناً من أجل تأدية المعنى الذي يدين ، هاهنا ، المؤامرة المعيشية التي تحاك ضد المواطن البسيط :
نكـظّ السـوق بالـويسكي ونطـوي صفقـة الحنـطهْ
فنـلـهي كـل صـعلـوكٍ بسـعر الـخبز والشـطّهْ (15)
ولقد استطاعت هذه اللغة ، وما تحمله من السخرية ، أن تعطي شعره نكهة محببة ، مما يساعد على الوصول بشكل أسرع إلى قلب المتلقي ، الذي يتعطش إلى سماع السخرية التي تلذع أشخاصاً يتمنى ، في قرارته ، أن يكون هو نفسه الساخر منهم ، مما يجعل البردوني حاملاً لدواخل الناس الذين أحبوه لذلك السبب. وفي المقطع التالي يسخر الشاعر من الذين يدّعون الشجاعة ، بينما هم غارقون في الملذات ، ويتعنترون في زمن تسقط فيه العنتريات :
له عبـلة في كل شـبر و فسـحةٍ ومـا قـال إني عنتـر أو تعنـترا
و لا كان دلال المنايـا حصـانـه ولاباع في سوق الدعاوي ولا اشترى(16)
وإذا كان النسق السابق قد أفاد إفادة واضحة من شعر عنترة و حصانه الذي خاض غمار الحرب "وشرى وباعا" فإن النسق الشعري التالي يفيد من بائية أبي تمام الشهيرة ،ويغير حركة الرويّ ،ولكنه يحافظ على البحر ويستثمر المفردات مما يرسخ اهتمامه بأبي تمام و بالتراث العربي عموماً:
ما أصدق السيف إن لم ينضه الكذبُ وأكذب السيف إن لم يصدق الغضبُ
بيض الصـفائح أهدى حين تحملها أيـد إذا غلـبت يعلـو بها الغلبُ (17)
ويستثمر الشاعر روافع الشعر الموسيقية المختلفة من مفردات مناسبة وبحور تتنوع طولاً وقصراً، وتصريع كثيراً ما يعتمد عليه في قصائده ، وفي الأبيات التالية تتضافر كل هذه الاشياء لتقول الدلالة التي يبحث عنها الشاعر :
كان الدجى يمتطي وجهي و يرتحلُ وكنت في أغنيات الصـمت أغتسلُ
وكان يغـزل أطـيافاً و ينقضها وكنت والصمت و الأشباح نقتتل(18)
وقد كان الشاعر في أحيان غير قليلة يستخدم قوافٍ صعبة ،وكأنه في تحدٍّ مع عبقريته الشعرية ، وربما مع الآخرين ، ليثبت تفوقه وتفرده ، وهذا مجرّد مثال:
أيّ ريـح جـرت بـه أيـّـهـا زاول الـرّفــَثْ
يا زفـاف الغـبار : من أَوْلَدَ الريـح ؟مـن حـرثْ؟
ضـاجعـتْ ثَمّ نفـسها بـعضُـها بـعضَـها طمثْ (19)
حقاً ..لقد أسلمتك القصائد قيادها ، أيها الشاعر الكبير، ولكن القدر الذي قال كلمته حين مضيت، لايسلس قياده لأحد، ويبقى عزاؤنا الكبير ، في حضرة غيابك الكبير ، نابعاً من وجود أؤلئك الشعراء الذين لا زالوا يحملون اسم اليمن و العروبة، ويسعون نحو الحقيقة ، وهم يقسمون على أن يبقى اليمن سعيداً على الرغم من فداحة هذا الغياب .

7/9/99
الهوامش :
(1) في طريق الفجر ،دار العودة ، بيروت، ص 85 .
(2) ترجمة رملية لأعراس الغبار ،مطبعة الكاتب العربي، دمشق ،1983، ص 9.
(3) نفسه ، 211.
(4) رواغ المصابيح ، مطبعة الكاتب العربي، دمشق ،1989، ص 27.
(5) وجوه دخانية في مرايا الليل ،دار الحداثة ، بيروت ،ط5، ص 64.
(6) نفسه ، ص60.
(7) لعيني أم بلقيس ، دار العودة ، بيروت ، ط2، ص ص113 _ 114.
(8) نفسه ، ص103.
(9)نفسه، ص 29.
(10) نفسه ، ص118.
(11) نفسه ، ص ص269 _ 270.
(12) ترجمة رملية لأعراس الغبار ، ص 230.
(13) في طريق الفجر ، ص198.
(14) نفسه ،ص 83 _ 84.
(15) ترجمة رملية لأعراس الغبار ، ص 41 .
(16) وجوه دخانية في مرايا الليل ، ص 32.
(17)لعيني أم بلقيس ، ص83.
(18) ترجمة رملية لأعراس الغبار ، ص68.
(19) نفسه ، ص 128