لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الاثنين، 26 أكتوبر 2009

دراسة: سميرة عزام: أحزان الفقراء

سميرة عزام: أحـزان الـفقــراء
د. يوسف حطيني



يكوّن الحديث عن الفقراء عند سميرة عزام هماً رئيسياً في كتابتها القصصية ، ويبدو هذا جلياً من خلال القصص الكثيرة التي كتبتها حول موضوع الفقر ، حيث نظرت إليه من زوايا متعددة فتقصت أسبابه ، ورصدت صوره المختلفة ، وقدمت حلولاً لا ترقى جميعها إلى مناسبة الظرف الاقتصادي العام .كما رصدت الكاتبة الغني في ذهن الفقير ، ولم تتقص عالم الأغنياء ومشاكلهم ، وبقيت إلا ما ندر ، داخل هذا الإطار .
أولا ً – أسبـاب الفقـر :
يقـول ديركس فـي مقـالة الفقراء من حولنا : إن سوط الفقر يضرب البعض فجأة ( . . . ) أما البعض الآخر فيغرقون في لجة الفقر شيئاً فشيئاً ( . . . ) وفي معظم الحالات يكون هؤلاء قد نشأوا في ظروف فقيرة ، فيظلون هناك حتى وفاتهم ( 1 )
إن فقراء سميرة عزام جميعاً نشأوا في بيئة فقيرة ، وقد تعرض بعضهم لسوط الفقر الذي يأتي فجأة ، ولكن هذا السوط لم ينقل الغني إلى الفقر ، ولكنه قاد الفقير إلى فقرٍ أشدُ إدقـاعـاً .
في قصة " على الدرب " تقدم الكاتبة أسباب الفقر التي تجعل الفتاة مسؤولة عن إعالة الأسرة ، وذلك بعد وفاة والدها ، إذ تتحول أحلامها من شراء خاتم لنفسها ، إلى شراء خبز لأخوتها .
وتبدو الهجرة من الريف إلى المدينة أحد الأسباب المؤدية إلى الفقر ، حيث لا تتسع المدينة لأحلام القادمين إليها ، وفي قصة " الغريمة "( 3 ) يبدو الزوجان اللذان انتقلا إلى المدينة ،وهما يعملان من أجل التخلص من فقرهما .
وفـي قصة " الأعداء " ( 4 ) ، يزداد الراوي / البطل فقراً بعد أن تصفى الشركة التي يعمل بها ، على الرغم من أنه كان يرضى بالراتب الشهري الذي يساوي مئتين وخمسين ليرة ، وكان يحقق معجزة شهرية ، إذ يتدبر ألا يجوعوا خمسة أيام على الأقل ( 5 ) .
على أن هذه الأسباب التي تطرحها الكاتبة للفقر لم تكن مقصودة لذاتها ، ولم ترق إلى مستوى التحليل الموضوعي للظرفين الاجتماعي والاقتصادي ، وبقيت في حدود ضرورات الفن .
ثانياً – تجـليـات الفقـر:
يبـدو فقراء سميرة عزام شديدي الفقر ، تأخذهم الكاتبة من الواقع العربي العريض لتنمي إحساس قرائها بالجوع والفقر ،حيث تتفنن في وصف الفقر الذي تعاني منه الطبقة الفقيرة ففي قصة "عقب سيجارة " (6 ) التي تتحدث عن أسرة فقيرة تستقبل ولداً جديداً ، تقدم الكاتبة فقر هذه الأسرة ،ليس من خلال الشخصيات الرئيسية فحسب ، وإنما من خلال السرد أيضاً.
فالزوجة الماخض تطلب إلى زوجها أن يمد يده إلى "العلاقة "حتى يعطي الولد كسرة يأكلها ،وتذكره أن يبلها بالماء أولا "فلا تجرح يبوستها زوره حين ازدرادها (7) "
وحين تطلب بعض الماء الساخن يسألها زوجها : " هل نسيت أن ليس هناك قطرة من البترول في البريموس (8)" .
حتى إن الزوج الذي ينطلق مسرعاً للبحث عن القابلة ، ما كان يتمهل " إلا لتتملى خياشيمه من رائحـة خبز يمرّ به حـامل ،أو سمك يقلى فتتسرب رائحته من باب مفتوح (9)" إذ يدفعه الفقر إلى الاستعاضة برائحة الطعام المشاعة عن الطعام ذاته .
في هذه القصة ، حيث يبدو الفقر في أشد صورة إدقاعاً ، لا يقتصر الشعور به على الكبـار ، فالصغار أيضا يشعرون به ، حتى إن الابن يجمع أعقاب السجائر ليعطيها بائع الهريسة ، لقاء قطعة صغيرة منها ، حيث يعرف أن أباه غير مؤهل من الناحية المادية لشراء الهريسة ، وليس أمام الصغير سوى أن يقوم بما عجز عنه والده ، لذلك يتحمل مسؤولية نفسه ، ويجمع أعقاب السجائر .
وتستمر القصة في تصوير الفقر حين تقبض الشرطة / القامع الخارجي ، على الابن بسبب جمعه الأعقاب ، حيث يذهب الأب إلى مركز الشرطة ، ويخرج ابنه من بين الأطفـال الكثيرين الذين يفعلون الأمر نفسه ، تحت ضغط فقرهم . ويبلغ الحدث الدرامي ذروته حين يبحث الأب ، في طريق عودته إلى البيت في جيوب سرواله وسترته عن " شيء" :
" هنا دس حسين يده في جيبه وأخرج عقباً من بين الأعقاب القابعة فيها ، ودفعه إلى أبيه ليستقر في لحظه بين شفتي والده اليابستين المرتعشتين " ( 10 )
إن الأب الذي كان يتمنى أن يلوم ابنه أو يضربه ، لن يقوم بأي من الأمرين ، فهذا العمل الصبياني خلص الأب من أزمة ما ، ومن يدري لعل الابن لا يجمع أعقاب السجائر للحصول علـى الهريسة فقط ، وإنمـا لتقديمهـا لأب عاجـز عن تقـديم الهـريسة لـه ، والسجـائـر لنفسـه .
وتبـدو أقسى تجليـات الفقـر فـي صراع البقـاء الـذيـن يخوضـه الفقـراء ضـد الآلـة ، أو ضـد بعضهم ، دون أن يعـوا أسبـاب فقـرهم الـحقيقي ، وبـالتـالـي ، دون أن يستطيعـوا مقـاومـة هـذه الأسبـاب .
وثـمـة قصتـان للكـاتبـة تشـيران إلـى صـراع الإنسـان مـع الآلـة ، بـوصفهـا عـدوة لقمـة العيش ، بـالمعـنى البسيـط الساذج ، لا بـالمعـنى الـذي كان سائـدا في أوروبـة لصراع الإنسان مـع الآلـة . تلكمـا قصتـا " الغـريمــة " ( 11 ) .و " وخـرس كـل شيء "( 12) في قصـة " الغـريمـة (13) تـلف الغسالـة وهيبـة الفنـادق ، بحثـاً عـن عمـل كـانت تـمارسـه قبـل وصـول عـدوتـهـا البيضـاء : الغسالـة الكهـربـائيـة ، ولكنهـا في بحثهـا المضني لا تـجد إلا جوابـاً واحـداً .
" - لا : لا نـريـد … فنحـن نغسـل بـالكهربـاء (14)" .
غـير أنهـا تستمر في البحـث بهـدف مساعـدة زوجهـا في جمـع ثمـن أرض في ديـاره ، يبني عليهـا غـرفـة مـن حجـر ، وتتعلـم الغسل بـالكهـربـاء ، لتسجـل انـهـزامـها أمـام هـذه الآلـة . هـذا الانـهـزام الـذي دفعـهـا إلى عقـد نـوع مـن المصـالـحـة مـع الآلـة والـخضــوع لجـبروتـها ، لتعـرض نفسهـا بعـد ذلك غسالـة بـالكهـربـاء .
إن " الغـريـمــة هنـا ليست كيـانـاً إنسانيـاً ، لكنهــا ، الغسالـة الكهربـائيـة التي تحتـل مـوقـع المرأة – الغسالة وتحرمهـا من العمـل .
لا تطــرح هـذه القصة علاقـة الإنسان بـالآلـة ، فمثـل هـذه العلاقـة لا دلالـة لـهـا في شرطنـا الاجتمـاعـي الحـسير ، "لكنهـا تطـرح وضـع الإنسان الفقـير الأعـزل والبـاحث عـن لقمـة عيش بـلا كفـاءات ولا مـواهـب ، والــذي لا يبحث في عـريـه الكـامـل ، عـن عمـل فقط وإنـمـا يقـوم أيضـاً بتسويـق جهـده العضلـي وتبخيس هـذا الجهـد بـلا حـدود " ( 15 ) .
وإذا كـانت المصـالـحـة الـتي عقـدتهـا وهيبـة مـع عـدوتـهـا البيضـاء هـي نصف هـزيمـة ، فـإن أبـا مخـول فـي قصـة " وخرس كل شيء " ( 16 ) يعيش الهزيمة كاملة ، ذلك أنه تحدى ، بنمطه القديم ، الوافد الجديد ، ولما لم يستطع الاستمرار في تحديه قرر أن يدمره ، وأن يدمر نفسه معه أيضاً ، وهكذا ذهب أبو مخول ، ولكن الجديد ظل يتجدد باستمرار .تحكي هذه القصة حكاية صاحب مقهى قديم ، كـان يجتذب عشاق الهدوء . غير أن المقهى الجديد الذي قام منذ عام أخنى على من بقـي من زبائن أبي مخول ، فهو مقهى جديد الحلة ، بهي الأركان ، وموسيقى الصندوق الـذي أتى به بيروتي متفرنج تعوي ، فتتمايل الأجسام بهدوء أولاً ثم بعنف ، " ثم تركب الراقصين العفاريت وتتلبسهم الهستيريـا " (17 ) .
المـوسيقى تعوي ، والأجساد تدور ، ورأس أبي مخول تدور أيضا ، والصندوق مطارق تهوي على رأسه الأبيض ، فهل يستسلم ؟ إذاً سيدمر عدوه أولاً .
في صباح اليوم التالي ، كان الصندوق حطاماً متناثراً ، بينما وجد الناس أبا مخول منكفئاً على إحدى الطاولات .
إن إقدام أبي مخول على تحطيم صندوق الموسيقى هو نوع من الدفاع عن النفس ، إزاء سطوة الجديد الذي سلبه رزقه وزبائنه ، وسلب الشباب عقولهم . فالمقهى القديم الذي كان يجتذب الناس كل صيف " انفض رواده تراجعـوا أمـام ، ذلك الطوفان من الأصوات والصخب لم يعد مقهاه يجتذب أحداً، إلا عابر سبيل يريد شربة ماء "( 18 )
وحيث إن القديم لا يمتلك هنا عدة المواجهة ، فإن نهاية القصة جاءت انتقاماً من جديدٍ اعترف به أبو مخول بديلاً للقديم لكنه كابر ، ودمره قبل أن ينكفىء على نفسه . وثمة شكل آخر من صراع البقاء ، تخوضه بعض شخصيات سميرة عزام ، وهو ذلك الصراع الذي يخوضه الإنسان ضد أخيه في الإنسانية ، إذ تخاض المعارك دون أن يعرف أطرافها بعضهم . فالغرباء في هذه القصص لا يبتغون سوى العيش ، وبما أن فسحة العـيش ليست واسعة للفقراء بالقدر الكافي فقد كان عليهم أن يخوضوا معارك بقائهم ضد بعضهم ،دون أن يبحثوا عن السبب الحقيقي لفقرهم ،ولصراعهم المرير الذي لا ينتهي .
تحكي قصة " الملـح " ( 19 ) حكاية صراع بين الطباخة الجديدة حميدة ، والطباخة القديمة وهيبة ، فالطباخة الجديدة تتعلم على يدي وهيبة فنون الطبخ على أتمها ، ولكن الطعام الذي قدم اليوم إلى سيدها وسيدتها كان مالحاً جداً ، وكأنه كان مطبوخاً بماء البحـر ، إن صرخة " ارفعي المائدة "( 20 ) التي أطلقتها السيدة أجفلتها :" تراها أخطأت فملحته مرتين فـأفسدته . . ولكن حتى ولو سهت وفعلت ذلك مرتين ، فـإن الطعـم يظـل محتملاً .. فكيف حدث ذلك ؟ فها هي بالـذات وقد تعلمت على يد وهيبة ، طباخة البيت ، مـذ كان البيت والصنّاعة التي تقلب التراب لو شاءت طعاماً مستساغاً " ( 21 ).الصرخة التي أجفلتها بعد صرخة سيدة البيت هي صرخة سيده :" كفي يدها وابحثي لكم عن أخرى " ( 22 ) التي أعقبها صوت السيدة :"هذا لنظل نعرف قدر وهيبة " ( 23 ) ."ولم تكن وهيبة بالفعل تريد أكثر من ذلك .فهي في مجلسها في الغرفة الصغيرة التي تواكب المطبخ قد أطلقت ابتسامة ، اتسعت حتى باتت ضحكاً أخرس ، وهي تتذكر كيف غافلت حميدة ،ودست في القدر ملء قبضتها ملحاً " ( 24 )
إن وهيبة هنا تريد انتزاع اعتراف الجميع أنها سيدة المطبخ دون منازَعة ، وهي تفعل ما قامت به ، لتحافظ على صورتها في أذهان أصحاب البيت ، حيث تظل طباخة الببيت التي لا يمكن أن تأتي من هي أقدر منها على القيام بفنون الطبخ المختلفة .
قصة " مجنون الجرس " (25 ) تحكي أيضاً عن صراع بين جيلين : جيل قديم لا يريد أن يعترف بهزيمته ، فيعارك الجديد ، وجيل جديد يتجاوز القديم مستنداً إلى تطور الزمن الذي لا يلتفت إلى الوراء ، إنها قصة أبي مسعود قارع جرس الكنيسة لمدة تزيد عن أربعين عاماً ،و لكنه حين يبلغ الستين يقول له " بونا يعقوب كاهن الكنيسة : " ألا تعتقد أنه آن لك أن تستريح " ( 26 ) .
إن رعشة الستين لا تمنحه القوة اللازمة لقرع جرس الكنيسة ، ولا تعطي الجرس أدنى انتظام ، وكان على " بونـا يعقوب " أن يحسم الأمر ، ويـأتي بشاب " يستطيع أن يقرع الجرس بهمة ونشاط ، غير أن أبا مسعود الذي لم يتعود أن يرى أحـداً سواه يقرع الجرس يرفض التسليم للأمر الواقع ، فبعد أن يهيم على وجهه فترة طويلة وتختلف الروايات حول اختفائه ، تفيق القرية مذعورة ذات ليلة " وقد راح جرسها في صوت ليس له اتزان النغمة يمزق سكون ليلها المطبق " ( 27 ) .
وواضح هنا أن الانتصار الذي حققه أبو مسعود ، بقرعه الجرس ليس إلا انتصاراً دونكشوتياً ، لأنه في حقيقته تعبير عن العجز عن مواجهة الواقع والزمن .
ولعل قصة " الأعداء " ( 28 ) التي تحكي عن صراع البقاء بين الفقراء هي من حيث فكرتهـا الأكثر التصاقـاً بإنسانية الإنسان ، ذلك لأنها تنضح إنسانية على الرغم مما فيها من تحد بين الفقراء على اقتسام فتات الأغنياء:
شاب فقيـر يتقدم إلى " الشركة الشرقية للاستيراد والتصدير " بطلب توظيف فيجد هنـاك غريمين آخرين ينافسانه على الوظيفة ذاتها . ويبدأ الصراع بين أعداء لقمة العيش عند السكرتيرة ريثما يفرغ المدير لمقابلتهم ، يتأملون بعضهم ، يشعل أحدهم سيجارة " لاكي سترايك " دون أن يقدم سيجارة للآخرين ، ويستمر الصراع الصامت حتى تطلب السكرتيرة من الثلاثة معا أن يقابلوا المدير الذي يوحدهم ، فلا يسأل أيا منهم أي سؤال ،لكنه يقول لهم جميعا :
" سـأدرس الطلبات ، وستتصل بكم السكرتيرة إذا جد شئ" (29) وعندما خرج الثلاثة من المبنى قدم أحدهم سيجارة " لعدويه " ! !ثم تصافح الجميع ،ومضى كلٌ في طريقه .
إن هـذه القصة تقول ببساطة ، إن العداء بين الفقراء هو عداء مؤقت ، مرهون بظروف الحاجة ، وظروف المصارعة وحين تزول هذه الظروف يعودون أصدقاء تجمعهم مشكلة البحث عن عمل .
ولعل المفارقة اللافتة للنظر هي أن أيـاً من الثلاثة لم يوجه حقده تجاه المدير ، ذلك لأن المرء يتعلم بالتجربة أن ينحني للقوة المتفوقـة ( 30 ) بدلامن أن يجابهها مما يشير إلى أن فقـراء سميرة عـزام لا يعـرفـون أعداءهم الطبقيين،ولعل السبب في ذلك هو أن " العواطف ليست محايدة فهي ملوثة دائما بصراع الحياة الجارح " (31 ) هذا الصراع الذي يراه كل امرىء من موقعه الخاص ، ووفقاً لأفقه الخاص .
ويأتي النفاق الاجتماعي شكلاً آخر من أشكال تجليات الفقر ، هذا النفاق الذي قصرته الكـاتبة عـلى سعـي الفـقراء إلى الـزواج النفعي . وقصة " ستائر وردية(32) "
هي مثال واضح على هذا النفاق ، إذ تتزوج فهيمة من أبي خليل ، تاجر العطارة ، المزواج المطلاق ،والسبب كما قالت أم فهيمة : " زيجة البنت ستر لها ، خفت عليها تعرى وتجوع ، وأولاد الحرام كثر ، وكانت تبدو على الرجل نعمة ، فاشتر ى لها زوجين من الأساور وقرطـاً وثلاثة أثواب ، ودزينة من الصابون المعطر وزوجتها إياه ، فإن عاش فبخيره ، وإن مات تزوجت غيره " ( 33 ) .
وحين يمرض أبو خليل للمرة الأولى تركض أم فهيمة بحثاً عن طبيب " لأن حساب السرايـا غير حساب القرايـا ( . . . . ) لو مات الرجل لشحطتنا أم محمود ] زوجته الأولى التي بقيت على ذمته [ من الغرفة ، وما تركتنا نبيت ليلة واحدة : فالدار كما سمعنا مكتوبة باسمها ( 34 ) . أما عندما يمرض للمرة الثانية ، بعد أن يشتري لفهيمة ستارة وردية وخزانة وسريرا ، فإن إحدى الجارات تقرر حقيقة ما يدور في نفس أم فهيمة ،حين كانت الأخيرة ذاهبة إلى عيادة الطبيب تستدعيه ليعاين أبا خليل ، تقـول الجارة : " لو مات أبو خليل هذه المرة ، فمع ألف سلامة ،ستارة وردية ، وأثاث جديد لا تدع فهيمة تبقى بلا زواج أكثر من ثلاثة أيام " ( 35 ) .
بهـذه الرؤية ، التي تكررها سميرة عزام في اكثر من قصة ، يتحول الزواج من مشروع اجتماعي هدفه إنشاء الأسرة ، إلى مشروع يتخذ النفاق الاجتماعي سبيلا له ، للوصول إلى هدفه المتمثل في تأمين مستقبل مضمون من الناحية المادية.
قصة " إلى حين (36)" تصور الأمر ذاته ، فسعاد الباحثة عن الزواج من ابن جيرانها الغني تقابل فهيمة / السلعة / فيما تقابل أم فهيمة العمتان الساعيتان إلى تأمين مستقبل ابنة أخيهما .
وإن كانت نهايتا القصتين تختلفان من حيث إخفاق بطلة " إلى حين " (37) في تحقيق مشروعها ونجاح بطلة " ستائر وردية "(38) في ذلك .
وهذا النفاق الاجتماعي لا يكون دائما مشروعا أنثويا ، لكنه يمكن ان يكون مشروعا ذكريا كذلك . فالمرأة الثرية التي يموت زوجها تتحول إلى فريسة للأقارب ، كل قريب يحاول أن يرثها بوصفها جزءا من التركة التي خلفها الميت وراءه .
في قصة " التـركـة "(39 ) يصارع أبو ناصيف الموت طويلا ، بينما يستعجل أقاربه موتـه طمعـاً في ثـروتـه ، فـالرجـل ليس لـه أطفال لأنـه لا ينجـب ، ومع ذلـك فإن اسم " أبـا ناصيف "( * ) كان مفصلا تفصيلا مناسبا عليه ، وكان يتفرد بـه فما سمعنا أحـداً يـدعـو زوجته أم ناصيف (40) ولم يكن استعجالُ الأقـارب موتَــه خـافيـا ، فهم – في مرضه – يحرسون دكانـه بـالتناوب خوفـا من أن تنقـل زوجته في غفلة منهم بعض البضاعة . ولم تنته هذه المناوبة إلا حين جاء أخو أبي ناصيف إلى أقاربه مفتعلاً الشهامة – وكان أحد حراس الدكان – وكان أصلع قميئاً وقصيراً ، ليخبر أخويه وزوجتيهما "بأن في مسلكهم خسّة لا يقرهم عليها الناس ( 41 ) " وكبـر هـذا العمل في عيون الجيران فمـا عاد الأخ يبـدو في عيونهم قميئاً ، إذ خلعت عليه الشهامة بعض هيبتها ، وأطالت من قامته شبراً أو شبرين " ( 42 ) ، وعندما يموت أبو ناصيف لا يجد أخوه طريقةً أمامه للوصول إلى الثروة ، وقد كتبها المرحوم باسـم زوجته ، سوى الزواج منها ، ليعود في نظر الجيران قصيراً أصلع قميئاً ، مستعداً أن يرث أخاً في كل شيء حتى الزوجة التي صارت في نظره جزءاً من التركة .
تصور هذه القصة التكالب الذي يمارسه أقرباء صاحب الثروة فيما بينهم ، على ثروة قريبهـم ، وإذ كان الأصلع قد نجح في الحصول على ثروة أخيه ، عن طريق الزواج من زوجته ، فإن الطامع بثروة الميت قد يخفق إخفاقـاً كلياً أو جزئياً في قصة أخرى .
ففي قصة " زواج العمـة " ( 43 ) يمـوت محمود زوج نـاجية ، ويترك وراءه آلافاً مؤلفة ، ويقوم أخو الزوجة ، أبو شوقي وزوجته ، بكل ما يجب عليهما من الرحمة ، يستمطرونها رياء على المرحوم . فلو كان الميت " ابناً لأبي شوقي لما سكب الدموع التي ذرفها وزجه ، لقد جمعوا مشايخ البلد ، وعلا صوت القراءات عن روح الفقيد ، وأقـامــوا مـأتمه أربعين يوماً وليلة ، وناجية كالبلهاء ، تصيح كلما صاحت أم شوقي أو ضرب أخوها كفاً بكف ( 44 ) .
أبو شوقـي لم يجد أمامه طريقة لكسب مال ناجية سوى أن ينصّب نفسه وزوجته وصيين عليهمـا ، حيث أصبحت أم شوقي صاحبة الأمر والنهي في بيت ناجية وصارت تلعب " بـالفلـوس " لعباً ، وتحاول هي وزجها أن يملأا رأس ناجية بذكرى زوجها حتى لا تفكر في زواج جديد :
" وتولى أبو شوقي شؤون أخته المالية ، فباع واشترى ، وحطّ وشال ، وغيرّ وبـدّل ، وبلع ما بلع ، وظل يترحم على مسعود كلما قام أو قعد ، وملأ جدران البيت بصور الرجل ، واستأجر المقرئين يقرؤون آيات الكتاب الكريم على قبر مسعود كل يوم جمعة . وصار يحتفل بذكرى وفاته مرتين في العام ( 45 ) .
غير أن عرس الملوك الذي يقدم لابنه شوقي ، بفلوس ناجية طبعاً ، يحرك في نفسها حنيناً للرجال ، فتخلع الأسود وتلبس الملون ، الأمر الذي يدعو أم يوسف الخطابة أن تقول :
" هذه نفس وناجية بشر ، والله لن أهدأ حتى أزوجها وأنف أم شوقي في التراب" ( 46 )
هكذا صورت سميرة عزام تجليات الفقر من الناحتين المادية والنفسية ، فالفقراء الذي يبدون شديدي الفقر تتشوه نفسيتهم تحت وطأة الفقر ، وهذا يدفعهم إلى تحصيل لقمتهم بأساليب لا تخطر إلا على بال من كواهم الفقر بلا رحمة .
ثالثاً – البحث عن حل سحري :
يعاني بعض فقراء سميرة عزام من عدم فهمهم طبيعة دورهم في المجتمع ، حيث يبحثون عن وسائل معيشية ، يحاولون بها خداع الظروف بدلاً من مواجهتها .
إن قصة " بنـك الـدم " (47) مثال ناصع على اختيار الوسائل الغريبة في كسب المعيشة ، فبطلة القصة تبغي بيع دمها في سبيل فستان ، تسمع من الناس أن إدارة بنك الدم تشتري الدم ، وعلى الرغم من صعوبة المغامرة ، إلا أنها تبقى في نظرها مغامرة رابحة ، فهي لا تخسر شيئاً بل تكسب خمسين ليرة تستطيع أن تشتري بها فستاناً طالما حلمت به .
وقد صـور يوسف إدريس في قصة " شغـلانـة " ( 48 ) هذه الفكرة الطريفة ، إذ يهتدي بطل القصة أخيراً على " شغلانة " لا تكلفه شيئاً ، وهي تجارة الدم ، إن جازت التسمية
ووفقاً لقصـة عزام ، فإن الأغنياء لا يبيعون دماءهم ، فهم ليسوا بحاجة إلى النقود ، أما الفقراء فيستطيعون أن يشتروا بثمن دمهم أشياء كثيرة ، فأم ناصر " باعت دمها ثلاث مرات ، وكانت في كل مرة تقبض خمسين ليرة ، كما كان ابنها الموظف بالمطافى
زبوناً دائماً ، فهو لا يفعل شيئاً إلا أن يأكل ، ويبيع دمه ، وينتظر الطوارىء ( 49 ) .
إن المال في هذه الحالة يكتسب صفات تجعله يرد روح الفقير ، بعد أن تكاد تسحبها الإبرة الشرهة . هذه إحدى الزبونات تروي :
" ولما انتهت العملية قمت من السرير ، وأنا أحس بدوخة سرعان ما تبددت بعد أن جاءتني الممرضة بكوب من الحليب ، وبإذن يخولني قبض المبلغ ...ماذا خسرت ، لا شيء ، لقد اشتريت بالليرات الخمـسين كسوة الشتاء،ليتهم يقبلون أن أبيعهم دما كلّ أسبوع"( 50 )
إن البطلة هنا هي فتاة صغيرة ، أرادت أن تنغمس ، تحت وطأة الفقر في تجارة الدم ، ولكن نهاية القصة تنهي حلم الصغيرة بفستان جميل ، إذ يقـرر الطبيب – ولأسباب إنسانية – أن يرفض أخذ الدم منها :
" روحي واكبري عشر سنوات ، قبل أن تعرفي هذه التجارة فأنت بعد طفلة " ( 51 ) .
فأية إنسانية أرادت تصويرها سميرة عزام ، ينبض بها بالفعل ، قلب الطبيب ، إنها إنسانية شخصية ، لا جماعية ، فوضعه الجماعي يضعه في طبقة أخرى . ثم إنه بفعله الإنساني هذا يصفع أحلاماً بالملبس والكساء . . فأية إنسانية معذِّبـة ومعذَّبـة معـاً تلك التي تصفع أحلام الإنسان حفاظـاً عليـه ؟ ! !
ها هنا يقتصر بيع الدم على الفقراء ، فالأغنياء لا يبيعون دماءهم ولكنهم يشترون دماء الفقراء لمرضاهم ، أما مرضى الفقراء فلا يعرفون المستشفيات . ربما أرادت الكاتبة ان تقول ، ولو بشكل غير مباشر ، أن الأغنياء يمتصون دماء الفقراء الذين يحتاجون إلى المال .إن البحث عن المال هو في قصص عزام بحث عن لقمة العيش ، وما بيع الدم إلا وسيلة من وسائل كثيرة تتدرج من التسول إلى العمل المجتهد الذي لا يكاد يسد الرمق .
قصة " مؤهلات " (52) الـتي تتحـدث عـن فـتى يـحتـرف التسول تصور مدى الصـراع المرير الذي يعتمل داخل نفوس أبناء الطبقة الفقيرة ، إذ يرفض الفتى المتسول أن يطبّب يده العاجزة مجاناً . ذلك أن هذه اليد هي رأس ماله الذي به يستعطف قلوب الناس .
ويسبب هذا الرفض عقدة للطبيب الذي أراد أن يخلص الفتى من عجز يده .. إنه يذكر هذا الفتى ، خلال دراسته الجامعية ، يعرفه قبل ان يذهب ليتخصص في الجراحة التجميلية ، كان يذكر صورته ، وصوته الذي لا يمل ولا يكل : " خمسة قروش ياسيدي أفطر بها ، خمسة قروش لغدائي ، ألا ترى يدي العاجزة " (53) .
وحين يحس الطبيب بالفتى العاجز هذه المرة ، وهو يجذبه من كمه بينما كان يهم أن يصعد سيارة توصله إلى العيادة ، يجذبه من كمه ويدفعه إلى السيارة . حيث يخاف الصبي ويقول بلهجة المتلعثم :
" ماذا تريد بي يا سيدي ، إ نني لم أطلب إليك أن تحملني في السيارة ، لقد رجوتك أن تمنحني خمسة قروش لأفطر " (54 ) . وهنا يطمئن الطبيب جزع الصبي بليرة كاملة يدسها في جيبه ، ويعرض عليه أن يجري له عملية تخلصه من التسول وتجعله إما حداداً أو نجاراً أو خياطاً . وتروق الفكرة للصبي ويحلم أن يحطم رأس " خميس " الذي ضربه مرتين وسلبه قروشه دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه . ولكن انفراج أساريره يتحول إلى تردد حين يتذكر أباه وزوجة أبيه :
" – يجب أن أسأل أبي ، أولا .
-هل تريدني أن أمضي معك لأقنعه ؟
- لا سأسأله بنفسي ، وأعود إليك " (55) .
ولكن الصبي لا يعود لينقل قرار العائلة . وحين يراه الطبيب يتسول أمام دار السينما يسأله عن رأي أبيه فيقول : " لقد ضربني يا سيدي ، فندمت لأنني حدثته بالأمر … أما زوجته فقد قرصت أذني وقالت " قل للطبيب يا حمار أن يقطعها لك من الكتف ، أو كنت تفلح بأن تكسب قرشاً واحداً من المحسنين لولا يدك هذه ؟ ألا ترى أخويك البليدين لا يجمعان معا نصف ما تكسبه وحدك في يوم واحد ؟ " (56 )
إن هذه القصة تصور ذلك الصراع المرير بين الصبي وأبيه – وهي لم تشر صراحة إلى صراع الأب مع نفسه – ولكن هذا الصراع يحسم لصالح بقاء الإنسان مشوهاً ، حفاظاً على لقمة العيش . إنه شكل من أشكال صراع البقاء ، ولو على حساب العاهة المستديمة . غير أن ثمة أشكالاً أخرى لصراع البقاء تبدو من خلال صراع الإنسان مع ضميره ، ومع الآلة ، ومع أخيه الإنسان أيضا ، شريكه في الفقر والبحث عن لقمة العيش . وتمكن الإشارة هنا إلى قصة " نافخ الدواليب (57)" للتدليل على الصراع الذي يعتمل داخل نفس الفقير الذي تضطره ظروفه المعيشية إلى فعل ما لا يرضي ضميره الحي ، سعياً وراء لقمة يجد نفسه مضطراً أن يأكلها . إن القصة تحكي عن صبي ورشة الدراجات الذي ينحني على دواليب الدراجات المصفوفة قرب النوادي ودور السينما ، فيعبث بالبراغي المشدودة ، فترتخي العجلات المنفوخة بحركة زفير قوية . . . وحين يمسك راوي القصة بالصبي بينما ينحني الأخير على دراجته ، يطلب منه الصبي ألا يعده دنيئاً ويشرح له الظروف التي أجبرنه على ما يقوم به .
" إن ورائي أماً وأخاً وأختاً يعيشون على إبرة أمي وما أربحه أنا من وراء نفخ العجلات ، إنني أعمل في الورشة حتى الخامسة لقاء قروش قليلة ، ثم يمضي المعلـم تـاركـاً الـورشـة لـي ، وهـذه فـرصتي الـوحيـدة لأكسب قـروشـاً آكل بـها ، كم أشعر بالخجل حين أسمع في المدرسة دروساً تحث على الأمانة وعلى الخلق القويم ، ثم أجدني في النهار مضطراً إلى هذا السلوك ( 58 ) .
يعانـي الولد هنا شرخاً واسعاً في ضميره فهو لا يستطيع الامتناع عن ممارسة الغش إلا إذا اختار أن تموت عائلته من الجوع.قصة " اقتنعوا ولكن "( 59 ) تطرح بطلا يخوض معركة البقاء في عمله ، انه حارس أفنى عمره في حراسة ثلاث فيلات يملكها ثلاثة وجهاء . حين يكبر و حين تنغرس أعمدة النور في الشوارع ، يسمع أحدهم يقول لجاره : " أظننا بعد تعبيد الطريق و أنارته لن نكون بحاجة إلى حارس (60) " . ولا يجد هذا الحارس أمامه إلا أن يقنعهم بضرورة وجود الحارس ، و ذلك عن طريق "سرقة مفتعلة " يقوم بها "فيسرق علبة يعرف أن فيها ملاعق و شوكات من كل الإحجام .
ان زهرة واحدة من حديقة الثلاثة الوجهاء الذين يحرس بيوتهم ،لم تدخل في ذمته ، و الليلة تدخلها هذه العلبة بأشياء لا يعرف ما يفعل بها . و لكنها ضرورة تقنع أصحاب الفيلات الثلاث أن شق الشـارع و حتى إنارته بالكهرباء لن تقعد لصا جريئا عن أن يسطو (61) " .
إن الحارس يعرف البيت الذي سرق منه العلبة شبراً شبرا لذلك تصرف كلص هادئ ، حيث أخرج العلبة من البيت و دفنها في الحديقة إلى الأبـــد :
" إنـه قطعا لا يريدها لنفسه ، ولا يفكر أبدا في أن يبيعها أو حتى يمنحها لأحد (*)، لا يبغي منها إلا كشف غيابها ، و لا يعنيه بعد ذلك أن تستقر في بطن حفرة ، أو تسقط في بحر عميق ، أو حتى أن تعود لأصحابها إن كان ذلك لا يكشف فعلته "(62)
هكذا نجد بعض فقراء عزام يبحثون عن حلول مؤقتة لا تمكنهم من الرضا عن أنفسهم ، و لا تشعر المجتمع بحاجته إليهم ، لذلك نراهم يمارسون التسول و الغش و تجارة الدم ، بعد أن شوه الفقر أخلاقهم و لم يترك لهم خيارات أخرى .
رابعاً – مفهوم العمل - صورة الغني :
لقد قدمت الكاتبة أيضاً العمل وسيلة مثلى للخروج من أزمة الفقر ، وثمة قصص عديدة تنحـو فيهـا الكاتبـة هذا المنحى ، ونشير هنا إلى قصة " الغـريـمـة " ( 63 ) حيث يرتبط تحقيق الغنى النسبي بالكرامة والأرض ، ويكون العمل هو الحل ، وكذلك يكون الأمر في قصة " سأتعشى الليلة ( 64 ) حيث يتغلب صاحب العاهة على عاهته بالعمل .
علـى أن مفهوم الكاتبة للعمل ، أو بالأدق مفهوم شخصياتها النسائية يعاني من اضطراب في إدراكه ، فبطلة قصة " على الدرب " (65 ) لا ترى أن العمل يحقق كرامتـها ، وتقدم فهماً خاطئاً له حين تتمنى أن تصبح سيدة منزل كالسيدات المدللات " يجلسـن على شرفات بيوتهن ، ويحتسين القهوة ، ويرفعن الفناجين إلى أفواههن بأيدي (*) عاجية سمينةٍ حليت بالخواتم اللامعة " ( 66 ) .
إنها بدلاً من أن تثور بشروط العمل ، تثور بالعمل ذاته ، تطلب الراحة من أجل أن تكون سيدة لا تغسل زجاجات البيرة ، جاهلة بذلك ضرورة العمل ، وارتباطه الجدلي بتحقيق الكرامة الإنسانية .
و ترتبـط الكرامة هنا بالغنى أكثر من ارتباطها بالعمل فبطلة القصة تعمل وخطيبها يعمل أيضاً ، أما صاحب المعمل ، وفق رؤيتها لارتباط العمل بالشقاء ، لا يعمل ، ولكنه قادر على تدمير أحلامها وأحلام خطيبها ، إذ ترى نفسها ، وترى خطيبها ، لا يساويان شيئاً في هذا العالم " ورقصت أمام عيني صور الأشياء ضخمة تتمنع على ضعفي ، مستعلية شامخة لا ينالها الزاحفون على بطونهم أمثالي ، كلها جبار ، البيوت ، الآدميون ، الأشجار ، السيارات ، حتى زجاجات البيرة ، خلت الواحدة منها في طول المارد ، ووسط هذه الدنيا من الشوامخ رأيت نفسي معه . . مع الرجل الذي أعطاني خاتماً وقـال :" ستكـونين زوجـتي " . وكنا قزمين ندبُّ على الأرض نتمطى فلا تبلغ طول إصبع المدير التي نحّتني بإشارة عن السيارة وخلتني للعاصفة ( 67 ) .
إن كل الأشياء المحيطة ن التي تشعرها بالعجز ، تقودها إلى نوع من الاستسلام ، فهي تتهرب من مواجهة ظروفها الاجتماعية وتنكفئ أمامها .
في " حلم من حرير " ( 68 ) تبدو الصورة المشوشة ، التي يحملها الفقير عن الغني بحكم بعده عنه ، حيث لا يرى من حياته كثيراً من مشكلات الطبقة الأرستقراطية ، ولكنه يراها دائماً وفق نظرة أحادية ، سعيداً ومستعداً أن يبني سعادته على أنقاض سعادة الفقراء . في هذه القصة تبدو صورة الغني في نظر سعاد ، العاملة في صالون للتجميل ، وهي تنظر إلى ثوب أكبر من إمكانياتها في إحدى الواجهات ، كما يظهر من خلال مونولوجـها : " لا ليست المائتا لـيرة كثيرة فيـه ، لغيرها على الأقـل ، لـواحد ممن يمددن لها أيـدٍ ( * ) كسولـة بيضـاء سمينـة ، تعكف إلى أظافرهـا تسوي من أمرهـا بالصباغ الأحمر ، وضوء الخواتيم الماسية في الأيدي الكسولة البيضاء يكاد يتخطف ضوء عينيها "( 69 ) .
إن المترددات على محل التجميل الذي تعمل به سعاد ، هن صلة الوصل بينها وبين عالم الأغنياء الذي لم تر منه سوى أثواب جديدة ، وشعور مصففة ، وأظافر مصبوغة ، وأحذية لم يعلق بها غبار الطريق .
وإذا كان منصور ، خطيبها الذي أقنعها برجولته وأناقته ببذلته الأمريكية المستعملة قد منعها بلطـف ، عن متابعة أحلامها بأثواب الحرير ، وانتصر معها بالحب ، فإن نصرها لم يـكن ليتمَّ لو أنهما لم ينكفئا عن مواجهة العالم المحيط بهما ، وما ذلك إلا لأن هذا الانكفاء هو ، في نظرهما ، الطريقة الوحيدة للتغلب على ظروف القهر المادي .
في قصة " وأما بعد(70) " تدخل الكاتبة عالم الأغنياء الشقي ، تكتشف بعضاً من همومه فالشخصية المحورية في القصة ، وهي سكرتيرة المدير الفقيرة ، لا تحاول الدخول إلى عالم الأغنياء .ولكن طبيعة عملها هي التي أدخلتها عنوة إلى هذا العالم الغريب حيث الأرباب - أرباب العمل – يحيون ويميتون ، وهم يدخنون السجائر . في هذا العالم تظهر الخيانة الزوجيـة عند مدير الشركة الذي يقيم علاقات مشبوهة مع نساء كثيرات ويهديهن الهدايا مهما غلا ثمنها " فأمثال المدير لا يسألون عن الثمن " ( 71 ) .
إن المدير ، الجلف ، إلا إذا تكلم مع عشيقة له ، يقبل أن يدفع كل المبالغ المترتبة على مغامراته العشقية . ولكنه يرفض في الآن ذاته أن يقدم سلفة مقدارها مائة وخمس وسبعون ليرة ، فالمدير ليس مؤهلاً من الناحية النفسية ، إلا لصفع أحلام الفقراء .
" في طالعــة . . نازلـة "( 72 ) أيضاً يبدو الغني في صورته المعتادة ، فبائعة العلكة درجت على مراقبة لعبتين في دكان الألعاب " تجلس كلٍ منهما على كرسي أُلصق بطرفه عارضة خشبية ، إذا علت واحدة انخفضت الأخرى وهكـذا "(73) .
إنها تحلم أن تكون اللعبة من نصيبها ، وشيئاً فشيئاً تصغر أحلامها ، بعد أن تدرك أن من المستحيل شراءها ، إذ يصبح حلمها أن تدعو ابنة عمتها لرؤيتها ، فإن كانت الرؤية لا تكفي ففيها بعض العزاء ، وقبل قدوم ابنة عمتها بيوم واحد خرج رجل غني من دكان الألعـاب وكـانت صغيرته تنط وراءه بينما كان في"إثرهما عامل المحل يحمل اللعبة ملفوفة"( 74 ) . يصفع الغني هنا يسرى ، وهذا هو اسم بائعة العلكة ، في حلميها الكبير والصغيـر ، والمسألة هنا ليست شخصية أبداً ، فالغني لا يعرف يسرى ولا يكرهها ، ولا يحبهـا أيضاً ، ولكنه يحب ابنته ، ويشتري لها ما تريد ، وهذه عاطفة إنسانية نبيلة ، ولكن هذه العاطفة لا تغدو كذلك ، إذا ما وضعت في سياقها الطبقي .
فالرجل يغدو في نظر يسرى غاصباً بينما تغدو البنت شيطانة ، بوصفها بنت طبقتها ، لا بنت أبيها ، حيث وجدت يسرى نفسها في صراع غير متكافئ مع البنت :
" لقد أخذوها . . اشترتها هذه الشيطانة ، لو تركتها لي يوماً واحداً . . فقد كنت عازمة أن أدعو بنت عمتي لتراها " ( 75 ) .
أما " المـرأة الثـانيـة " ( 76 ) فتختلف عن كل ما سبق ذكره من القصص معنا ، ذلـك أن الفقير لا يستسلم لفقره ، فالولد الذي ينتقل من اللعب في الشوارع إلى العمل مع والده في تنظيف حديقة أحد الأغنياء يعجب بابنة الغني ، ويعدها صديقته لأنها لو لم تكن صديقته ، في نظره " لما كانت تغدق عليه الحلوى أشكالاً ، ولما كانت تخصه بابتسامتها في الرواح والجيئة ، ولما كانت تعنى بحفظ اسمه " (77) .
إنها غنية ، والطفل الذي يعيش لحظات تفتحه الذكري ، يعرف أنها غنية منذ رآها ترتدي " سروالاً قصيـراً ، فهم فيما بعد أنه لباس التريض للفتيات الحلوات من ساكنات البيوت المجللة بالعرائش والمحاطة بحدائق يتنفـس فيها العطر ويشتغل فيها أمثال أبيه من الفقراء ( 78 ) .
إنها غنية وابنة أغنياء ، لا يأكلون الخبز ، فلديهم الكثير من الشطائر والحلوى ، حسب ما يراه الطفل البريء الساذج . وهو ، على تجرئه ، لم يكن يتخيل أن يكون للست اسم ، وكأن الست اسم كاف ليدلل على الكثير من الصفات ، بل هو كذلك في الحقيقة : " وإذا ما تحدث فعن السيارة السوداء التي تحمل الست إلى أماكن بعيدة ، وعن صديقات الست الرشيقـات " ( 79 ) .
غير أن هذا الفتى الصغير لم يفهم ابتسامة الست له ، ولا عطفها عليه . بوصفه ولداً فقيراً ، لذلك ، وقد فهم أنها صارت صديقته ، حزن عليها كثيراً حين تزوجت :
" تتزوج ؟ كـيف تتزوج ( . . . ) إنه لم يعد يهتم بالحلوى كثيراً . إن وجودها في الدار شيء ضـروري له ‍ كم يحب ضحكتها . . وأسنانها البيضاء . . وشكلها حين تلبس أحد قمصانها الحمراء . . . " ( 80 ) ( . . . . . )
" وآلمه أنها لم تقل له أنها رائحة . . وأنها لم تسع لتوديعه " ( 81 ) .
ومع ذلك فقد أصرّ الطفل ، بعد الهزيمة ، أن يفعل شيئاً ، أن يرى صورة " حبيبته " الراحلة ، حيث دخل غرفتها ، ومد يده إلى الصورة ، وقبلها . . ليسجل بذلك نصراً صغيراً ، في مخيلته فقط ، عليها ، ذلك أن هذا النصر جاء حقيقة بعد انتهاء المعركة .
إذاً ، لقد عرضت سميرة عزام مشكلة الفقر أسباباً وتجليات ، وآفاق حلول ، وإذا كانت لم تهتم بالأسباب والحلول إلـى حد كبير ، فإنها اهتمت كثيراً بطرح صور المشكلة تاركة جزاءاً كبيراً من تحليلها للفقراء والباحثين ، وربما كان عليها ألا تكتفي بتصوير الفقر في معظم قصصها ، حتى تتخلص من تشاؤمية يقود إليها مثل هذا التصوير .
$ $ $







هوامش الفصل الثاني:
(1) بنشيف، إستر : الأشباح الأربعة ( التلوث – الفقر – المجاعة – العنف )ترجمة فاروق بريك ،منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1985 ، ص 254 ، والكتاب مجموعة مقالات لعدد من الكتاب .
(2) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 59 – 65 .
(3) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص ص 19 – 28 .
(4)عزام ،سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 45- 54.
(5) المصدر نفسه : ص 50.
(6) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 49- 58 .
(7) المصدر نفسه ، ص 51.(8) نفسه ، ص 52.
(9) المصدر نفسه ، ص 53.
(10) نفسه ، ص 58.
(11) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص ص 19-28 .
(12 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 111-118 .
( 13) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص ص 19-28 .
(14) المصدر نفسه ، ص21.
( 15 ) دراج ، فيصل: سميرة عزام : البحث عن الإنسان والأخلاق والوطن ، مرجع سابق ، ص ص 127-128 .
( 16 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 111-118 .
( 17 ) المصدر نفسه ، 115 .
( 18 ) نفسه ، ص 116 .
( 19 ) عزام ، سميرة : العيد من النافذة الغربية ، ص ص 85 – 89 .
( 20 ) المصدر نفسه ، ص 88 .
( 21 ) نفسه ، ص 88 .
( 22 ) نفسه ، ص 89 .
( 23 ) نفسه ، ص 89 .
( 24 ) نفسه ، ص 89 .
( 25 ) عزام ، سميرة : الساعة والإنسان ، ص ص 105 –110 .
( 26 ) المصدر نفسه ، ص 108 .
( 27 ) نفسه ، ص 110 .
( 28 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص ص 45-54 .
( 29 ) المصدر السابق ، ص 53 .
( 30 ) مخول ، د . مالك سليمان : علم النفس الاجتماعي ، مطبعة جامعة دمشق 1988 – 1989 ، ص 250.
( 31 ) دراج ، فيصل : سميرة عزام : البحث عن الإنسان والأخلاق والوطن ، مرجع سابق ، ص 129 .
( 32 ) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص ص 107 – 116 ( 33 ) المصدر نفسه ، ص 114 .
( 34 ) نفسه ،ص 115 .
( 35 ) نفسه ، ص 116.
( 36 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 27 – 39 .
( 37 ) المصدر نفسه ، ص ص 27 – 39 .
( 38 ) عزام سميرة : الظل الكبير ص ص 107 – 116 .
( 39 ) سميرة عزام : الساعة والإنسان ، ص ص 119 – 124 .
( * ) هكذا في الأصل والصواب " أبي ناصيف " .
( 40 ) المصدر نفسه ، ص 121 .
( 41 ) نفسه ، ص 123 .
( 42 ) نفسه ، ص 123 .
( 43 ) عزام سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 73 – 81 .
( 44 ) المصدر نفسه ، ص 77 .
( 45 ) نفسه ، ص 78 .
( 46 ) المصدر نفسه ، ص 81 .
( 47 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ص ص 65 – 72 .
( 48 ) إدريس ، يوسف : أرخص ليالي ، دار الكاتب العربي ، ط3 ، ص ص 209 – 219 .
( 49 ) عزام ، سميرة : وقصص أخرى ، ص 68 .
( 50 ) المصدر السابق ، ص 69 – 70 .
( 51 ) نفسه ، ص 71 .
( 52 ) نفسه ، ص ص 105 _ 113 .
( 53 )المصدر نفسه ، ص 109 .
( 54 ) نفسه ، ص 110 .
( 55 ) نفسه ، ص 112 .
( 56 ) المصدر نفسه ، ص 113 .
( 57 ) عزام ، سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 99- 106 .
( 58 ) المصدر نفسه ، ص 105 .
(59 ) عزام ، سميرة : العيد من النافذة الغربية ، ص 37 –45 .
(60 ) المصدر نفسه ، ص 41 .
(61 ) نفسه ص 40 .
( * ) هكذا في الأصل ، و الصواب يمنحها أحدا .
(62 )المصدر نفسه ، ص 43
( 63 ) عزام سميرة : الظل الكبير ، ص ص 19 – 28 .
( 64 ) المصدر نفسه ، ص ص 29 – 35 .
(65) عزام سميرة : أشياء صغيرة ، ص ص 59 _ 65 .
( * ) هكذا في الأصل والصواب حذف الياء .
( 66) المصدر نفسه ، ص 63 .
( 67) المصدر السابق ، ص 65 .
( 68) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص 129 _ 135 .
( * ) هكذا في الأصل والصواب إثبات الياء .
( 69) المصدر نفسه ، ص 131 .
( 70) سميرة ، عزام : الساعة والإنسان ، ص 73 – 81 .
( 71) المصدر نفسه ، ص 78 .
( 72) عزام ، سميرة ، وقصص أخرى ، ص ص 187 – 191 .
(73) المصدر نفسه ، ص 189.
( 74) نفسه ، ص 191 .
( 75) نفسه ، ص 191 .
( 76) عزام ، سميرة : الظل الكبير ، ص 93 – 105 .
( 77 ) المصدر نفسه ، ص 100 .
( 78 ) نفسه ، ص 95 .
( 79 ) نفسه 101 .
( 80 ) نفسه ، ص 103 .
( 81 ) نفسه ، ص 104 .