لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: الرمادي



الرمادي


د. يوسف حطيني
"إلى نهاد سيريس"



_ أنا موافق على كل ما تقترحه ، سيدي رئيس التحرير.
أبيض كل ما حولي.. ها أنا ذا أمامك ، أضع حول عيني نظارتي البيضاء، القميص الأبيض الذي أرتديه، ياسيدي، يثير في نفسي كثيراً من الحبور، أعشق صوت المطربة الحلبية ( بهية البيضا ) الذي لم أسمعه قط، ولكنني قرأت عنه في الروايات، أحببت شاعراً فلسطينياً مشهوراً، لا لأنني مولع بالشعر الحديث، بل لأنني سمعته مرّة يقول:
" وهذا البحر أبيض "
عندما كنت صغيراً ضربني معلم الجغرافية بقسوة حين اتهمني بالسخرية منه، وااله يعلم أنني لا أحب السخرية من أحد.. القصة وما فيها ياسيدي أنه حين سألني عن حدود فلسطين ذكرت له البحر الأبيض المتوسط ولم أزد كلمة واحدة، وحين طال صمتي راح الطلاب يضحكون، فما ذنبي أنا، ارتبكتُ وارتبك المعلم:
_ هل تعرف لفلسطين حدوداً غير البحر الأبيض المتوسط؟
_ نعم .. البحر الأبيض المتوسط.
ضحك الأولاد فصفعني ، وأغاظه أنني لم أذرف دمعة واحدة:
_ولبنان؟ وسورية؟ والأردن؟
_ أنا أحب البحار.
_ والبحر الميت: ألا تعرفه؟ ألم تسمع به؟
_ أعرفه ولكنني لا أحبه.
فقد معلمي صوابه وهو يحاول إسكات قهقهات الطلاب، تلقيت في ذلك اليوم أقسى عقوبة في حياتي ولكنني لم أكن منزعجاً ..المهم أنني أصررت على موقفي، كيف يريد مني يا سيدي أن أحب بحراً لا يعيش فيه السمك .. ؟؟ بحراً ميتاً لا حياة فيه ؟؟
أظنك توافقني على موقفي هذا ، كما توافقني على أن شغفي بالشعر والرواية والمسرح يؤهلني لأكون محرراً ثقافياً لامعاً في صحيفتكم، لا أعرف _ عدم المؤاخذة _ إن كنت قد سمعت بجورج أبيض، أو سمعت عن جهوده في تأسيس المسرح العربي .. لا تظن أنني مأخوذ بالأدب والجغرافية فقط، فأنا رجل مؤمن بالله إيماناً عميقاً راسخاً، مواظب على أداء الفرائض والسنن،أحب أن أذهب كثيراً إلى الحجّ، وقد استطعت ثلاث مرات إليه سبيلاً، واستمتعت عن قربٍ برؤية الثياب البيضاء النظيفة التي يرتديها الحجاج.
سيدي الرئيس:
أعرف تماماً أنني سأنجح في المسابقة، وأعرف أنني سأحصل على الوظيفة، وأهنئك منذ الآن بوجود محرر ثقافي مثلي في صحيفتكم، ولكن عليك أن تكون حذراً فربما جلست على كرسيك هذا في يوم قريب.
* * *
_ لا لست موافقاً على شيء مما قاله يا سيدي رئيس التحرير.
مطربتي المفضلة ( بهية السودا )، وبيليه ومحمد علي كلاي ومايك تايسون أحباب قلبي، وشعر عنترة العبسي ملَكَ عليّ جوارحي، لأنه جعل من الأسود لون العفة والشجاعة:
لئن أكُ أسوداً فالمسـك لوني
وما لسواد جلدي مـن دواءِ
ولكن تبعـد الفحشـاء عني
كبعد الأرض عن جو السماء
حين أذهب إلى بيت عطيات _ وسوف أكون هنا صريحاً معك إلى أبعد الحدود _ حين أذهب إلى بيتها يا سيدي، أطلب منها أن ترتدي قميص نومها الأسود الذي يكشف أكثر مما يستر، وإذ ذاك أطلب منها إطفاء الضوء، لكي يزداد الأسود سواداً .. وأنت تعرف بقية القصة يا سيدي!!
عندما حصلت على شهادة الدكتوراه في الصحافة اشتريت حقيبة سامسونايت سوداء جعلتني أكثر هيبة على القميص الأسود الذي أرتديه في العيدين.
أحب حضور المآتم، حتى إني لا أكاد أترك مأتماً لقريب أو بعيد، إلا وأكون أول الحاضرين، أترك الرجال لشؤونهم وأحاديثهم التي لا تنتهي، وأنقل بصري بين النساء الداخلات إلى بيت العزاء والخارجات منه، وهن يرتدين الأسود ويتقيدن به في مثل هذه المناسبات أكثر مما يفعل الرجال، وإذ ذاك ينظر إلي المعزّون نظرات الاحتقار إذ يظنون أني أتلصص على نسائهم، والله يشهد أني لا أرضى بهن جميعاً بديلاً عن عطيات، وقميص نومها الأسود.
تسألني إن كنتُ متشائماً ؟
لست متشائماً إلى هذا الحد، ولكنني أحسب الأمور بدقة، والدقة تقود إلى التشاؤم، والأمل يا سيدي خبز الفقراء والمضطهدين. صدِّقْ أنني إنسان طبيعي أحب الحياة والسفر .. وها أنا ذا أدعوك أمام الجميع إلى رحلة نقضي أيامها على شاطئ البحر الأسود ، تحضر معك الباذنجان والزيتون الأسود، وأنا أتكفل بما يتبقى..
على الرغم من أننا ربما نذهب معاً، وربما نصبح أصدقاء الخبز والملح والباذنجان، فإنني في الواقع لست متفائلاً بالوظيفة، فأنا أعرف أن حظي مثل شعري مثل ثوب تلك المرأة التي قال عنها أبو نواس:
فشعرك مثـل ثوبـك مثـل حظي
سـوادٌ.. في سـواد..ٍ في سـوادِ
باختصار يا سيدي: لا أتوقع أن أنجح في هذه المسابقة .. لا أتوقع أن أنجح في أي شيء .. مباركة عليكم يا شباب الوظيفة الجديدة.
* * *
وقفا مليّاً أمام لوحة الإعلانات يدققان النظر في النتيجة، بدا الأبيض مندهشاً تماماً في حين تقبل الأسود الخبر كمن كان يعرفه مسبقاً:
عدنـان حمد ( راسب )
علاء قرعان ( راسب )
عبد القادر نعمات ( ناجح )
_ من هو عبد القادر هذا ؟ وكيف نجح في المسابقة ؟
_ لا أدري كيف نجح ولكنني تذكرته، إنه ذلك الرجل الذي كان يرتدي بنطالاً وقميصاً رماديين.


22كانون الأول1999