لكل الناس وطن يسكنون فيه، أما نحن فلنا وطن يسكن فينا

الأحد، 25 أكتوبر 2009

قصة قصيرة: الهروب من الجنة

الهروب من الجنة
د. يوسف حطيني



ـ أ ـ
هل تعرفين يا زوجتي العزيزة أنني أشعر بسعادة غامرة عندما أراقب منظر عشرات التلاميذ وهم يذهبون إلى الصلاة في طريقهم إلى مدارسهم، قال يوفال، كانت فكرة طيبة أن نشرب قهوتنا في الشرفة… هاهو ذا ابننا توبين يلوح لنا بين أسراب العصافير الصغيرة…كم أنت غال يا توبين.. يا حلمنا الجميل الذي حملناه معنا من هناك.. ستغدو سماء (إيفرات)أكثر زرقة وسيكون أطفالها سعداء بوجود توبين بينهم.
آه ياراحيل..
تذكرين أيام الشقاء هناك…حيث يعيش المرء تائهاً غريباً عن أرضه التي وهبها الله له عن طيب خاطر.
آه يا راحيل.. لو سمعتِ ما قاله الرجال الذين يعتمرون القلنسوات حين رأيتُهم في المعبد اليهودي صباح أمس.. يا لروعة حديثهم و يا لفرحتي العظيمة به. سيكون بمقدوري أنا اليهودي القادم من الشمال، أن أقتل الأغيار، أن أفتك بهم.. سيكون بمقدوري أن أفعل أشياء كثيرة أشتهيها..هذا ما يقوله التلمود الذي وضعه الحاخامات على طاولات المعبد اليهودي.
تسأليني لماذا أكره هؤلاء الذين لا أعرفهم ..من قال إنني لا أعرفهم؟ لقد قال لي موشيه كل شيء..أتمنى أن أقتلهم جميعاً إرضاء للرب..ولكن الذي يقلقني أننا بعد موتهم لن نجد من يخدمنا.. إننا بصراحة مؤلمة مجبرون أن نراهم، نجتاجهم لخدمتنا أترين هذه الكروم الجميلة الممتدة على مد البصر؟! لولا الأغيار الذين يأتون كل صباح من بيت لحم لما استطعنا أن نزرع شيئاً.. ولا أن نجني شيئاً، هؤلاء الحيوانات أقوياء… يصلحون لأشياء كثيرة، ولكنني أمقتهم..أعتقد أنهم يكرهوننا،أليس كذلك يا راحيل؟.. أنا أخاف منهم.. صدقيني إنني لا أجرؤ على النظر إلى عيونهم.
أنهم وحوش. أجل وحوش… تقولين أني أبالغ…
آه يا أغبى امرأة عرفتها…
أنت دائماً معهم. كنت تفضلين أن نبقى هناك، حيث يموت المرء غريباً.
أنت حقاً لاتفهمين، لقد أتينا إلى هنا حتى لا نبقى على هامش التاريخ اليهودي.إنه التيه الذي يجب أن ينتهي…
تقولين هناك ولدنا؟ نعم ولكن يجب أن نعيش هنا. ونقتل أولئك الذين لا يتقنون سوى الموت وإلقاء الحجارة..
إرضاء للرب سنغمس فطيرنا بالدم كي يكون أشهى، بالدم سنبني مملكتنا السرمدية…
ولكن لماذا البكاء الآن؟ لو رأيت التحدي في عيونهم لشعرت بذعر شديد.. لحملت هذا العوزيّ وأفرغت رصاصاته في صدورهم.
هل تخافين علي منهم؟ إن العوزيّ صديق مخلصٌ، أحمي به نفسي من حقدهم وحجارتهم،لا تصدقي مايقال عنهم، إنهم ليسوا مساكين، إنهم ينتظرون الفرصة لإلقائنا في البحر… لطردنا من أرضنا التي فيها سنحيا، وفيها سنموت..
آه.. عفواً أيها الرب…لن نموت قبل لأن نبني مملكتنا المجيدة…آه يا أرض إسرائيل، أيتها الأرض الممتدة من المتوسط غرباً إلى آخر مكان تطؤه أقدام جنودنا شرقاً وشمالاً وجنوباً..
لماذا تكرهين موشيه؟ إنه صديق رائع، أعطاني العوزيّ، تقولين إنه سقودني إلى الهلاك…تخطئين يا عزيزتي .إنه سيقودني إلى تحقيق ذاتي وسيقود إسرائيل إلى المجد… أخبرني بالأمس أن اللحظة التي طالما انتظرتها حانت، سيصحبني معه اليوم لكي نحرس المستوطنة من حجارة الأشقياء. علينا أن نكون جاهزين لملاقاتهم…
هاهو ذا موشيه آت.. ألا ترينه؟ إني ذاهب إليه، إلى اللقاء يا حبيبتي …أتمنى ألا يعكّر مزاجك منظر هؤلاء المقززين القادمين من بيت لحم إلى كرومنا… لا تصرخ كثيراً يا موشيه ها أنا ذا قادم.
ـ ب ـ
عقرب الوقت يتحول إلى سلحفاة… لقد عادت وحيدة مرة أخرى. ملّت مراقبة هؤلاء الذين يأتون كل صباح إلى الكروم من بيت لحم وينصرفون، بعد أن تشويهم الشمس.
منذ مدة كانوا يجيئون مبكرين وينصرفون مع المساء، غير أنهم صاروا ينصرفون مع الظهيرة،وفقاً لأوامر الحاخامات، عندما صار الخوف منهم أكبر...
هي لا تدري لماذا تشعر بالخوف كلما رأت عربياً يدخل المستوطنة.. لسبب ما لا تستطيع أن تثق بأحد. تحس بغربتها عن هذه الأرض خنجراً يمزق طمأنينتها الماضية، تخاف على زوجها وعوزيّه من حجارة أولئك الذين يسميهم يوفال أغياراً، تخاف على نفسها من حجارتهم التي تهبهم إياها الأرض بلا حساب. هاهي ذي تراقبهم كما في كل صباح، بفزع شديد:
من شرفتها ترى طفلاً صغيراً يجيء كل يوم ، مازال صغيراً على الشقاء، خفق له قلبها منذ رأته أول مرة،إنه يذكرها بتوبين، ستسميه (نضال) فقد سمعت أن العرب يحبون هذا الاسم كثيراً.
حين يغادر نضال مع من يغادرون تشعر بأن توبين في خطر، يتعاظم خوفها ولايهدّئ روعها سوى عودة توبين الذي سرعان ما ذهب لينام. ليشارك والده ـ فيما ظنت ـ في مؤامرة إبقائها وحيدة.
يستبد بها القلق، تشعر به أنشوطة تلتف حول عنقها، إنها تكره الوحدة لأنها تبعث في نفسها القلق، وتنهش في قلبها، ذكريات الماضي… آه يا أيام بولونيا السعيدة، كنا أكثر سعادة، رغم فقرنا، وأكثر أمنا….مالنا ولهذه الديار؟
ليدافع الحاخامات عن أرضهم المقدسة، أما ابتسامة توبين فمسألة أهم عندي من أرض لا أعرف كيف أحبها، وكيف أزرعها.
آه يا تراب بولونيا الندي.. أيها المختلط بعذابنا الجميل وأحلامنا التي لا تنتهي…
ليتك توافق يا يوفال على العودة إليها.
ولكنه لن يوافق. فقد كان بالأمس مبتهجاً جداً بمشاهدة البرنامج التلفزيوني (موكيد).. لقد كان يصفق لمستوطني (كريات أربع) كالمجنون عندما كانوا يهتفون (الموت للعرب)..كان يشعر بسعادة هستيرية عندما يرى الجنود يضربون العرب بلا رحمة، تذكرـ أنه ضربها عندما قالت له أن أحداً لم يضربنا في بولونيا ولم يهدم منزلنا…أخافها حين زمجر: ألا تتذكرين حجارتهم التي رجمونا بها يوم كنا نسر قرب بيت لحم؟ ألا تتذكرين كيف تحول توبين إلى أرنب مذعور؟
حقاً إنها لاتعرف إن كان يوفال يكرهها أو يحبها، ولكنها تحب فيه تلك الأحلام السحرية التي كان يحلم بها هناك.. في الأرض المطمئنة، قبل أن يتعرف إلى أولئك الذين ملؤوا رأسه بأحلام الثروة والمجد.
بعد قليل سيهبط المساء، وستكثر الوساوس. فجأة تسمع توبين يصرخ، تركض إليه مذعورة.
- لماذا تصرخ ياحبيبي؟
- أبي…لقد رأيت أبي.. أبي كان وحشاً بأربعة أنياب…أراد أن يأكلني.
- لاتخف ياصغيري، سيأتي أبوك بعد قليل،تعال الآن إلى الشرفة
وهناك سأحكي لك حكاية جميلة عن جدتك بولونيا.

-ج-
كانت الشمس تحتضر حين لمحت راحيل شبحاً يتحرك بين الكروم.. هاهو ذا يجتاز الكروم ويقترب،تشعر بفزع شديد،ولكنها حين تميز الشبح تشعر ببعض الأمان،كأرنب صغير يقفز من مكان إلى مكان، هاهو ذا يقف..يجلس، يحفر الأرض بيديه الناعمتين برقة بالغة،(تتذكر ليلة زفافها.لاتدري كيف قفزت هذه الذكرى إلى مخيلتها،لعلها تذكرت أن يوفال لم يتعامل معها برقة كافية) يضع في الأرض شيئاً ما..يدفنه برقة بالغة أيضاً..
شعرت راحيل في هذه اللحظة أن نضال يحب هذه الأرض أكثر منها ومن زوجها..حتى ومن الحاخامات أنفسهم..
وحين تفكر راحيل بما دفن نضال داخل رحم الأرض تخاف على حياتها، على ابتسامة طفلها،تراه يبتعد، وترى ظله كبيراً كبيراً يمتد على مساحة شاسعة من الأرض التي تمتد أمامه،وحين تسمع صوت طلق ناري،يشد توبين يدها صارخاً: أمي أرى أبي وحشاً بأربعة أنياب،وهو يريد أن يأكلني..ترى( نضال)وقد عانق الأرضالتي تميد تحت الجبل الذي تهاوى.
ليتني أستطيع أن أمنحك مزيداً من الحب يايوفال. تعال ياصغيري، سنذهب إلى هناك..إلى جدتك التي تحبك وتحبها..يمد الصبي يده، يركض ساعات، أياماً، شهوراً،تلهث الأم، تنتشي.. ولكنها حين تسمع قهقهات يوفال وموشيه تدرك أنها ماتزال في مكانها.



24/9/1992